0

ستطأ األقدام العربية ملاذا أرض املريخ؟

منشورات دار الرأي

1982-املؤسسة املغربية للصحافة

1

محتوى الكتاب

تقديم احمد الكرفاعي رئيس تحرير جريدة الرأي-1

دفاعا عن الذات -2

ي دفاعا عن جد -3

دفاعا عن لغتي -4

بين لعنة المتنبي وقھقھة موليار-5

جيل النفي-6

لمــاذا نحن متخلفون ؟-7

المبتذالت العشر وردي عليھا-8

التراث بين التمجيد وسلة المھمالت-9

من اجل نظرة موضوعية لظاھرة التخلف-10

األمم وصراع البـقاء -11

ورمن أجل نظرة موضوعية لمفھوم التط-12

لماذا ستطأ األقدام العربية سطح المريخ-13 ردود القراء-14

2

ھو الموت إن نحيا شياھا وديعة

و قد صار كل الناس من حولنا أسدا

و أن نكتفي باألرض نسرح فوقھا

رعداو قد ملكوا من فوقنا البرق و ال

و إن ينشروا في كل أفق بنودھم

و إن ال نرى فوق السمــك لنـا بنــدا

تأملت ماضينا المجيد الذي انقضى

فزلزل نفسي أنــــه انـــھار و انــــھدا

كيف امحت تلك الحضارات كلـھا

بـالد أنبـتـتـھا لـھا لحـــــداو صـارت

و صرنا على الدنيا عياال و طالما

تعلم مــنا أھلــھا الـبــذل و الرفـــــــدا

إيليا أبو ماضي

3

تقديم احمد الكرفاعي رئيس تحرير جريدة الرأي

أربعة عشر قرنا . نبتت و أينعت و اشتد عودھا, شجرة غرست بذرتھا منذ أكثر من

ثم ذبلت و تساقطت أوراقھا و جفت فروعھا كما جفت تربتھا , و توالت العواصف

تلفحھا لفحا, و كانت أحيانا من الريح السموم التي ما انقطعت يوما عن األرض و

غم قد قضت فيما سبق على أشجار كثيرة و غابات كثيرة... لكن شجرتنا ھذه , ر

ھزالھا , رغم انجرادھا, رغم جفاف فروعھا, و رغم الفؤوس التي ھوت عليھا

الجتثاثھا, رغم ذلك , صمدت في وجه العواصف المتتالية و صدت " الحطابين".

و بعد قرون طويلة , بدأت براعم تظھر على ھذه الشجرة. ھي إذن لم تمت . و ألن

قادمة لن تأتي عليھا, بل ستشھد نمو القرون الماضية لم تأت عليھا, فإن القرون ال

تلك البراعم, و ستستعيد الشجرة أوراقھا و نضارتھا, و سيرتاح الناس إلى ظاللھا.

ھذه الشجرة المباركة ھي شجرة العروبة. سر صمودھا في أصلھا الثابت الذي لم

! يجف ألن عروقه ضاربة في أعماق األعماق. أما فروعھا فسوف تصل... المريخ

ھي الصورة التي أوحاھا إلى ھذا الكتاب الذي جمع بين الموضوعية العلمية " تلك

الطبية" و التشريح " الجراحي" القاسي المثير و اإليمان القطعي بالتشافي و

استرجاع الصحة.

ھو إذن عمل فكري , لكنه الفكر الذي يرفض أن سنحبس ليصبح مجرد آلة

لمادة فحسب ؟ و المنصف المر زوقي, كمبيوتر. و ھل يعيش اإلنسان بالفكر و ا

بصفته طبيبا باشر طب األعصاب سنين طويلة يدرك ربما أكثر من غيره قيمة

الروح و الحس ليتجاھلھما عمل كھذا... و كان الكتاب شحنة قوية من األلم و التأليم

4

عندما يتعلق األمر بتحليل الواقع الراھن و التاريخ , و من اإليمان " الديني"

درة على االنطالق عندما يتعلق األمر باستكشاف اآلفاق.بالق

و حبذا أن كان ھذا الكتاب نضالي أكثر منه أكاديميا. ألن الذي يھم المؤلف ليس أن

تلصق به صفة " العلمية األكاديمية" و ھو الذي بلغ أسمى الرتب في مھنته. إن

الشمس كما يقال و الذي يھمه ھو أن ينھض العرب كأمة و أن يحتلوا مكانھم تحت

أن يشعوا على اإلنسانية من جديد كما أشعوا عليھا فيما مضى.

و ھذا " المھم" ليس ھذيان عنده و أال حشر مع المرضى الكثيرين الذين تشتبه

عليھم الرؤية بالرؤى و يجعلون أحالمھم حقيقة و ھي وھم , أو الذين أغشت

األوضاع خشية أن يزيحھم التغيير بصيرتھم رغبة البقاء في الحكم و اإلبقاء على

فباتوا يلوكون الشعارات العربية قوال و يأتون نقيضھا عمال.

من أين جاءت إذن واقعية تفاؤل المؤلف؟

! بسيط

* كل عوامل االضمحالل توفرت لتزول ھذه األم العربية . و مع ذلك فھي باقية .

ھذا فيما !د بن عبد هللا أو إن شئت لغة الضاد و ثورة محم !السر ؟ لغة القرآن

يتعلق بسر البقاء.

* أما ما يتعلق بالمصير الباسم أو حتى الضاحك, فإنه يكمن في ... ألم اليوم الذي

ھو ليس إال " ألم المخاض" .

و ھذا الكتاب محاولة . و ككل محاولة, ھو مغامرة فكرية, ھو... إبداع. و ھو

وم عن أوضاع ھذه األمة العربية و مساھمة ثمينة ثرية في الحوار القائم الي

مصيرھا. و التحاليل الواردة فيه ليست ذات خط مستقيم, بل ھي خاضعة لــ /نابعة

من أحسن أداة للتحليل اإلجماعي , و أعني : الجدلية .

و قد يجد البعض في ھذا الكتاب ما ال يروق له . من جانب الملتفتين إلى الوراء أو

يھم لكن الكتاب يستھدف النوعية و يستھدف إثارة من جانب المتنكرين لماض

النقاش. و جريدة " الرأي" ترحب بكل ما سيثيره ھذا الكتاب من ردود فعل يرغب

أصحابھا ابلغھا إلى الرأي العام .

5

و لقد سبق أن أثارت مقاالت المنصف المرزوقي ردودا عديدة كنا وأوليناھا ما

المقاالت المنشودة مقاالت أخرى لم يسبق تستحق من العناية . و قد أضيفت لتلك

نشرھا. و ھي التي شكلت جميعھا ھذا الكتاب المتكامل.

أحمد الكرفاعي

6

دفــــاعــا عـــن الــــــذات

الذات و االزدراء

, تعريف العرب حسب النظرة الغربية 1976عدد سبتمبر –مجلة بيلوت الفرنسية

ي تمتاز بھا المجلة: السائدة , في قالب السخرية الت

" يلبسون األغطية , يضعون أكياس على رؤوس نسائھم , يتشجؤون و يضطرون

خالل األكل , يغتسلون بالرمل و يضاجعون األطفال , يمارسون ديانة بليدة يحاولون

إلى سود العالم كله, جبناء حقيقيون عندما يحاربون البيض و رغم ذلك ال يترددون

و في قطع أيادي السارقين منھم , يضعون القنابل في كل في نحر بعضھم البعض

مكان يمرون به. و يمتلكون كل نفط األرض, يكرھون اليھود ألنھم الوحيدون في

العالم الذين يمتلكون أنوفا أبشع من أنوفھم."

و يكتوي اإلنسان العربي بعمق ھذا االزدراء فيصرخ من أعماقه : " ال ھذا من

علي أن أحفر ھذا الغزل في ذاكرة األطفال مھما شعروا صورتي عندھم و واجب

باأللم لعلھم يصبحون على غير ھذا القبح."

لكن مأساة العربي اليوم ليست في ازدراء الغير له و إنما في عمق احتقاره لنفسه.

إنه لمن الغريب أن تعود إلى بلدك بعد تغرب طال أكثر من عشر سنوات في بلد

مة عربي كسبة لتواجه على أرض الوطن بنفس االزدراء.أوروبي تلفظ فيه كل

تسمع في الطريق كلمات نابية عن مترجل لم يحترم الضوء األحمر: " العربي ,

عربي " و يواجھك أحدھم و ھو يتحدث عن مظاھر العمل تردئ :" خدمة عرب"

ال و تسمع إلى درجة الغثيان المتھكمين على جبن العرب , و اتفاق العرب على أن

يتفقوا, و أموال العرب التي تصرف في المواخير, و يقول لك العربي مدافعا عن

نفسه و بلھجة المتحدي: " و ماله ... سيدي النبي عربي" و لو اقتصر احتقار

العرب على الطبقة البرجوازية المتفرنسة التي ترعرعت كسرطان خبيث في بلدنا

7

جه اآلخر للعنصرية االستعمارية لھان األمر باعتبار أنھا ليست أكثر من الو

المضادة للعرب من قديم الزمن, لكن ازدراء العرب للعرب يطبع حياتنا اليومية و

في كل ميدان : نحن ال نشتري صناعة عربية , ال نؤمن بسياسة عربية , ال نصدق

ھل ھناك أمة على األرض تعد مائة و خمسين –حرفا عربيا , نحن ال نتكلم العربية

نسمة و لھا من العمر خمسة عشر قرنا و تحتل وطنا مساحته تسعة ماليين ملين

كيلومتر مربع و ترفض استعمال لغتھا في تدريس أبنائھا بجامعاتھا اعتقادا منھا أن

لغتھا غير قادرة على مواكبة العلم...

و تقرأ أدب الشباب و يزداد إيمانك بفظاعة و استثراء ھذه الحالة المرضية:

مطلقة, شك مطلق, احتقار مطلق للنفس ة الغير, و عندما يصل العربي سوداوية

إلى الذروة القصوى من ھذا المرض الخبيث فانك ستراه يبصق بملء فمه على أمته

, كنزار القباني في قصيدة بلقيس:

إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب

و يأكل لحمنا عرب

و يبقر بطننا عرب

و يفتح قبرنا عرب

تفر من ھذا القضاءفكيف

فالخنجر العربي ليس يقيم فرقا

بين أعناق الرجال و بين أعناق النساء

..........

لن أقرأ التاريخ بعد اليوم

إن أصابعي اشتعلت و أثوابي تغطيھا الدماء.. ھا نحن

ندخل عصرنا الحجري

نرجع كل يوم ألف عام للوراء

..........

سأقول في التحقيق أني أعرف األسماء و األشياء

8

و السجناء... و الشھداء.. و الفقراء.. و المستضعفين

و أقول .. أن عفافنا عھر .. و تقوانا قذارة

و أقول .. أن نضالنا كذب

و أن ال فرق بين السياسة و الدعارة

يق أني قد عرفت القاتلين سأقول في التحق

و أقول أن زماننا العربي مختص بذبح الياسمين

و بقتل كل األنبياء .. و قتل كل المرسلين

.............

حتى العيون الخضر.. يأكلھا العرب

حتى الضفائر.. و الخواتم .. و األساور.. و المرايا و اللعب

م تخاف من وطني ... و ال أدري السببحتى النجو

حتى الطيور تفر من وطني.. و ال أدري السبب

حتى المواكب.. و المراكب.. و السحب

حتى الدفاتر.. و الكتب

و جميع أشياء الجمال .. جميعھا ضد العرب

و يكتب الشاعر القصيدة بخط يده, و تنشرھا مجلة عربية ذائعة الصيت و يتلقفھا

ب شديد.العرب بإعجا

و احتقار العربي لنفسه عارض المرض المزمن, و الجرح المتقيح , الذي ينھش

قواه النفسية و يشل طاقاته المكبوتة, لكنه أيضا ألم الشفاء من المرض المزمن.

فالعربي ال يحتقر نفسه أي واقعه إال أنه يعلم أن ھذا الواقع ھو نسج من األكاذيب .

م , و الفكر العميل المأجور . و العربي ال يحتقر نفسه إال أكاذيب السياسية , و اإلعال

أنه يعلم أن إنجازاته دون طموحاته, دون طاقاته , دون مسؤولياته العظمى تجاه

تاريخه وتجاه مصير اإلنسانية . ويغيب عن عقل العربي وعن وجدانه أنه ظالم

في أديمھا لنفسه , ومشدد عليھا وأن آالمه ھي غبار األرض الذي ستترعرع

شجرة الحضارة المتجددة الشباب , وعندما تقوى آالمه وتشتد , وعندما يعوزه

9

الصمود أمام ازدرائه لنفسه وازدراء أعدائه له , فإنه ستراه يقفز بصفة سحرية

من فوق ھذا الواقع , ليدعى أنه خير من مشت به قدم . وبازدياد االزدراء ستراه

وھمية , وتشبث بھا تشبث الغريق بالقش الطافي على يزايد في أمجاده الحقيقية وال

بحر الفشل والتقصير.

فمن عقدة النقص إلى عقدة التفوق أكان دينية أو شوفينية الصبغة ومن بالبصق

على الوجه في المرآة إلى النرجسية العصابية , ويبقى رقاص االضطراب النفسي

ة العربي ليست في يقفز من حالة قصوى إلى عكسھا حسب الظروف . ومصيب

احتقاره لنفسه , بقدر ما ھي في وعيه الدائم المؤلم بعجزه, بتقصيره في حق نفسه

وحق الحضارة . ومصيبة العربي ليست في ادعاء ما ليس له, ما ھي في عجزه عن

تجاوز عقدة النقص التي أصلتھا قرون التخلف في نفسه .

قطعة النقدية ) ھما نتيجة خيار عقدة النقص وعقدة التفوق ( وھما وجھا نفس ال

أحالھما مر , فرض على اإلنسان العربي. فھو مطالب باجترار أمجاد ذھبت مع

الريح , وتصديق أجھزة إعالم ضربت أرقاما قياسية في الغباء و االستغباء , تصور

له واقعه اليومي كسلسلة من االنتصارات المتتابعة, فإن صدق ضحية عقدة التفوق

أن كذب و احتقر ھذه األجھزة التي تحتقره وقع ضحية عقدة نقص ال تقل الوھمي و

خطورة و وھمية عن العقدة األولى . و ھذا الخيار بين األمرين الذي يجبر عليه

حرية التفكير, حرية -الحرية - الخام األولى - اإلنسان العربي ناتج عن فقدان المادة

ختيار.التقييم , حرية النقد الموضوعي , حرية اال

وبغياب الحرية تفشى المرض و استثرى و أصبحنا أمة بال بوصلة نفسية.

و ھالني استثراء المرض و عنف و خطورة أعراضه و أنا أعود إلى أرض الوطن

بعد أعوام طويلة قضيتھا في تلك البلدان الغريبة التي تنطق فيھا لفظة عربي و

كأنھا شتيمة.

ب عندما أقول أنك عربي فأنا ال أقصد اإلساءة وقال لي يوم زميل فرنسي : ال تغض

إليك . وكان فعال ال يقصد إھانتي . لكنني , ووجھت في بلدي ببرجوازية متفرنسة

لم تأخذ عن الغرب شجاعة جيوردانو برونو ومنھجية فرنسيس بايكون وإنسانية

10

خذت عنه بينال ولم تأخذ عن الغرب حب العمل المتقن والنظام والديمقراطية وإنما أ

أحمر الشفاه والكعب العالي وتعاطي الويسكي واألفالم الخليعة والسيارات الفخمة

وكانت ھذه البرجوازية اللقيطة الجاھلة تبغي اإلساءة إلي وھي تصفني بأنني عربي

.

ومن ثمة كانت المقاالت األولى كتبتھا ألدافع عن الوطن الفقير عن اللغة المقدسة

الراعي البدوي الفقير رمز األبطال المغمورين " المحتقرين " المحتقرة , عن جدي

الذين صنعوا ويصنعون مصير ھذه األمة. لكن الدفاع عن الذات , وعن القيم التي

تتجذر فيھا ھذه الذات : األرض والتاريخ واللغة ال يمكن أن يشكل ھدفا في حد ذاته.

ذا أصبحنا نزدري أنفسنا فھو مجرد ردة فعل , ويبقى الموضوع بعده مطروحا لما

ولماذا أصبح اآلخرون يزدروننا .

ونحن بأمس الحاجة لطرح الموضوع ولطرحه بھذا الشكل بعيد عن مازوشية عقدة

النقص , والتشنجات العصبية لعقدة التفوق . نعم لماذا أصبحنا نزدري أنفسنا لھذه

صدر ازدراء؟ ثم يصبح الدرجة , أو باألحرى ماذا صنعنا بأنفسنا و بواقعنا ليصبح م

السؤال , لماذا أصبح واقعنا محكوم بھذا اإلعالم , بھذه الثقافة , بھذه السياسة ,

بھذه الصناعة , التي نعرف كلنا أنھا أسباب ازدراءنا ألنفسنا وازدراء اآلخرين لنا

بعبارة أخرى ما الذي حدث حتى أصبحنا على ما نحن عليه . لماذا نحن متخلفون ؟

ولت أن أجيب عن ھذا السؤال بعيدا كل البعد عن ازدراء الذات , وبعيدا كل وقد حا

البعد عن المبتذالت التي تروجھا األبواق المأجورة وھي أخطر أعراض مرض

التخلف الفكري واالنحطاط الحضاري واألخالقي الذي نعاني من آثاره .

اإلنكار . نحن والموضوع من األھمية بمكان , ألن حقيقة التخلف تستعصي على

مجتمعات متخلفة. وقد نتخاصم في تقييم معايير التقدم والتخلف. وقد نقرر أن في

ھذه المجتمعات الغربية التي نعتبرھا والمقاييس كل النواقص والعيوب , لكن ھذا

لن يغير شيء من الواقع : نحن متخلفون . أجھزة إعالمنا متخلفة , تفكيرنا متخلف

, جامعاتنا متخلفة

11

( مساھمتھا في الثورة العلمية والتكنولوجية التي تعصف باألرض تساوى صفرا )

سياستنا متخلفة, اقتصادنا متخلف, إنسان الشارع متخلف , نسبة وفيات أطفالنا

في األلف , معدل 11إلى 1في األلف والنسبة عندھم من 200و 80تتراوح بين

األمثلة والظواھر ال تحصى وال سنة .. و 74الحياة عندنا خمسون سنة وعندھن

تعدى .

يبق أننا في إطار اإليديولوجيات السياسية السائدة مطالبون بغض الطرف عن

الظاھرة بإلغائھا سحريا بعدم التعرض ألسبابھا الخفيفة الفكرية والسياسية,

وبتصديق التعالت السطحية التي تقدمھا ھذه اإليديولوجيات . ويزداد ازدراء العربي

فسه وھو يعاني من تخلفه ومن إنكار ساسته لھذا التخلف , أي من الفشل ومن لن

تخطيه السحرية . وأقول : يكفي من التدجيل , من الكذب على النفس والغير, يكفي

من االنتصارات الوھمية . لنطرح كل المشاكل التي تعترضنا بكل استثناء , وبدون

ئدنا في ھذا النقاش النقد الھادئ تحفظ لتكون محل نقاش ال ينتھي , وليكن را

الصارم الموضوعي ألنفسنا , لمنجزاتنا, ولتكن الراجعة الدائمة ألنفسنا , ألعمالنا ,

لحقائقنا ومذاھبنا , واختيارنا , ديدننا حتى ال نعرف من جديد مأزق التحجر الفكري

والتخلف السياسي واالقتصادي .

الشعارات من أجل أن يحي اإلنسان لنكف عن الموت من أجل الشعارات ولتمت

العربي , لنخضع كل شيء للعقل والمنطق , لنتنقل من مصافي التفكير البدائي

العاطفي السحري الذي يعتقد أن كلمة شمس تحرق إلى مصافي التفكير العقالني

الناقد , الشاك , الموضوعي , الحر , الذي ال يفتر لحظة واحدة عن البحث والتنقيب

ص من التنظيم الھرمي للفكر والمجتمع الذي يشل طاقات األدمغة الخالقة , لنتخل

ولنستبدله بنظام أفقي يعطي حق الكالم وحق التفكير ألكبر عدد ممكن من ھذه

األدمغة التي ستجد في تكاتفھا وتعاضدھا القوة الالزمة ال للخروج من التخلف

وجوده ھو أن يكون خالق فحسب بل لتحقيق المعجزات ذلك ألن قدر اإلنسان وھدف

ھذه المعجزات .

12

وألنني أؤمن بأن ھذا ھو قدر اإلنسان, وألنني أؤمن أن اإلنسان العربي ( وأن

أقصاه مؤقتا التخلف ) قادر ھو اآلخر على المساھمة في صنعھا فإنني أقول وأدعي

ھذه أنه لن يمضي قرن إال وتطأ األقدام العربية أرض المريخ . وقد يستغرب البعض

المقولة خاصة بعد اإلطالع على المقاالت النقدية , وقد يجدون فيھا ( أي قد تجد

فيھا عقدة النقص ) مصدرا للتھكم , لكن استغرابھم لن يكون في محله وتھكمھم (

على أنفسھم ) سيبدو يوما ما ھو الداعي إلى التھكم .

يدعي معرفة ما تخبئ من أي لي ھذه الثقة وأنا إنسان مثلكم ال يتكھن بالغيب وال

لنا األقدار ؟

وأقول : األمل ھو القاعدة العامة في الكون . ووجدنا سلسلة ال تنتھي من المعجزات

, وكل شيء موجود في ھذا الكون محكوم بقانون االرتقاء والتطور ونحن ال نحي

وال نواجه معضالت الحياة إال بھذا األمل المتمترس في أعماقنا .

نمر يوميا عبر آالف األخطار والمطبات التي علمني الطب عددھا الھائل , أنا وأنت ,

أنا وأنت نواجه الصعوبات وتتابع المشاكل , نبوء بالفشل , ونخفق في كثير مما

نحاوله . ومع ذلك فنحن ننھض صباح كل يوم نعيد الكرة من جديد, نكافح , نتقدم

يعة الحياة أمل والشعوب ھي خطوة بعد خطوة . فنحن ال نستسلم أبدا ألن طب

األخرى حاملة راية ھذا األمل على مستواھا بالطبع والشعوب مثلي ومثلك تتعلم من

تنظر إلى واقعنا, فنقول واقع التخلف والفقر, –أخطائھا وما أكثر أخطاء العرب

والتشتت والعمل الرديء وضياع الكرامة وأقول حقا ذلك ھو واقعنا, ومن التفاھة

ذه الحقيقة , فتعال نكتشف سر المرض الذي نعاني منه ألن التشخيص إنكار ھ

الصحيح ھو بداية العالج الصحيح, وأضيف : إياك أن تخلط بين اللحظة وبين

الزمن الذي تشكل اللحظة نقطة منه , وھذا الخط يمتد من نشأة حمير ولن يتقطع إال

ة والتاريخ وحده ھو ساحة يوم تلفظ اإلنسانية بأجمعھا أنفاسھا , نحن أمة تاريخي

مھازلنا ومآسينا ,

13

وألننا متشتتون سنتوحد وألننا فقراء سننعم بالثروة , وألننا ضعفاء سنعرف القوة ,

وألننا ال ننتج علما سننتج علما وتكنولوجيا القرون اآلتية , وألننا مازالنا عقليا في

مريخ. عصر الحمير والجمال ستطأ من ھنا إلى قرن أقدامنا أرض ال

كيف, وبسحر أي ساحر ؟ باألمل الذي يشكل عصب الحياة , بقانون المؤرخ توينبي

: إن الحضارة ال تكون إال أين تكون التحديات. والتحديات أمامنا ھائلة لذلك سنخلق

حضارة على مستوى التحديات التي تواجھنا أي حضارة عظمى.

لق للواقع واإلسراع بتطويره, الدفاع عن الذات , النقد الھادئ الموضوعي والمط

الثقة المطلقة في مستقبل اإلنسان ومستقبل ھذه األمة ھي محاور ھذا الكتاب ,

محاور حياة كاتب ھذه السطور. وألن شيئا في النفس يجزم بأنھا محاور حياتكم

الخفية أقدم لكم ھذه الخواطر ألنني أعرف أنني عندما أتكلم عن نفسي فإنني أتكلم

عنكم .

***

14

دفـــــاعــــــــا عـــــن بلــــــــدي

قال : كيف وجدت البلد بعد طول تغرب

قالت : الرحيل عذاب والعودة عذاب ونحن جيل النفي قاسينا ونقاسي من العذابين .

يني بريق الغرب ومفاھيم عقلي ال ينفك يقارن وأحاول أن أثنيه فال ينثني. في ع

الغرب متمترسة داخل كياني وأنا أريد أن ال أنظر إلى وطني ال يعيني الغربي وال

بمفاھيمه ومع ذلك ... ومع ذلك ...

قال : ھات ما عندك وكف عن اللف والدوران

قالت : فضاضة الجمارك في المطار . عنفوانية سائق التاكسي . عصبية الناس وال

م ... انطباعات خاطفة لكنھا األولى. وألنھا األولى فإنھا الباقية ... ثم أقل شراستھ

تصفعك مظاھر نسيتھا : ھذه القذارة المستثرية في كل مكان قذى في عين تونس,

وھذه الالمباالة التي يظھرھا الكل تجاھھا .

ا وتحاول أن تنسى . لكن مظاھر الفقر المشين لك بالمرصاد أينما ذھبت والفقر كم

يقول المثل العامي كفر . ويؤلمني ويذلني أن أرى شعبي فقيرا وتزداد تعاستي وأنا

أعايش كل مظاھر الفوضى ورداءة العمل وقلة االنضباط وانعدام حس المواطنية

واستثراء الجھوية والعشائرية و حاجتك البن العم و ابن الجھة الستخالص حق لك

اإلدارة التي تتسم بأسلوب الكش و النش و و أنا كما تعلم أعاني األمرين من ھذه

التي جعلت شعارھا " ارجع غدوة".

و صدمتني مظاھر التحجر الفكري و السياسي و قد عودني الغرب على صراع

األفكار و النقاش الذي ال يفتر أي على كل مظاھر الحرية الفكرية و السياسية.

قال ماطا شفتيه يحاول اختفاء امتعاضه:

ھر أنك أنت اآلخر مصاب بمرض االنبتات و ھو مرض ال عالج له سوى " الظا

الھجرة"

قلت : أنت لم تفھمني أو باألحرى وقفت عند " ويل للمصلين". منذ رجوعي من

الغربة و أنا إنسان آخر، فأنا بتونس مغرم ,متيم, عاشق ولھان و لست أدري كيف

15

التالي لم تعرف مرضا اسمه أشرح لك مشاعري و أنت لم تعرف مرارة الغربة و ب

مرض الحرمان من الوطن.

إن الوطن كالفيتامين أو األوكسجين . ال تشعر بخطورته إال عندما تحرم منه , يؤدي

النقص منه إلى ظھور داء عضال أعرفه جيدا كطبيب و أعرفه كمريض . أتريد أن

أعدد لك أعراضه و أن أصف لك حالتك إن أصبت به ؟

تقدم رجال و تؤخر أخرى, تصفعك نظرة احتقار شرطي المواني تغادر قومك و جال

و ھو يتصفح جواز سفرك ( بالمقلوب) يحرجك ترحيبه الساخر " الور محمد

بن محمد ال باس؟ ".

تدخل جامعاتھم فيشعرونك طال الزمن أو قصر أنھم " عاملين عليك مزية" .

بمنتھى الصراحة و االحتقار: " تعترف بفضلھم إلى أن تسمع يوما رئيسھم يقول

علموھم لغتنا ليشتروا بضائعنا" فتفھم أنك لعبة بين أيديھم تبحث عن شغل

فيتھمونك بأنك تستل الخبز من أفواھھم حتى و إن كنت أنت الخباز تتغلغل فيك

أفكارھم , أذواقھم, مقاييسھم , فتضطر يوما للتوقف لتسأل نفسك " من أنا؟ " .

م النظيفة الجميلة فيستھجنونك , سمعتك سيئة مھما كنت و تمشي في شوارعھ

مھما فعلت, فأنت منھم ككل عربي بأخر عملية اغتصاب وقعت في المدينة. بمضي

الوقت تفقد من دون أن تشعر طابعك , شخصيتك , تلقائيتك, بساطتك , تصبح إنسانا

لصخر الذي حذرا معقدا , قلقا . يتمكن منك الضيق, يجثم على صدرك كجلمود ا

تحدث عنه , تشعر باالختناق , تشعر بأنك على وشك االنفجار من أقاربك و أبناء

عمك و اخوتك في المنفى من ينفجر,يدخل معھم في معركة خاسرة, يقع في الفخ

الذي أعدوه له : أليس العربي عنيفا بطبعه ثم أال يدل العنف المتھم به على صحة

؟ توقعاتھم و نظرياتھم

فستبحث عن الكرامة و االحترام بكيفية معاكسة . تغالي في التعقل و التأدب أما أنت

, تتمكن من إجادة لغتھم أحسن منھم, تبزھم في العلم و الطب في الموسيقى

الكالسيكية , تعتلي يوما المنصة لتدرس في جامعاتھم فينظرون إليك باستغراب

قد يخيل إليك في بعض األحيان ل -مشاب باإلعجاب, ليضيفوا : ھذا من فضلنا عليه

16

أنك اندمجت فتضع تبرمك , قلقك , ضيقك, كرامتك المجروحة بين قوسين , إلى أن

يأتي يوم تفتح فيه الجريدة فتقرأ أن " القھوجي" استقبل زبونا غربيا برصاصة

أردته قتيال, و أن المحكمة حكمت عليه بثالثة أشھر سجنا مع إيقاف التنفيذ, و أن

لم يكتشف إلى حد اآلن ھوية قتلة علي و أحمد ... و بلقاسم... فتغلق البوليس

الجريدة, تذھل عن الوجود , تغيب في دوامة من المشاعر المبھمة ثم تعود إلى

رشدك و تفھم أنك كنت تحلم بالوطن.

يحاول أوالد الحالل منھم ( و ما أكثرھم) الدفاع عن كرامتك , عن شخصيتك , عن

إلخالص و التفاني و اإلنسانية , فتقبل منھم بامتنان في البداية حقوقك بمنتھى ا

لكنك ستستثقل إن كنت مثلي سليل أجالف البدو و أشرافھم . ھذا الفضل , ستضيق

به ذرعا , ستفضل عليه عنصرية أعتى العنصريين إذ ال شيء أكره إلي من إثارة

عرف " الخيل و الليل و العطف و الشفقة . فأنا " من بقلبه شمم " حتى و إن لم ي

البيداء و السيف و القرطاس و القلم"

تلك ھي بعض أعراض المرض و لكنھا في حالتك أنت الجامعي المحظوظ خفيفة و

نفسانية بحتة, بل و بإمكانك التخلص منھا بأتم السھولة أن أعرضت نھائيا عن

لعروبة الخ...ھاته المفاھيم و القيم التي تربيت عليھا : الكرامة , األصالة,ا

لكن للمرض أبعادا رھيبة عند بعض قومك من العمال و كثير منھم من بموت به .

علمتني تجربة طويلة في مستشفيات الغرب أن أعراضه عندھم أخطر بكثير مما

تقاسي, يدخل العربي يوما المستشفى بعد أن أنھكت قواه معركة غير متكافئة ضد

لخوف ضد الذل ضد العزلة , يعتصم بالمستشفى الفقر و ضد العمل المضني , ضد ا

كآخر مھرب , كآخر مالذ يتشبث به كغريق بقشة تطفو على سطح البحر.

يسألونه بتجرد يتجرد العلماء عن أعراضه فال يقول " أنا مريض بعملي , أنا

مريض بغربتي , أنا مريض بعزلتي , أنا مريض بغياب الشمس , بانعدام الحب ,

" ألنه ھو نفسه ال يعرف أسباب مرضه . لذلك تراه يترجم " ظھري بقلة االحترام

يؤلمني , مفاصلي , بطني , رأسي , وأخمص قدمي " فيضحكون منه ألنه قاموس

األمراض ال يعرف وال يعترف باألعراض التي يصفھا العربي , ويقولون أنھا "

17

أعراض مرض ھستيريا النور أفريكان " وأقول لھم وفي فؤادي لوعة : ال إنھا

الحرمان من الوطن .

قال : أشفيت من ھذا الداء ؟

قلت : ال , الحياة في ھاته البالد الصعبة, لكني أمشي في شوارعھا وقد انزاح عن

صدري كل ثقل, أمشي فيھا كريما, مرفوع الرأس , بال خجل , بال تكلف , بال حرج,

وأنا أعمل في مستشفياتھا بال عقد . أمشي فيھا بنفسية المالك . فھذه شوارعي

المتواضعة بفرح , أتعامل مع إدارتھا " الكافكائية " بصبر أيوب ,أستعمل وسائل

نقلھا الجھنمية واعيا بأن ھذا أحسن ما قدرنا عليه , طلقت الرفاھة والسھولة بال

حسرت وال ندم ألني أشعر بلذة وأنا أقاسم مواطنيھا شظف العيش , وأنا أقاسمھم

الغد األفضل , أتحمل صراخھم وعصبيتھم وعنفوانيتھم وكل عيوبھم األمل في

ھم أھلي وإن ضنوا بي ! الصغيرة والكبيرة بتفلسف ,, أليسوا أھلي ؟ نعم وألف نعم

كرام .

منذ رجوعي وأنا أشعر رغم كل المصاعب براحة نفسية ال تتصورھا . أأقول لك

إن ضربة يوما على المائدة بقبضة السبب ؟ أنا مرتاح ألني أعلم أصدق العلم أني

يدي صارخا كفى , فلم يواجھني أحد بتلك الجملة المشھورة التي سمعھا كل العرب

: " إن لم يعجبك ھذا تفضل على بلدك " .

تريدني أن أحب تونس على منجزاتھا ومناخھا وشواطئھا الخ ... لكن الفضائل

قيقي بال دوافع أو أسباب . وغن الحقة بال فضائل كما يقول " الوتسو" والحب الح

كان البد من سبب موضوعي لحب تونس فاعلم أنني أحبھا ال لشيء إال ألنھا بلدي,

وطني , أرضي , ملكي أنا .

رب كوخ أنا صاحبه ال حب إلي ألف مرة من قصر أنا خادم فيه أو ضيف ثقيل الظل

على أصحابه .

! !إيه يا تونس

ى األجداد , يا مستقبل األبناء واألحفاد , يا ضمان الكرامة يا مسقط الرأس , يا مثو

ومصدر الحياة , يا قاسية يا حنينة, يا أم الجميع , يا ست الحبايب يا حبيبة " .

18

" أشرح الشوق كله أم من الشوق أختصر " .

دفاعا عن جدي

لقصدير في ربوع ھذا البلد الطيب, في قراه ومدنه في أزقته القذرة , في بيوت ا

المحيطة بعاصمته يوجد منذ وجد الوطن آالف من األبطال المغمورين صنعوا وال

يزالون ھذا البلد األمين , بعروقھم ودمھم وتضحياتھم الجسمية . خلت من ذاكرتھم

كتب التاريخ وغضت التلفزة عنھم الطرف وتناست الصحف أن تذكر يوميا بمآثرھم

ھم عماد الوطن وقوامه . وحتى ال ننسى وحتى ال ومناقبھم . لكنني أعلم وتعلمون أن

نتھم بالعقوق يجب أن ننتشل من أعماق النسيان بطوالتھم الصامتة . وألن جدي

حمد البدوي أحدھم فإنني أريد أن أكتب عنه ألنني بكتابتي عنه أعيد إلى السطح

ذكراھم وھو الذين أخاف أن تنساھم ذاكرة تونس ؟

م يمتلك في أحسن أيامه أكثر من جمل واحد وأربعة رؤوس كان جدي فقيرا . فھو ل

من الماعز وحوشا متداعيا في دوز وعشرة نخالت عجاف . وكان يبيت على

الطوى ويظله أياما إبان السنوات الصعبة وما أكثرھا في حياة حمد البدوي .

وكان وھو في الستين ينھض مع الفجر ليقطع عشرة كيلو مترات يضرب صلب

ساعات طويلة بمسحاته القصيرة المحدودبة وكأنه ينقب عن كنز وعدته به األرض

الحياة و أخلفت, لكنني لم أعرف في حياتي رجال أكثر أرستقراطية منه. كان يمشي

ببطء مرفوع الرأس , واثق الخطوة صامتا كسماء الصحراء منطويا على نفسه .

فه وكنت تحسبه وھو يمشي سيد قوم جمعوا الفخر من أطرا

لم يكن يضيره أن يلبس األسمال وأن تدمى قدماه من المشي, يوم يجف ضرع الناقة

والماعز .

كانت أنفته خلة طبيعية فيه وكانت أرستقراطيته ال ترتبط بثراء زائل ومجد بقدر ما

كانت مرتبطة بشيء اسمه الشرف. ھذه القيمة التي ال تصرف في البنوك والتي ال

للمضاربة في البورصة, وكان شرف حمد البدوي في حفظه تحتكر أو تشكل مادة

للطود الشامخ القرآن , فكان شرفه في قوله الشعر وفي حفاظه على اللغة الدرية

19

وكان شرفه في شعوره بأنه حلقة من سلسلة تضرب في غور الزمان . كان يقول

القرشي ( عن االقتناع " بيني وبينه ثالثة وثالثون جدا " يقصد محمد بن عبد هللا

ص ) وكان إيمانه بھذا االنتساب فطريا ال تشوبه شائبة وال يخالطه الشك وال ربما

شكل سر تلك المشية الملكية التي طالما أثارت إعجابي واستغرابي . وتھورت مرة

ألقول له بحماقة المراھقة وطيشھا: " كل العربي يدعون أنھم حفدته ونحن

ابطون ولسنا أشراف " وندمت لحظة نطقي بالجملة المرازيق كما يقول التاريخ مر

وأنا أقدر فظاعة حرمان الرجل من ھذا الخيط الوھمي الذي يربطه بالجد األعظم ,

ومن ھذا اإليمان الذي يشكل سر ھذه األرستقراطية الفكرية التي ال تنضح بھا كل

سلسله وھو حركات الراعي البدوي الفقير , ولم يصدقني حمد البدوي . ألم يكن حقا

الذي يحفظ تعاليمه ويدافع عنھا وينقلھا لألجيال القادمة بدون مشقة أو تكلف.

لم يعرف جدي الراحة يوما . فالنخالت العجاف ال تؤتي أكلھا إال بالجھد الجھيد

وكذلك الحل والترحال في صحاري الجنوب . لكن مأساة حمد البدوي لم تكن ال الفقر

ل الحرب القرية السالمة بقدر ما كانت حرمانه من االبن وال موت الزوجة وال دخو

األوحد ومن الحفيد . فقد طرد الفقر االبن من القرية وھو لم يبلغ الخامسة عشرة

من العمر فحمل رحله ھو اآلخر باحثا عن الخبز والكرامة وجريا وراء المغامرة

واحد مدة طويلة الدائمة التي لم يكن حبھا الفطري يترك البدوي يستقر في مكان

من الزمن . وبذھابه ذھبت فرحت الحياة إلى غير رجعت وقضى حمد البدوي حياته

ينتظر عودت االبن الشريد وعاد االبن لكن لكي يعاود حله وترحاله في األرض

تاركا كل مرة الرجل على حزنا مستديم .

اء , فالوطن كانت فترة حالكة في حياة الوطن والجنوب وحمد البدوي علي حد السو

رازح تحت نير االستعمار والجنوب منطقة عسكرية تتحكم فيھا حثاالت ضباط

فرنسا وحمد البدوي مشبوه فيه ألن االبن مخرب دستوري يتآمر على األمن العام .

وبتعقب السلطات لالبن المتمرد زادت مخاوف وأحزان الرجل الطيب المسالم ال

ه وإليمانه بأنه خادم الوطن وقائم بواجب ينقص من مرارتھا سوى فخره الصامت ب

ال يمكن للبدوي أن يتقاعس عنه . وبلغت المأساة أوجھا في بداية الخمسينات يوم

20

فرضت علينا السلطة العسكرية اإلقامة الجبرية بدوز إلى أن يسلم األب المتمرد

ة فإذا نفسه وكنا إذاك في عطلة الصيف نأتي من قرمبالية ل''دوز'' في زيارة عائلي

بنا رھائن القبطان قبلي .

وجن جنون أمي وخافت أن يسلم أبي نفسه لكي يطلق سراحنا وخاف محمد البدوي

علي الزوجة و األطفال الصغار أكثر من خوفه على نفسه أو على ابنه .

كان الرجل يستيقظ مع الفجر يقطع على القدمين أربع وعشرون كيلو مترا الفاصلة

تعطف القبطان الفرنسي ليطلق سراح عائلة بريئة مقدما نفسه بين دوز وقبلي يس

بديال عن االبن وكان يعود كئيبا وقد دميت رجاله من المشي ليقول ألمي: لقد

وعدوني خيرا فال تقلقي . ومرت شھور ثالثة وحمد البدوي يقطع الطريق يوما إلى

قدمي حمد البدوي أن ضاقوا به وضاقوا بنا فأخلوا لنما الطريق ولن أنس يوما أن

دميت لتعبد لي طريق الحرية .

ورحل االستعمار عن الوطن وظن حمد البدوي أن حلمه سيتحقق وأنه سينعم باالبن

والحفيد . لكن الحياة قست عليه وكانت قسوتھا ظلما مجحفا متعديا ال تفسير وال

ألزلي وزاد مبرر له . فقد ولى ابنه الوحيد إلى غير رجعة تارك الشيخ على حزنه ا

في حسرته الناس الذين عيروه وقت الكفاح بابنه المخرب أعادوا الكرة يعيرونه

بابنه المھاجر وتالشت إلى األبد ابتسامة الرجل الطيب وماتت فيه كل فرحت ولم

يجد غير الشعر يبثه لوا عج نفسه الكئيبة وثورتھا الصامت .

ننشد الزمان وينبينا

لعدم جافينارجعش واال با

وفراق الكبيدة مر من يطيقه

ال بنت عندي وال ولد من غيره

كل من فرقنا يرزقه بطليقه

من حال بين البو وضنينه ... إلى آخره .

ومرت العشرية األولى وحمد البدوي يأمل أن تتحقق المعجزة ولم تتحقق ودخلت

خبار من بالد المنفى فبعث يعاتب حسرت الفراق عقدھا الثاني وقلت األ

21

بعث جواب سلم على أحبابه وزاد اصحابه

من غير على باباه ضاع صوابه

ال سالم منه ال عاد جوابه يجينا

ومن فرقته كبدي غدت مرجينة

وكبر الشيخ وكبر معه حزنه وحفرة الدموع في العينين أخاديد يوم ھاجر الحفيد

ان خيط رفيعا يشده باالبن التائه وتحالف عليه في آخر حياته الفقر بدوره وك

والمرض وھذه الخصومات الرھيبة التي ال تكون إال بين أفراد العائلة الوحيدة

فخفت أناته وضعفت صرخاته وكان بھا مكتوما .

وألتھمتني دوامة الحياة وكنت أتذكره بين الفينة واألخرى ببعض المال من المھجر

رنسي شأني في ذلك شأن عشرات آالف من شبان ھذا البلد الذين كانوا يقتطعون الف

من المنحة الدراسية أومن أجرة الشھر المتواضعة ما يقي العائلة الرابضة على

األرض المقدسة شبح الجوع لكنه كان يقول "" ال يبعث ماال وإنما تعال فأنا أذكرك

ل , شاھرا سيفه الخشبي على طفال يمتطى صھوة جواده من مطھم سعف النخ

أعداء الصحراء وأريد أن أراك رجال أشرف على التخرج فتعال وأسرع ألنني أخاف

أن تأتي وقد انطفأ النور من عيني وال أراك .. وكنت أعده وأخلف المرة بعد األخرى

معتقدا بأن ھناك أشياء أھم من تلبية آخر أمنية لحمد البدوي . وانطفأ النور من

ثم انطفأت الحياة نفسھا من بين الضلوع وأنا مشغول عنه وعن مأساته عينيه

بمقارعة كواسر الطير وذئاب ھذه الغابات التي نسميھا الدنيا .

مات الشيخ بغصته وحيدا فقيرا وفي قلبه آخر أمنية , أمنية ما وراء القنوط ما بعد

فاني " . اليأس " نحساب في األلحاد ما تنساني توتي عشاي وتعتني باك

وحز في نفسي أن يموت حمد البدوي بھذه الكيفية , أن يموت وھو يعتقد نفسه

مھزوما وھو يظن أننا نسيناه , أنني نسيته .

لم أنسى حمد البدوي يوما . حملت صورته وأفرغت لقدميه الداميتين شعبا كاملة

بت في من فؤادي وحملت بصماته على لساني من حيث أدري وال أدري . فقد تغر

فرنسا خمسة عشر عام ال ادرس إال العلم وبلغة أصحابه لكنني لن أتخلى يوما عن

22

العربي وھي لغة حمد البدوي أخذتھا عنه تكاد تكون فصحى أخذھا ھو عن أجداده

منذ أربعة عشر قرن نتوارثھا أبا عن جد زمردة ياقوتة إكليل غار, سيدة اللغات

دنا األعظم محمد ابن عبد هللا العربي . لم أنسه أشرفھا , أقدسھا لغة القرآن, لغة ج

ولم يمت حمد البدوي مھزوما . مات وھو ال يقدر مدى انتصاره .لكن أصحيح أنه لم

يكن يدري ؟

يوم دخلت المدرج الجامعي المكتظ ال لقي أول درس لي في أمراض األعصاب

مرارة . بجامعة سترازبورع خلت روحه حاضرة ومسحت السبورة وأنا ابتسم ب

أترى ھل كان قبطان قبلي يتصور أن حفيد ذلك البدوي الفقير سيقف يوما على ھذه

المنصة وتصورت ذھوله لو علم .

واستدرت أواجه مئات الرؤوس الشقراء وھي تحدق باستھجان في األستاذ العربي

الشاب األسمر . وكنت ال أدري كيف أخفي اضطرابي ووجلي من ھذا المدرج المكتظ

ي كان الزمالء يسمنه الكوريدا ويخشون ولوجه إذ قل من كانت أعصابه تصمد الذ

أمام لجان التشويش وكوماندوس النكتة ومغاوير الصراخ والتصفير . واستنجدت

بروح الشيخ لتجد من أزري في أول مواجھة لي مع الكوريدا وتراءت لي فجأة

ا للمرض تتحدى الدھر صورة القرية الرابضة على ضفاف الزمان قلعة للفقر حصن

بأنفتھا وعبرت ذاكرتي كلمح البرق صورة حمد البدوي دامي القدمين يضرب

األرض العاقر وھو في السبعين بمسحاته الحدباء فتملكتني صورة من الغضب

البدوي العاتي .

أحسست بكل جوارحي أن علي أن أثأر للقرية , أن أثأر لحمد البدوي من المسحاة

الوحدة ومن الفقر , وأن أثأر لھما على ھذه المنصة بالضبط من القبطان من

وتعالي الصوت آمرا قاطعا كحد السيف بليغا يشرح العلم ألھله ولم يكن الصوت

بالطبع صوتي بقدر ما كان صوت أنفة البدو وبالغة البدو وأرستقراطية البدو

ش وقف إطالق ذكائھم الفطري . واستسلم كوماندوس النكتة وأعلنت لجان التشوي

النار وتبخر وجلى وأنا أشعر بروح الشيخ تصفق طربا . وانتھى الدرس ودوى

23

التصفيق طويال ملحا وكانوا يصفقون لروح راع بدوي من صحارى إفريقيا وھم ال

يعلمون .

كانت مأساة حمد البدوي مأساة عشرات اآلالف من أبا وأمھات ھذا البلد .

مه وه يعاني من البرج وجنوده وقبطانه آالم تونس كان فقره فقر تونس , كانت آال

وھي تنتھك يوميا . كان حزنه وھو يشاھد األفق يلتھم االبن ثم الحفيد حزن تونس

وھي ترى أبناءھا يھاجرون شرقا وغربا بحثا عن خبز أو علم لم تكن قادرة على

عبة . كان توفيره لھم . كان تمزقه بعد االستقالل تمزق تونس وھي أمام خيارات ص

انتظاره الطويل انتظار تونس ألبنائھا المغتربين , انتظار األم لفلذات أكبادھا

التائھين في الضباب . لكن حمد البدوي لم يكن ألم تونس فحسب . كان أملھا أيضا .

فسليل رعاة ابل يجوبون البوادي منذ قرون ال يملكون من الدنيا سوى أسمالھم

ھذه األنفة التي كانوا يتحدون بھا أسياد األرض البالية وحيوانات عجفاء و

وأصحابھا وھو منعطف في تاريخ البدو . فھو جد لستة جامعين وھبھم لتونس

مشاركة منه في بزوغ الفجر .

نعم لم يھزم حمد البدوي وكم يحز في نفسي أنه لم يقدر مدى انتصاره . فقد عدنا

مى دما حيا وثابتا نساھم في عودة نتدفق في شرايين ھذا الشعب وھذه األمة العظ

الروح إلى الجسد الذي حنطته قرون مظلمة من التخلف .

نعم تنكر منا من تنكر وفر من فر وتبجحوا يتھكمون على األرض المقدسة

فأنشدتھم أبيات ايليا أبو ماضي :

قالوا رأيناھا فلم نر طيبا * وال صباھا والجمال مع الصبا

الدي سبسبا * قفرا فلست أحب غير بالدي فأجبتھم لتكن ب

الكوكب الوضاح يبقى كوكبا * ولئن تستر بالدجى وتنقبا

ليس الضباب بسالب حسن الربي * والبؤس ال يمحو جمال بالدي

نعم عدنا. عاد منا من عاد و ھو ال يحمل من رحلة الشتاء و الصيف إال بعض

البعض يتبخترون بسيارة معطبة و عاد العفش من سقط متاع أوروبا و عاد منا

آخرون مثلي تغلي مراجلھم بالغضب من انحطاط ھذه األمة يطالبون بإعادة فحص

24

دفاتر الحسابات لمعرفة المسؤولين عن ھذه الكارثة الحضارية التي أسميناھا

التخلف و عاد منا من عاد مثقال بالشھادات الجامعية أو بشيء من المال ادخار حياة

ة من العذاب و القھر و التمرد. كامل

نعم عدنا بمختلف أھوائنا و مشاربنا بخفي حنين أن بمعارف ال تقدر بثمن لكن

بفؤاد يطفح حبا لألم تونس و الجد حمد البدوي. عدنا نسابق الزمن كي ال يموت

الجد المھيب بغصته. عدنا لنقول أن التضحيات لم تذھب سدى , إن حثاالت ضباط

ن سكرا على قارعة الطرقات في بالدھم . إن قبطان قبلي يجتر الصف يترنحو

ذكرياته في مأوى العجز أن أبناء الفقراء تعلموا أنھم مصممون العزم على الدفاع

عن تونس حتى ال تعرف من جديد ذل التخلف و عار التبعية حتى ال يھاجر ابن أو

عدت و عادوا كلھم و حفيد, حتى ال تحفر الدموع أخاديد في عين جد عربي . نعم

وجدنا الطريق إلى القرية المنسية و كم من واحد منھم يجوب مثل ھذه الليلة

المقابر بحثا عن رفات الجد , بحثا عن منبع كل شيء بحثا عن الجذور.

ھا ھو قبر حمد البدوي تضيئه النجوم المتألقة التي طالما اھتدى بنورھا الراعي

يب كآبتي ليلة ھذا الموعد الذي وصلته متأخرا البدوي وھذا القمر الشاحب الكئ

سنوات عديدة . ھا أنا أجلس إلى القبر أجس الرمال التي تغطيه , ھذه الرمال التي

حملت خطانا و أعمت أعيننا وتسللت إلى أفواھنا مع كل لقمة منذ فجر التاريخ و

عطاء: التي قال في حبنا لھا نور الدين فارس أحد شعراء جنوبنا األبي الم

ھذى الرمــــال كخلــــــجان مجـمدة * يمتد عبر الفيافي موجھا كثبــا

نمشي عليھا كمــا نمشي على بسط * مفروشة و نرى ذراتھا ذھبـــا

ھذه ھي البيـــد أحــالم مجنحـــــــة * ھيــھات تدركھا ركضا و ال خببا

شعرا و ما كتبا مھما أدعي الوصف فالصحراء أبلغ * مما قيل في وصفھا

و أمد يدي إلى القبر و كأنني أريد أن أجد منفذا أللمس اليد الطاھرة التي بقيت

ممدودة سنوات طويلة ال تجد يدا تعانقھا و أجيل نظري أقيس المكان : ھناك سيرقد

االبن الشريد يوم تجمعه الموت بأبيه حمد و أمه األرض و ھنا يساره سأرقد أنا

ينة الھمجية بال رجعة يومئذ . سنتدثر بالرمال الدافئة . سيلفنا يوما أخرج من المد

25

الكون بصمت ال يتخلله إال حفيف نخالتنا العشرة و سيھدھدنا في رقدتنا األبدية

إعصار صحرائنا الخالدة و كأنني بعضالت حمد البدوي المتشنجة تتراخى أذاك و قد

التأمت فجأة و كأنني به يتنفس تالقت األيدي تحت أديم األرض و كأنني بجراحه قد

الصعداء و قد جمع الرمل أخيرا ما فرقه الدھر.

***

26

دفـــــاعـــا عـــن لغـــتي

تسمع حواليك في المقھى, في الحافلة, في اإلدارة, في صحن الجامعة, ھذه

األحاديث و خاصة بھذه اللغة:

.Alors je lui ai dit , moi tu comprends, ça peut pas durer par

exemple-

pas content, tu va voir le chef . etعاد قالي ça va pasأنا , قلت له -

tu lui errapot es ' Si tu n

و أنت ؟ -

و كنت مفكنص ( من فعل فنكص أي ذھب في les affairesو هللا -

Vacances. (

واحد ماشي كرازاته كميونات رمساوه مورصو accidentما زلت كي شفت -

مورصو.

ھذه عينات من لغتنا اليومية الفرانكو أراب ( وتنطق فغانكو أي إن كنت أنثى أو

سكان األحياء الراقية) نسمعھا في كل مكان ولم نعد نلتفت إليھا أو نعيرھا أدنى

ر المسلم بھا , من البديھيات . اھتمام إذ غدت من األمو

في مركز األعصاب الذي أمارس فيه مھنتي اللغة الشائعة ھي ألفرانكو أراب , ومع

ذلك فقد تجاسرت يوما وكتبت نصا باللغة التي يقول عنھا الدستور أنھا لغة البالد ,

ال شرح فيه للمرضى المصابين بالصرع سبب المرض وأھمية وطريقة تعاطي

نتظام وطلبت من األطباء المتمرنين الذين يعملون تحت إشراف شرحه الدواء با

للمرضى وإعطاءھم نسخة منه لتكون دليلھم في العالج .

لم يفھم جلھم ما ورد في النص من مصطلحات بسيطة والبارحة كانت القشة التي

قصمت ظھر البعير , أتتني مقيمة ألفسر لھا النص الغامض , على شفتيھا ابتسامة

خرية : ص

- Vous croy للي باش يفھمواles malades ؟

27

! المفروض أنھم توانسة يعرفون العربية -

Vous avez traduit التاكست ؟

بل كتبته يا آنسة -

الكتيبة به زادة ( وضحكت Vous savezو Vous parlezآه بون بالعربي -

ماذا فعل بك أھلي . ) لكن أما كان علي أن أبكي ؟ ,, أيه يا لغة المتنبي

الظاھرة :

ينص دستورنا بصراحة أن ديننا اإلسالم ولغتنا العربية لكن الواقع المرير يكذب ھذا

فديننا المادة في أحط معانيھا و لغتنا ألفرانكو أراب وما أدراك ما ألفرانكو أراب ,

مؤشر لغة ھجينة , لغة القبح والبشاعة والتغرب واالضطراب الفكري والنفسي ال

على تقدمنا المزعوم وتخلفنا المريع .

لو اقتصر الحديث بھا على بعض البورجوازيين مثل ما ھو الحال في بعض

المجتمعات الشرقية لھان األمر , لكنھا لغة تالمذة الثانوي وطلبة الجامعة وموظفي

اإلدارة وممرضي المستشفيات الخ ,, أي أنھا لغة التخاطب اليومي لقطاعات كبيرة

من شعبنا . واألخطر من ھذا أن الظاھرة في تفاقم واستفحال مطرد وھي كسرطان

ينمو باستمرار ينشب مخالبه عاجال أو أجال في ما بقي سليم من لغتنا الوطنية فما

أن يصل التعليم إلى قطاع من الشعب إال وداھمه ألفرانكو أراب ليسلبه ھو اآلخر

وارثھا أبا عن جد منذ خمسة عشرة سنة . فصاحة األجداد وسالمة نطقھم بلغة نت

بصراحة أنا أحتقر ألفرانكو أراب وارثي للمتكلمين به وقد كدت أن أظلم يوما طالبا

بصفر رنان ألنه تجاسر , وكلمني بلغة المسخ ھذه . وأنا ال أدخل في نقاش مع أحد

ن يصمد أكثر إال وخيرته منذ البداية بين الكالم بلغة الضاد أو بلغة موليار , وقل م

من خمس دقائق بإحدى اللغتين .

لماذا أكره ھذه اللغة ؟ ألنني أراء فيھا إحدى المظاھر الرئيسية لتخلفنا وإحدى

المؤشرات الھامة الدالة على ضعفنا , ال تخاذلنا , على انھيار أنفتنا وثقتنا بالنفس

,, على تخلفنا الحضاري وتبعيتنا المھولة .

28

فرنسا قرأت كتابا ألديب فرنسي كبير اسمه اتيامبل بعنوان " ھل لما كنت طالبا في

وكان حملت شعواء على دخول Parler vous Franglaisتتكلم الفرانجلية "

بعض االصطالحات اإلنجليزية إلى اللغة الفرنسية وعددھا ال يتجاوز المائة ووقف

نية محتجا يوما نائب برلماني فرنسي في السبعينات يخطب في الجمعية الوط

بصرامة االستعمال المضيفات على متن طائرا فرنسا الجوية لبضع االصطالحات

اإلنجليزية, ومن ثمة ال غرابة في اعتناء القوم بنقاء لغتھم إذ تقوم األكاديميات

بحمالت دورية لترجمة آخر المصطلحات العلمية من اإلنجليزية والروسية الخ ,,

. حتى ال تشوب نقاء اللغة شائبة

تعال يا اتياميل لتقدر قداحة الكارثة اللغوية التي نعيشھا وسترى الفرق الھائل بين

دخول بعض الكلمات العلمية للغتكم والزلزال الذي ھشم دعائم لغتنا وجعلھا حطاما

وأنقاضا ,ونحن شعب يلم األفعال الفرنسية , ونصرف فعال " فكنص" ونسحق

لطھا ونحورھا ونرصھا داخل جمل تتحدى مفاصل الكلمات, ونمزق أوصالھا ونخ

أعقد قواعد النحو وأبسط قواعد الذوق والجمال .

ومرحى لك يا اتيامبل وللنائب الذي قام خطبا في البرلمان ألن مضيفات فرنسا

الجوية تطاولن على لغة موليير وھنيئا لكما باللغة التي دافعتما عنھا فقد غزتنا في

لھا من يحميھا مثلكما . عقر دارنا وغزت العالم ألن

أبعاد الظاھرة :

ليست اللغة كما يظن البعض مجرد أداة للتعبير والتخاطب, ھي باألول ثقافة أمة ,

ومرآة شخصيتھا, ھي خالصة تجربتھا التاريخية ھي فلسفتھا وتصورھا للوجود,

ا وطريقة تعامله معه. ھي قوام وجوده وضمانه, لذلك تحافظ كل األمم على لغاتھ

وتقدسھا أشد التقديس ألنھا ال تفعل بھذا إال تقديس وجودھا ودوامھا . أن أردت

احتواء شعب فال تستعمر أرضه وال تستبدل نظامه وإنما أضربه في الصميم: في

لغته في اعتقاداته . بھذا وبھذا فقط ستستطيع األجھزة عليه بالضربة القاضية أنظر

ف جسديا, لم تبتلعھا األرض وإنما زالت بزوال إلى تاريخ األمم المنقرضة , لم تخت

لغتھا أو دينھا . األمة قادرة على استيعاب كل المخاطر التي تتھددھا لكنھا تموت إن

29

فشلت في الحفاظ على لغتھا.أين الفراعنة والھنود الحمر الخ ... ھل الحظت أيضا

ات والشخصية أن الشعوب تبادر عندما تبدأ حربھا الشاقة الطويلة الستعادة الذ

–باستعادة لغتھا أو ما بقى منھا , ھل تعلم مثال أن في فرنسا نفسھا حركات ثقافية

سياسية تجاھد الحياء اللغات المحلية في مقاطعات الباسك والبروفانس وااللزاس .

ونحن؟ أترى سنصل يوما إلى درجة المطالبة بأحياء العربية في تونس وھل حكم

ة جزر الكراييب. السؤال مطروح للبحث فھل من مجيب لكن علينا لغة ھجينة كلغ

على اإلجابة عن السؤال أن تأخذ بعين االعتبار األبعاد الخطيرة للموضوع.

فالمسألة ال تتعلق ببشاعة شكل لغوي ھجين بقدر ما تتعلق بخلفيات الفرانكو آراب

واإليديولوجية السياسية والفكرية التي تشكل المعظلة :

عية : التب – 1

كثيرا ما يستغرب بعض الناس من تعصبي للعربية والحال أن األطباء معروفون

بنفوسھم بل وحتى باإلفراط فيه والسبب بسيط. لما ذھبت ألدرس في كلية الطب

سترازبورغ بفرنسا في أواسط الستينات كنت ال أؤمن إال باللغة والثقافة الفرنسية

ھا عن نفسي وعن تراثي وأصولي وكنت وبھرتني الجامعة وكدت أن أضيع في

أقارن طول الوقت, وفي الفؤاد لوعة, بين ثقافة حية عميقة وبين تراث جامد

متحجر, وآمنت سنوات طويلة بأنه ال خالص لنا إال بالتفرنس السريع فكريا أن لم

يكن لغويا واضعا الحضارة عندھم والجھل والتأخر عندنا. والمضحك أنني كنت

ن االمتنان تجاه ھؤالء الفرنسيين الكرام الذي فتحوا لنا أبواب أشعر بنوع م

جامعاتھم لنغرف من عملھم وأدبھم وأساليبھم في الحياة .

وتداعت كل ھذه التصورات الساذجة يوم قرأت جملة لجورج بومبيدو رئيس

الجمھورية آنذاك في معرض حديثه عن دور فرنسا الثقافي وأھدافه البعيدة . قال

"’عنا نحن الطلبة األجانب : " علموھم فرنسي ليشتروا فرنسي الرجل

Apprenez leur le français pour qu' ils achètent français ھكذا

بمنتھى الفصاحة جرحتني الجملة, فتحت عيني اتضحت لي الحقيقة المرة ,, لم

فيا ) ونروج يفتحوا لنا أبواب جامعاتھم إال لنشتري فرنسي ( سياسيا اقتصاديا , ثقا

30

بضاعتھم ليجنوا ھم األرباح . وبقيت يوما كامال أزفر من الغيظ , وخرجت أبحث

عن الجرائد العربية حتى ال أترك بومبيدو يستعمرني فكريا بعد أن طرده أبي من

أرضي وكتبت للعائلة أقول لھم ال تبعثوا البقالوة والعصبان والغطاء لمقاومة البرد

تب العربية فأنا في حالة خطر , سيجعلوا مني بائعا متجوال الرھيب ابعثوا إلي الك

للروبافيكا األجنبية وقد بدأت أرطن .

لم يجرفني التيار ألن جملة بومبيدو بما تكنه من مكيافيلية واحتقار فتحت عيني

بالقوة , بل ورددت كيد الرجل عندما جعلت شعاري : تعلم الفرنسية لتبيعھم ( يوما

الواقع الحالي لألسف الشديد يحقق ما تمناه وما خطط له بدھاء ) عربي . لكن

بومبيدو وأمثاله فنحن بتشبعنا باللغة األجنبية , وبمفاھيمھا وقيمھا واقعون تحت

سيطرتھا شعوريا أو ال شعوريا شئنا أم أبينا ذلك , وبالتالي فإن سيادتنا على أنفسنا

كرية للتبعية : في كل الميادين ناقصة . خذ مثال الناحية الف

نحن ال ننتج علما , نحن نقلد , نحاكي , ننقل ونستھلك ما يأتي جاھزا , ال نكلف

أنفسنا حتى عناء الترجمة واالنتقاء , وھذا ليس تفتحا أو ھو تفتح من نوع فتح

باب منزلك ليدخل من يشاء , وكذلك في الميدان األدبي واإلنتاج السينمائي, كثيرا ما

ت ومفاھيم ال جذور لھا عندنا , لم نعتن ولم نواكب بروزھا ننطق باصطالحا

وتطورھا. ننطق الكلمة, لكننا قلما نتمكن من معناھا العميق الذي يفھمه صاحب

اللغة تلقائيا , ومن ثمة التذبذب الفكري والسطحية والخلط بين المستويات .

بدعا خالقا , ألن من البديھي أن ھذا الفكر المضطرب المذبذب ال يمكن أن يكون م

الخلق واإلبداع يتطلبان التجذر , كما يتطلبان روح المبادرة والفرانكو آراب كلغة

سلبية , تتراكم فيھا المصطلحات وتتابع وفق ظروف ال تتدخل فيھا أبعد ما يكون

عن تمكين اإلنسان التونسي من التعبير عن قدراته الخالقة . المضحك أن ھناك من

ثمن التقدم بينما ھو ضريبة التأخر . فلو كنا متقدمين حقا لفعلنا مثل يعتقد أن ھذا

الصينيين واليابانيين والكوريين الذين ترجموا ونقلوا كل العلم الحديث إلى لغاتھم

المعقدة الصعبة , مع الحفاظ عليھا ومن ثمة على شخصيتھم واستقاللھم الفكري

والسياسي .

31

ا على بضعة ماليين نسمة كالشعب الدانماركي تصور أن شعوبا ال يزداد تعدادھ

والنرويجي واالسلندي الخ ... تستعمل لغتھا المحلية في الجامعة ونحن عرب

مليون نسمة , عاجزون عن فرض العربية في 150المغرب بلغتنا التي ينطق بھا

ننا تعليمنا العالي ومعامالتنا اليومية وفينا من يناقش في جدوى استعمالھا متذرعا بأ

,,, سنتأخر عن الركب .

اجمع إذن السطحية , والتذبذب , والتبعية الفكرية والبشاعة الشكلية التي تشكل

أبعاد وخلفيات الفرانكو آراب يكون الحاصل حالة ثقافية رديئة , مع إمكانية الوقوع

في تبعية سياسية واعية أو ال شعورية . إن بومبيدو على حق عندما يفترض أن

م بالفرنسية سيشتري تلقائيا فرنسي ,, واالستقالل كما ھو معلوم ال يتم عندما المتكل

يرفع العلم ويعزف النشيد الرسمي وإنما ھو ثمرة كفاح شاق وطويل اختيارات

األمة النابعة من أعمق حاجياتنا وخصائصھا , فھل يمكننا الفرانكو آراب من القيام

بھذا

األسباب : – 2

فرانكو آراب معروفة بما فيه الكفاية إذ ھي وليدة تضافر عوامل أسباب تغلغل ال

موضوعية نتجت عن تخلفنا عن ركب األمم المتقدمة وعن تبعيتنا المطلقة في يوم

ما . واألھم من التذكير بدور االستعمار سابقا التركيز على الوسائل التي الزالت إلى

بذلك ال شعوريا العمل التخريبي الذي يومنا ھذا تھشم دعائم لغتنا القومية , مواصلة

خطط له المستعمر لما كان يتحكم مباشرة ومن المؤسف أن التعليم ھو إحدى

الوسائل الرئيسية إلشاعة اللغة البشعة وذلك لألھمية القصوى التي تحتلھا

الفرنسية في سائر مراحل التعليم . أنا ال أطالب بطبيعة الحال باستئصال جذور

برامج تعليمنا في أي مرحلة ألننا بأمس الحاجة إلى لغة ثانية , لكن الفرنسية من

المطلوب ھو متابعة الجھود المكثفة التي بدأھا السيد محمد مزالي إلحالل العربية

في المركز األول خاصة في التعليم الثانوي وفي المواد العلمية .

الطين بلة إذ أصبحت ھذه ومن البديھي أن تفرنس جل المواد في التعليم العالي يزيد

اللغة مرادفا للعلمانية والتقدم , مما يجعل نخبة البلد المثقفة مضطرة إلى ممارسة

32

الفرنسية والتمكن منھا وھذا يؤدي أوتوماتيكيا إلى الحط من قيمة العربية كأداة

تفتح على العالم المعاصر وتمكن من نتاجات العلم , ومن ثمة الخلط اإلجباري

ب الحتمي بين لغة يفرضھا الواقع وأخرى ترتكز على العاطفة . والتذبذ

والظاھرة الخطيرة التي أدت إليھا حالة االنقسام ھي سيطرة معادلة ال شعورية

غالبا تجعل من العربية لغة الماضي ولغة الجياشة , بينما يعھد إلى الفرنسية بأن

امرة خطيرة للغاية حيث تكون لغة التفتح والموضوعية , أي أن العربية ضحية مؤ

أنھا أصبحت مرادفا للفكر القديم وربما األجوف ومن المھم جدا أن ننتبه إلى ھذه

الظاھرة قبل أن تستثري وأن تستفحل والحق أننا نتحمل كلنا ھذه الخطيئة في حق

لغتنا المقدسة . الحظ مثال دور الصحافة : بصراحة أنا ال أقرأ الجرائد العربية إال

ن التحفظ والحذر فقد عودتني الصحافة العربية على كثير من األخطاء التي بكثير م

أصبحنا ال نقبلھا وأنا كأغلب مثقفي ھذا البلد مدمن على قراءة لوموند , لماذا ؟

ألنني أجد في ھذه الجريدة ما أبحث عنه : معلومات , تحاليل , أبحاث , نقاش حر

ثل العامي " ما ثماش قطوس يصطاد لربي أنا ال أجھل بالطبع كما يقول الم …الخ

" وإن لھذه الجريدة مصالحھا وخلفياتھا اإليديولوجية , لكني مضطر إلى اللجوء

إليھا ألني ال أجد جريدة عربية في نفس المستوى . لماذا تكون لنا لوموند عربية

ھي تغذي أجياال كاملة وقطاعات كبيرة من شعبنا , ھل العربية عاجزة , أال تستطيع

األخرى أن تكون لغة التجرد والموضوعية والنزاھة الفكرية والحوار الحر البناء ؟

ال طبعا, أليس لنا صحافيون من أعلى المستويات . ال طبعا ؟ ھل تنقصنا المادة ؟ ال

طبعا . السبب إذن : غياب الحرية في أغلب األقطار العربية , وتشبث كل قطر بطرق

على نفسه تفكيره الضيقة وانغالقه

ھكذا ھجرت نخبة المغرب العربي إحدى مظاھر الثقافة العصرية : الصحافة العربية

. وھكذا اضطرت الجرائد الصادرة في تونس والجزائر والمغرب إلى البروز بثوبين

: العربي لعامة الناس والفرنسي للخاصة . وھكذا أصبحت العربية لغة فئة دون

واختياراتھا السياسية بينما ضاعت أقلية في لغة أخرى تتميز بخصائصھا الثقافية

أجنبية وسجنت نفسھا فيھا واضطرت كال الفئتين , كلما أجيرت على التعامل مع

33

بعضھا البعض , إلى استعمال لغة الجمھورية وسط : الفرانكو آراب . ھذا وتكتسب

التلفزة . ظاھرة االنقسام والتذبذب أبعادا مخيفة مع ظھور عامل خطير جدا آخر ھو

ھل الحظت مدى التذبذب في البرمجة . نحن البلد الوحيد الذي يختلط فيه الحابل

بالنابل بھذه الكيفية المدھشة . يبدأ البرامج بالقرآن ثم تليه األلعاب التلفزية

بالفرنسية ويكون برنامج األطفال بالعربية والفيلم الوثائقي عن أعماق البحار

ھاية السھرة . بالفرنسية وھكذا إلى ن

المفروض من المشاھد التونسي أن يكون إذن ملما باللغتين وأن يغير بين دقيقة

وأخرى من مستوى حضاري ثقافي معين لالنتقال إلى مستوى آخر , واألھم من ھذا

ثبوت وتكرار ما رأيناه في الصحافة أي معادلة الفرنسية عادة من مستوى أرقى من

لقد عافتھا حتى خادمات المنازل – المسلسالت الشرقية البرامج العربية . خذ مثال

وأصبحت تثير قرف كل الناس . لقد رأيت أمي وھي امرأة ال تترك صالة تنفجر

ضاحكة أمام تفاھة إحدى الحلقات الدينية وتعلق عليھا بسخرية ملحد من مالحدة

بھا الخ ... الجامعات التقدمية . خذ نشرة األخبار باستقباالتھا , وجوالتھا وخط

أنا شخصيا ال أسمع نشرة األخبار التلفزية فأعصابي ال تتحمل األصوات الجوھرية

والبالغة الجوفاء وتكبير الصغيرة وتصغير الكبيرة , ( آه لو نعلم الدولة بمدى

األذى تلحقه بمصداقيتھا وسائل إعالمھا البدائية وعمق القطعية الذي تحدثه بينھا

وحتى عامة الناس ) والنتيجة تذبذب المفاھيم والقيم وتداخلھا وبين النخبة المثقفة

في عقول الناس ومن ثمة اضطراب النطق يضاف إليه نفور األغلبية المثقفة من

البرامج العربية التافھة للتعلق بالبرامج الفرنسية وأود اغتنام الفرصة لتنبيه

ق يتھددنا : ستصل المسؤولين عن السياسية الثقافية في بلدنا إلى خطر ما ح

سنوات إلى بلدنا وسنستطيع التقاطھا بسھولة التقاط 5البرامج الفرنسية بعد

البرامج اإليطالية وفرنسا مصممة العزم مع ألمانيا على استعمال قمر صناعي لبث

البرامج التلفزية وتغطية مناطق واسعة في أوروبا الغربية ومن المقرر أن يقع

أس به من أفريقيا الشمالية ھل تتصور معنى ھذا , أتوماتيكيا رش جزء ال ب

وترتبابه على األمد البعيد وعلى المستوى الثقافي واالقتصادي . سنتفتح كلنا

34

تلفزتنا اللتقاط البرامج المالية, المستوى أو التافھة , سنتشبع باإلشھار التجاري

ومية ولن تلتفت الفرنسي , ستغزونا قيم المجتمع الغربي , سننسى أنا لنا تلفزة ق

إليھا وإلى مسلسالتھا الحقيرة ونشرات أخبارھا البدائية إال أجھل وأفقر قطاعات

الشعب وبذلك ستزداد قوة القطيعة عمقا بين قطاعات الشعب وستزداد التبعية لغتنا

, ولن نجد للفرانكو آراب بديال وتصدق نفس المالحظة على السينما. لقد بلغ

جانب بنا أنھم ال يكلفون أنفسھم عناء ترجمة أفالمھم مثلما استخفاف المنتجين األ

يفعلون عند تصدير إنتاجھم إلى شعوب صغيرة ولكنھا معتزة بلغتھا أما عن

مستوى ما تنتجه السينما العربية وما تنتجه السينما الغربية فقارن وال تمثل ؟

ھل فات االوان ؟

نا وتراثنا لتطلب وقف التيار الھدام لو بدأنا اليوم سياسة حازمة للدفاع عن لغت

وإصالح الوضعية جيال أو جيلين, أما إذا تركنا الحبل على الغارب فمن المؤكد أننا

لن نتكلم بعد قرن إال الفرانكو آراب تاركين العربية للمناسبات وللكتابة في الجرائد

معھا إال والمجالت ولمذيع التلفزة وخطبه اإلخبارية التي قد لن يفھمھا ولن يس

بعض األشخاص . والمشكل المطروح حاليا ھو : ھل نحن على استعداد لمواجھة

ھذا الخطر وخاصة ھل نحن واعون بما فيه الكفاية إن ھناك خطرا يتھددنا . أنا

أعلم أن مجھودات جبارة تجري إلعطاء العربية مكانتھا ( كما أعلم أن ھناك

أيضا أن للعربية في تونس أنصارا مقاومات عنيفة ضد ھذه المجھودات ) وأعلم

من الطراز األول لن يسمحوا أبدا بالتطاول على لغتنا المقدسة, يبد أنني رغم ھذا

متشائم ألنني أرى الفرانكو آراب يستشري يوما بعد يوم , كما أالحظ في إطار عملي

بالجامعة ضعف الطلبة المشين باللغتين وفساد نطقھم وتذبذب أفكارھم وسطحية

ستعمالھم للفرنسية والعربية على حد السواء . ا

وأرى أن الوضعية الحالية سيئة للغاية وإننا إن لم تتكاتف نحن أنصار و محبى

العربية في ھذا البلد فإنھا قد تزداد سوءا.

إن كسر شوكة الفرانكو آراب والحد من آثامه الشكلية واإليديولوجية يتطلب

مواصلة وتكثيف المجھودات .

35

على الصعيد اإلداري : – 1

أنا مضطر للتعامل مع وزارة الصحة بالفرنسية , لماذا ؟ يجب أن يدخل التعريب

كافة اإلدارة .

على الصعيد التربوي : – 2

يجب تعريب التعليم وحتى التعليم العالي والعذر القائل بأن ھذا سيؤدي إلى االنغالق

فالتجربة تثبت أن التذبذب اللغوي ھو وتدھور المستوى مرفوض جملة وتفصيال .

الذي يؤدي إلى تدھور المستوى . ھذا ال يعني أنه يجب التخلي عن لغة أجنبية بل

بالعكس فأنا شخصيا من أنصار إدخال أكبر عدد ممكن من اللغات . مثال يمكن أن

األلمانية نبدأ في االبتدائية تدريس االنقليزية كلغة أجنبية رئيسية بدل الفرنسية . أو

أو الروسية حتى تكون لنا نوافذ متعددة على العالم الخارجي لكن مع إعطاء

األولوية المطلقة للعربية , في كل مراحل التعليم , كما يمكن تعريب كل التعليم العالي

في ظرف عشر سنوات إن تواجدت االدراة السياسية , ولن يمنع التعريب مستوانا

, فالتبعية الثقافية لم تكن أبدا مرادفا للخلق واإلبداع . العلمي من التطور والتعمق

على الصعيد اإلعالمي : – 3

يجب وضع حد لھاته البلبلة الغربية في برامج التلفزة , وإن وجب األمر فما على

الدولة إال أن تخلق قناة ثانية للبرامج األجنبية ( على شرط أن ال تكون فرنسية

ا برامج انقليزية وألمانية الخ ... لتكون أداة لتعلم اللغة محضة , بل أن تعرض فيھ

والتفتح على العالم الخارجي ) أما القناة األساسية فعليھا أن تكون عربية , تنتھج

سياسة التوعية والتفتح الموضوعي والرصين على مشاكل المجتمع ال أن تكون

و الثقافي الجارف الذي أداة تسلية رخيصة . بھذا وبھذا فقط ستستطيع مقاومة الغز

سنتعرض له بعد بضع سنوات .

على الصعيد النفسي : – 4

يجب أن نخلق مناخا نفسانيا جديدا أساسه االعتزاز والثقة بأنفسنا , بلغتنا , وأن

تجعل من التفرنس الفرانكو آراب عالمات الفشل الحضاري والتبعية الثقافية . وھذا

نا وأنفسنا لبث النخوة التونسية والعربية في نفوس لن يكون إن لم نجند كلنا أقالم

36

الشباب , وھذا يقتضي منا أن نحارب الفرانكواراب في المستقبل وأن تدافع في كل

مكان وفي كل فرصة عن لغتنا, وما تحمل من قيم ومفاھيم .

وفي األخير فإنني مضطر إلى اإلضافة حتى ال يفسر موقفي خطأ بأنني حاصل على

يا الفرنسية وأنني عشت خمسة عشر عاما في فرنسا وأنني درست الباكالور

ومارست في كلية طب وكتبت الكتب والمقاالت باللغة الفرنسية وبأن أم أطفالي

فرنسية وأنني اضطررت اضطرارا نظرا لرجوعي إلى الوطن في منتصف سنة

في مدرسة دراسية إلى ترك ابنتي الكبرى تتابع الدراسة التي بدأتھا في فرنسا ,

فرنسية ھنا في تونس ( مما جعلني أمارس مھنة الطب صباحا ومھنة معلم عربية

مساء ) وبالتالي فإني أبعد الناس عن التعصب الديني والشوفينية العرقية . وأنا ال

أضمر للثقافة واللغة الفرنسية ( رغم جملة بومبيدو ) إال أطيب المشاعر , لكنني ال

ية ودورھا في التمكن من كافة مرافق الحياة الفكرية ولن أساوم في حق العرب

واإلدارية واالجتماعية في ھذا البلد , كما ال أستطيع قبول الحالة المزرية التي آلت

إليھا والتطور الخطير الذي يھددھا في شكل ھذه اللغة المسخ التي نسميھا

االعتبارات الفرانكواراب , وموقفي ھذا يمليه علي نوعان من االعتبارات :

العاطفية : صدق الشاعر العربي لما قال : إنما الحب للحبيب األول , والحبيب األول

ھو الشعوب األخرى ؟ أنفرط فيھا ونتسامح في تطعيمھا وتھجينھا بلغة دخيلة ھذه

اللغة التي رضعتھا مع حليب أمي والتي قرأت بھا أول كتاب , والتي علمني

هللا ألف خير ) تذوقھا وعشقھا كما يتذوق اإلنسان أساتذتي بالصادقية ( جزاھم

ويعشق عمال فنيا رائعا .

االعتبارات الموضوعية :

لقد أسعفني الحظ بالتمكن من ثالث لغات أجنبية أي أن لي إمكانية المقارنة ونتيجة

ھذه المقارنة كاآلتي : بصراحة العربية لغة فريدة من نوعھا لم يعرف ولن يعرف

التاريخ مثيال . قل لي أي لغة في العالم تحافظ على نفسھا وتتطور بدون أدنى لھا

انقطاع منذ خمسة عشر قرنا كالعربية . نحن نقرأ ونفھم ما كتبه على ابن أبي طالب

, حتى الشنفرى وھم عاجزون عن فھم ما كتب بلغتھم ألربعة قرون خلت .

37

نا هللا بھا دون سائر الشعوب أمن المعقول أن ال نحب وال نقدس لغة كھذه حبا

األخرى , انفرط فيھا ونتسامح في تطعيمھا وتھجينھا بلغة دخيلة علينا فرضھا

علينا االستعمار في احلك واتعس فترات تاريخنا

انھجر القصر لتسكن الكوخ ؟

***

38

ھقھــــة موليـــــاربيـــــــن لعنـــة المتنبي وق

ظاھرة الفرانكواراب كدولة إسرائيل : نحن ال نعترف بوجودھا, لكنھا موجودة :

حجة دامغة على فشلنا الحضاري , على ضعفنا وتبعيتنا , والظاھرة معروفة بما فيه

الكفاية , لكن لنتوقف عند بعض عيناتھا .

* نفتعل التسلي نقول :

لمن ال يفھم الفرانكواراب Vacancesأنا في فترة " ھا االيامأنا مفكنص " أي

يعني : أنا في عطلة .

coîncer* نقول : تكونسيت أي وقعت في ورطة , وتكونسيت ھو تصريف فعل

والمثال ليس أبشع مما يوجد في القائمة .

متكونسين في بقار مع des étudiantsنلقى Faculté* نقول : مشيت لل

ت للكلية فإذا بالطلبة في مشكل مع الشرطة . البوب , أي ذھب

* نقول : " شفت أكسيدان واحد مباسي كرازه كميون رمساه مورصو مورصو "

أي رأيت حادثا وقتل عابر صدمته شاحنة فالتقطت أطرافه الواحد بعد اآلخر .

ونقول ونقول ... أصيغوا السمع وسيھالكم ما تسمعون : ألفاظ عربية وأفعال عربية

تداخل في فوضى تتحدى أعقد قواعد النحو والصرف مع أفعال وألفاظ فرنسية ت

لتشكل ھذه اللغة الھجينة التي نسميھا الفرانكواراب والتي ھي اليوم بمثابة اللغة

الثالثة لھذه البالد .

إحقاقا للحق نحن ال نقول : " أن هللا على كل شيء كابابل " . ونحن ال نقول : "

إليه ديرتور " لكن ال تعجبوا أن سمعتم يوما ابنا أو قريبا يرتل القرآن إنا وإنا

بالفرانكواراب ألنه لن يقول اآليات تھكما وإنما ألن السرطان في اللغة كالسرطان

في الجسم , ال يقف عند حد ابتداء من اللحظة التي تنشب فيه المخالب في الضحية .

* خصائص الظاھرة :

رانكواراب لغة اإلدارة , لغة الجامعة , لغة المدارس , لغة االنتشار : الف

المستشفيات . تسمعھا أين تذھب فيخيل إليك أنك تسمع " أنات األلم " تتصاعد من

39

لغة المتنبي وصرير أسنان لغة موليار وھي تحشر حشرا وتمزق تمزيقا , وتھشم

تھشيما , حتى يستطيع مخاطبك الكريم أن يعبر عن مقصوده .

سطوة : ال

أنت أيضا إنسان تونسي مثقف وشاب, تعصبك لتونس والعربية أعمق من تعصبي.

إيمانك بھما أقوى من إيماني, أين ھيامك بھما من ھيامي ؟ ال تنھى يومك الشاق

الطويل إال وقصائد ايليا أبو ماضي بين يديك تطرب لھا روحك وتنتشي تعيد

زلية التي طالما ترجمت لھا ھذه اللغة الفريدة التحامك باللغة األزلية , وبالمعاني األ

. اآلن أدخل في نقاش مع زميلك في المھنة أو تلميذك الشاب وقل لي بصراحة كم

من وقت ستصمد .. لقد قمت شخصيا بالتجربة واكتشفت أنني إذا دخلت النقاش وأنا

لصمود مصمم العزم على أن ال أنطق بكلمة واحدة من اللغة البشعة فإني أستطيع ا

عادة عشرين دقيقة, ھذا أن كان اآلخر ملما بالعربية . أما إذا دخلت النقاش مع

متفرنس وبدون استعداد للنضال , فإنني أكثر من دقيقة وأبدأ أنا اآلخر في "

التغفيص " وتتعالى أنات األلم من اللغتين , ويخيل إلى أنني أسمع لعنات المتنبي

وقھقھة موليار .

التفاقم :

الفرانكواراب حاليا لغة المثقفين وخاصة أصناف وأرباع وأخماس وأسداس

المثقفين , ومنھم عملية نشره وإشاعته بين شتى قطاعات الشعب متواصلة تقوم

بھا مشكورة أجھزة اإلذاعة والتلفزة , والتعليم واإلدارة , والصحافة , وبالتالي فإن

لغة , في مأمن نسبي مؤقت وحالتھا القطاعات التي ما تزال محافظة على سالمة ال

شبيھة بحالة القبائل البدائية المحاصرة بالحضارة الغربية من الجھات األربع والتي

يتوقع سقوط قالعھا بين اللحظة واألخرى . فالسؤال المطروح ليس ھل سنتكلم كلنا

اليوم الفرانكواراب ألن األمر مفروغ منه , ولكنه : متى ستتم العملية, ومتى

ستنشر لنا دور النشر أول عمل أدبي قومي يكون عنوانه : أنا مدمبريمي ( لكنه

مشتقة من فعل دبرم يدبرم أي أصابه دبريم أي انھيار عصبي باللغة القديمة) واآلن

40

تعال نتساءل عن معنى الظاھرة, فالحكم المعياري ال يجب أن يحتكم إلى العاطفة

حكم العقل, ومن ثمة سؤالي : وحدھا, وإنما عليه أيضا الرضوخ إلى

ماذا لو كان الفرانكواراب ظاھرة طبيعية , إن دلت على شيء فعلى حيوية اللغة

وتطورھا الحتمي ؟ ماذا لو كان اشمئزازنا منه , ومحاولة التصدي له , كمحاولة

التصدي لقانون من قوانين الطبيعة ؟ وأھمية الرد الموضوعي على ھذا السؤال

أمام تفسيرين وأمام خيارين .واضحة . فنحن

* الفرانكواراب مرحلة طبيعية من تطور لغتنا , ومن ثمة ال مجال للتصدي لھا , بل

بالعكس . فما علينا إال مجاراة األحداث ألن العاقل ال يتصدى للحتميات .

* الفرانكواراب لغة دخيلة ھجينة , ال طبيعية يجب محاربتھا مع األمل بأننا نستطيع

اء عليھا ألنھا حقا ظاھرة ال طبيعية . القض

لندرس اإلمكانية األولى ولندرسھا بعقلية " محامي الشيطان " : مثال نستطيع

مواجھة أنفسنا ببعض الحقائق التاريخية كأن نذكر بأن تطعيم لغة بعدد ال بأس به

في من اصطالحات لغة أجنبية أمر معھود, بل ونستطيع التذكير بأن لغتنا المغزوة

ألم تغز لغة الفرس والترك –عقر دارھا , ھي ضحية انقالب موازين القوى

من كلمات اللغة اإلسبانية % 25والھنود و اإلسبان الخ... أليس صحيحا أن

عربية األصل ؟ ومع ذلك فقط ھضمتھا ھذه اللغة وأصبحت جزءا منھا , بل وربما

دموعنا ونحن نعاني مما شكا منه مثلت مرحلة عليا من تطورھا . لماذا تسيل اليوم

الفرس والترك و اإلسبان ؟ أو ليس ھذا التداخل اللغوي ثمن التقارب والتعاون بين

الحضارات والبشر ؟ باإلضافة إلى ھذا , كيف تتجاسر على محاولة حصر اللغة في

قالب تاريخي ؟ أليست اللغة كائنا حيا تتطور بتطور المجتمعات ؟ أال نحكم علي

أال نعلم أن –نا بالتحجر والجمود , إن نحن حاولنا رفض ھذا التطور الحتمي أنفس

التاريخ حسم دائما الجدل والخصام بين المجددين والمحافظين لصالح التجدد ؟

أقول ردا على ھذه التساؤالت :

إذا ثبت أن الفرانكواراب مرحلة طبيعية من تطور لغتنا , فمرحبا به بين ربوعنا ,

جحيم اللغة الكالسيكية , فأنا مع التجدد والتطور والحركة وضد الجمود وإلى ال

41

والتحجر ألن الحركة والتطور ھما سنة الحياة والجمود والتحجر بداية الموت . لكن

فأي الرأيين أصوب ؟ !أن ثبت أنه مرحلة ال طبيعية فأنا محق في رفضه ومحاربته

رضية وليست طبيعية وھذه حججي وأجيب بكل موضوعية : الفرانكواراب ظاھرة م

وبراھيني :

السنة الطبيعية

صحيح أن اللغة كائن حي , وإن بقاءھا في تطورھا , أي في أدائھا لمھمتھا على

أحسن وجه , وصحيح أن لغتنا تتطور ھي األخرى وأن كل المحاوالت التي قامت

. لكن غير بھا بعض العقول المتحجرة للتعرض لھذا التطور قد باءت بالفشل

صحيح أن الفرانكواراب ھو مظھر من مظاھر حياة اللغة العربية . ھو بلغة الطب

مرض خطير ألم بھا وھي تتابع نموھا الطبيعي .

من البديھي أنني ال أكتب كما كتب الجاحظ يوما , ومن البديھي أن باستطاعة لغوي

يه وأن يستشف منه متشدد , أن يقرأ ھذا النص فيستجھن كلماته وتركيب الجمل ف

تأثير لغة أجنبية وأقول : ھذا تطور حتمي ال مناص منه .

ومن البديھي كذلك أنني ال استحي من استعمال مصطلحات علمية مثل النترون

والبروتون أو عبارات الحوامض األمينية, واألكسجين والھيدروجين الخ ... وكلھا

قت والجھد في محاولة اكتشاف كلمات أجنبية , ورأيي أنه من السخف إضاعة الو

كلمات عربية األصل لتعبر عن ھذه الظواھر العلمية التي غزت في شكلھا الالتيني

كل لغات العالم , لذلك أنا ال أتحرج من استعمالھا وال أجد في ذلك حطا من قيمة

العربية Alcoolالعربية مثلما ال أجد حطا من قيمة الفرنسية أن تستعمل كلمة

أقول إذن من جديد : ھذا تطور حتمي ال مناص منه ويجب –( الكحول ) األصل

قبوله .

كذلك ھناك مفاھيم جديدة ال بد أن نعبر عنھا بلغة وبلھجة العصر . مثال حركة العلم

دائبة ال تفتر ومن ثمة فالعالم الحقيقي ھو الذي يطور ويغير وينقح مفاھيمه لذلك

42

وترجمناھا فقلنا " الرسكلة " والكلمة حسب Recyclageظھرت في الغرب كلمة

رأيي أنيقة واختيارھا ناجح ...

أقول إذن : ھذا التطور حتمي وھو أمر طبيعي ال مناص منه .

* مثال آخر على مستوى آخر :

كنا نتناقش مع بعضنا البعض في مقاھي أوروبا ونحن طلبة , وكان منا المشارقة

ريون والمحافظون , وكنا نتبادل التھم والشتائم بسخاء والمغاربة , وكان منا الثو

فنسمي المخالف في الملة خائنا عميال مرتزقا , وكنا نغضب ونتصالح بحماس

الشباب وصدق الشباب وسذاجة الشباب وكان القاسم المشترك بيننا حب الوطن

يرا عن األكبر : دار العروبة , وحب أقطارنا الصغيرة , ولم يكن زعيقنا إال تعب

عشرات وأخطاء ومحاوالت الفكر العربي وھو يجدد عھده ويحدد مفاھيمه ويبحث

عن أرضية تنطلق منھا نھضته , وكنا في مقاھينا ونحن نعيد بناء العالم , إحدى

األصوات الناشزة وإحدى أبواق ھذا الفكر العربي التائه , واألھم من ھذا أننا كنا

سط بين العربية الفصحى ولھجاتنا المحلية , وكان كلنا نتحدث لغة واحدة : لغة و

الشامي يضحك من التونسي ويطالبه باسم الفصاحة أن يقول جمل ال اجمل , وكان

القاھري ينكت على " ميوعة " الشامي وكنا ننتھر الزميل القادم من البصرة :

دة اسكت عيني " ماكو أوامر للكالم " وكان البغدادي يغضب ويدخل في مشادة حا

مع الوھراني وكانت مشادة أشقاء .

كان لكل واحد منا لھجته , وكان يحذف منھا تلقائيا الكلمات العامية التي يعرف

بالسليقة أنھا خاصة بمنطقته , وكنا نفھم بعضنا البعض , ألن قدرنا أن نفھم بعضنا

اللغة البعض , وقدرنا أن نكون أمة واحدة ذات لغة واحدة , وھذه اللغة الوسط أي

العصرية المتطورة نتكلمھا حتى ھنا في بلدنا خاصة في بعض المناطق المتشبثة

بتونسيتھا وعروبتھا , لغة تجمع بين حيوية الدارجة وجمال الفصحى لغة أنيقة ال

يضيرني شخصيا أن أكتب بھا . المھم أن الفرانكواراب في بلدان المغرب العربي

كائن حي معرضة للمرض ... وھي تعاني في دخل ليفسد ھذا التطور , واللغة ككل

43

بلدنا من مرض عضال يمكن مقارنته باألمراض الطفيلية التي يعرفھا الجسم وحتى

النبات .

تنظر مثال إلى شجرة باسقة وارفة األغصان , وتكتشف في بعض األحيان إن دققت

نھا كل النظر أن أليافا قاتلة تحيط ببعض األغصان فتحد من تطورھا إذ تمتص م

السوائل المغذية , أو يأتيك يوما في المستشفة مريض يھذي فنكتشف أن ديدان

البلھارسيا قد أصابت الكليتين والمثاتة ودمرت الكبد .

الفرانكواراب ھو المرض الطفيلي الذي تعاني منه لغتنا , ھو تطور سرطاني ال

طبيعي , ينھش جسما غضا لم يكتسب مناعة كافية ضده .

ق واضح بين تعريب كلمات ومفاھيم عصرية وبين تطور الفصحى إلى لغة فالفر

وسط تكون لغة الجھات داخل القطر والعروة الوثقى بين مختلف أقطار الوطن

األكبر وبين ھذه اللغة , الھجينة المفروضة فرضا , والتي لم تھضم أو تدمج في

ن وإنما من آثاره قالب . لكن األخطر من ھذا أننا ال نعاني من شكل بشع ھجي

وترتباته الحضارية .

اللغة ھي قبل كل شيء أداة تخاطب , وفعاليتھا في مدى أدائھا للمھمة . صحيح أن

الفرانكواراب يمكن المتفرنسين من التفاھم , لكن أطلب من أحدھم التخاطب مع

ت خادمته األمية , مع أمه , وسترى الرجل يتعثر ألن عقله يبحث عن الجمل والكلما

, يترجم من الفرانكواراب إلى ... العربية , واآلن ضع ھذا الشخص في مجمع عربي

, كالذي كان يجمعنا نحن طلبة العرب في مقاھي أوروبا أو على مدارج جامعاتھا

تأخذ من علم نام عنه أجدادنا وآباؤنا , وقل له تفاھم مع مواطنك في المنامة

فرانكوراب في التخاطب والتفاھم ودوره وطنطا وأم درمان وفاس سترى فعالية ال

في التفريق والتجزئة .

الحل إذا أمام الفرانكواراب كالحل أمام السرطان أو الطفيليات : توسيع مكانه

بالقضاء على الجسم , أو االندثار . فأي االحتمالين سيتحقق . ھذا ما أجھله بالطبع

ألنني ال أستقرى الغيب لكنني أظن المرض قاتال .

44

لكننا لم نفسر لماذا استطاع الفرانكواراب المتطفل على شجرة العربية وھي تنمو

ولماذا ھشمت أليافه الغصن التونسي مھددة غصنيه الجزائري والمغربي وھما

ليسا في أحسن حالة . أقول : السبب تخلف المجتمعات المغربية ورضوخھا

ي األصالة, والتفتح السلبي . للنموذج الغربي للتقدم , تقليدھا السطحي, الشك ف

كثيرا ما أطيل النظر لبعض فتياتنا وھن يلثغن بالغاء الفغرنسية الباغيزية ال

للصلصة وإنما للضحك ولو إن ضحكي ھذا حزين . كل شيء في لباسھن

وتصرفھن يذكرني بنفس نمط فتيات مراھقتي وشبابي في مدارج جامعات فرنسا ,

يب ... فالتقليد ليس ناحجا مائة في المائة , ھناك دائما لكني ال ألبث أن أكتشف الع

وأبدا شيء ما يصعب تحديده يفرض عليك ھذه الفكرة المزعجة :

رغم كل محاوالت التقليد فمازال ھناك شوط بين النموذج المقلد وأنا شخصيا إنسان

يفضل دائما فروة " الفيزون " األصيل على فروة األرنب التي تحكي " انتفاخا

صولة الفيزون " كذلك أنا أكره الشعر األسود المصبوغ باألصفر وال أعرف إلى حد

اآلن أي النوعين أفضل : الشعر األشقر الذھبي الطبيعي , أم الشعر الحالك السواد

الطبيعي كذلك ...

بصراحة : حضاريا نحن نقوم سود الشعر , مع صبغة من الصفرة االصطناعية

أنھا تجعل منا الفرع الجنوبي لجنس الفيكنغ . نتعھدھا ونعتقد مخلصين

تجول في المدينة وستالحظ محاوالت الناس اليائسة للتشبه بالنموذج الغربي وفشل

المحاولة الفشل الذريع . ستشاھد فشل التأصل وفشل التفتح .

فھذا جالس خلف مقود المرسيديس الفخمة والسيجار الغليظ في فمه ينبئك بأن

ھام , وستكتشف أن الرجل يحسب نفسه على صھوة جواد عنترة بن السيد رجل

شداد .

اسكن العمارات الفخمة , وستكتشف أن المصعد ال يعمل ثلثي الوقت وإن جارتك ال

تحب استعمال المھراس إال ابتداء من العاشرة مساء . اذھب إلى اإلدارة الفالنية

ة السيد المدير . وستكتشف أن نصف الطاقم من عشيرة واحدة : عشير

45

المصيبة ليست أننا نتكلم الفرانكواراب بل اختالط المفاھيم والقيم الحضارية في

عقول الناس والنطق ليس إال الظاھرة المرضية . أما المرض فھو التخلف

الحضاري والتقليد الحضاري و االلينة الحضارية .

مفقودة , ألن التجذر ضاع , تتعثر االلسن ألن األفكار ھوجاء , ألن األرضية الصلبة

ألن العقل يستھلك وال ينتج , ألننا سلبيون . الفرق بيننا وبين أمم العالم الثالث

العظمى كاليابان والصين وكوريا , ھو أنھا نجحت أين فشلنا . ھضمت معطيات

الحضارة المعاصرة . حقا فوجئت بھا كما فوجئنا بھا وتوقف نمو شجرة حضارتھم

من نظرا للمرض الذي ألم بھا . لكنھا استوعبت الصدمة وأفرزت فترة من الز

األجسام المضادة وواصلت نموھا . لذلك فاق الياباني سيده الغربي ومعمله وغزاه

ياباني . –ببضائعه ولم يتكلم يوما واحدا ياباني واحد الفرانكوا

سنوات كذلك توقفت شجرة الحضارة الصينية فترة من الزمن . لكنھا نھضت بعد

فقضت على األلياف الطفيلية وانطلقت الصواريخ إلى الفضاء وتفجرت قنبلة

الھيدروجين والناس صينيون يشقون طريقھم ال يتكلمون إال لغتھم .

ونحن , العرب ؟ وعلى وجه التحديد المغاربة .ارتضينا التقليد ولم نجدد طردنا

الباب, فتحنا له الباب على المستعمر السياسي من النافذة وأدخلناه ثقافيا من

مصراعيه وتمسحنا به تذلال وانبطاحا وأصبحنا نحتقر من يتكلم العربية ونتصور

أن الحضارة ليست شجرة متجذرة تنمو باطراد وتستمد من ثراھا ومن عروقھا

الحياة و القوة " تكونسا " وقلنا تقدمنا ونمت شجرة حضارتنا ال زيتونة وإنما "

ء من القطن , ال شرقية وال غربية وال يوقد منھا كوكب سابان " عليھا شي

حضاري وال يضيء زيتھا ولو مسھا ألف نور . صحيح أن ھناك فرقا ھائال بيننا

وبين أھل الصين واليابان فھم واجھوا الطفيليات والسرطان أمما ونحن واجھناه

عشائر وأفخاذا وعائالت وأفرادا أو قبائل في أحسن الحاالت .

ذا تشخيص الطبيب ؟ فما ھو بالفرنكوآراب الفصيح " البرونوستيك " قبل أن ھ

يقضى الطفيلي على المصاب وأرد : الدواء بيد أھل االختصاص وأنا لست منھم

والوصفة كما يلي :

46

* تعريب التعليم العالي وخاصة الشعب العلمية منه في ظرف أقصاه عشر سنوات

وقت * تعريب كامل اإلدارة في أسرع

* تعميم وتعميق التعريب في كافة قطاعات التعليم

* نشر لغات ثانوية أخرى كاالنجليزية واأللمانية للخروج من الفلك الفرنسي

* تعريب التلفزة ووقف ھذه اللخبطة في البرمجة

* عدم التصريح لألفالم بدخول البالد بدون ترجمة عربية

مستويات وليس على مستوى المسلسل بين * تكثيف التبادل الثقافي على أعلى ال

األقطار العربية

المرئية , لتكون منبرا نعلم فيه بعضنا البعض –* فتح جامعة الشعب السمعية

بلغتنا وعقليتنا .

* فتح معاھد عربية للبحث العلمي تكون في إطار قومي .

, ومعھد لماذا ال يكون لنا معھد عربي للصحراء ومعھد عربي للعلوم البحرية

عربي للفضاء , ومعھد عربي للفيزياء النووية ومعھد عربي لبيولوجيا الخاليا

لنعيد للعربية دورھا ومكانتھا كلغة علمية عالمية .

بصراحة عندما أسمع بوزارة البحث العلمي في تونس وموريطانيا ودبي أضحك .

نيا تفوق ميزانية ھل تعلمون أن ميزانية جامعة ستاندفورد أو بركلي , في كاليفور

الدولة التونسية .

الرھان الحضاري اليوم يربح في مختبرات جبارة , والسبق –كفى ھزال يا عرب

أال يكفي ما ضيعنا من الوقت , أال نستطيع اعتبار الجامعات –فيھا لألمم الكبرى

طق والمخابر العلمية التي ستجدد ثقتنا في أنفسنا وتعيد للغتنا دورھا الخالد, منا

منزوعة من السالح , نضع خالفاتنا في مدخل الباب عندما نطأ أرضنا لنعد ألحفادنا

مستقبال وحضارة ولغة مشرفة .

وتسألني من جديد : وماذا سيحصل إن لم يأخذ أھل االختصاص بتشخيص الطبيب

ووصفته المؤلمة , وارد ... إذن بأي الراب مون فرار وال حول وال قوة إال بالبون

. ديو

47

على كل حال فقد قررت أن أفوز بقصب السباق بانتھازيتي المعروقة حتى يقال عني

يتكلم ويكتب بلغة الشعب : نعم سأكتب أنا رائعة –طالئعي –مبدع –كاتب جرئ

األدب التونسي المعاصر والمستقبلي " أنا مدبريمي " خاصة وأنني فعال مصاب

صحى الفرانكو أرابية مدبرم دبرمة ما بعدھا بانھيار عصبي ھذه األيام أي أنني بالف

من تدبرم .

***

48

جيــــــــــــــل النفـــــــــــــي

الزمان : يوم من أيام أعوام الھجرة ما بين الخمسينات والسبعينات . ھجرة أكثر

ھجرة الباحثين عن الخبز من مليون ونصف شاب من خيرة شباب المغرب العربي ,

وھجرة الباحثين عن العلم .

المكان : سطح باخرة من عشرات البواخر التي تمخر البحر األبيض المتوسط

متجھة من موانئ تونس وعنابة ووھران والجزائر والدار البيضاء إلى موانئ

أوروبا .

صورة وأدرت ظھري للساحل أريد أن أزيل من ذاكرتي صورة األھل الباكين ,

فضاضة رجال البوليس والجمارك ... أريد أن أمح من ذاكرتي صور الوطن القاسي

, الفقير , الرازح تحت كلكل قرون ال عد لھا وال حصر من التخلف . و كنت ساذجا

لكنھم كانوا يعرفون . ھم عمال المصانع الموحشة وسكان مدن القصدير . وكانوا

بالمئات على ظھر الباخرة .

حد منھم . عرفته ألنه كان زري الھندام . ألنه كان يلبس الحذاء بال جوارب , كان وا

ألنه كان وحيدا كئيبا . مؤكد أن إدارتنا الفيحاء أعطته عينة من االحتقار الذي

سيلقاه طوال رحلة الشتاء والصيف في بالد الحرية , واتجھت إليه تلقائيا. قلت :

نتحدث .

الھادي قلة قال ببساطة : أسمعت قصيدة

قلت : ال, لكنني سأسمعھا منك اآلن

وانشدني قصيدة العامل المھاجر الھادي قلة , ھذه القصيدة التي أصبحت النشيد

الرسمي لجيل الھجرة , لجيل النفي .

) زمر خش البحر 1بابور (

عطى بالظھر

ألرض الوطن عز الوكر

***

بابور زمر خش الغريق

49

ق سالك طري

قدا أرض غربة تشيح الريق

عاطي بظھرو لوجه الصديق

وقلب الرفيق

وجوه األھالي طافية صفر

ھم وكدر

***

بابور زمر بالصوت عالي

ع الوطن جالي

يحمل شباب ع الشعب غالي

قداه االدين ترتعش تشالي

دمع األھالي

يلذع و يخرج شبح النظر

حرق الشفر

***

بابور زمر خاشش لبحره

قدا أرض بره

لسما صافيه عاطي ظھره

يحمل شباب من أرض خضره

الحياة مره

كما يحمل الواد وقت المطر

عتوق الشجر

***

زمر : أطلق صفارة . –) بابور : باخرة 1(

50

بابور زمر ھج من الوطن

في مثيل سن

بن يقص الموج قص الج

ع البحر أزرق خلف كفن

خلى السفن

ع الشط ترعش خايفة الخطر

ھاج البحر

***

بابور سافر ع العين غاب

تحت الضباب

محشي , معبي بخير الشباب

وسقوه لألجنبي بال حساب

وسق الدواب

الفرق بينو وبين البقر

جواز السفر

جواز السفر

وطن وكان حديثا ذو شجون , ووصلت بنا الباخرة إلى وتحدثنا ليلة كاملة عن ال

مرفأ الجنة المزعومة , ونزلنا منه

" قطيع بقر " بجواز سفر , وعاملنا أصحاب القبعة معاملة أكثر إنسانية من

معاملة رجال الشرطة والجمارك في بلدنا ولم يزدني ذلك إال ألما ومرارة .

اءت لي صورة عبرت خاطرتي كلمح البرق نظرت إلى قطيع البقر العربي . فجأة تر

, صورة طارق ابن زياد وھو ينزل بشواطئ إسبانيا مختاال على رأس فيالق من

األسود , وبدأ مخي يقارن بسرعة وأنا ال أدري أعلي أن أضحك أم أبكي . قلت له

ساخرا :

ھات لنا خطبة بليغة في ھذا النزول ... ! إيه يا طارق -

51

بسرعة وال تغضب أصحاب القبعات وإال أرجعونا . قال وجال : امش -

قلت : إذن سأكون أنا طارق , وھاك دون خطبتي حتى يحفظھا الصغار والكبار

فنحن شعب يعشق الخطب : " الفقر وراءكم والفقر أمامكم , الكيب وراءكم

والبيدوندفيل أمامكم , الرمضاء وراءكم والصقيع أمامكم, القمع وراءكم والقمع

امكم . أم

وضحك وضحكت , وكانت ضحكة صفراء ثم افترقنا , لم شعثه وأحكم رباط الحبل

حول حقيبته المھشمة ومشى إلى مستقبل مظلم وكان رمزا صارخا لفشل ھذا

الشعب , وفشل ھذه األمة , كان اتھاما حيا لھا ... ألم يكن يشكل الحجة الدامغة أمام

التي ينتمي إليھا في تأمين الخبز شعوب األرض قاطبة على فشل المجموعة

والكرامة ألبنائھا , وكنت أنا أيضا رمز الفشل اآلخر , فشل ھذا الشعب , وھذه األمة

في توفير الغذاء اآلخر : المعرفة . كنا االثنين متسولين نجوب األسواق المكتظة ,

ئھم ھو يتعيش على القمامات وأنا أتلصلص على الباعة والمشترين لمعرفة سر رخا

وكنا نصلى تحت نظرات االحتقار وكانت النظرات تتجاوز شخصينا لتشمل الشعب

واألمة .

وضاع في خصم معركة ال تفتر , معركة من أجل لقمة العيش, معركة من أجل

الكرامة المھدورة , ولم أنسه يوما . وأنى لي أن أنساه وأنا أشاھد يوميا مأساته في

سنوات ينھض مع الفجر في مدن الضباب, يعمل عيني آالف المھاجرين , رأيته

كالدابة طوال اليوم إلى أن يرخي عليه الليل سدوله بأنواعه من الھم ليبتلى ,

ورأيته يحفر األرض ودرجة الحرارة أقل من الصفر, ورأيته يرجع إلى الفندق

الحقير مرتجفا من البرد ومن خوف عصابات العنصريين التي كانت تترصده

ب التحرير الجزائرية لترمي به في نھر السين , ورأيته في المستشفيات سنوات حر

يتھم بالكسل والتحايل ومحاولة العيش على حساب الضمان االجتماعي , ورأيته

حطاما في المستشفيات العقلية ورأيته بين أيدي رجال جمارك بلدي يدققون في

على األرض , سقط المتاع الذي رجع به من رحلة العمر , يفرشون عفشه

يصرخون في وجھه تحت الفتة " تونس ترحب بأبنائھا المھاجرين " .

52

أكنا أوفر منه حظا نحن الذين ذھبنا نبحث عن العلم بدال من الخبز ؟ قد يبدو الرد

بديھيا , لكن حذار من البديھيات , فرحيل العامل ألم ورحيل المثقف ألم أعمق . ذلك

روحي الذي سيصبح المرض العضال للمثقف الشاب ألن العامل لن يعرف التغرب ال

.

حقا يتألم العامل من قسوة الطقس , ومن ساعات العمل الشاق الطويلة , ومن

الوحدة , لكن شخصيته تبقى كال متماسكا ال تتداعى بسھولة وذلك لجھله باللغة ,

سم دخيل لتمسكه بقيمه وعاداته , إليمانه العميق الذي يفرضه عليه الواقع بأنه ج

على حضارة أجنبية ال تريد إدماجه وال يريد ھو االنصھار في بوتقتھا .

ويعود العالم محطم الجسم منھك القوى ولكنه عربي تونسي ال جدال في عروبته

وتونستيه , لكن ماذا عن طالب العلم والمعرفة ؟

ضاري أقول عن تجربة : مصيره أتعس ألنه مھدد بمرض خطير اسمه االنفصام الح

أو انقسام السريرة إلى شطرين ال توفيق بينھما . يسافر طالب العلم وھو يعلم

أصدق العلم أن سفره دليل فشل , أنه متطفل على سوق الحضارة شحاذ فيھا ومع

ذلك فھو مطالب بأن ال يرفض برمتھا تلك الحضارة العجفاء الذابلة التي ينتمي إليھا

دى قبحھا وتطالبه حضارة المنتصرين أن والتي يمنعھا غرورھا عن اكتشاف م

ينظر إلى نفسه إلى قومه وإلى تاريخه عبر منظارھا لكنه ال يبقى لوجوده من معنى

إذ يكون االستسالم كليا بدون قيد وال شرط . ويضيع المغترب . فھو يحاول خدمة

سيدين في نفس الوقت , سيدين يختلفان في كل شيء إال في العجرفة والصلف

ور . وتتفاقم التناقضات داخل المنفى فيضيع في بعض األحيان في خضمھا والغر

وتختفي مالمح الطريق وتتقطع أنفاسه وھو يحاول الجري وراء المستحيل : إيجاد

المخرج الذي يحمي الشخصية ويلحق بالركب أي بناء شخصية جديدة على دعامة

أثبتت ضعفھا في تكوين الشخصية .

ي طريق مسدود وأمام اختيارات صعبة وھي على ثالثة ويجد المغترب نفسه ف

أصناف :

53

االستسالم : يعتبر المنفي الغرب نبراس الحضارة والقدوة والمثال مع التعامي – 1

عن كافة عيوبه وھي كثيرة ويستسلم له المنفي عقال وروحا ومن ثمة ازدراؤه

رب المھضوم والمتنبي لقومه وللغته ولحضارته ( الذي يشكل في الواقع ازدراء الغ

من قبل ھذا العربي السحنة والغربي الوجدان ) ويؤدي ھذا االستسالم إلى التفريط

في كل مقومات الشخصية القديمة باعتبارھا تعبيرا عن التخلف بأجلى معانيه .

وعندما يصل ھذا االستسالم ذروته, فإن المغترب سيختار أبسط الحلول : الھجرة أو

الغربة مع العلم أنه يبقى دائما وأبدا يعاني من عقدة االغتراب . االندماج في أرض

الرفض : يشكل الرفض المطلق الحل اآلخر للخروج من االنفصام . يقع ھنا -2

رفض الغرب برمته باعتباره مصدر كل الشرور واآلثام كما يقع التراجع داخل

ل منھا , وتكون تلك المعاقل العقائدية الكالسيكية التي تشكل حصونا يصعب الني

القناعات المطلقة بأفضليتنا وبأفضلية الحلول السلفية التي انتھجناھا .

التوفيق : يحاول أصحاب ھذا المنھج الخروج من التناقض ومن االنفصام – 3

بالجمع بين الحسنين . فھناك إيجابيات

شخصيتنا ( مادية ) وعلوم وتكنولوجيا تأخذھا من الغرب مع االحتفاظ بمقومات

وبذلك يمكننا اللحاق بركب األمم التي تأخرنا عنھا ردحا من الزمن الخ ...

على ضوء ھذه المواقف الثالثة المتضاربة ترى جيل النفي يحاول تجاوز انفصامه

وعلى أسسھا ستراه يحاول بناء حضارة أو إعادة بناء تلك التي عصف بھا التاريخ

.

ھي أن جيل النفي ليس مكونا من المغتربين ومن أقول جيل النفي ألنه من البدي

المغتربين وحدھم ؟ فظاھرة النفي أعمق وأشمل بكثير, ومن األصح القول بأن

ظاھرة االغتراب وانفصام الشخصية قد غزت كل قطاعات المجتمع حتى وأن تحمل

المغتربون جل عذابھا ألن اغترابھم كان اغتراب الروح والجسد والحال أن القابعين

على أرض الوطن ال يعرفون إال االغتراب األول .

تجول في المدينة وستالحظ عمق التغرب وانتشاره وسيھالك انفصام السريرة إلى

شطرين ال توفيق بينھما : اضطراب األفكار , تشوش اللغة وذلك أينما ذھبت مظاھر

54

نة والشاب تدلك على أن جيل النفي ال يشمل المغتربين , فالقروي منفي في المدي

منفي في شبابه والمرأة منفية في عالم الرجال , والفقير منفي في عالم ال يحترم إال

أصحاب الثروات , والمثقف منفي في دنيا المسلمين . واآلن خذ ھؤالء المغتربين

التي يعاني منھا في الداخل واحدا واحدا وستجدھم يعانون من نفس الصعوبات

توفيق بين اللغة القديمة واللغة الغازية , بين قيم اإلسالم المغتربون في الخارج : ال

وقيم العصر , بين متطلبات الشھامة وقسوة الحياة , بين أحالم الحرية وواقع الكبت

. ال غرابة أن يعاني جيل النفي من تفشي اآلفات العصبية وأن تنم كل تصرفاته وكل

ؤال : أسيخرج ھذا الجيل الذي نظرياته عن تغلغل العصاب فيه ومن ثمة يطرح الس

حكمت عليه األقدار بأن يكون ھمزة الوصل بين حضارتين ( الغربية والشرقية )

وبين لحظتين لنفس الحضارة (التراث والمعاصرة ) من العصاب ؟ أي ھل يستطيع

ھضم الصدمة الحضارية التي تعرض لھا , وأن يكون الجيل الذي سيوفر ما عجز

سبق : الكرامة , والعلم , والخبز ؟ أقول نعم . لكن من شروط عن توفيره الجيل األ

النجاح أن نعلم لماذا وقعت الكارثة الحضارية التي كادت أن تؤدي باألمة وأن

تضعھا في مصاف حضارات الھنود الحمر من أنكا وأزتاك ...

ون ونصف واجبنا أن ال نكف عن التساؤل : لماذا اضطررنا إلى الھجرة نحن الملي

عربي , لماذا استعمرنا , لماذا أصبحنا ال ننتج علما أو فكرا منذ قرون , بعبارة

أخرى لماذا تخلفنا , لماذا نحن متخلفون ؟

***

55

واقــــــــــــــــــع التخلــــــــــف

56

لمــاذا نحـــن متخلفــــون ؟

) أي Tautologieقلت : يسمى ھذا في لغة المنطق ( –تخلفنا الفقر * قال : سبب

كالم يدور في حلقة مفرغة وال يفسر شيئا . أال يمكن أن نقول : نحن فقراء ألننا

متخلفون . على كل أنت تخلط مثل األغلبية بين الفقر والتخلف أو بين الثروة

ن السويد ألن دخله القومي والتقدم . ھل أبو ظبي بلد متقدم وھل ھو أكثر تقدما م

أرفع .

كلم جنوب شرقي بيكين . قلت لمرافقي تشانج 500ليشيان , �

وأنا أنظر مشدوھا إلى قنال العلم األحمر األسطوري : كيف

حققتم ھذا ؟ قال يغلب زھوه : المنطقة جبلية وعرة تعاني من

الجفاف منذ قرون . فكر الفالحون يوما بربطھا بنھر تشانجو .

كلم وراء جبال التايخان الشاھقة . 70ن كيف والنھر يقع لك

150نفقا, نبني 134قمة , نحفر 1250قالوا : بسيطة . ندمر

كلم من القنوات 1500كلم , نبني 70جسرا , نشق قناة طولھا

الصغيرة كي يصل الماء كل شبر من األرض العطشى . نبني

لمزروعة . وشمر مرة المساحة ا 40الطرق والسدود , نضاعف

وتحققت 1969إلى 1960فالحو ليشيان عن سواعدھم من

المعجزة . أغرب ما في القصة ليس البطوالت الخارقة

والتضحيات الجسمية وإنما اعتماد الناس على أنفسھم . الدولة

مشغولة بمشاريع أخرى ؟ ال بأس . نحفر بابسط اآلالت وحتى

متفجرات . لم تتكلف بأظافرنا . نصنع كل شيء الزم حتى ال

من المصروفات . الدولة عندھم ليست % 20الدولة إال بــ

التكية . وصدق من قال : إذا الشعب يوما ...

قال : سبب تخلفنا االستعمار واإلمبريالية . قلت : يسن القانون : �

ال يستعمر إال من كان قابال لالستعمار وال تسلب إال أرض

57

سبب التخلف بل ھو تتويجه وخاتمته الضعفاء . االستعمار ليس

الحتمية . حاول أن تستعمر اليابان أو أن تبني لك وطنا قوميا

في كندا

ستراسبورغ , فرنسا . ھذا أول يوم في فرع أشعة أمراض �

األعصاب .

وصلت كالعادة إلى المستشفى حوالي الثامنة وكنت وجال شيئا �

ي في مدخل قاعة ما . األستاذ مشھور بعصبيته , وجدته ينتظرن

الفحوصات . قال ببرودة : ما ھي الساعة اآلن يا دكتور ؟ قلت :

الثامنة , ودقيقتين . انفجر في وجھي وكأنه جن : الساعة اآلن

الثامنة ودقيقة والعمل يبدأ الثامنة . لم أفھم إال بعض الجمل :

سارق دقيقة في حياة المريض و من خزينة فرنسا . ال بد انه

أو أنه وجد عربيا البارحة في فراش زوجته . كل ھذه مجنون

الفضيحة من أجل دقيقة . وهللا ال نتقمن منك يا ابن الكلب طال

الزمن أو قصر .

وصلت من الغد الثامنة إال ربع ألتحاشى شره فوجدته يعمل . حياني بلطف . ومر

اليوم بسالم .

عرف عن المخ وأمراضه . كان عرفت الرجل بالممارسة وأحببته . علمني كل ما أ

يصل السابعة صباحا وينصرف العاشرة مساء . كنا بعد انتھاء أوقات العمل

الرسمي نجتمع به إلى ساعة متأخرة من الليل لنكتب أول كتاب في استعمال العقل

اإللكتروني للكشف على المخ . كان يتفقد األضواء قبل مبارحة المكان مطفئا ما

ادخار الطاقة في ھذه األيام العصبية واجب على كل فرنسي . نسي منھا قائال :

عندما أدخل على موظف فأجده يرتشف القھوة ويقرأ صدى المحاكم أتذكر ھذه

القصة , وعندما أشاھد الزميل فالنا يصل التاسعة وينصرف العاشرة ونصف (

صباحا) أتنكر .

58

م يستطعه األوائل . قلت : لما * قال : سبب تخلفنا نظام الحكم ولواله ال تينا بما ل

بالصفة المخزية التي تعرفھا , قالوا : انتظرناھم من الشرق 1967انھزمنا سنة

فجاءوا من الغرب . وخرج الشعب من الغد بالماليين لكي يبقوا في الحكم . أما

حلفاؤه الشاميون فقالوا : ضاعت األرض وضاع الشرف , ولكن المؤامرة لم تنجح

من كراسينا التقدمية . قالوا ھذا ولم يعدمھم الشعب رميا بالبصاق . في إنزالنا

الحقيقة أن الحكومة المتخلفة مثل االستعمار تزيد طينة التخلف بلة ولكنھا ال تخلقه

. نظام الحكم في أي بلد ھو الشاھد على نضج الحكام والمحكومين أي على نضج

أو ھل تعتقد أن الشعب الشعب . ھل تتصور بوكاسا إمبراطور على السويد

اإلنجليزي يمكن أن يفرز حاكما مثل عيدي أمين ؟

ھولن , النرويج . ماذا يفعل طالب عربي فقير إبان العطلة ؟ �

يعمل في الصيف ليأكل في الشتاء . محسوبكم ھذا الصيف "

خدام حزام " في مزرعة جبلية بالنرويج . طلبتني يوما

فأحمل ھذه العلبة الفارغة ''عرفتي '': ضاقت سلة المھمالت

إلى منزل مسز اريكسن لترميھا في سلتھا . أخذت العلبة وأنا ال

أعرف ھل المرأة تمزح أم تتحدث بجد . منزل اريكسن يبعد

كيلومتر والمنطقة جبلية خالية .

أخذت العلبة وأنا أخفي ضحكي . شوارعنا في قلب العاصمة مزبلة . الولية عندنا

رمي بزبلتھا على رؤوس المارة ويا ويل من يحتج وھذه " القاورية تفتح الشباك وت

" ... روادتني عروبتي . فكرت بأن أرمي العلبة في منتصف الطريق وكفى هللا

المؤمنين .. خفت أن تقوم مظاھرة . قررت أن أحفر لھا ضريحا لكن خفت أن ينبشه

. مشيت نصف الكيلومتر والعلبة في يدي وأنا ألعن إلى أن الكلب . سلمت أمري

وصلت دار المرأة ولم تستغرب كانت " عرفتي " لما تخرج في نزھة يوم األحد

تحمل معھا شكارة بالستيك للفضالت ألنھا تعلم بالسليقة أن القذارة قبح والقبح قذى

في عين النرويج وكانت تلك وطنيتھا , ھل الحظت مدى وطنية سكان بلدنا ؟

59

وروبيون أول برلمان لھم . كنت طيلة جوان انتخب األ 10يوم �

دراستي اسمع واقرأ عن مناقشاتھم الصاخبة ومعاركم الطاحنة

حول توحيد سعر الزبدة والبطاطا ولحم الخنزير . وكنت أعرف

أنھم يضعون الحجر فوق الحجر لبناء وحدتھم. عندما أقرأ عن

اجتماع زيد بعمرو واتفاقھما على قيام وحدة عربية فورية

روسة أقلب الصفحة بسرعة . لكن أعدكم: سأقرأ بكل انتباه ومد

كل خبر عن مشروع توحيد سعر الطماطم العربية .

اإلعالم في كل بلدان العالم مؤشر على نضج الحكام والمحكومين �

. افتح أي إذاعة عربية أو انظر إلى تلفزيوننا العظيم ساعة نشر

بعث برقية –لمطار ودع في ا –األخبار : " استقبل في المطار

وصلت برقية تاييد . ألقى كلمة نوه فيھا بالمجھودات –تھنئة

الجبارة وأشاد فيھا وعبر فيھا ومدح فيھا ازدانت المدينة بحلة

قشيبة من الزينة . بحت الحناجر من الھتاف . الخ ... بصراحة

أنا أكره أجھزة اإلعالم الرسمية العربية .

منفيون مرتين : في عار الغربة . نحن 1967جوان 10ليلة �

وعار الھزيمة . سرى خبر استسالم العرب في المدينة كالبرق .

كل أوروبا تعلم أننا منينا بأبشع ھزيمة منذ سحقتنا ايزابال

الكاثوليكية أمام أسوار غرناطة . راديوا القاھرة : عوض أن

ن يقولوا انھزمنا لكن تاريخنا حافل بالھزائم واالنتصارات, حا

وقت النقد الذاتي لنجعل من الھزيمة نصرا . قالوا : بعث تيتو

برقية تأييد . شجبت صحيفة نبالية العدوان (الغاشم) , وھكذا

طيلة نصف ساعة وفي األخير قبلت مصر قرارات األمم المتحدة

وقواتنا تنسحب بانتظام إلى ما وراء خط الدفاع الثاني (القتال).

لى , أما أنا فكنت أضحك بازدراء . صديق لي كان ينتحل كالثك

من يتطوع للقيام بعملية جمع بسيطة للخسائر الھائلة في

60

األرواح و العتاد التي كبتھا اإلذاعات العربية العدو ؟ من يراھن

معي على أن الجنس اليھودي بأسره قد انقرض منذ بداية

الستينات حسب ھذه المصادر المطلعة ؟

منثورا وھم ال يعلموا . وصفة لوموند أو اإلذاعة اغلب أعالمھم يضيع ھباء

البريطانية فعالة للغاية وبسيطة للغاية :

من الصدق والنزاھة والموضوعية واإلبداع عن اإلسفاف والمبالغة % 90

من األفكار العقائدية %10والتفاھة والتمسح الذليل بأعتاب الحكام لتغليف وتمرير

افية . الفرق بين اإلعالمي ھو الفرق بين موسيقى االستعمارية الثق –الطبقية –

شوبرت وقرع الطبول . ھل تعلم أنني حلمت يوما بأن برقيات التأييد تقع في كمين

أعدته برقيات التھنئة وتصاب بخسائر ھائلة في األرواح والعتاد . أفقت مذعورا

" ؟ على صوت أمي وھي تصرخ من المطبخ " بدأ المسلسل أو مازالت األخبار

عندما تصبح وسائل اإلعالم أمضى سالح لتعميق التخلف ونشره ...

من % 25ھجرة األدمغة : إحصائيات األمم المتحدة تقول أن �

كل األدمغة المھاجرة في العالم عربية . أما من عالم اجتماعي

كبير يقدر باألرقام الخسارة الھائلة التي تمنى بھا العروبة نظرا

ھندس والعامل الماھر أما ھل أنه ھو اآلخر لھجرة الطبيب والم

ھاجر ؟

خبر استرع انتباھي إبان أحداث إيران . لما انھار نظام الشاه برزت إلى الوجود

مئات الكتب . لم تكتب بطبيعة الحال بين عشية وضحاھا . كانت نائمة في األدراج

الميادين النائمة خوفا من القمع . قلت : أتتصور العدد الھائل من األبحاث في شتى

في أدراج العرب . قال : الناشرون عندنا أصيلون . ال ينشرون إال شرح الشرح

لألمام الخشفقندي وديوان غزل ابن الركيك ومن القصص الصغيرة من نوع أحبته

وأحبھا ورفض أبوھا تزويجھا ألنه فقير فأصيب بالحصباء ومات ضحية التقاليد

المناسبة مشكورا . البالية ولم يمت معه الناشر ب

61

قلت : " يصورا في خبزتھم " أما بعث الفكر المعاصر فليس من اختصاصھم . تعال

نقف دقيقة صمت حدادا على كل الكتب التي أجھضوھا. وقفنا وسط الشارع نتمتم

بالفاتحة . ضاقت " منوبة " عن مجانين تونس .

؟ النعدام جائزة نوبل * لماذا ھاجرت األدمغة ؟ لضعف األجور ؟ لسطوة الروتين

لكن السبب أعمق من ھذا . ھاجرت إلى بالد الحرية . ! عربية تشجع البحث ؟ ربما

أين ال توجد الحرية تبور القرائح . تضمر خاليا المخ . يستسلم العقل . ھناك في

الغرب انھزمت محاكم التفتيش , حرقت جيوردا نوبرونو , نكلت بقاليلي , لعنت

يكارت , لكنھا انھزمت في األخير فكانت النھضة وغزو القمر . كوبرنيك شردت د

عندما مثلت نفس العقول بالحالج , قتلت ابن المقفع,نكلت بعيد الحميد الكاتب ,

وقفت العلم على دراسة اإلعجاز للباقالني ومقامات الحريري وغزل ابن الشمقمق

وتخرجنا من العالي بمئات والزالت تتحكم . المصيبة أننا دخلنا االبتدائي والثانوي

اآلالف وبامتياز والرقيب ال زال يحلم بالفلقة ويھجي في سورة عم .

لما رجعت من الغربة قضيت شھرا أبحث عن شقة يقدر عليھا �

طبيب جامعي مثلي ( ذو راتب متخلف ) . كنت أشده لالثمان

الخيالية التي كانوا يطالبونھا . بالممارسة عرفتھم . كمشة من

رابين المحتكرين الطفيليين . البرجوازي عندما يمأل جيوبه ال الم

يستثمر في صناعات تخلق الثروة ومواطن الشغل بل يسارع إلى

مزاحمة الفالح على األرض , ووضع يده على أكبر عدد ممكن

من الشقق لمص دم أمثالي وشراء 'كالكسون'' جديد وأقوى

ل أن لنا برجوازية للمرسيدس . المصيبة ليست أن برجوازية ب

عاقرة .

لو سألتني عن أعظم فيلسوف قرأت له لقلت بدون تردد : �

اإلنجليزي فرانسيس بايكون ألنه قال : " ال يمكنك إمالء إرادتك

على الطبيعة طالما لم تخضع لقوانينھا " كل الحضارة الغربية

مبنية على تطبيق قانون بايكون . منذ النھضة وھم يقومون

62

لقوانين الطبيعة حتى يخضعوھا إلرادتھم . ھم بجرد كامل

يعرفون أن كل شيء سواء في عالم الطبيعة أو اإلنسان محكوم

بقوانين : الطائرة ال تطير في المساء ضد قوانين الفيزياء بل

بفضلھا . منتھى السطوة في منتھى الخضوع . حتى في عالم

الماركسين السياسة تراھم يحاولون فھم القوانين لتطبيقھا . ھل

أو وضعية أوقست كومت شيء آخر . و نحن ؟ نحن أصحاب

عقلية خيالية . يكفي أن تتكلم عن المشاكل لتختفي . قل أربعة

أبيات شعرية تبنى مجدك . نرفض قوانين الكون . نجھلھا .

نتجاھلھا. نتحايل عليھا. نحاول تطويقھا , إجھاضھا , كسر

شوكتھا بالعنف .. عبثا .

ني من العطش في حمام األنف منذ أيام . قطعوا عنا نحن نعا �

الماء . ھكذا بكل بساطة . أين الماء ؟ في مسابح السواح ؟ أين

المسؤول ؟ ال مسؤول ھناك . أين الالمسؤول ؟ يستحم في

ألف نسمة بال شرح 60المسابح اآلنفة الذكر . قطعوا الماء عن

تجند البلدية أجھزة . لنفرض أن ھناك نقصا في الماء . لماذا لم

اإلعالم للتوعية والشرح واالعتذار ؟ ألن الحاكم المتخلف ال

يشعر تجاه المحكوم المتخلف إال باالحتقار . سنخرج من التخلف

(أن خرجنا ) يوم يضطرون إلى احترامنا . على كل طالما لم

يقطعوا عنا التلفزة ...

ع اللعين بكبس ألمانيا : كنت مكلفا في ذلك المصن –فرانكفورت �

نفس " الروشكة " على نفس القطعة عشرة ساعات في اليوم .

اضطھدني عرفي طيلة الصيف : باقي ميلمتر . باقي نصف

ميليمتر . باقي ربع ميليمتر . صرخ يوما في وجھي : أنتم

العرب ال تعرفون العمل . لما كنت في إسبانيا مع فرانكو ابان

و مورو مالواي بوكو ( العمل الحرب سمعت مثال يقول : طراباخ

63

العربي رديء وقليل ) . قلت بلھجة التحدي : والحمراء ؟ (أقصد

قصر الحمراء ) ضحك بشماته مشيرا إلى حفنة من الطليان

جمعني التخلف وإياھم إلى نفس اآللة األلمانية : عالقتكم ببناة

الحمراء كعالقة ھؤالء برومان بوليوس قيصر . نازي . ابن كلب

لكن ميزان القوة لصالحك فأنت من شعب يجيد كبس .

''الرواشك'' وأنا من شعب يجيد نظم القوافي . بيني وبينك,

الرجل على حق . ينوا مجدھم ورخاءھم على الدقة واإلتقان في

كل شيء . نحن ؟ درج مكتبي ال يفتح إال بصعوبة ربما من أجل

ل الركاب ألن ربع ميلمتر عمل . تقرأ : انفجرت الطائرة ومات ك

زرا حقيرا لم يكبس كما ينبغي أحمد هللا أننا نصنع الطائرات وإال

لتساقطت كحجارة من سجيل .

كنت ال أخشى إبان االجتماعات الصاخبة التي كنا نعقدھا ونحن �

طلبة لشرح أبعاد القضية للغربيين إال تدخل الصھاينة المعروف

وكنت أتذكر : نحن زرعنا الصحراء . كانت الحجة تفحمني

. نحن في إقامة جبرية بدوز . كثبان الرمل تحيط بنا ( 53صيف

أحاطة السوار بالمعصم كما يضيف أتوماتيكيا المتخلفون ذھنيا

من تالمذة االبتدائي وأجھزة اإلعالم الرسمية ) . جفت العين .

مرض حمار جدي . ذبلت نخالت الحوش . عرفت العطش وفن

اء . حملت معي الذكرى أينما المشي الراقص على الرمض

توجھت ركائبي . كنت أنتقي لدوز األنھار في الصين والشالالت

والبحيرات في أمريكا والغابات في سكندنافيا وكان ضريحي

الغوث والمحجوب يختفيان تحت ھضاب ورود ھولندا . كانت

القرية الجزيرة تتمطط بسحر الخيال فتتراجع الصحراء لتصبح

. قارة خضراء . كنت أحلم وكانوا يعلمون . كان قارة بأكملھا

زمالئي اليھود يقولون بعد نھاية العطلة : كنا في الكيبوتز. في

64

النقب . نزرع زيتونة والكروم فأشعر بأنني أحقر من قملة .

سنتقدم يوم يصبح زرع الصحراء شرفا يتھالك عليه الناس .

العم والخال ( على إن أردت الدعاء ألحد قل : رزقك هللا بأبناء �

شرط أن يكونوا من أصحاب النفوذ ) ووفر لك المعارف

–واألكتاف وال حرمك من " البيستون " ( صرف فعل بستن

يبزنس ) نحن شعوب قبلية بالفطرة . -يبستن على وزن بزنس

أنصر أخاك ظالما أو مظلوما . األقربون أولى بالمعروف . نحن

شيئيين : " تدبير الرأس " إال -حكاما ومحكومين –ال نعرف

! وقانون القوة . والويل لضعيف

* كم يحز في نفسي أنني لن أرى اليوم الذي ينعم فيه كل العرب بدون استثناء

بحقھم في الخبز والكرامة كم يحز في نفسي أن لن أقرأ أن التونسية ال يخرج في

العمل ويبقى بعد الوقت نزھة إال ويحمل معه شكارة الفضالت . إنه يصل الثامنة إلى

القانوني , إنه ( يقيم الدنيا ) على ريع مليمتر , إنه ال يلقي عود ثقاب في الشارع

وأن خالي يعتبر من الطبيعي أن ينتظر دوره في المستشفى أربع ساعات حتى ولو

كان الطبيب ابن أخته أو ربما لھذا السبب بالضبط.

ي البليدة في الحب التي منذ زمانا طويال وأنا أكره ھذه األغان �

تذيعھا إذاعتنا آناء الليل وأطراف النھار . كنت وال أزال أستثقل

بالخصوص طولھا . وكنت أعزوه إلى أننا ورثة الحدائين وشعب

من العاطلين ال يضيره ضياع الوقت . لكني فھمت السبب

الحقيقي : كتبت الصباحة تقول إن اإلنجليز لما اضطروا في

نات إلى فتح أول إذاعة عربية خافوا أن تكون بداية العشري

مصدر وعي ومشاكل فإشطرتوا أن ال تبث إال األغاني في الحب

على شرط أن تتميز بالرتابة والطول . والخالص بالساعة . منذ

نصف قرن وإذاعتنا ضحية أخبث مؤامرة ألدھى المستعمرين .

شعب منذ نصف قرن ونحن ضحية إذاعتنا . الدين ھو أفيون ال

65

كما قال ماركس ؟ ال . أم كلثوم ( وكرة القدم ) , قال أبي ودوي

الصفعة يرن في أذنه ثالثين سنة بعد الحادث : صفعني جندي

بال سبب ؟ أنت واثق ؟ –االستعمار في مدخل قابس بال سبب

ألم يصفعك ألنك متخلف وابن متخلف وعصارة عشرة قرون من

نسوا حتى ال يصفعوكم من التخلف ؟ نسي . ولم أنس . و ال ت

جديد في مدخل قابس . كان يقول بالعلم والعمل تثأر لي ونغلبھم

. أقول بالعلم والعمل نغلب أنفسنا وھذا أھم بكثير لكن العلم بماذا

؟ بالقانون , بقانون بايكون , بالمغزى العميق العلمي المقدس

لالصطالح .

سيد القوم خادمھم : الحكم ما يكون –قانون الحكم الفعال ؟ أمركم شورى بينكم

جداال ( خليل مطران ) اإلعالم الفعال ؟ الصدق أوال وأخيرا .

قانون تفجر الخلق واإلبداع : الحرية فالحرية ثم الحرية .

قانون الحياة االجتماعية السليمة ؟ الوسيلة الوحيدة لكي أضمن حقي في

د من أفراد المجتمع بحقه في الكرامة والخبز الكرامة والخبز ھو أن يتمتع كل فر

ويسن ھذا القانون أيضا : بناء الثروة على الفقر والسلطة على القھر كبناء قصر

على رمال متحركة أو تشيد فرح على فوھة بركان ( آخر من جرب مفعول ھذا

القانون ولد البھلوي ) قانون المناعة في ھذا العالم الخطير ؟ وأعدوا لھم ...

كالبنيان المرصوص .. وال تفرقوا .

قانون التقدم االقتصادي ؟

وأعملوا ...

قانون القوانين ؟ ال سلطة فوق سلطة القانون .

آخر نكتة ضحكة لھا مدة : ضبطت قوى الغدر والعدوان( الغاشم طبعا ) عربيا جيبه

لطيران والبحرية منتفغ بشكل مثير ومشبوه . إرھابي خطير ؟ استنفرت قوات ا

انتصب –وأعلنت حالة الطوارئ القصوى . إحاطة الدبابات بالرجل ( إحاطة الخ )

اقتربوا منه زحفا على البطون شاھرين مدفعھم الرشاش –المظليون والمغاوير

66

وأسنانھم تصطك من الرعب . مد مھندسو األلغام أيديھم إلى الجيب المشبوه وھم

وا ؟ " كانون وبراد و كأسي شاي " . يتصببون عرقا . ماذا أخرج

يا عرب اجمعوا نكتنا قبل أن تضيع فھي الشاھد الوحيد على أننا رغم التخلف

واعية , تجيد نقد نفسھا وتعرف حقيقة وضعيتھا وأننا أذكى بكثير –شعوب ذكية

مما تصور اإلذاعات " كل شيء على ما يرام يا مدام الماركيزة "

أن نؤجر ھذا الوطن إلى من ھم بحق أجدر به منا نتقاسم ثمنه * قال ضاحكا : الحل

ونھاجر ويطفئ آخر من يخرج من أضواء المطار .

قلت : ال . يكفي أن نحبه وسيتقدم .

***

67

المبتذالت العشر وردي عليھا

قال نزار القباني , يصف 1967بھا سنة في أعقاب الھزيمة المروعة التي منينا

حالة العرب الفكرية التي أدت بنا إلى الكارثة :

نجلس القرفصاء .

نبيع الشعارات لألغبياء

ونحشو الجماھير قشا وتبنا

ونتركھم يعلكون الھواء

وبھذا األبيات يكون الشاعر قد شخص مرضنا العضال : مرض الشعارات: أخبارنا

عارات . كتبنا في الدين , في الفلسفة في التاريخ , شعارات . أبحاثنا في اإلذاعة ش

العلمية أو على وجه التدقيق المتعلمنة شعارات . نظرتنا إلى أنفسنا وإلى اآلخرين

محكومة بالشعارات . والشعارات ھي نقيض الفكر , ھي تكريس فشله , ھي دورانه

ة القناعات المبتذلة التي تجترھا في حلقة مفرغة , ھي فكر من ال فكر له , وجمل

حضارة ذابلة . ومھمة الشعارات تغطية الفشل إذ ھي مرھم الفعال نضعه على

جروحنا الدامية المتقيحة, نجد فيھا العزاء والسلوى واألعذار المختلفة التي نبرز

بھا أننا لم نعد خير أمة أخرجت للناس .

وقد –رض العضال الذي أسميناه التخلف لكننا اليوم أمة بصدد االبالل من ذلك الم

بدا جسم الحضارة يستعيد شيئا فشيئا الحياة ومقومات القوة . و من مظاھر الشفاء

أننا أصبحنا نواجه أنفسنا بالحقائق التي تجرح وتؤلم وأننا نترك شيئا فشيئا

الشعارات لنوعين من العقول : الذليلة والمكيافلية .

ه أنفسنا بالحقائق التي تجرح والتي تؤلم ألن ألمنا سيكون نعم آن األوان ألن نواج

الدليل على أن المشاعر التي خدرھا التخلف والمحاوالت اليائسة إلنكاره قد عادت

إلى العمل ... إلى الحياة ...

68

والشعارات في عالم الفكر عديدة ولو أن تغليفھا أذكى , لكنھا مجرد شعارات وقد

ردت إحصائھا يوما فوجدتھا كالوصايا : عشرة . وأردت أن أسميتھا المبتذالت . أ

أرد عليھا باختصار فكانت ھذه الخواطر :

المبتذلة األولى

اإلسالم دين بحث على العدالة واإلنصاف وھو دين حق وفضيلة وتسامح واخاء الخ

...

* الرد :

؟ من قال العكس ؟ فلماذا اإلصرار على فتح األبواب المفتوحة -1

وھل البوذية والھندوسية والمجوسية واليھودية والماركسية والمسيحية عقائد -2

وديانات تحت على الرذيلة والجريمة وتنادي بالظلم وتنتصر للشر وتنادي بالتعرض

للحق والخير .

أليس صحيحا أن نجاح ھذه العقائد والديانات في تحقيق عالم المساواة واإلخاء -3

كنجاح اإلسالم أي متواضع إلى أبعد حدود التواضع والفضيلة الخ ..

المبتذلة الثانية

كان الماضي العصر الذھبي لألمة العربية .

* الرد :

غير صحيح . كان الماضي سلسلة متصلة الحلقات من الفتن والحروب بدأت -1

بمقتل عمر مرورا بمقتل عثمان وعلي والحسين وسلطنة األمويين كان فترة

وظلم وحرب واقطاع عبودية

لم يعرف اإلنسان العربي عبر تاريخه الطويل فترة أحسن من التي يعيش فيھا -2

حاليا . فقد اختفى الرق , وساد التعليم وسھلت المعيشة وطالت مدة الحياة وأصبح

السلطان يحسب ألف حساب للرعية .

نا . العصر الذھبي إن كان لھذا المفھوم معنى, أمامنا وليس وراء -3

المبتذلة الثالثة

69

كنا أمة واحدة وتشتتنا وعملية التوحيد ھي رجوع إلى الحالة المثالية للعصر

الذھبي .

) غير صحيح أننا كنا أمة واحدة . فقد كنا وال نزال أناسا والؤھا للقبلية وللدين . 1

ل والقبلية ھي المرض العضال الذي لم يستطع حتى اإلسالم مداواته . على سبي

المثال : أدرس حرب بكر وتغلب مائة سنة بعد ظھور اإلسالم ومدى بشاعتھا.

) لم نعرف في تاريخنا الطويل قدرا مماثال لما نعرفه اليوم من وحدة سواء داخل 2

أقطارنا الصغيرة أو حتى بين مختلف األقطار . فالعربية الفصحى لم تعرف في يوم

لمسلسالت العاطفية التي تعرضھا التلفزة في من األيام انتشارا كالذي تعرفه ودور ا

بناء األرضية الثقافية الموحدة أھم بكثير من ألف قمة وألف اجتماع وزاري يعقد

لوضع برامج وخطط " وحدوية "

المبتذلة الرابعة

تاريخنا سلسلة من االنتصارات واألمجاد العسكرية والثقافية والسياسية , ولكي

ب أن نخرف منه ومن محتواه ( التراث ) أسباب النھضة نعيد ھذه االنتصارات يج

والعزة والمناعة .

* الرد :

تاريخيا ھو رواية المنتصرين إلحداث التاريخ ونحن نكاد نجھل كل شيء تقريبا -1

عن تاريخ عربي يعطي الكلمة للزنج والقرامطة وللحالج وابن المقفع وسائر الذين

فوا الوجه اآلخر للحقيقة . قمعوا وصلبوا وقتلوا حتى ال يكش

تاريخيا ككل تاريخ حافل باالنتصارات وبالھزائم ومن ثمة فإن تراثنا ھو اآلخر -2

حافل بالغث والسمين

التراث ھو جملة تصورات جيل معين للعالم وجملة التكنولوجيات التي يتعامل -3

ربة من سبقه , بھا مع العالم إلخضاعه وتغييره. ومن البديھي أن كل جيل يأخذ بتج

لكن ھناك في تاريخ األجيال فترات عصبية تفرض التغيير الجذري ألن العالم يشھد

بدوره " تغييرات جذرية " لم تعد تتماشى مع تصورات األجيال السابقة , وال

تخضع لتكنولوجياته. نحن عرب القرن العشرين نعيش مثل ھذه الفترات .

70

المبتذلة الخامسة

ربية على الحضارة الغربية كبير . فلوال صفرنا لما طلعوا إلى فضل الحضارة الع

سطح القمر وقد كنا السباقين في سائر الميادين كالطب والفلك والحساب . الخ ...

يوم كانوا يتخبطون في ظلمات جھل عصورھم الوسطى

* الرد :

صحيح أن فضل العرب كبير , لكن أليس من اإلنصاف أن نعترف أيضا بفضل -1

لھنود والفرس واإلغريق الذين أخذنا عنھم ھذه العلوم . ا

غير صحيح أن نھضة الغرب كانت نتيجة وتتمة النھضة العربية ( األولى ). فقد -2

تقدم الغرب بفضل عبقريته الذاتية وكان تقدمه في بعض األحيان رھين تمرده على

التراث العربي اإلسالمي وتجاوزه له .

ليس الفتى من قال كان أبي –ھأنذا إن الفتى من قال -3

المبتذلة السادسة

تلقى تبعة التخلف على االستعمار واإلمبريالية والقضاء والقدر الخ .. أما نحن

ومؤسساتنا الفكرية والدينية واالجتماعية والسياسية , فمنه براء

* الرد :

ة مؤسساته إن تخلف مجتمع ما ليس إال مؤشرا إن دل على شيء فعلى ھشاش -1

الفكرية والدينية واالجتماعية والسياسية, وبالتالي فالتخلف ليس مرضا طالما

يصيب جسما يافعا وإنما أعراض مرض تسبب فيه المجتمع نفسه واألمراض من

التخلف مرض من –نوعين : الزائدة الدودية ومضاعفات اإلدمان على المخدرات

النوع الثاني .

ومتشابكة . ولكل مؤسساتنا ضلع فيه : الفكر, الدين , أسباب التخلف عديدة -2

السياسة , بصفة عامة اإلنسان العربي.

كل الحركات الفكرية –عملية الخروج من التخلف متصاعدة السرعة -3

واالجتماعية والسياسية التي تشھدھا مجتمعاتنا تشھد بعمق التغييرات الجذرية

71

والويل لمن يتأخر مرة أخرى عن الركب أو الذاتية التي تعرفھا أعماق جسم األمة

يحاول الوقوف في وجه التيار العاتي .

المبتذلة السابعة

نحن شعب كافح وجاھد وصبر وثابر للحصول على االستقالل الذي أصبحنا نتمتع

به عن جدارة واستحقاق ( وھات من الخطب والدراسات واألناشيد واالحتفاالت الخ

( ..

* الرد :

حن لسنا مستقلين ال على الصعيد االقتصادي وال على الصعيد الثقافي ومن ثمة ن -1

نحن لسنا مستقلين على الصعيد السياسي .

مفھوم االستقالل في عصر كھذا بال معنى وھو شعار فارغ من كل محتوى فكل -2

الشعوب مرتبطة ببعضھا البعض وصالت الترابط والتالحم والتبعية المتبادلة تزداد

وة يوما بعد يوم وذلك على كل المستويات ومن ثمة ال وجود لدولة مستقلة مھما ق

عظمت .

المشكلة المطروحة أمام كل األمم والدول ليست االستقالل وإنما اكتساب وزن -3

كاف يجعلھا تأخذ بقدر ما تعطي وتؤثر بقدر ما تتأثر في إطار عالقات التبعية

ب نعطى حاليا تجاريا أكثر مما نأخذ , نتأثر ثقافيا المتبادلة بطبيعة الحال نحن العر

أكثر مما نؤثر , نستھلك العلم والتكنولوجيا وال ننتج منھما شيئا وتبعيتنا السياسية

ھي النتيجة الحتمية لوزننا الحقيقي أي الھش . وبھذا تكون الخطب واألناشيد

لكذب على النفس واالحتفاالت مجرد تقنيات دعائية ھدفھا التغطية والتمويه وا

والغير .

المھم ليس سب االستعمار واإلمبريالية والشكوى الدائمة من تجاوزاتھا وإنما -4

الوعى الدائم بأننا في إطار عالقات القوة التي تحكم تعامل األمم, شعوب مشتتة ,

ضعيفة فقيرة متخلفة ثقافيا وتكنولوجيا , أي أننا قابلون لالستعمار من جديد إذا

ضت ذلك مصلحة العمالقة نحن قطط تحكي انتفاخا صولة األسد تحت مراقبة اقت

! السباع الحقيقية . فحذار

72

المبتذلة الثامنة

االستعمار واإلمبريالية ھما ألد أعداء األمة العربية , وھما مشكلتنا األولى وكل

مصائبنا نتيجة عنھا

* الرد :

لتقني والتنظيمي واألخالقي , وكان ) كان االستعمار تتويج تخلفنا العلمي وا1

فأنت ال تستطيع –الخاتمة الحتمية النحطاطنا وانھيارنا الحضاري ولم يكن سببه

أن تستعمر اليوم شعب عظيما كالشعب الياباني أو األمريكي إذ ال تستعمر إال

الشعوب القابلة لالستعمار وقد كنا تلك الشعوب .

لة , بل بالعكس شكل عامال إيجابيا في تاريخنا . ) إن االستعمار لم يزيد الطين ب2

فبإذالله لنا وبابتزازه لخيراتنا وبإھداره لكرامتنا قد وضعنا أمام خيارين : الموت

وكان رفعنا لتحدي ملحمتنا –واالنقراض أو رفع التحدي بشحذ ھممنا وبإثبات ذاتنا

ار آفاقنا بركلنا صحيح أن االستعم –التاريخية , وفرصتنا لنھوض من نوم ثقيل

بالرجل ولكنه آفاقنا , شكرا جزيال له إذن .

) كل أمة عظمى بطبيعتھا إمبريالية تريد فرض مفاھيمھا وعقيدتھا واستغالل 3

الشعوب الضعيفة المحيطة بھا . أنلوم األمريكان والروس على إمبرياليتھم ؟ نحن

سبعة قرون وأننا حكمنا أنسيتم أننا أخضعنا اإلسبان –أعرق األمم اإلمبريالية

إيران ثالثة قرون وأننا قضينا على لغة الفراعنة ودفعنا البربر نحو الجبال وأن

وطننا الممتد من الخليج إلى المحيط ھو كل ما بقي لنا من فتوحات األجداد .

المبتذلة التاسعة

– إسرائيل دولة غاصبة , استولت على أراضينا وحقوقنا المشروعة ظلما وعدوانا

والحق معنا وھي تجسيد للظلم والطغيان والشر ( إلى آخر النواح ) .

الرد :

) من المؤكد أن إسرائيل استولت على أراض لنا وأھدرت حقوقنا وشردت شعبنا 1

من شعوبنا , لكن ماذا تنفع الشكوى من ظلم ال نستطيع له دفعا .

73

: أال يالحظ التاريخ أن ) متى كان العدل مقياس تعامل الشعوب مع بعضھا البعض2

الحرب سجال منذ وجد اإلنسان بين شعوب غازية وشعوب مغزوة وأن مصير

النزاع ال يتقرر وفق مقاييس أخالقية وإنما حسب ميزان القوى ؟ ألم نغز شعوبا في

الماضي ؟ أھذه أول وآخر غزوة عرفھا وسيعرفھا تاريخنا الحافل بالكر و الفر .

راجعوا نظرية المؤرخ البريطاني –ة ونعمة في نفس األواني ) وجود إسرائيل نقم3

في دور التحدي كحافز جبار تمخضت عنه كل الحضارات TOYNBEEتوينبي

العظيمة .

تكنولوجية سياسية ثم –إسرائيل قوة علمية –وإسرائيل اليوم ھي تحدينا األكبر

إلى مستوى السؤال ھل سنعرف بفضل إسرائيل وما تفرضه علينا - عسكرية

التحدي المطلوب أي ھل سنخلق عوامل التفوق العلمي التكنولوجي االقتصادي

السياسي ثم العسكري فتزول إسرائيل أو تقلم أظافرھا أم ھل سنبقى دون التحدي

فتترعرع إسرائيل كسرطان خبيث يقضي عاجال أم آجال على ھذه األمة .

ل منعت حقوقھم المشروعة الھنود ھ –رجاء كفوا عن التشدق بالحقوق المشروعة

الحمر من االنقراض ؟

المبتذلة الرئيسية ( ومكمن كل الداء )

أنا : المنتمي إلى العقيدة الفالنية والمذھب العالني والحزب كذا على حقا وبقية

كفار مالحدة , عمالء االستعمار واإلمبريالية إلى –الناس خونة , في قلوبھم مرض

لتي يمكن أن تسجل منھا عشرات العينات عند استماعك إلى نشرات آخر التفاھات ا

أخبار اإلذاعة العربية .

الرد :

* قال أذكى من جادت به قريحة الحضارة العربية عبد هللا ابن المقفع : " وأردت

الدين فلم وقع ذلك في نفسي اشتبه على أمر الدين . أما كتب الطب فلم أجد فيھا

كرا يدلني على أھداھا وأصوبھا . وأم الملل فكثيرة ومختلة ليس لشيء من األديان ذ

منھا شيء أال وھو على ثالثة أصناف : قوم ورثوا دينھم عم آبائھم وآخرون أكره

عليه حتى و لجوا فيه وآخرون يبتغون به الدنيا وكلھم يزعمون أنه على صواب

74

في أمر الخالق وھدى وأن من خالفه على خطأ وضاللة واالختالف بينھم كثير

والخلق ومبتدأ األمر ومنتھاه وما سوى ذلك وكل على كل زار وله عدون وعليه

عاتب فرأيت أن أراجع علماء أھل كل ملة وأناظرھم وأنظر فيما يصفون ولعلي

أعرف بذلك الحق من الباطن فاختاره وألزمه على ثقة اليقين غير مصدق بما ال

فعلت ذلك وسألت ونظرت فلم أجد أحدا من أعرف وال تابع ما ال يبلغه عقلي ف

األوائل يزيد عن مدح يدنه وثم ما يخالفه ... فاستبان لي أنھم بالھوى يستجيبون

ويتكلمون ال بالعدل وأجد عن أحد منھم صفة تكون عدال ويعرفھا العقل ويرضى بھا

فلم رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحد منھم سبيل .

ل عنه أنه أعمى وھو نافذ البصر والبصيرة أبو العالء وقال ذلك الذي كان يقا

المعري :

عجبت لكسرى واشياعه غسل الوجوه ببول البقر

وقول النصارى آله يضام ويظلم حيا وال ينتصر

وقول اليھود آله يحب رسيس النساء وريح القتر

ار ولثم الحجر وقوم أتوا من أقاصي البالد لرمي الجم

فوعجبا من مقاالتھم أيعمى عن الحق كل البشر

وقال أنبل من جادت به قريحة الحضارة العربية ابن عربي يترفق ويتلطف بالجھال

الذي مرغھم أبو العالء في الوحل :

لقد صار قلبي قابال كل صورة فمرعى لغزالن ودير لرھبان

ف وألواح توراة ومصحف قرآن وبيت ألوثان وكعبة طائ

أدين بدين الحب أين توجھت ركائبي فالحب ديني وإيماني

وقال أشعر من جادت به قرحة الحضارة العربية ايليا أبو ماضي :

فقلت لھا ال يقتني المرء مذھب وإن جل إال كان في عنقه غال

تقيده خمرا وتضبطه خال فما مذھب اإلنسان إال زجاجة

تتلمذت لإلنسان في الدھر حقبة فلقنني غيا وعلمني جھال

نھاني عن قتل النفوس وعندما رأى غرة مني تعلم بي القتال

75

وذم إلى الرق ثم استرقني وصور ظلما فيه تمجيده عدال

وكل نظام غير ما سن مختال وكاد يريني اإلثم في كل ما أرى

إلى أن رأيت النجم يطلع في الدجى لذي مقلة حسرى وذي مقلة جذلى

وكيف تغذي األرض آالم نبتھا وأقبحه شكال كأحسنه شكال

فأصبح رأيي في الحياة كرأيھا وأصبحت لي دين سوى مذھبي قبال

وصار كتابي الكون ال صحف تتلى وصار نبي كلما يطلق العقال

ويقول كاتب ھذه السطور

ما أجمل اإليمان وما أحبه إلى النفس وما أقبح الشك وعذابه . لكن اإليمان إن أدى

إلى التعصب والعنف والبغضاء فھو رذيلة الرذائل وإن شكل حاجزا مانعا يقف حجر

مصائب . والتعصب الديني والسياسي عثرت في وجه الفكر الخالق فھو مصيبة ال

والعرقي والمذھبي , غذاء نوعين من العقول : المكيافيلية والذليلة :

أما المكيافيلية فتستعمل المبتذالت لتركيز سلطانھا باسم قيم ال تؤمن بحرف منھا .

أما الذليلة فھي تصفد أيديھا باألغالل وتتصور كما يقول أبو ماضي ظلما تمجيده

عدال .

والتعصب المذھبي والديني والسياسي يلعب عندھا دور الخرقة التي توضع على

عين الجمل وھو يدور حمل البئر يضخ الماء ألصحابه تمنعه من " الدوخة " وھو

يدور إلى األبد في تلك الحلقة المفرغة.

وأضيف :

كرية قوة الغرب الضاربة ليست سياسية أو اقتصادية أو عسكرية وإنما ھي قوة ف

تمخضت عنھا سائر مظاھر التفوق والسيطرة .

وسبب وجودھا أن الفكر الغربي كسر وھشم كل األطر األحادية دينية أو سياسية أو

مذھبية أرادت احتواءه وأن الفكر ال يحترم إال الحقيقة وإنه في بحثه الدائم عنھا

ف خاشعا أمام اسم أو شك متصل , ونقد دائم , وحركة ھدم وبناء ال تفتقر . إنه ال يق

إنه يجھل المبتھالت . إنه تجاوزھا . إن كل الحركات السياسية والفكرية –نظرية

في خدمته وليس ھو في خدمتھا .

76

تعصبنا ومحاوالتنا احتواء الفكر في إطار جامد , أكان دينيا أو فكريا أو سياسيا ,

ھو سبب التخلف االجتماعي والفردي.

دور في حلقة مفرغة , وحتى ال تكون بخال يمشي في الخط وحتى ال تكون جمال ي

المرسوم , وحتى ال تكون شاة تساق إلى المذبح والمسلخ والمطبخ وھي تسبح

بحمد ذابحھا وسالخھا وآكلھا, وان كنت رغم كل ما قلت ھاويا للشعارات مرغما

ترفعا و بھا, فال تتخذ لك شعارا غير قول ذلك الذي اعتزل في المعرة ثالثين سنة

ابتعادا عن العقول الذليلة العقول المكيافيلية.

كذب الناس ال أمام سوى العقل

مشيرا لصبحه والمساء

أيھا الغر إن خصصت بعقل

فأسأله فكل عقل نبي

ويوم يصبح ھذا القول شعار كل عربي فستتألق في سماء الفكر ألف نجمة تضيء

ن شجرة ھذه الحضارة وستنوء ظلمات ھذه الحضارة بأجمل نور وستورق أغصا

بحمل ألف ثمرة وسنتقدم يومھا سننشد بنشوة قول ذلك الذي تتعقبه أجھزة

المخابرات أحمد فؤاد نجم :

دور يا كالم على كيفك دور

خلي بلدنا تعوم في النور

نرمي الكلمة في وسط الظلمة

تولد سلمى وتحبل نور

***

77

التراث بين التمجيد وسلة المھمالت

ل سؤال يطرحه التفكير الموضوعي عند تعامله مع مشكلة التراث ھو : لماذا أو

يشكل ھذا التراث مشكلة ؟ فالنقاش محتدم منذ قرابة قرن وبال نتيجة حول ماھيته

وقيمته ودوره في انحطاطنا أو في نھضتنا الحاضرة والمرتقبة . فھذا يمجده

ع وقت لاللتحاق بركب األمم واآلخر يرى فيه ترك بغيضة يجب التخلص منھا بأسر

الخالقة " وكل يزعم أنه على صدق وأن من خالفه على خطأ وظاللة " كما يقول

ابن المقفع .

ثم تتزايد حيرة المفكر وھو يبحث عن رد منطقي وسط ھذه الزوبعة الفكرية فإذا به

يتساءل : أترى المشكلة حقيقية أم ھي مفتعلة " شعوريا أو ال شعوريا " . وإن

كانت تعلة فما معنى افتعالھا . ثم تتتابع األسئلة وتتضارب : ماذا وراء كالمي ھذا

وذاك , أي وظيفة تؤديھا النظرية الفالنية والنظرية العالمية , ھل من الممكن الحكم

عليھما موضوعيا ومن أي زاوية و تتلخص كل ھذه التساؤالت في سؤال: واحد ما

معنى ھذا النقاش .

موضوعي كما ھو معلوم ال يبدأ بالحكم المعياري وإنما ينتھي به و من و الفكر ال

ثمة وجب أن نبدأ بالبداية أي باالستماع مليا و بمنتھى االحترام إلى القائل بموجب

تمجيد التراث و إلى القائل بلزومية رميه في سلة المھمالت...

ي التراث خاصة النظرية التمجيدية:خالصة النظرية معروفة : كل شئ موجود ف-1

نحن نجد فيه جل قواعد التعامل الصحيح مع العالم –إن كان الدين (آالف الكتب)

للتمكن منه و التحكم في خيراته (مئات الكتب )سبب نجاح السلف الصالح تشبثه

بالوصفة الكاملة(آالف الرسائل) سبب فشل الخلف الطالح ابتعاده عن الوصفة

ثمة فان العودة إلى نجاح السلف الصالح تتطلب الكاملة(آالف المقاالت) و من

الرجوع إلى الوصفة الكاملة أو التراث (آالف الخطب). يسدل ھنا الستار على

78

الخاتمة السعيدة لمغامرة اإلنسان العربي,الذي أضاع حبيبه عن غباء ثم ثاب إلى

رشده و عاد إليه ووجد بين ذراعيه السعادة و الكثير من البنين و البنات.

تبقى بطبيعة الحال بعض التساؤالت الھامشية : سر ھيمنة ھذه الحضارات السائدة

التي تتحكم فينا و التي ال تستمد نجاحھا من وصفتنا السحرية ؟ استحالة إيجاد

تطابق بين ما آمن به السلف الصالح وما نراه حوالينا ؟ والردود بطبيعة الحال

شيء ( عدد في آالف المقاالت والكتب ) مفحم وجاھز : أما الغرب فقد أخذ منا كل

وذكر بتضلعنا في الحساب أيام –االختراعات الحقيقية والكاذبة التي سرقھا منا

الخوارزمي والطب أيام ابن سينا وال ننسى التركيز على أھمية اكتشاف الصفر الذي

فحاول في أصبح فيما بعد العالقة المميزة لحضارتنا . أما إذا كنت مشطا في تراثيتك

دراسة كاملة إثبات عروبة شكسبير واسمه العراقي ابن سبير .

النظرية النقدية : -2

تقول ھذه النظرية بأن التراث ھو أكبر عائق ضد التطور الطبيعي لألمة العربية .

فھو على شكله الديني تكريس األبنية الميتافيزيقية ( الخضوع لقوة غيبية تھدد

له التھم وتتعامل معه بأسلوب إن خضعت فلك قطعة سكر وإن لم اإلنسان وتكيل

تخضع فمآلك جھنم ) وتكريس نظم اجتماعية مجحفة ( بعض الكتب ) .

كذلك في شكله األدبي فھو تعبير عن قيم ومفاھيم إقطاعية لمجتمع عبودي ( بعض

خذ أبعاده الدراسات ) . أم في شكله العلمي فھو تاريخ أو تأتآت للعلم الذي لم يأ

الحقيقية إال بنھضة الغرب ( مقاالت لم تطبع ) ومن ثمة فإن علينا رمي التراث إلى

سلة المھمالت والبحث عن قيم عقائدية عصرية ( الماركسية أو الليبرالية الغربية )

وإدارة الظھر ألدب الباكين على األطالل و االلتحاق بركب األمم التي تصنع العلم

والتكنولوجيا .

يبقى بعد االستماع إلى وجھتي النظر( وخاصة وجھة النظر األولى التي استطاعت

تسخير كل وسائل الدعاية واإلعالم وقمع النظرية المخالفة ) إن تتساءل عن مدى

صدقھما والتصاقھما بالواقع وخاصة عن معنى قولھما ھذا أو باألحرى عن

الوظيفة المبھمة التي تؤديھا كل نظرية .

79

ديھي أن وظيفة النظرية التمجيدية التركيز على إيجابيات التراث وتناسي من الب

سلبياته . فھي تتناسى مثال أن الوصف الديني لم تحقق في أي عصر ما أنتظره منه

اإلنسان العربي من عدل وسالم الخ ... بل إنھا تمخضت في أغلب الحاالت عن

ه . أنظمة قمعية حكمته باسم الدين ونقضت أبسط تعاليم

كذلك نالحظ أن تسقط من حسابھا أجزاء كاملة من التراث شكلت حصون مقاومة

فكرية ضد اإليديولوجية السائدة الخ...

أن من الناحية األدبية فھي تسلم تسليما مطلقا بھذا األدب الذي غرھا منه الشكل

رية متغافلة عن حقيقة بديھية إال وھي إن العرب أغزر الشعوب شعرا ھم أقلھم شاع

. فربع شعرنا تملق ( مدح ) وربعه الثاني شتم ( ھجاء ) وربعه الثالث استعراض

عضالت من نوع " أنا الذي قرأ األعمى أدبي " ... أو " وإني إن كنت األخير

زمانه " أما ربعه األخير فخاص بالجواري والغلمان ... كذلك تتناسى أننا لو غربلنا

دنا فيه إال القليل النادر الذي نستطيع أن أربعة عشرة قرن من األدبي لما وج

نضاھي به قرنا من القصة الروسية أو الشعر اإلنجليزي أو الفلسفة األلمانية أو

الصينية .

لكن المغالطة تأخذ أبعادا مخيفة في تقيمھا لتراث فھي تركز على تبعية الغرب لنا

خذنا ھذا العلم عن في العصور الوسطى وھذا صحيح . لكنھا تنسى أن تقول أننا أ

أصحاب له أقدم منا ھم اإلغريق والفرس والھنود , وخاصة أن الغرب تتطور بھذه

العلوم إلى مدى ثم لم يتطور إال لما ثار عليه . من الممجدين يعرف قصة

''باراسلز'' الذي وقف فوق منصة جامعة بال في بداية القرن الخامس عشر

القانون البن سينا قائال لطلبة : ھذا العلم يحاضر في الطب وبدا درسه بحرق كتاب

قد انتھى ومن ھنا نبدأ .

أيعنى ھذا أن النظرة الموضوعية تتنصر للقائلين بقابلية سلة المھمالت لتلقف ھذا

التراث ؟ ال طبعا . ألن نفس النظرة ستكتشف في النظرية النقدية تناقضات صارخة

. لماذا يريد المتمردون على التراث وتحامالت تاريخية ال يجوز السكوت عليھا

إلقاءه في سلة المھمالت ؟ الرد البديھي : لتحرير اإلنسان العربي من الدجل الفكري

80

شكرا –( الديني واألدبي واالجتماعي ) الذي يشكل التراث أرضيته ودعامته

ي للمتمردين على نواياھم الطيبة لكن المشكلة تتعقد عندما نكتشف أن اإلنسان العرب

متشبع بتعاليم دينه وعاداته الخ ... وخاصة أنه بأمس الحاجة إليه . معنى ھذا أن

اإلنسان ھو حصيلة التراث وأن التراث ھو حصيلة اإلنسان عبر التاريخ , والعالقة

عالقة المرء بولده أو بأحشائه وليست عالقة اإلنسان بثوب بلي فيخلعه ويستبدل

صحيح أن الجلد قد يكون بحاجة إلى شيء من به ثوبا آخر أقرب إلى الموضة .

الصابون أو إلى مرھم إن تقيح أو إلى مبضع الجراح الستئصال ورم خبيث , لكن

استبدال جلد كامل عملية شائكة إن لم نقل مستحيلة . حقا سنقتل المرض لكن الثمن

حياة المريض والشعوب تقاوم عادت عملية السلخ ھذه والويل لمن يحاول تحريرھا

عن طريقة شاه إيران .

لنغلق مؤقتا موضوع التقييم لنتساءل عن وظيفة النظريتين وسنكتشف أنھا واحدة .

فكالھما تطرح موضوع مصير اإلنسان العربي إذ يالحظ تخلفه وفقره وجھله

وتبعيته للحضارات مھيمنة غريبة عنه , تمتص خيراته وتسخره لمصالحھا

.وتتطاول على شخصيته ودعاماتھا

التشخيص إذا ھو واحد لكن العالج مختلف : فالنظرية التمجيدية تتضح لحكم

تحاول تجاوز –ترفض بعنجھية أننا شحاذون في سوق الحضارة –التاريخ األليم

عقدة النقص التي نعاني منھا أفراد وجماعات ( أسلوب التذكير الممل بأيادينا

نا خير أمة أخرجت لناس والحال أن تتشنج في ادعاءاتھا بأن -البيضاء على الغرب )

% 80نسبة األمية فينا

في الغرب ) . أي دعامة لھذا االدعاء وحاضرنا تعيس ومستقبلنا مجھول ؟ 1%(

) فتسقط منه أبعاده Mythisationالماضي طبعا . ھنا يقع تخييل ھذا الماضي (

تي طردت الحقيقية من ظلم وعبودية وحروب واضطھاد فكري ليصبح جنة عدن ال

منھا األمة العربية .

81

الحظ أن تخيل الماضي كعصر ذھبي عملية شائعة في كل الحضارات وفسرھا فرويد

الطفل إلى عصر الطفولة . –بأنه تصعيد حنين اإلنسان

يبقى األھم . بما أن الماضي ھو العصر المثالي وبما أن تقھقر ھو نتيجة عدم

ء الوصفة والعودة إلى ھذه الجنة المفقودة . تطبيق الوصفة المثالية , فالحل إحيا

مجمل القول أن وطن الممجدين ھو الماضي ومن ثمة فأنا أسميھم بالزمانيين. ما

الفرق بينھم وبين المتمردين ؟ الفرق بسيط . فھؤالء يبحثون في الحل ال في الزمان

سيا أو ولكن في المكان . في الوصفة السحرية بالنسبة إليه موجودة مثال في رو

لنسميھم إذا المكانين ولنتركھم في نقاشھم –الصين أو كوبا أو أمريكا أو فرنسا

العقيم مع الزمانيين مع تمنياتنا لكال الطرفين باكتشاف حلول المجتمع العربي من

خالل تجربة طريقة حكم الخلفاء الراشدين أو التنظيم الروسي للكولكوز .

: ما ھو التراث ؟ فربما يكون الرد اآلن آن األوان لنطرح السؤال الحقيقي

موضوعيا بعد أبعادنا عن النقاش العواطف المتضاربة للممجدين و للرافضين .

لنطرح تعريفا للنقاش : التراث ھو تجربة جيل و ذاكرة األجيال التي تليه .

لنحلل: لكل مجتمع ما في زمن ما ومكان ما طريقة لتعامل مع واقعه , يمكن

إلى ثالثة ميادين.تقسيمھا

) التطور الديني أو الفلسفي للوجود ولمكانة اإلنسان فيه أي عالقتھا بالكون . 1(

) التنظيم االجتماعي للعالقات البشرية داخل المجموعة وبين مختلف الجماعات 2(

المنظمة .

) التكنولوجيا ومستواھا القدرة الحضارة على السيطرة على المحيط إلخضاعه 3(

لمصالحھا .

ھذا إذن تفسير الجزء األول لتعريف , لكنني قلت أيضا إن التراث ھو ذاكرة األجيال

التي تتتابع . فمن البديھي أن كل جيل مرتبط لتجربة الجيل الذي سبقه وأنه ال يعيد

فھناك ترابط –اختراع تصور للوجود وتنظيم للمجتمع وتكنولوجيا جديدة كل مرة

ال لكنه كما علمنا التاريخ ترابط نسبي . بين تجارب األجي

وتاريخ التجربة الحضارية يتطور وفق إمكانيتين :

82

يستطيع الجيل ب أن يأخذ عن الجيل أ طريقة في التعامل مع الكون -1

فيفسرھا ويتعمق فيھا ( أدب شرح شرح الشرح) وإن يقبل تنظيمه إلى

ن التغيير ھنا كميا المجتمع وإن يطور التكنولوجيا التي ورثھا عنه فيكو

وليس نوعيا ... وھذا يحصل عادة طيلة قرون في كل الحضارات خاصة

في أعقاب تجديد جذري.

يستطيع الجيل ب إعادة النظر في تجربة الجيل أ فيكون التجديد في -2

الميادين الثالثة أو في أحدھا جذريا أي التغيير ھنا ھو نوعي و ليس كميا

لجيلين ؟ الواقع أنه ال يختار بقدر ما تجبره . كيف يختار الجيل ب بين ا

ظروفه الموضوعية على االختيار .فالجيل ب يتعامل مع حركة تاريخية ال

تتوقف ,قوامھا الصراع الدائم مع الطبيعة و الحضارة و ھو مطالب

بالتأقلم الدائم مع عالم كل شئ فيه حركة و تطور و تجدد.ومن ثمة فانه

تجربة الجيل أ ( كما يعيش ابن على مال سيفضل التعيش عل حساب

ورثه عن أبه وجده , يقيه الحاجة ومتاعب الكبد ) كلما أمكن , لكنه

سيجبر على مراجعة الحسابات إن تغيرت البيئة بفعل تطورھا الطبيعي

- الصناعية -فإن نجح التأقلم أي إن استطاع تطوير تكنولوجيته ( الحربية

فاھيمه ( للعلم كدعامة التكنولوجية النظرية ) الزراعية أو التجارية ) وم

ونظامه ( إشراك عدد أكبر ممكن من األدمغة والسواعد في معركة البقاء

والتطور ) فإنه سيثبت ويعمق تجربته وستصبح ھذه التجربة الفنية ثروة

األجيال القادمة . أما أن فشل فإنه سيصاب بما يمكن أن نسميه بالفقر

أي تجارب الحضارة األخرى بمفاھيمه –ز األحداث الحضاري إذ تتجاو

الكونية وتنظيمه االجتماعي وتكنولوجيته . الحظ أن تماسك الحضارة

يتطلب من األجيال المحافظة على حد أدنى من الوحدة في العقيدة والتنظيم

, لكن تطورھا يتطلب على العكس إعادة الراجعة الجذرية من حين آلخر .

العربية ؟ كيف أرسى الجيل األول دعائم حضارته بتمرد محمد ابن كيف ولدت األمة

عبد هللا القريشي على مفاھيم وتنظيم مكة ؟

83

كيف وقعت النھضة الغربية ؟ بتمرد جيل النھضة على تجربة األجيال السابقة . ال

حظ ھنا عمق ھذه الثورة :

كون ( أي تصور ھاھو قليلى يسخر من أرسطو وأتباعه وينفد تصور اإلنجيل لل -

جيل اإلنجيل للكون )

ھاھو باراسليز يحرق كتب ابن سينا وجالينوس ألن وصفتھما الطبية أظھرت قلة -

فعاليتھا .

ھاھو داروين يقضي على ما بقي من التصور الديني الخرافي لألجيال السابقة . -

جوازية . وھاھو ماركس ينظر لألنظمة الشيوعية بينما ينظر غيره لألنظمة البر -

بطبيعة الحال ارتباط الثورة الفكرية وثيق بالثورة التكنولوجية التي تشكل امتدادا

لھا والتي تأتي بدورھا إلى ظھور تنظيم اجتماعي و سياسي جديد .

ال حظ أيضا أن نھضة شعوب كالشعب الروسي والصيني والياباني أي مجمل

ة داخلية على تجارب األجيال الشعوب العظمى التي تتحكم في األرض بدأت بثور

السابقة , وكأن ھناك قانونا يقضي بأن على جيل من األجيال إعادة تقيم تراثه

وتجديده فتطلب األمر قطع الصلة بتجربة من سبقوه وأن ھذا التجديد الدوري

ضمان دوام الحضارة .

يات من البديھي أن قطع الصلة مھما كان مھما ال يستطيع التخليص من ذكرى سلب

أو إيجابيات تجربة األجيال الماضية, وذلك بفضل اللغة التي تشكل صدى تلك

التجربة عبر القرون, ومن ثمة قلت إن محاولة المجددين رمي التراث في سلة

المھمالت محاولة فاشلة ألنك قد تطور التكنولوجيا والتنظيم االجتماعي وحتى

اللغة ما تحمله في طياتھا من تصورات المفاھيم العقائدية, ولكنك لن تستطيع إلغاء

مبھمة ھي في الواقع خالصة تجربة كل ھذه األجيال المتتابعة . لنستخلص اآلن

بعض االستنتاجات المنطقية التي تمليھا ھذه النظرة الموضوعية .

) التمجيد الذي يغالي فيه البض لتراثنا مقبول طالما اكتفى بالثناء على نجاح 1(

بية الثالثة أو األربعة بعد الھجرة , ولكنه مرفوض إن كان ھدفه التغطية األجيال العر

84

على فشل المتابعة وخاصة جيلنا ھذا . ومرفوض مرتين إن ادعى إمكانية تطبيق

ھذه التجربة الناجحة في زمانه ومكانه لحل مشاكل جيلنا ھذا .

دية واالجتماعية ) انحطاط الحضارة العربية ناتج عن عدم تجديد تجربته العقائ 2(

والعلمية ( لتغلب نزعة المحافظة على نزعة الخلق ) حيث اعتبرت األجيال

المتتابعة أن تجربة الجيل األول أزلية صالحة في كل زمان ومكان والحال أنه ال

وقد أدى - وجود لشيء من ھذا القبيل في كون قانون التطور والتجدد والخلق الدائم

الفكر في كل الميادين فكان العجز في ميدان التنظيم ھذا الفشل إلى تجميد حركة

االجتماعي واإلبداع التكنولوجي .

) معاناة جيلنا وجيل آبائنا من شتى أنواع االستعمار ھي ضريبة باھضة لعجزنا 3(

عن التجدد والتطور الداخلي . وقد اضطررنا لكي نواكب عصرنا أن ننھل ال من

ن تجارب أجيال أجنبية عنا فأخذنا عنھم الكثير في تجربة ذاتية خالقة وحية بل م

ميدان التنظيم االجتماعي والتكنولوجي , مما أدى إلى تشبع بطئ وال شعوري

بعقائد ھذه األجيال األجنبية .

) التخلص من التراث عملية مستحيلة ألنه ذاكرة أمتنا بغض النظر على كونه 4(

. واألمم ال يمكن أن تستغني عن ذاكرته تجربة ناجحة لجيل وتجربة فاشلة ألجيال

سواء كانت الذكريات مؤلمة أو سارة .

) مشكلة الحضارة العربية حاليا ھي ظاھرة االنفصام . فذكر أن مرتبطة بتجربة 5(

ذاتية تتحكم فينا سلبياته ( ثقل العادات السيئة ) لكن فعاليتھا في تغيير الكون

قليلة , ومرتبطة بتجارب حضارات وأجيال وتنظيم المجتمع وإخضاع الطبيعة

أجنبية , ومن ثمة ھذه االزدواجية في الشخصية ولغة التخاطب , والعادات الجديدة

الخ ...

واالزدواجية حالة صعبة الھضم لذلك كان وسيبقى النقاش حول التراث محتدما ,

: يقول الممجد : سنتخلص من النشاز بالرجوع إلى األصل . ويقول المتمرد

سنخرج منه إن محونا الذاكرة .

85

لكنني أقول : النقاش عقيم ألن االزدواجية موجودة والتاريخ قال كلمته ونحن لن

نغير شيئا من وظيفة التراث ومھامه و خصائصه بشتمه أو بمدحه .

أما الموضوع فإنه ال يتعلق بتقييم تجربة من سبقونا بقدر ما يتعلق بإثراء تجربة

أي أن التحدي المطروح أمام جيلنا ھو ھل ستنجح في زماننا من سيبتعدون ,

ومكاننا تجربة حضارية أخرى .

ھل ستنجح في إيجاد تصور منظور للكون ولمكانة اإلنسان فيه ؟

ھل ستنجح في اكتشاف نظم اجتماعية متطورة ؟

ھل ستنجح في إثراء و تقدم التكنولوجيا المعاصرة ؟

قين , أم أننا سنكتفي بالتغني وبالتعيش على حساب بعبارة أخرى ھل سنصبح خال

صانعي الحضارات أكانوا من ماضينا أم من حاضرھم

لماذا كانوا متقدمين

يواجه البحث الموضوعي كلما تطرق إلى تاريخ الطب االجتماعي اإلسالمي سؤالين

رئيسيين أولھما مكانة ھذا التراث ودوره في تطور األفكار التي مكنت الطب

المعاصر من الوصول إلى المصاف الذي وصل إليه , وثانيھما نوعية المساھمة

التي أداھا الطب اإلسالمي في إطار كفاح اإلنسانية ضد المرض .

وقلما يكون الرد على السؤالين ھادئا موضوعيا إذ يدخل ال شعوريا في نطاق حرب

اخنة تارة وباردة أخرى على قائمة منذ القديم بين العالم اإلسالمي والعالم الغربي س

ھذا الصعيد أو ذاك ولكنھا لألسف الكبير لم تضع أوزارھا إلٮحد اآلن .

ويمكن الرد على السؤالين من زوايا مختلفة وقد اخترنا من جھتنا المساھمة في

النقاش بالتركيز على استقالل األطباء المسلمين الفكري تجاه الممثل الرئيسي

م ) الشيء الذي مكنھم من 201-151بيب الروماني جالينوس ( للتراث القديم : الط

بلورة المنھجية العلمية الصحيحة . ترجم جالينوس إلى العربية في القرن التاسع

ميالدي وأعجب به المسلمون وأخذوا عنه الكثير , وھو رغم إعجابه بنفسه خالفا

86

علم من أعالم الطب البوقراط وثقته بأن لكالمه صدق القوانين الموضوعية حقيقة

, فھو أحد آباء الفيزيولوجيا إذ كان أول من اكتشف دور المخ في الحركة اإلرادية

وأول من وصف سبعة أعصاب قحفية كما عرف بعض خصائص األعصاب

والعضالت واحتواء الشرايين على الدم . أما دوره في دراسة النباتات واستعمالھا

لكن جالينوس رغم سعت علمه بالقياس للعصر الصيدلي فمعروف بما فيه الكفاية

أخطأ في كثيرا من المواضيع فقد أكد أن الدم يتولد في كبدي الذي يلعب دور ضخه

وإن ھناك اتصاال مباشرا بين بطيني القلب مما جعله ال يفھم الدورة الدموية , أو أن

يشرح أعظم الفك األسفلي عظميني , واألھم من ھذا منھجيته العقيمة إذ كان

الحيوان ويطبق على اإلنسان وكأن ال اختالف بينھما ومن ثمة كثرة أخطائه

العضوية والفيزيولوجيا . كما نعلم أن تبويبه لألمراض كان خاطئ إذ كان تصنيف

وجمع األعراض يخفي األمراض حيث يقع الخلط بينھما . أما وصفاته في العالج

لغرابة وكان جالينوس ال يتراجع أمام فكانت عادة على قدر كبير من الطرافة ومن ا

استعمال التعاويذ والطقوس السحرية التي تدل على تمازج العقلية العلمية عنده

بالعقلية الخرافية . ونحن ال نستطيع فھم طبيعة موقف أطباء المسلمين منھم

وتقديره حق قدره إن لم نركز على الشھرة الكبيرة التي كان جالينوس يتمتع بھا

ر العصور . فقد اعتبره الكثير من أطباء الشرق والغرب إلى بداية النھضة على م

الغربية المرجع األول واألخير ألغلب المسائل الطبية فأصبح اسمه وحده حجة

وذريعة وبالتالي فإنه لعب نفس الدور الذي لعبه أرسطو في الفلسفة , أي أنه ناء

البحث والتنقيب لتشبث أتباعه بكلكل صيته على مقدرات الطب , فشل من حركية

بكل ما كتب وصنف , وإليمانھم األعمى بأن فيه كل الحقيقة وھذا الصيت الذائع ھو

الذي جعل ابن أصيبعة في طبقات األطباء يسمى الرازي بجالينوس العرب مثبتا

أھمية الرجل القصوى .

بأن بنية ومن النوادر التي تعطينا فكرة عن طغيانه الفكري قول بعض أتباعه

اإلنسان تغيرت منذ عھده لم اضطروا لتفسير أخطائه المتعددة في علم األعضاء .

كما يحفظ التاريخ صرخت شھيرة ألحد أطباء األنقيليز في بداية القرن السابع عشر

87

لما وجه بنظرية الدورة الدموية المنسوبة للطبيب ''ھارفي'' تعبر عن مدى التحجر

ء الدوغمائيون من تالمذته الفكري الذي بلغه األطبا

" إنني أفضل أن أخطأ مع جالينوس على أن أصيب مع ھذا األفاق المدعو ھارفي "

الشيء الھام أن المتتبع لتاريخ اإلسالمي فالطب يكتشف بسرعة أن األطباء

المسلمين وإن أعجبوا بجالينوس وأخذوا عنه فإنھم لم يماشوه في كل ما قال بل

منھم نقدا حاد له وتجاوزا ألقواله ولنظرياته ونحن قل ما نجد ذلك نجدوا عند الكثير

اإليمان األعمى بكل ما يصدر عن أصحاب األسماء الھائلة عند األطباء المسلمين

ھذا اإليمان الذي أصبح بديال للمنھجية العلمية بالنسبة ألغلب مفكري الغرب عھد

ف كفاحه ) وھذا التحرر من قاليلي ( الذي جعل من الحرب ضد التحجر الفكري ھد

الدغمائية في الفكرة ھو الذي نستشفه من قول الرازي " إن الحقيقة في الطب ال

تدرك والعالج بما تصفه الكتب دون أعمال الماھر الحكيم برأيه خطأ " وھو يقصد

بالطبع كتب جالينوس خاصة , كما خالفه الرازي في منھجيته حيث أننا ال نعرف

زج الغريب بين العقلية الماھر الحكيم برأيه خطأ " وھو يقصد عنده ھذا التما

بالطبع كتب جالينوس خاصة , كما خالفه الرازي في منھجيته حيث أننا ال نعرف

عنده ھذا التمازج الغريب بين العقلية العلمية والعقلية الخرافية الذي نجده عند

وائل الذين جربوا العقاقير الطبيب الروماني فھو ال يقول إال بالتجربة وھو من األ

على الحيوان قبل إعطائھا للمرضى فال طقوس عنده وال تعاويذ وال خلط عجيب

وعشوائي بين كل المواد الممكنة وإنما التفكير الموضوعي الذي يحاول الربط بين

علة ودواء محتمل يؤثر على الجسم بصفة مباشرة . فھو خالفا لجالينوس ال يخلط

مراض بل يحاول إثبات خاصيات واستقالل كل مرض رغم تشابه بين األعراض واأل

األعراض وذلك واضح في دراسته التفريقية الشھيرة بين الجدري والحصبى .

وكان ابن سينا الذي نقل كثيرا من أخطاء جالينوس ال يخشى ھو اآلخر من

االستقالل برأيه فيدلي برأي المعلم في القانون مضيفا عند الحاجة " يقول

جالينوس وأقول " ونحن نجد نفس االستقالل والمنھجية العلمية عند ابن زھر الذي

كان أول من حاول الربط بين مرض معين وإصابة محددة في الجسم وذلك واضح

88

في دراسته لرطوبة غشاء القلب وأورام الصدر . ھذا وقد أكد المرار على أھمية

مائية التي ترتكز على صيت التجربة والمالحظة وتفوقھما على اآلراء الدوغ

جالينوس .

وأحسن من ركز بقوة على ھذه النقطة عبد اللطيف البغدادي ( بداية القرن الثاني

عشر ميالدي ) الذي لم يكن يرضى عن التجربة بديال ( الحس حسب تعبيره )

ساخرا من كل العقول الذليلة التي تكتفي بما في كتب جالينوس بدال من االلتجاء إلى

كم الواقع وھذا ما يتضح من خالل نص له : ح

" ومن عجيب ما شاھدناه أن جماعة ممن يتعاطون الطب وصلوا إلى كتاب

التشريح لجالينوس فكان يعسر إفھامھم لقصور القول عن العيان , فأخبرنا أن في

المقس تال عليه رمم كثيرة فخرجنا إليه فشاھدنا من شكل العظام ومفاصلھا وكيفية

لھا وتناسبھا وأوضاعھا ما أفادنا علما ال نستفيده من الكتب أما أنھا سكنت اتصا

عنھا أو ال بقي لفظھا بالداللة عليه أو يكون ما شھدناه مخالفا لما قيل فيھا والحس

أقوى دليال من السمع فإن جالينوس وإن كان في الدرجة العليا من التحري والتحفظ

دق منه " في ما يباشره ويحكيه فإن الحس أص

وھذا التحرر الفكري و االعتماد باألول على التجربة والمالحظة ھو الذي مكن عبد

اللطيف البغدادي من إثبات بعض أخطاء جالينوس كالقول بأن عظم الفك األسفل

عظمان جمعا بمفصل وثيق عند الحنك .

مر فقد رفض البغدادي االستكانة إلى ھذا الرأي بدون التثبت من صحته وھو أ

نعتبره بديھيا في عصرنا الذي سادت فيه المنھجية العلمية إال أنه لم يكن كذلك في

عصور كثر فيه الخشوع أمام األسماء الھائلة والتشبث األعمى بأقوال القدماء

وتفضيل النظرية على التجربة والخلط بين المستوى الخرافي لألمور ومستواھا

الواقعي .

يه رأي المعلم الكبير بأن الحس أصدق منه كما نرى في فالبغدادي ال يخشى من تسف

قوله .

89

" والذي شاھدناه في حال ھذا العظم أنه عظم واحد ليس فيه مفصل وال درز أصال

في أشخاص كثيرين تزيد على ألفي جمجمة في أصناف من االعتبارات فلم نجده إال

ن المرات وما حكيناه " عظما واحدا من كل ما شاھدناه وما اعتبرناه ما شاء هللا م

وقد ماشاه ابن نفيس في نفس االتجاه إذ يقول :

" أما منافع األعضاء فيعتمد في تعريفھا على ما يقتضيه النظر المحقق والبحث

المستقيم وال علينا وافق ذلك رأي من تقدمنا أو خالفه" . ونحن نعلم أن رفض ابن

والقلب والرئتين ھو الذي كان نفيس المبدئي آلراء جالينوس حول وظيفة الكبد

بداية اكتشاف الدورة الدموية الصغرى إذ لم يؤمن بنظريته القائلة بأن الدم ينساب

من البطين األيمن إلى البطين األيسر عبر ثقوب وأن وظيفة الرئتين الرفرفة فوق

القلب لتبريده .

لمون ال تثبت فالمالحظة الموضوعية التي أمن بدورھا الرئيسي كل األطباء المس

وجود ھذه الثقوب و من ثمة وجب إعادة النظر في وظيفة القلب والرئتين وفي ھذا

يقول ابن نفيسة :

" فإن في جرم القلب ھنالك مصمت ليس فيه منفذ ظاھر كما ظنه جماعة ( أي

جالينوس وجماعته ) . فال بد أن يكون ھذا الدم إذا لطف نفذ في الوريد الشرياني

جرمھا ويخالط الھواء ويتصفى الطف ما فيه وينتھي إلى الشريان لينبث في

الوريدي ليصل إلى التجويف األيسر من تجويفي القلب "

وھكذا يظھر من خالل تعامل أكبر األطباء المسلمين مع جالينوس نبراس التراث

اإلغريقي الروماني تحامل الدعوى المبتذلة التي يروج لھا بصفة دورية البعض من

رخي الغرب . فالطب اإلسالمي لم يكن مجرد ثالجة أودع فيھا التراث إلى أن مؤ

تلقته العقول النيرة إبان النھضة األوروبية , بل بالعكس إذ شكل مرحلة عمل

إيجابي خالق واألھم من ھذا أننا نرى بجلية من خالل ھاته العالقة نوعية مساھمته

المي عرف كل شيء أو كان السباق في . فمن المغاالة مثال أن نقول أن الطب اإلس

كل الميادين وھذا ما يدعيه بعض المؤرخين المسلمين الذين يرتكبون الخطأ

90

المعاكس لمؤرخي الغرب وھذه المساھمة تمثلت في تكريس المنھجية العلمية

الصحيحة أي :

رفض االعتماد على صيت األسماء الھائلة في تتبع الحقيقة -

اھر الحكيم برأيه كما يقول الرازي الدعوة إلى أعمال الم -

تفضيل التجربة ألن الحس أصدق من السمع كما يقول عبد اللطيف -

البغدادي

رفض تعميم المعارف المشتقة من الحيوان إلى اإلنسان ومحاولة دراسة -

الجسم اإلنساني مباشرة .

إخضاع النظرية للمعاينة العلمية فإن حصل التوافق قبلت وإن لم يحصل -

ت كما فعل ابن نفيس باإلضافة إلى فكرة التفرغ للطب وحده كما فعل لفظ

ابن زھر , والتركيز على أھمية ونبل الممارسة الجراحية المرتكزة على

معرفة حقيقية لعلم األعضاء كما فعل الزھراوي .

إن األفكار التي تبدو لنا من البديھيات كانت ثورية وجديدة وخالقة , وقد شكلت

شك مساھمة الطب اإلسالمي الحقيقية ورافدا للنھضة األوروبية التي بدون أدنى

مھدت النفجار المعازف الطبية .

فنحن نجد خطا غير متقطع يربط بين دعوة الرازي إلى أعمال الحكيم الماھر برأيه

) الذي أحرق كتب جالينوس وابن سينا في أول درس له 1541وثورة باراسلز (

تمرد ضد التحجر والدغمائية الذي جمد الفكر في الغرب إلى معلمنا بھذا وصول ال

جامعات أوروبا وذلك بعد خمسة قرون من ظھور ھذا التمرد في الفكر اإلسالمي .

كما أننا نجد صلة واضحة بين تعطش عبد اللطيف البغدادي إلى المعرفة الصحيحة

ير فيزال . ( في علم األعضاء ورفضه لتشريح جالينوس والعالم اإليطالي الكب

) الذي ترك كتب جالينوس ليبحث وينقب ويشرح بنفسه كذلك 1514 -1564

) الذي جعل من 1711– 1682نكتشفنفس الصلة بين ابن زھر وبين مورقاني (

المقارنة الدائمة ركيزة الطب لمدة قرون وإخضاع النظرية إلى خصائص األعضاء

نھما . ومحاولة اكتشاف الصلة الموضوعية التي تربط بي

91

وفي الختام أود التذكير بأنه من الغريب أن ھاته المنھجية العلمية الصحيحة التي

تشكل المساھمة الحقيقية للطب اإلسالمي , لم تظھر في الغرب إال لتختفي في

عالمنا إذ تالشت الحرية الفكرية إبان عصور االنحطاط وعاد األطباء المسلمون إلى

ر الخرافي إلى الساحة ... أي أنه حصلت ردة خطيرة كل تراث جامد إلى عودة الفك

تماشت مع كل مظاھر االنحطاط األخرى أدت بنا إلى الوضعية الحالية التي ال يجب

أن تغفل عنھا لحظة والتي نحاول أن نضع لھا حدا . وھذه الوضعية تتلخص في

تخلف المستوى المتردي للحالة الصحية ألغلب الشعوب اإلسالمية والناتجة عن

المجتمع ككل وتخلف القطاع الطبي على وجه الخصوص والغياب الكلي لألطباء

المسلمين من ساحة البحث والتنقيب إبان ھذا القرن الذي مھد له األجداد ولم

يسايره األحقاد .

لذلك أنا أتمنى أن ال تركز على الماضي إال لكي نتعامل مع الحاضر والمستقبل

ا إلى ملتقى يكون موضوعه مستقبل الطب اإلسالمي وكيف بفاعلية أكثر وما أحوجن

نستطيع التعجيل بعودته إلى ساحة البحث والتنقيب لكي يقع الربط بين ماضي

مشرف ومستقبل أشرف , ونحن إذ نتطلع إلى تحقيق ھذا الھدف فليس من باب

صرنا الصراع العقائدي مع ھذا أو ذاك وإنما لكي ال نشعر تجاه من سبقونا بأننا ق

في الرسالة , وخاصة من باب المساھمة الالئقة بنا في مغامرة الفكر البشري

وصراعه ضد الجھل واأللم والمرض .

***

92

من اجل نظرة موضوعية لظاھرة التخلف

والتخلف ھو عودة أخرى إلى ھذه المشكلة التي ھي شغلي الشاغل وكيف ال تكون

المرض العضال الذي يعاني منه مجتمعنا .

من البديھي أن علينا أن نحدد المقياس الذي نقيس به تقدمنا أو تخلفنا . والمقياس

ھذا بطبيعة الحال ھو المستوى الذي توصل إليه الغرب . وقد يقول القائل أن الغرب

أنه ال يمكن أن يشكل ھو اآلخر يتخبط في مشاكل ال عد لھا وال حصر . وبالتالي

نموذجا . واالعتراض صحيح , لكن إلى مدى . فالمجتمع الغربي يعرف مشاكل

عويصة ولكن من مستوى أرفع بكثير من مستوانا , والمھم أننا متخلفون بالنسبة

لتحقيق الھدفين الرئيسيين لكل جماعة بشرية : توفير الحد األقصى من الكرامة

ي مازال عدد كبير من أبناء ھذا الشعب يعانون من والخبز فعلى الصعيد الماد

الخصاصة والحرمان , وھذا أمر ال يقبل ألنه يشكل إھانة جماعية ودليل قصورا في

عمل المجتمع , باإلضافة إلى أنه خطر على تماسك وأمن المجموعة . فمن البديھي

مشكلة أن الضمان األوحد لكرامة ورخاء الفرد ھو كرامة ورخاء المجموعة أما

الكرامة ونوعية العالقات البشرية في مجتمعنا فھي اآلخر قائمة وبحدة متزايدة .

فعالقاتنا مع بعضنا البعض مطبوعة بطابع الغلظة والقسوة والفضاضة واالحتقار ,

إال مع ابن العم والخال والميسور وصاحب (البستون ) ومن بين الخرافات الجميلة

ل بأن المجتمع الغربي مادي بحت والحال أن نسبة التي نلھي بھا أنفسنا القو

التعاضد واالحترام المتبادل والتأدب والضمير المھني أرفع بكثير من مستوى ھذه

الفضائل االجتماعية في بلدنا وجود الفقر إذ وانحطاط العالقات االجتماعية ھما

يبقى أن الظاھرتان الرئيسيتان للمرض االجتماعي والدليل على خلل في عمله .

نحدد األسباب الموضوعية التي ال تجعلنا في مصاف الشعوب الدانمركي أو

السويسري مثال . والتحليل الموضوعي ھو دائما المدخل اإلجباري لحل كافة

المشاكل . بيد أنه يتطلب شجاعة أدبية قلما ترضى خاصة وأنه يبتع إجباريا عن

ظواھر وعوامل التخلف . ما ھي ھذه المواقف الفكرية المبتذلة التي تشكل بدورھا

الظواھر التي يجب نقد وشجب دورھا في نشر التخلف الفكري والمادي ؟

93

التزميري –التفكير التطبيلي -1

مھمة ھذا التفكير الذي تحمل لوائه أجھزة اإلعالم الرسمية التغطية على واقع

لى مستويين . التخلف بالتھريج إلنجازاتنا الحقيقية والخيالية وھو يعمل ع

المستوي التاريخي :

كلكم تعرفون ھذه األبحاث الطويلة العريضة في أمجادا أجدادنا وفضلھم على الغرب

وھمة ھذه األبحاث بطبيعة ھذا الحال تجاوز عقدة نقص متأصلة تجاه الغرب وتجاه

واقعنا المخزي . أنا أشجب شخصيا ھذه الدراسات لألسباب اآلتية:

نشعر بالخجل والعار ألننا صعاليك في سوق الحضارة بعد أن كان المطلوب أن -

األجداد أسيادا فيھا . ھل لشحاذ فضل ألن جده كان ثريا . وھل التذكير بالثورة يعين

على الفقر .

إنھا تغالط وتكذب عندما تصور الماضي كجنة عدن التي طردنا منھا اقرأ وأكتب -

يھيتان : إن عصور الحضارة الزاھرة من أحمد أمين وستتضح لكم حقيقتان بد

الناحية العلمية واألدبية والفلسفية واكبت انحطاط الدولة العباسية وأن ظروف حياة

العربي أو المسلم طيلة ھذه العصور الذھبية المزعومة كانت غاية في القسوة

الشيء الذي يجعلني أقول أنه من الممكن أن العربي لم يعرف طوال تاريخه مماثال

لما نعرفه اآلن من العيش الكريم واألمان وحتى الوحدة .

المستوى المعاصر :

يقع على ھذا المستوى التعتيم على المشاكل وتسليط األضواء على اإلنجازات مع

تضخيمھا والمبالغة فيھا . والقاعدة ھنا ھي المبالغة و اإلسفاف وحتى الكذب

ي كل بلدان العرب يخيل لك أن التأخر الصارخ . فعندما تسمع األبواق الرسمية ف

يلفظ أنفاسه , وقد وصل ھذا النوع من التفكير إلى قمم منقطعة النظير في الغباء و

االستغباء . والمضحك أنه يحاول بكل الصور إقناع المواطن بصحة مبالغاته , لذلك

مثال : تراه يعمد إلى إحدى الحيل الرخيصة : االستشھاد بأقوال " الرجل األبيض "

طلعت علينا صحفنا وتلفزتنا باستشھادات من ھذا النوع كإعجاب نفر من السواح

94

بأثاث غرفتھم الجملية أو كتابة جريدة غريبة مغمورة في إحدى صفحاتھا الداخلية

عن تقدمنا الباھر .

التفكير التبريري :

ذا التفكير ھنا يقع االعتراف بالتخلف المادي و الفكري واألخالقي , لكن مھمة ھ

إلصاق التھمة بعدو رئيسي واحد يحمل وزره أي أنه يتنصل من تبعاتة باعتبار

المجتمع ضحية بشاعة األقالم الرخيصة . يبقى تحديد ھذه البشاعة. ھنا تتضارب

االجتھادات .

االستعمار : لكن لماذا استعمرونا ؟ ھل تستعمر الشعوب العظيمة ؟ -

وقعنا فريسة اإلمبريالية ؟ اإلمبريالية : لكن لماذا -

لكن كيف سمحنا لنظام الحكم بإجھاض طاقاتنا العظيمة إن كانت ! نظام الحكم -

موجودة

طيب لكن عن أي دين تتحدثون : إسالم أبو ذر الغفاري أم !التخلي عن الدين -

د إسالم المتحجرين ؟ وعلى كل بماذا تفسرون االبتعاد عن الدين ؟ فالقول أن االبتعا

عنه سبب التخلف ھو كالقول بأنه لوال المرض لكانت الصحة أي أنه كالم ال يقول

شيئا وزال يفسر شيئا إنما يصف ظاھرة بدون فھم معطياتھا

التفكير العنصري : -3

نحن متخلفون ألننا عرقيا الشعب من طراز أدنى وال أمل يرجى منا ويقول بھذا

ون وھو رأي ال يتطلب ردا وال يستحق تحيال الرأي عنصريو الغرب وأذيالھم المحلي

أو دخوال في نقاش مع أصحابه سكان األحياء الراقية الذين يسموننا بتقزز (

ليزاغاب )

المھم أن كل ھذه المنھجيات ال تفسر شيئا وال تقول شيئا ألن مھمتنا التغطية

شرط أن ال والتبرير والثلب . والمنھجية الوحيدة الممكنة ھي النقد الذاتي على

نجعل منه وسيلة للبكاء والنحيب عل تعاسة حالنا مع يفعل العديد من شعرائنا

المتخلفين بل مدخال موضوعيا إلى التعامل مع واقع نريد تغيره بأسرع وقت ممكن .

لھذا النقد الذاتي إذا شروط أھمھا حسب رأي التقييم الموضوعي الھادئ الرصين

95

ر لنظريات العقائدية وخاصة الغوغائية منھا وتتطلب األمر الذي يتطلب إدارة الظھ

ھذه المنھجية أيضا عدم الدخول في حوار مع التفكير التطبيلي التزميري أو التفكير

العنصري أو التبريدي وإنما اعتباره مظھرا من مظاھر التخلف . واألھم من ھذا أن

اف أكبر عدد ممكن من نعي بأن العلم عندما يتعامل مع ظاھرة ما , فإنه يحاول اكتش

أي أنه ال يتوقف عند سبب واحد ليقول ھنا مكمن –عواملھا وخلفياتھا وأسبابھا

الداء ولكنه يتوغل إلى أبعد من ھذا . فالخاصية المالزمة لطرق التفكير التي

تعرضت لھا ھي أنھا ذات بعد واحد : فالتخلف ھو حتميا نتيجة دناءة عنصرنا أو

تعاد عن الدين فأنت لن تجد فيھا مھما حاولت ال ديناميكية وال غلطة النظام أو االب

ترابط أسباب وال تعدد مستويات الخ .. ومن ثمة فجاجة تحليلھا وبدائيته .

ھل من بديل ؟ الواقع إن عملية تقييم مرض اجتماعي خطير كالتخلف أمر فوق

مال أن ينتبه إلى طاقاتي المحدودة . لذلك فإنني أقدم ھذه األفكار كاجتھادات , أ

خطورة الموضوع الباحثون ممن ھم أوفر مني علما ومقدرة , وأن يساھموا

بقسطھم في الرد على السؤال الھام الذي يواجھه مجتمعنا : لماذا نحن متخلفون .

مستويات التخلف وعوامله

البعد التاريخي : – 1

لفكري . فقد بدأت يتحمل مجتمعنا الحالي ثقل عدة قرون من التخلف المادي وا

نھضة الغرب منذ أربعة قرون على األقل في حين أننا لم نبدأ الحركة إال منذ قرن

تقريبا ( والحق أم جيل آبائنا قد لعب دورا ھائال في إخراج مجتمعنا من التبعية

والتخلف ألنه تحمل جل العبء في المعركة ضد االستعمار فليتقبل ھذا الجيل امتنان

درك أھمية تضحياته ويقدر مجھوداته حق قدرھا ) . يبقى أننا إلى واعتراف شاب ي

حد اآلن لم تقوم أبعاد التركة الفادحة التي تركھا لنا جيل األجداد . كيف ولماذا

تحجر الدين ؟ من المسؤول عن ركود الفكر وخموله ؟ ھل اختفت عوامل التحجر

نحطاطنا الحضاري ؟ والركود التي كادت تقضي على حضارتنا , ما ھي أسباب ا

غياب الشورى ( أفضل ھذه الكلمة العميقة المعنى والفصيحة على كلمة ديمقراطية

. (

96

خنق الفكر الحر باسم الدين ؟ طبيعة العالقات اإلقطاعية في المجتمع ؟ إجھاض

العلم ؟ نحن بحاجة ماسة إلى قراءة جديدة لتاريخنا تكون نقيض القراءة التطبيلية

نينا ألف مرة وتدعم قوتنا وتفتح أعيننا . التزميرية تغ

المھم أن دخولنا متأخرين إلى ميدان الحضاري ليس إال ظاھرة يجب أن نكتشف

أسبابھا .

البعد البيولوجي : – 2

دخلت مجتمعاتنا حلبة الصراع مع المجتمعات المتقدمة وھي تعاني من نقص فادح

في ميدان الطاقات وذلك على مستويين :

ج نصف المجتمع من ساحة اإلنتاج والخلق واإلبداع . بماذا يحتج السلفيون إخرا

من كل حدب وصوب إن اتھمتھم إنھم بتضييقھم على المرأة وإھدار حقوقھا قد

شلوا نصف طاقاتنا . ليتفضلوا بحججھم الخرافية عن كرامة المرأة النظرية

ودية , بنوكا مخصصة عندما أقرأ أن في السع –وليفسروا لي فضلھم على المرأة

للنساء أقول : مھما أخذنا على النظام من مآخذ , فسابقي له مدينا بوقفته الحضارية

في تحرير نصف المجتمع من ربقة عبودية أربعة عشر قرنا . والتحرير ھذا بطبيعة

الحال نسبي لكن ذلك ناتج عن الثقل التاريخي والتركة البغيضة التي ورثناھا

ا التحرر وإعطاؤه كل أبعاد التطبيق الممكنة . فال حرية لإلنسان والمھم تعميق ھذ

إن لم تحرر المرأة كامرأة ثم كعاملة

ضعف المستوى الصحي لشعبنا :

عانى مجتمعنا وال يزال من العديد من األمراض الفتاكة وقد انتبھت إلى خطورة ھذه

الطبية اليومية . الظاھرة وإمكانية دورھا في انحطاطنا الحضاري عبر ممارستي

فمن البديھي أن مجتمعنا يعاني من األمراض الفتاكة ال يمكن أن يتحمل بكفاءة

عبء تغييرات جذرية وخاصة إن انتشرت فيه األمراض الوراثية . فقد شھدت لكثرة

ھذه األمراض في بالدنا مما يجعل شعبنا " يتوفر " على نسبة ھائلة من القاصرين

ھات الوراثية ارتباطھا بزواج األقارب الناتج بدوره عن والمعروف عن ھذه العا

القبلية الجھوية والعشائرية . مثال الحظت أن منطقة ( ق ) تبعث إلى مركز

97

األعصاب بعدد من المرضى المصابين بالعاھات الوراثية أكثر بكثير من منطقة

اطق تخلفا تونس التي تكبرھا مائتي مرة والمعروف أن ھذه المنطقة من أكثر المن

وفقرا . إذن يلعب ھذا العامل دوره في تأصل التخلف الذي يزيد في انتشار المرض

وھكذا ترانا على ھذا الصعيد ندور في حلقة مفرغة ال خروج منھا إال بتغيير

العقليات والتوعية فالصحة كما رددت مرارا أخطر من أن يعھد له على األطباء

وحدھم .

البعد االقتصادي : – 3

أول ما يتبادر إلى الذھن ھو أننا متخلفون ألننا فقراء . لكنني ادعي أننا فقراء ألننا

متخلفون واألمثلة متوفرة في عالمنا على شعوب غنية بالموارد وھي متخلفة (

منھا كثير من البلدان الشقيقة ) وعلى بلدان فقيرة طبيعيا لكنھا خلقت الثروة

ت ھذه األمم الثروة تقريبا من الشيء لكن بفضل كاليابان وكوريا مثال . وقد خلق

عامل أساسي : العمل . الواقع أنك تواجه عندما تريد أن تدرس أسباب تقدم

الشعوب العظمى التي تتحكم في العالم بظاھرة قارة تتشارك فيھا كلھا. فالحضارة

العمل الغربية بشقيھا اليساري ( الماركسية ) واليميني ( الليبرالية ) ھي تقديس

فالكلفينية مثال واللوثرية التي تشكل الخلفية العقائدية للمجتمعات السكندنافية و

االنجلو سكسونية تجعل من العمل واجبا دينيا وتعتبره إحدى الوسائل للخالص . وال

تختلف الماركسية اختالفا جذريا عن اللوثرية من ھذه الناحية إذ تجعل من العمل

مع , واألھمية التي تضيفھا على الطبقة الشغيلة معروفة , القيمة األولى في المجت

وقد عرفت عمق ھذا التمذھب العقائدي البعيد الجذور عند الشعوب الغربية التي

عايشتھا سنين طويلة . بطبيعة الحال ھم أيضا يعرفون العمل الرديء لكن ليس

بالدرجة التي نعرفھا نحن .

المتخلف تبدأ لحظة دخول الطائرة : المضيفة المواجھة مع العمل الرديء لإلنسان

التونسية ال ترى من واجبھا إعانة الراكبة المحملة بأربعة أطفال ورضيع .

تصل إلى تونس وكلك شوق ومحبة وفي قلبك حنان دافق للوطن المقدس فتواجه

بالنظرة الساخطة الغضبى في كل مكان . ليلة أول رمضان نزلت تونس وكنا ما

98

خمسمائة مسافر إذ وصلت ثالث طائرات في نفس الوقت . انتظرنا طويال يقارب ال

في جو خانق . تعالى صراخ األطفال . أغمى على بعض النساء لم تخلص من

اإلجراءات الروتينية إال بعد ثالث ساعات .

تبدأ بعد ذلك قصتك المؤلمة المضحكة مع اإلدارة التونسية بشتى أصنافھا وأنواعھا

ھو مدى الغلظة والفضاضة والخشونة واالحتقار في معاملة المواطنين . الغريب

اللھم إال إذا كنت ابن عم ولد خالة جدة صديق الموظف المحترم . أما البطء فھو

مثال استلمت مرتبي بعد ستة أشھر من العمل وكدت أفقد –أمر يكاد يكون طبيعيا

ريا ال ترى حرجا في ذلك بل أعصابي وأھاجر ووصلت بي الحاجة حدا ال يوصف إدا

ھو شيء طبيعي في نظرھا . أما معضلة األوراق فال نھاية وال حل لھا لكي تأخذ

ورقة يجب أن تكون حاصال على ورقة أخرى تتطلب بدورھا شھادة ثالثة وھكذا ..

إلى حد اآلن لم أنجح في التحصل عل ورقة التعريف ألن شھادة الجنسية التي أتيت

الجنسية بھا كانت ثبوت

( أو العكس ) وكل مرة أضيع نصف نھار في " الصف " وعشرات المرضى في

ذمتي . والتعامل مع العمل الرديء ينبوع ال ينضب واألمثلة باآلالف وكلكم عشتم

عينات منھا . مصعد العمارة التي اضطرت إلى السكن فيھا عاطل ثالثة أرباع الوقت

الجة التي اشتريتھا ال تعمل مما يجعلني أرجعھا . الماء بين الفينة واألخرى . الث

لإلصالح وتعود كما كانت وأمل الجري و االحتجاج. حالة طرقاتنا يرثى لھا .

افتح التلفزة فتقھرني رداءتھا : رداءة البرامج المصرية , رداءات البرامج الغربية

بل وصل إلى . رداءة النشرة : نزل عمرو وطلع زيد , طبل فالن وزمر فالن , تق

المطار , ألقى كلمة عبر فيھا بالمناسبة عن عميق شكره وبالغ تأثره ليلة سالت

رداءة –خالتي وھي امرأة أمية عما فھمته ضحكت قالت ال شي .. رداءة في اإللقاء

تفاھة المواضيع رداءة –اللغة ( الفقھية التي ال يفھمھا ثالثة أرباع الشعب

–المونتاج

ال –ال أستمع إلى نشرة األخبار –آالف الناس أصبحت ال أفتح التلفزة أنا اآلن مثل

أقرأ جريدة تونسية إال بألف احتراز, ال أصدق ما يقوله مسؤول حتى ولو كان

99

صادقا . تلك ھي نتيجة أجھزة ( كيف تسمونھا .. اإلعالم ) بطبيعة الحال أمثلة

لعد حتى ال يطالني القرف وال العمل الرديء ال تحصى وال تعد , لذلك سأتوقف عن ا

يطالكم الوھن .

لماذا : المھم التساؤل عن سبب ھذا العمل الرديء الضارب أطنابه في كل

المستويات . ھنا أيضا تجد أن األسباب عديدة ومتشابكة .

تاريخيا وحضاريا نحن أمة ال تقدس العمل وال نمجده . بطل قصصنا الميثولوجية

شاعر أو عسكري أو عالم في الفقه . تاجر ( ألف ليلة ) أو

ھل رأيتم مرة مسلسال بطله فالح يزرع الصحراء أو عامل كفء يستعمل اآللة

بحنكة وذكاء . ال بالطبع . أبطال مسلسالتنا خريج كلية التجارة والورثة وشعراء

البالط وفرسان هللا .

ھو على حق في ذلك حاليا , مطمح الشاب المتخلف ليس العمل الخالق بل الوظيفة و

فھو يعمل بالمثل الفرنسي : إن كنت تريد أن تربح قوتك فأعمل وإن أردت أن

تستغني فأبحث عن حل آخر لذلك تتساءل عقليتنا لماذا التعب بما أن العمل الخالق

ال يضمن إال الكفاف . كل من يعمل شعاره " مكره أخاك ال بطل " سألت مرة عامال

وأنا أالحظه وھو

ملغص ويبلبز ) في عمل بسيط في داري ( وكان عبوسا قمطريرا غاضبا ناقما ) ( ي

عن ظاھرة العمل الرديء في بلدنا. قال بصراحة : الخالص قلت له : حسب رأيك

ھل العمل الرديء ھو " سابوتاج " مقصود ؟ ابتسم وصمت ...

ا الحديثة وكثيرا أضف إذن إلى الثقل التاريخي شيئا من صعوبة استيعاب التكنولوجي

من الوضعية المادية والمعنوية المزرية للعامل تجد أن النتيجة ھي ھذا العمل

الرديء الذي يشكل مظھرا من مظاھر التخلف وسببا من أسباب بقائه ودوامه .

من البديھي إذن أن الصعوبات المادية وعدم التقدير الكافي الذي يعاني منه العامل

ن واستحالة التعبير عنه بطرق قانونية يجعل من ھذا العمل الخالق والشعور بالغب

الرديء نوعا من االحتجاج الصامت الذي يستحيل تتبعه وعقابه, لكن فداحة الخطب

واضحة والخسارة مكفولة للجميع .

100

مثال : مصنع كذا ال يعطي لعماله التقدير المادي والمعنوي المطلوب و من ثمة

تھالك على السلعة األجنبية –نفور المستھلك التونسي –سوء عمل ورداءة اإلنتاج

خسارة للجميع : العرف والعامل والمستھلك والدولة . لذلك أقول أننا عندما –

نعطي العامل في كل ميدان اعتباره وحقوقه الكاملة فإننا ال نتكرم وال نتفضل وال

خلف . فمن المؤكد نأتي بعمل أخالقي إنما نكفل لمجتمعنا كل حظوظه للخروج من الت

أن مجتمع بال طبقة عاملة خالقة نشيطة يحكم على نفسه باالنتحار على األمد البعيد

. فأما العنف وإما " السابوتاج " وفي كالتا الحالتين قلة في اإلنتاج ورداءة في

المحصول الجماعي .

ية نحن مقدمون على سنوات صعبة جدا بل وأقول حتى على مجاعة عالمية قبل نھا

القرن . يجب أن نضمن إن أردنا أن ال نأكل بعضنا البعض وإذا توخينا أقصى قدر

ممكن من الفعالية آللة اإلنتاج أن نجعل الھدف الشورى والمشاركة والتخطيط

الذكي لألمد البعيد وتقديس العامل والمنتج وخاصة الفالح . ففي ھذا إعادة الفعالية

مكم . فالضمان األوحد لشعبي وشعبكم , ھو أن لقوة اإلنتاج التي ستطعمني وتطع

يتمتع أكبر عدد ممكن منا بالحرية والشبع . خارج ھذا الضمان ال شيء . أما العنف

البدائي فقد جرب مرارا عبر التاريخ ولم يظھر نجاعته .

البعد األخالقي : – 4

قراء الرأي كلنا نعرف أن األمم باألخالق .. إن ذھبت أخالقھم ذھبوا . تعرض أحد

لھزة كتف لھذا البعد جاھال أو متجاھال أھميته .. وتتضح مظاھر أخالق اإلنسان

المتخلف في كل تصرفاته وھذا بغض النظر عن وضعيته المادية والمعنوية .

مثال السياقة في تونس عملية شائكة وخطيرة , آخر إحصائيات تظھر أن نسبة

ا ھو موجود بالغرب . ھل تتصوروا الموتى في حوادث الطرقات ستة أضعاف م

فظاعة ھذا الرقم. لماذا ؟ السبب ھو اإلنسان المتخلف : عدم احترام األولوية ,

السرعة العنفوانية الخ ... ظاھرة الحظناھا كلنا : النرفزة الكالكسون وراء ظھرك

بعنف حال انتقال الضوء إلى األخضر , تجاوز على اليسار والسائق يھددك بقبضة

.. سرعة مجنونة داخل المدينة , عدم احترام المترجل الذي ال يحترم السائق . يده

101

من أغرب التصرفات التي شاھدتھا ( وفضل الغربة أنھا تعلم المالحظة وتمكن من

المقارنة ) إن السائق التونسي يتجاوز بكثير السرعة القانونية وإذا صادف شرطي

أمامه بعشرة كيلومترات في الساعة . المرور تراه يخفض فجأة في السرعة ويمر

ھذا التصرف دليل على نفسية المتخلف الذي ال يحترم القانون وإنما يھاب القوة .

فأي تفسير آخر لھذا التصرف الخانع الذليل . من البديھي أن اإلنسان المتحضر

يسوق بسرعة ثمانين كيلومتر في الطريق وكذلك أمام الشرطي بدون أن يتنبه إليه

يعيره أدنى اھتمام ناھيك عن الخوف منه . أو

مشكلة المشاكل من الناحية األخالقية انعدام حس المواطنية ومن ثمة كل التصرفات

المتخلفة : " الزبلة " في الشارع

" ألن الشارع ليس ألحد " عدم احترام قانون المرور ألن السائق اآلخر ليس

وية والعشائرية وسبب ھذه التصرفات مواطنا بل خصما ,, انتشار القبلية والجھ

الفردية والالمباالة ھو انعدام المشاركة في تسيير شؤون الحياة اليومية.

إن أحسن وسيلة لرفع مستوى المواطنة ھو إفساح المجال لكل الطاقات الحية

للمشاركة ( ومن ثمة للشعور بالمسؤولية) في كل الميادين وعلى رأسھا الميدان

طلوب المسارعة إلى سحب الصبغة السياسية عن االنتخابات البلدية البلدي . فالم

وجعلھا شورية حقا تتداول عليھا الكفاءات والطاقات وتعميم المشاركة في كل

المستويات ( أطفال المدارس لتنظيم المرور .. الموظفون والطلبة والجنود لتنظيف

والمؤسسات للبحث عن الشوارع في إطار حمالت ... حلقات درس في كل اإلدارات

أحسن كيفية لتنظيم العمل, سن نظام الموفق ''االمبودسمان '' السكندنافي ليتلقى

شكايات المواطنين والتوفيق بينھم وبين اإلدارة .. حلقات تفكير للمتثقفين حول

المشاكل المصيرية . تفتح الراديو وأجھزة اإلعالم على كل االتجاھات في إطار

نقاش حر بناء .

من البديھي أن اإلجراءات لتعميم المشاركة كثيرة وأنھا ستمكن من إنضاج الشعب

وخلق مناخ يقلل من كثافة ھذه الفظاظة وھذه الالأخالقية االجتماعية التي تجعلنا

نتعايش وكأننا أعداء وليس أبناء األم المقدسة ... تونس

102

البعد السياسي : – 5

ال ويقول كلھا مشكلة نظام الحكم . اسأل : ماذا ال أناقش أحدا في مشكلة التخلف إ

تقترح إذن ؟ وھنا تبدأ االختالفات : فلكل أحد وصفته السحرية التي ستجعل تونس

جنة الرخاء في أربعة أيام . فھناك الوصفة الحمراء ( الشيوعية ) والسوداء (

لون . وأنا الدينية ) والبيضاء ( البرجوازية ) وبعض الوصفات الھجينة الباھتة ال

أالقى عادة صعوبة في إفھام أصحاب ھذا المنطق إن التخلف أعقد من مشكلة النظام

وأن احترازي من السياسة السياسية ليس نتيجة تواطؤ موضوعي مع نظام معين

بل نتيجة تحليل أعتقده موضوعيا, ورأيي الشخصي يتخلص في النقاط التالية :

حدى المؤشرات على تقدم أو تأخر المجتمع إن نظام الحكم في أي بلد ھو إ – 1

وليس أكثر من ھذا . فمن البديھي أن نظام الحكم في السويد ھو ديمقراطي ألن

حالة المجتمع السويدي ال يمكن أن تفرز وال يمكن أن تقبل إال ھذا النظام وعلى

ز العكس فإن مجتمعنا أفريقيا متخلفا إلى أقصى درجة ال يمكن أن يتمتع أو أن يفر

نظاما مثل ھذا بل ديكتاتورية عيدي أمين أو بوكاسا أو حكومات أقل تأخرا لكنھا

بعيدة كل البعد عن األنظمة المتقدمة .

أن ھناك مغاالة ساذجة في تقييم دور النظام السياسي . خذ أحسن نظام ممكن – 2

من أي ناحية وضعه في المجتمع بالغ التخلف , لن يحقق أي معجزة وسيبقى زمن

تكوين الطبيب أو المھندس ھو نفس الزمن , معنى ھذا أن مركز الثقل الحقيقي في

عملية التطور ھو المجتمع نفسه ال إحدى تشكيالته ومؤسساته مھما بلغت

خطورتھا كالنظام . فمن الواضح أن التقدم يكون ألن المجتمع يفرز عباقرة في

اقات الخالقة فيه ھي التي تحدد األدب والفن والعلم وعماال مھرة الخ ... وإن الط

االتجاه الذي يتخذه تطوره .

صحيح أنه يقع في بعض المراحل من التطور تناقض بين مجتمع له خصائص – 3

وحاجيات ونظام عاجز عن مواكبة الركب والحالة القارة دائما ھي غلبة المجتمع

, عبئوه, اشحنوه وتمزيقه لقميص يضيق عنه , معنى ھذا : خلوا ثقتكم في المجتمع

103

بكل الطاقات , فإن تبع النظام الحركة وقادھا وفر على نفسه وعلى المجتمع مصائب

, وإن أعوزه الذكاء فمصيره التغير أو االختفاء .

ال وجود لنظام مثالي فلكل نظام سياسي حدوده وتناقضاته . خذ مثال نظام -4

ا اعتبرت المرحلة التي يمر بھا الحزب الواحد . أنت ال يمكن أن تحكم عليه إال إذ

وھي إحدى ثالث : مرحلة األبطال ( الذي يخلقون الحركة والتاريخ ) , مرحلة

اإلداريين ( الذين ينظمون اإلنجازات ) , مرحلة االنتھازيين والمتحجرين ( الذين

يتسببون في موت الحزب ). وھذه المراحل الثالث إجبارية ألن الحزب ليس كائنا

أزليا .

خذ اآلن الشورى أو الديمقراطية . من البديھي أنه يمكن ممارستھا على الطريقة

اللبنانية ( شراء أصوات وأحزاب مسلحة ) أو على الطريقة السويدية .

إن اعتبرنا كل ھذه التحفظات , فإنه ال يسعنا إال أن نالحظ أن ھناك قانونا عاما

الديمقراطية و إن البلدان الديمقراطية يقضي بأن البلدان المتقدمة ھي دائما بلدان

ھي دائما متقدمة ( باستثناء حالة شاذة واحدة وھي الھند ) .

والجدير بالذكر أن كل ھذه البلدان لم تصل إلى مثل ھذه األنظمة المتقدمة إال بعد

تجارب ومحن وثورات ونزاعات دموية وال أعرف مثاال عن شعوب اختصرت

المصاعب إال مثال الشعوب السكندنافية وذلك لذكاء الطريق ووفرت على نفسھا

ومھارة وحتى خبث برجوازيتھا التي استطاعت التخطيط للمستقبل وقيادته مع

الحفاظ على مصالحھا , الظاھرة القارة في مثل ھذه األنظمة التي تعايش سلمي بين

دون قطاعات اجتماعية ذات مصالح متشابكة ومتناقضة وقبولھا لفض نزاعاتھا ب

لجوء إلى العنف المدمر والالفعال , في حال أن األنظمة المتأخرة ترفض سحريا

وجود مثل ھذه التناقضات أو تحاول اجتثاثھا بالعنف عبثا ألن التناقضات سواء بين

الطبقات أو األفراد أو الجھات ھي أمر حتمي مرتبط بتركيب المجتمع وحياته . من

قديم الزمان إلى سيطرة العنف والسلطة الفردية الواضح إذن أن تخلفنا راجع منذ

وكبت الطاقات المخالفة في الرأي الخ . ومن الواضح أيضا أن تقدمنا مرتبط ارتباطا

وثيقا بقبول التناقضات االجتماعية وتعلم حلھا بالحوار والنقاش واالحتكام إلى

104

إلى مرحلة التقدم صندوق االقتراع . بيد أن وصولنا إلى ھذه النتيجة مثل وصولنا

بصفة عامة ليس أمرا أوتوماتيكيا كما يظن البعض معتبرين أن المسألة مسألة

وقت . فنحن كقدر تغلي بطبخة شھية لكن مصيرھا مجھول إذ ھناك احتماالت عديدة

:

يمكن أن تنفجر القدر لعدم نجانس المواد التي بداخلھا ( الصراعات -

األھلية العنيفة )

ا قدم جبار فتھشمھا وتھرق ما فيھا ( حرب عالمية ) يمكن أن تدعسھ -

يمكن أن تفسد الطبخة ( فنبقى متخلفين وحتى نرجع القھقرى ) -

يمكن أن تستقيم الطبخة ويطيب أكلھا ( نصبح دانمارك إفريقيا ) -

وقد يتساءل القارئ : إن كانت عوامل التخلف متشابكة ومترابطة ومعقدة إلى ھذا

للفرد أن يؤثر على مصير الطبخة ؟ ومن البديھي أن الفرد ال الحد , فكيف يمكن

يمكن بجرة قلم أن يجعل تونس تتمخض عن آالف العباقرة في الفالحة والصناعة

والطب والھندسة المعمارية وغزو األسواق الخارجية, وال يمكنه أن يھدي الحكام

ارضة تعارض على إلى ممارسة المسؤوليات على الطريق السكندنافية أو يجعل المع

الطريقة البريطانية ألن ھذا النضج مرتبط بتجارب تاريخية مريرة قلما يمكن

تجاوزھا والقفز فوقھا, كما ال يمكنه جعل بلدنا تتوفر على ثروات طائلة يمكن أن

تسھل التقدم وتختصر طريقه .

ي لكن كل ھذه االستحاالت ال تعني أن كل واحد منا عاجز عن لعب دورا ھاما ف

محاربة التخلف بل العكس . فقد قلت أن المعركة الحقيقية ضد التخلف ستربح أو

تخسر في قلب المجتمع . فكلنا : أنا , أنت , نحن , ھم , مسؤولون عن عار التخلف

وقادرون على محاربته من مستوانا المتواضع . مثال أنا أعتقد أننا نستطيع كأفراد

ض الحظوظ الزائدة ألن تستقيم ويطيب مذاقھا , محاربة التخلف وإعطاء الطبخة بع

على ثالث مستويات :

الوعي : كل ما يزيد الوعي يجعلنا نتقدم خطوة , لذلك أنادي أقالمكم يا مفكري

تونس وليكون النقاش في أعلى مستوي

105

( ومن البديھي أنني ال أعني بالمفكرين نخبة المثقفين وإنما كل إنسان يقبل على

المھم أن نبتعد عن الكليشيھات واألفكار المتحجرة الضحلة الرتيبة التي التفكير )

خدرنا بھا عقولنا سنوات وقرون . فتخلفنا أيضا فكري وسنتقدم يوم تتكاثر الكتب

واألبحاث واألفكار المتضاربة من كل حدب وصوب , ورأيي أن نضرب عن البكاء

لتفكير الموضوعي العقالني والنحيب والحماسة والبالغة وأن نرتقي إلى مصاف ا

وأن نجعل من المرح والفكاھة والسخرية وسيلة لمحاربة التخلف الفكري . فأنا

أستمج أسلوب الحزن واأللم واليأس الذي تنضج به كتابات أدبائنا الشبان ألنني ال

أراه فعاال أو إيجابيا , فال سالح أمضى من الفكاھة للقضاء على عيوبنا الشخصية

عية . واالجتما

محاربة الرديء : لو أقنعت قارئا واحدا برفع مستوى عمله اليومي إلى أعلى

مستوى لما أضعت وقتي في كتابة ھذا الكتاب . فأنا أؤمن باألھمية القصوى لھذه

النقطة . فرفع مستوى الخدمات التي نقدمھا للمجتمع ھو أول واعظم واجب وكثيرا

لسياسي ھو الوصول إلى المستشفى على ما رددت لشباب المتحمس أن التزامي ا

الساعة الثامنة كل يوم . والحرب ضد العمل الرديء ال يمكن أن تأتي من فوق

بقرارات وإنما ينبع من إرادة األشخاص . مثال يمكن للمكلفين بالمطار التساؤل عن

أحسن الوسائل لتسھيل مرور المواطنين والضيوف وإعطائھم فكرة مشرفة عن

ن االستقبال كما يمكن المكلفين عن األخبار تقييم نتيجة عملھم والوعي البالد بحس

بأھمية وعمق أزمة الثقة التي يتسبب فيھا العمل االرتجالي .. كما يمكن للمكلفين

باإلدارات تقديم اقتراحات لتحسين عملھم وھكذا . ومن المھم أن ال نسكت على

حسن الخدمات التي نقدمھا العمل الرديء أن نشجبه بمنتھى الصرامة حتى تت

ونتلقاھا . مثال يجب تكوين جمعية الدفاع عن حقوق المستھلكين حتى يعرف المنتج

بسرعة أنه ال يمكن أن يغرق السوق القومية بالمنتوجات الخطرة أو الرديئة وھذا

ما يحملني إلى التعرض إلى النقطة الثالثة .

ا اليومية تتسم بالالمباالة وبانعدام االلتزام الجماعي : قلت أن كثيرا من تصرفاتن

حس المواطنة , ومن ثمة كثير من مظاھر التخلف . والظاھرة التي الحظتھا في

106

المجتمعات المتقدمة ھي أھمية حس المواطنة الذي يتجسد في كثرة الجمعيات

ونشاطاتھا المتخلفة . لذلك أقول أن علينا نحن أيضا أن ننمي حس المواطنة

جتماعي أي بتنمية إحساسنا بدورنا ومكانتنا في المجموعة والعمل بااللتزام اال

سياسي . فالمرء ال يمكن أن يعتبر دوره –داخل أي تنظيم فني أدبي اجتماعي

منتھيا عندما يقصر ھمومه على نفسه ومشاغله الخاصة لذلك أقول : لنتقدم إلى

اربة التخلف على االنتخابات البلدية أو لننخرط أو لنكون مختلف الجمعيات لمح

جبھات معينة متواضعة عوض انتظار الفرج الفجائي والكامل من السماء .

العـــــــــــــــــرب والحــــــــــــــــريــــــــة

أسباب التخلف متعددة ومترابطة ومن ثمة يصعب الفصل بينھا أو تفضيل بعضھا

لندرتھا ضلع كبير في وجود على البعض . لكن من المؤكد أن لغياب الحرية أو

التخلف , في تأصله وفي دوامه . والحرية في بالد العرب ھو المطلب العزيز األوحد

الذي ال زالت جماھيرنا تلھث وراءه منذ قرابة القرن على شكل التحرر من نير

األجنبي ,من الفقر ,من الجھل ,من المرض , من بعض األنظمة التي تدعي أنھا

ية . نبراس الحر

والمالحظ لتاريخ الشعوب ال يمكنه إال أن يسجل أن أكثر الشعوب تقدما ھي التي

تتمتع بأوفر قسط من الحريات (حرية االختيار وحرية التفكير وحرية التعبير الخ

...) والعكس صحيح أي أن الشعوب التي تتخبط في التخلف ھي التي ال تنعم بشيء

دور غياب الحرية في تخلف شعبنا وأمتنا أي منه ومن ثمة يطرح السؤال : ما ھو

في بقائه في منزلة دون منزلة الشعوب واألمم المضاھية لنا .

لنالحظ أوال خصائص الحرية وطبيعتھا في المجتمعات الغربية المتقدمة . سنكتشف

بطبيعة الحال أنھا محدودة وأنھا تخضع في ميدان العمل الصناعي مثال إلى قيود

سنكتشف أنھا ال تعمل إال في إطار محدد ( الديمقراطية البرلمانية في مجحفة , كما

107

ما يخص النظام السياسي ) ومن ثمة فھي ليست الحرية المطلقة التي تصورھا

الفوضويون في بداية القرن التاسع عشر . باإلضافة إلى ھذا فإننا سنالحظ أن

ريات ال يعرفھا عامل المناجم توزيعھا ظالم . فالبرجوازي الغربي يتمتع بعدد من الح

, كما أن المرأة رغم ما يقال عن تحررھا ال زالت تعرف قيودا يجھلھا الرجل .

ألحيان , وقد يدفع اإلنسان الغربي ثمنا الحرية إذن نسبية ونسبية جدا في بعض ا

باھضا لھذه الحرية , كالعزلة والوحدة وتفكك أواصر العائلة والعصبية الجھوية

والقبلية كما يعرفھا العربي .

يبقى رغم كل ھذه التحفظات أن المجتمع الغربي يعرف الحرية وينعم بھا أكثر منا

في الحقيقة ) : حرية التفكير , بكثير على شكلين رئيسيين (وارتباطھما وثيق

وحرية العمل السياسي .

حرية التفكير ھي أول ظاھرة يشده لھا العربي القادم من حضارة الفكر ذي البعد

الواحد وھي حرية ال تقف عند حد . فكل موضوع مطروح للنقاش والجدل :

والتنظيم السياسي المقوالت الدينية , والنظريات الفلسفية , واالكتشافات العلمية ,

الخ ... ويخيل للعربي أن القوم جنوا فھم ال يأتون برأي إال ويوجد من يتصدى له

وقليل منھم من يؤمن بجدية أو أزلية ما يقول . فحركة التفكير ال تھدأ وال تفتر

والنقاش والصراع محتدم على صفحات الكتب , على أعمدة الصحف, في الراديو

العربي يخطئ في تقويمه لطبيعة ھذه الحرية إن لم يفھم أنھا والتلفزة الخ ... لكن

نتيجة صراع ھائل دام عدة قرون بين الحرية والفكر ذي البعد الواحد , وتكفي عادة

نظرة خاطفة على تاريخ الغرب لتقدير أھمية ھذا الصراع .

لذي فقد عرف الغرب ھو اآلخر إبان العصور الوسطى فترة الفكر ذي البعد الواحد ا

كان يضع الحياة في إطار قالب جامد متحجر غير قابل للتجديد أو التحسين , قالب

يرتكز على الفكر الكھنوتي الذي جعل من نفسه وصيا على الحاجة الدينية وعلى

سلطة الفالسفة األقدمين ( وعلى رأسھم أرسطو ) الذين أوقف الفكر المتحجر تطور

بع أن ھذا الفكر المتحجر كان في خدمة طبقة العلم عند مقوالتھم, مع العلم بالط

108

معينة أخذت على عاتقھا مھمة الدفاع عن تصورات تتماشى مع مصالحھا أي مع

تمتعھا بسلطة تكاد تكون مطلقة في الميدان السياسي واالقتصادي والروحاني .

لكن كل محاوالت ھذه الطبقة لحشر مظاھر العالم وحياة المجتمع داخل إطارھا

د لم تثبت أمام التغييرات الھائلة التي أخذت تعصف بالفكر الغربي تحت تأثير الجام

عوامل متعددة منھا تأثير الفكر العربي اإلسالمي وانطالقة الطبقة البرجوازية

الرافضة لقيم ومفاھيم الطبقة األرستقراطية والكھنوتية السائدة .

البعد الواحد ملحمة قرون وقد كانت معركة التحرر الفكري ضد الفكر المتحجر ذي

النھضة , وألجلھا وبھا كانت ھذه النھضة. فنحن نعلم أن أول معركة مصيرية في

) المتنطع 1616إطار ھذا الصراع الجبار وقعت بين قاليلي والفكر الكھنوتي ( سنة

للنقص العلمي الصارخ للتصورات الدينية الواردة في اإلنجيل . وانتصر قاليلي على

أوربان الثامن وغزت التصورات العلمية للكون الفكر وأصبحت بال شريك أو البابا

منازع , كما ھدم قاليلي ما بقي شامخا من صرخ أرسطو ووقف الطبيب باراسلز

يوما على منصة جامعة بال ليحرق كتب ابن سينا وقالينوس داعيا الطلبة إلى الكف

لفكر والفكر وحده . ثم تتالت عن االجترار وحفظ علم األقدمين و االعتماد على ا

الضربات القاضية يسددھا ھذا الفكر اليافع إلى اإلطار المتحجر فوضعت كل

التصورات الدينية والفلسفية والعلمية تحت مجھر المنھجية العلمية وسن

اإلنجليزي فرانسيس بايكون قانونه الشھير :ال يمكن إمالء إرادتنا على الطبيعة

نينھا . ومن ثمة أصبح الھاجس األوحد للفكر الغربي اكتشاف طالما لم تخضع لقوا

القوانين الموضوعية للكون للتحكم فيھا بدون اعتبار ألي معيار غير معيار الحقيقة

الموضوعية . وغرق في خضم ھذه األبحاث التراث الكھنوتي وجبروت أرسطو

نشوء واالرتقاء وجالينوس , ولم يقف ھذا الفكر عند حاجز أو حد فكانت نظرية ال

لداروين التي نقضت ما بقى من تصورات اإلنجيل لإلنسان ثم جاء كارل ماركس

ليرفض بدوره اإليديولوجية البرجوازية السائدة وخالف اينشتاين آراء نيوتن في

الفيزياء وجاء فرويد بنظريته في علم النفس التي أدخلت تحويرا جذريا على

ا نجد أن األفكار والنظريات ما انفكت تتصارع التصور المعاصر لإلنسان . وھكذ

109

وتتالطم وكأنھا أمواج بحر ھائج ( في حين كان مستنفع الفكر العربي بعرف ھدوء

البحر الميت ) .

بطبيعة الحال ال ولن تفتر ھذه الحركة الفكرية المجنونة التي أطلقھا من عقالھا

المضحك أن ترى ھؤالء جاليلي وكبلر وداروين وكارل ماركس وفرويد , بل ومن

العظام ضحية الحرية التي نادوا بھا وأعطوھا كل فرصھا, فال يمر يوم إال ويوجد

من يكتب وينقد ويتجاوز آراءھم .

ومن الطبيعي كذلك أن ھذه الحركة المحمومة عرفت محنا كبرى وتجاوزتھا

خصائص بصعوبات كبيرة . فالفكر المتحجر ذو البعد الواحد ھو خاصية الزمة من

الفكر البشري ومن ثمة يستحيل التغلب عليه كليا أو تجاوزه بسھولة . فقد دفع

العلماء والفالسفة في الغرب ثمنا ھائال للحرية . فمن المعروف أن جاليلي قضى

, وأن 1600آخر أيام حياته في السجون وأن جيوردانو برونو أحرق بروما سنة

نة قبل نشر اكتشافاته العلمية التي كانت كوبرنيك اضطر إلى االنتظار أربعين س

تنقض آراء األقدمين في الكون , كما ھاجر الفيلسوف الفرنسي ديكارت إلى ھولندا

خوفا من القمع وعانى داروين من تھجمات رجال الكنيسة ما عانى الخ ... ومع ذلك

الفكر فقد انتصرت الحرية الفكرية في الغرب وغدت من األشياء المسلم بھا وتراجع

المتحجر . ومن البديھي أن ھذه الحرة الفكرية لم تر النور في إطار صراع فكري

بحت بل في إطار سياسي اجتماعي , إذ ال يجب أن ننسى مقولة لويس التوسر

الشھيرة إن الصراعات النظرية ما ھي في الواقع إال صراعات سياسية في الميدان

رستقراطية بالتفكير الكھنوتي والقديم , النظري ومن ثمة نفھم ارتباط الطبقة األ

وكذلك ارتباط الطبقة البرجوازية بالفكر المتحرر ألنه كان الضمان والحجة النظرية

لمطالبتنا بحرية التجارة ونصيبھا في السلطة الخ ... ومن ثمة نستطيع الربط من

جھة بين التفكير المتحجر وتركيبة اجتماعية سياسية لمجتمع محافظ يرفض

لحركة والتطور , وبين التفكير المتحرر ومجتمع ال يقول إال بالحركة والتطور . ا

فلكل مجتمع إذن نظامه الفكري الذي يعكس اختياراته ومواقفه ولكل نوع من

التفكيرين المتحجر والمتحرر مجتمع يتماشى معه ويترجم اختياراته . ال غرابة إذن

110

ني على الحركية الدائمة نظامه أو بنيته أن يترجم المجتمع البرجوازي الغربي المب

الفوقية الفكرية إلى تشكيالت سياسية متضاربة تتزاحم لقيادته. فديدن ھذا المجتمع

وشعاره : البقاء لألفضل . البقاء للنظريات التي تصمد أمام النقد العلمي والتي

ن تحكم تخضع لقانون فرانسيس بايكون , البقاء لألحزاب التي تستطيع أن تقنع وأ

والشعب يصفى في عالم السياسة مثلما تصفى التجربة العلمية في عالم النظريات

ومن ثمة التتابع السريع ( والمتصاعد السرعة ) لألفكار ولألحزاب في مثل ھذه

المجتمعات .

ماذا عنا نحن العرب بالمقارنة

اسية التي من الواضح أننا ال نعرف إال الضئيل من ھذه الحرية الفكرية والسي

يعرفھا المجتمع الغربي . فعلى صعيد الفكر نحن في بداية المعركة التي ربحھا الفكر

من تاريخھم . فھناك جملة من المقوالت 1600المتحرر ھناك , نحن حاليا في سنة

الدينية والفلسفية والسياسية لھا كل صبغة القدسية , وال يمكن التحرر إال في

الذي يتحرك في ھذا اإلطار مجبر على التعامل معھا بمنتھى إطارھا . والفكر الحر

الحذر ألن إمكانيات الحركة قليلة , واألرضية ملغومة . فھناك برج مراقبة الفكر

الديني الرجعي المستعد لتتبع كل فكر ال يسبح بحمده وھناك عقبات التراث المقدس

ه ... الذي يجب أن تشحذ المھم إلثبات أولوية ال لنقده وتجاوز

بطبيعة الحال نعكس نظمنا السياسية ھذه البيئة الفكرية فيما أنه ال وجود إال لحقيقة

واحدة أزلية ال يجوز الخوض فيھا , وبما أنه ليس في اإلمكان أبدع مما كان , وبما

أن خالص اإلنسان في التسليم واالستسالم ( حسب مقولة التيار الديني الرجعي )

كون لنا إال إيديولوجية سياسية واحدة وحزب واحد وزعيم فمن الطبيعي أن ال ت

واحد الخ ...

وھنا يعھد إلى الفكر بمھمة التدليل والتبرير واإلثبات أي بحشر كل مظاھر العلم

والحياة في اإلطار المتحجر . مثال يسخر الفكر إلعادة قراءة التراث حسب المفاھيم

ت قرآنية معينة حتى تبرز أسبقية القرآن العصرية لتحميله ماال يطيق أو تأويل آيا

في التنبؤ بغزو القمر أو باكتشاف الذرة , كما يقع تقييم كل االكتشافات العلمية التي

111

كانت حصيلة حركية الفكر المتحرر , حسب النظرة القديمة , أو يعھد للفكر بمھمة

سوى التصدي لكل ھذه االكتشافات باسم مواقف وآراء ال دليل على فضيلتھا

ادعائھا بذلك .

ومن البديھي أن ھذا التفكير السطحي السجين ال يمكن أن يشارك في تطور الحركة

العلمية ألن ھذه الحركة ال تكون إال بمطلق الحرية وھو نقيضھا , ومما ال غرابة

فيه أن يتمخض ھذا الفكر أو أن يكون الحجة النظرية لألنظمة السياسية ذات البعد

قلية واحدة والترابط بديھي ووثيق . الواحد . فالع

خالصة القول أن مشكلة عالمنا العربي تتخلص في كون الفكر مقيدا وفي كون

محدودا بأحادية الفكر والتنفيذ .

والمشكلة بطبيعة الحال ال تتعلق بالأخالقية ھذا النوع من التفكير ومن التنظيم بقدر

ما ھي تتعلق بفعاليته .

تحجر والتنظيم السياسي الذي يترجم له ھما من خصائص مجتمع قلت أن الفكر الم

ھدفه الحفاظ على تركيبته الفكرية الغيبية وعلى مكاسبه الخيالية وعلى توزيع

معين للسلطة والخيرات , كما حاولت أن أظھر أن مجتمعا حركيا يتطور بسرعة ال

القرارات وتوزيعا يمكن إال أن يمارس حرية التفكير وطريقة ديمقراطية في اتخاذ

أكثر عدال للحقوق والواجبات . وھذه مالحظات موضوعية بديھية ال دخل فيھا

للحكم المعياري أي أن على التفكير الموضوعي مالحظة طبيعة المرحلة التي يمر

بھا المجتمع ووصف العالقة التي تربط بين تنظيمه وتفكيره , معنى ھذا أن الفكر

تصار لھذا التنظيم أو ذاك . وكل ما يسعه أن يقول ھو الموضوعي غير مطالب باالن

أن مجتمعا متجمدا بحاجة إلى فكر متجمد أو أن الفكر المتجمد ال يكون إال أين يكون

المجتمع المتجمد .

ومشكلة العالم العربي ھو أنه يريد التقدم بفكر وتنظيم المجتمع المتحجر. ھو يريد

لطمأنينة الفكرية التي يوفرھا الفكر المتحجر الربح على الصعيدين : االحتفاظ با

واالنضباط المفروض من طرف نظام ھرمي مع الحصول على المكاسب الفكرية

والمادية التي يكلفھا الفكر المتحرر . والربح على الجبھتين بطبيعة الحال مستحيل .

112

د وبأنظمة وقد يقول قائل : لكننا نتقدم فعال يوما بعد يوم بتفكيرنا ذي البعد الواح

الحقيقة الواحدة والحزب الواحد والرجل الواحد الخ...

وھذا صحيح . لكنه تقدم بطئ صعب . نحن كمن يدخل سباقا وفي رجليه أغالل

ويتعجب لماذا يفوز خصومه بقصب السباق ولماذا تزداد الھوة اتساعا كلما زاد ھو

قيود . في سرعته . السبب واضح ھم يجرون بدون قيود , نحن نجري ب

ھم يضعون كل أفكارھم محل الشك والنقد , ھم يراجعون مفاھيمھم دائما وأبدا , ھم

ال يقدرون إال المجدد والخالق والمبدع , نحن ال نقبل كلمة نقد واحدة نسارع إلى

اتھام كل مفكر حر بأنه كذا وكذا ( راجع قواميس الشتائم العربية ) نحن ال نقدر إال

ت أن القرآن أول كتاب علم وأن تراثنا ھو أعظم تراث وأن من يسخر قلمه إلثبا

أفضلنا على الدنيا كبير إلى آخره , ھم يريدون اكتشاف القوانين للخضوع إليھا

ومن ثمة للتحكم فيھا ونحن نريد إخضاع قوانين الكون لتصورات أجدادنا , ھم

ومن ثمة ھذا يضعون تراثھم في خدمة القرن , ونحن نخدم التراث باكتشاف القرن

الفرق الشاسع المخيف بين ما يكتشفون وما نكتشف .

على الصعيد السياسي والتنظيمي نحن مضطرون للعيش في إطار نظام ھرمي يفكر

دماغ واحد فيه ثم يأمر فتنفذ القاعدة والدماغ األوحد مھما كان ھو دماغ واحد

حتوى الكل , أي لندعي معرض للخطأ . لذلك سترانا نجند الفكر لالدعاء بأنه جزء ا

أنه يضاھي كل األدمغة الموجودة في إطار المجتمع .

خذ اآلن المجتمع الحركي . ھو يدرك بطبيعة الحال أن مثل ھذا التنظيم ال يصلح إال

للحفاظ على حالة جمود أما وقد اختار الحركة والفعالية , فمن الطبيعي أن يعھد إلى

م وتوزيع المسؤوليات في المجتمعات الحركية تنظيم أفقي لألدمغة . تقنية الحك

أن األدمغة كالبطاريات : أضف دماغا ثان ثم ثالث –تفترض وھي مصيبة في ھذا

ورابع وھكذا يكون الحاصل قوة فكرية تفوق بكثير قوة كل دماغ معزول , ومن ثمة

د فإن ھذا المجتمع الباحث عن أقصى الفعالية يفرز تنظيمات تكفل إدماج أكبر عد

ممكن من األدمغة للتفكير والتخطيط والتنفيذ . لذلك سترى توزيعا يجھله التنظيم

الھرمي للسلطات ( السلطة البلدية والجھوية والقضائية والصحفية ... الخ ... )

113

ومن ثمة نجاعة وفعالية ھذه المجتمعات التي تجھل ثقل ومركزية وأخطاء (

وصعوبة التصحيح ) التنظيم الھرمي ...

لخيار إذن واضح : إذا أردنا ( وھو اختيار ممكن ) الجمود والتحجر فالوسائل ا

معروفة والمثل ھو يمن اإلمام أحمد, أما إذا أردنا الدخول إلى حلبة السباق مع األمم

الكبرى التي تحكم العالم أي إذا أردنا أن يكون ألطفالنا نصيب في عالم القرن الواحد

ة فالحرية ثم الحرية . والعشرين فالحل ھو : الحري

* حرية التفكير بدون قيد وال شرط واعتبار الحقيقة الموضوعية ھي الغربال الذي

سيصفي مختلف اآلراء والنظريات .

* حرية التنظيم السياسي واشراك أكبر عدد ممكن من األدمغة في عملية التخطيط

والتنفيذ ومن مظاھرھا :

يار الممثلين ومحاسبتھم . الحرية على الصعيد البلدي في اخت -

الحرية على الصعيد الجھوي والجھة ھي حسب رأيي الوحدة الطبيعية لكل -

عمل إنمائي .

الحرية على الصعيد الوطني : حرية الكالم واالجتماع واختيار رئيس -

المجموعة .

حرية تكوين الجمعيات بدون قيد أو شرط . -

ت الجبارة التي خنقھا ويخنقھا التفكير ذو بحرية التفكير والتنظيم سنطلق إذن الطاقا

البعد الواحد والتنظيم الھرمي , وبھذه الحرية التي مكنت الغرب من اللحاق بنا

وتركنا وراءه قرونا عديدة , سنستعيد مكانتنا كأمة عظمى يكون لھا شرف

المساھمة في حضارة األجيال المقبلة .

نف والرداءة وقد نضيف إلى أربعة وإن لم نتعض ؟ سنبقى نعاني من الكبت والع

قرون من التخلف ... قرنا آخر ... لكن ھذا غير وارد ألن أصحاب التفكير المتحجر

والتنظيم الھرمي ال يستطيعون عزلنا في جزيرة . نحن لحسن الحظ في خضم عالم

متحرك وفي إطار إيديولوجية عالمية ال تقول إال بالحركة وقانون الحركة ... الحرية

ونحن منھا على قاب قوسين أو أدنى .

114

تعـــــــــــاليـــــــــــــق وردود

أثارت ھذه المقاالت التي نشرت في جريدة الرأي التونسية ردود فعل عديدة وفي

بعض األحيان عنيفة وكانت مصدر نقاش دام على صفحات ھذه الجريدة قرابة

قسم يؤيد ما ذھبت إليه وقسم العامين وقد انقسمت مواقف القراء إلى قسمين ,

يرفض ھذه التحاليل ألسباب متنوعة . وقد رأيت إثراء لنقاش أن أنشر في ھذا

الكتاب آراء القسم األخير , أما ألنھا تعكس مواقف شائعة جدا وأما ألنھا تصحح

بعض أخطائي أو تعطي للنقاش بعدا أعمق .

أن أعيد تحديد مواقفي بإيجاز وقد يبقي أنني أود قبل إعطاء الكلمة للقراء األفاضل

وقع تفسير الكثير منھا غلطا .

) التخلف بالنسبة لماذا ؟ : خالفا لما اعتقده البعض , ال أعتبر أن الغرب نموذج 1

يحتذى به وقد ركزت على ھذا بما فيه الكفاية . نحن متخلفون حقا بالقياس إلى

عدل الحياة المرتفع , نسبة األميين اإلنجازات الموضوعية التي حققھا ھذا الغرب ( م

المنخفضة , الخ ... ) لكننا متخلفون خاصة بالنسبة لألھداف التي لم ينجح حتى

الغرب في تحقيقھا ( المجتمع األخوى المسالم مثال ) .

) السلطة : عاب عليه كثير من القراء القول بأن األنظمة السياسية ليست 2

أن مسؤوليتھا ليست باھضة وأقول : أنا لست المسؤولة األولى عن التخلف أو

مدافعا عن األنظمة لكنني ال أؤمن بأن ھناك سببا واحدا وراء كارثة حضارية مثل

التخلف . فاألسباب متشابكة : اقتصادية , أخالقية , فكرية الخ ... ومن ثمة فاألنظمة

ر عالقات نفسھا حصيلة ھذه العوامل الموضوعية تتأثر بھا وتأثر عليھا في إطا

جدلية بالغة التعقيد , لذلك على كل نظرية موضوعية لتخلف أن تعتبر كل العوامل

ومن جملتھا األنظمة , وان تحاول اكتشاف الصالت المعقدة والديناميكية التي

تربطھا ببعضھا البعض ومن الصحيح أن الشعوب المتخلفة تفرز أنظمة متخلفة

تحررة تحاول بھا تجاوز تخلفھا . لكنھا ككل جسم حي تفرز أيضا أنظمة م

115

116

) الدين :3

ھو حقا قوام الشخصية العربية اإلسالمية وعمادھا ومن ثمة نحن ال نستطيع أن

نبني أي صرح طالما لم نعتبر ھذه الدعامة يبقى أن التيار الرجعي المحافظ الذي

العبودية قتل الحالج ونكل بعبد الحميد الكاتب وابن المقفع وشرد ابن رشد وفرض

على نصف المجتمع , ووقف على نفسه تفسير الثورة المحمدية , أقول أن ھذا

التيار ھو المسؤول عن انحطاط اإلسالم . ومن عالمات دھائه ھذا الخلط الذي

يفرضه علينا بينه وبين اإلسالم وھذا الفخ الذي يحاول أن يوقع فيه الفكر المتحرر

م . أنا بالطبع ال أخلط بين اإلسالم وشكله المتحجر : تتھجم علينا فتتھجم على اإلسال

ومقولتي تتلخص فيما يلي : لنغلب االجتھاد على االجترار , لنعد إلى النقاش أين

تركه المعتزلة .

كما فعل –) التراث : ھل من المعقول أن نغالي في التعلق به إلى درجة االدعاء 4

اسمه الحقيقي ابن الزبير . أنا ال أنقد أحدھم أننا اكتشفنا شيء وأن شكسبير عربي

عقدة التراث , وھي في الواقع عقدتان : عقدة نقص تجاه الغرب المنتصر

المتعجرف ومن ثمة المباھاة الطفالنية بأمجاد األجداد وبفضلھم العظيم على ھذا

الغرب . وعقدة نقص تجاه ھؤالء األجداد الذين نجحوا أين أخفقنا حيث فرضوا على

م احترامھم بينما نحن نعيش في عالم ال يقيم لنا وزنا , ومن ثمة المغاالة في العال

تقييم التراث حتى أن البعض يقرأون كتب الطب القديم الكتشاف وصفات صالحة

لعصرنا ھذا وأقول حان الوقت للتخلص من عقدة النقص ومن عالمات تجاوز ھذه

وأخيرا وليس آخرا : مواجھة العقدة التقييم الموضوعي واالبتعاد عن اإلسفاف

الغرب في ھذا الزمان والدخول معه في منافسة شريفة من أجل تجديد تراث

البشرية خدمة لھا وللفكر . يبقي أن النقاش وإن كان حادا أظھر جدواه وفعاليته

وشكل في حد ذاته ظاھرة إيجابية في إطار حياة فكرية تأبى صراع األفكار

ياة فكرية متخلفة . وتتحاشاه أي في إطار ح

***

117

118

المستقبــــــــــــــل المنثـــــــــــــود

119

األمــــم وصـــراع البقــــاء

الحرب في كل مكان , في آسيا في إفريقيا في أمريكا الالتينية . ال تنطفئ نارھا في

العشرية األخيرة ( وصدى قنابل الحرب العالمية أرض إال لتشتعل في أخرى . إبان

الثانية الزال يرن في اآلذان والضمائر ) رأينا لبنان يحتضر . فيتنام تحت القنابل .

رمال الصحراء الغربية تتضرج بالدماء قوات الكومندوس الروديزية تسحق

تأھب على مخيمات الالجئين في زمبيا . أثيوبيا في حالة صراع . القوات الروسية ت

الحدود الصينية . القوات الصينية تتأھب على الحدود الفيتنامية . ميزانيات التسلح

في كل بلدان العالم في تصاعد رھيب في حين أنه يمكن إطعام واسكان وتعليم

وعالج كل سكان العالم بنصف االعتمادات المخصصة له . قوى التدمير الذرية

وم على رؤوسنا كافية لتدمير األرض ومن المسلطة أربع وعشرين ساعة في الي

عليھا أربعين مرة . البشرية على فوھة بركان .

نقرأ ونسمع ھذه األخبار فنتعمد الالمباالة . نفتعل النسيان . نعتذر بالعجز . نرفض

تصور الكارثة . نسد آذاننا . نغلق أعيننا . ندير ظھورنا للواقع حتى ال نفكر . حتى

ھذه األخبار , حتى ال يصيبنا مس من الجنون . ال نعي بما تعنيه

ھل السالم موجود على األقل أي ال توجد الحرب ؟ بالطبع ال . فالفئات االجتماعية

في حالة صراع حاد أو مزمن داخل الوطن الواحد .

محتشدات اليمينين مليئة بأھل اليسار في شيلي واألرجنتين ومحتشدات اليسار

ي فيتنام وكمبوديا . أما القمع فواحد والشتابه مطلق بين مليئة بأھل اليمين ف

الجلديين و آالت التعذيب .

نعم السلم االجتماعية في أغلب األماكن ليست إال حالة مؤقتة مفروضة بقوة السالح

وتوازنا مھددا طول الوقت بالثورات واالنتفاضات . تضطرني ھذه الخواطر المقلقة

ة والتساؤل , ما الفائدة من الطب أو تعليم الناس إلى مواجھة الحقيقة المخيف

االحتراز من الجرائم والحماة والطفيليات وسموم التلوث والحال أننا مھددون كلنا

بالموت العنيف ؟

120

أليست الحرب وباء ال يماثله وباء ؟ ألم يمت خمسون مليون نسمة إبان الحرب

يا القنابل ؟العالمية األخيرة في ظرف خمس سنوات بالرصاص وشظا

أال يتوقع أصحاب الحل والعقد من سياسيين وعسكريين أن الحرب المقبلة ستقضي

في األيام األولى على نصف البشرية ؟

أليس اإلنسان أكبر خطر يھدد صحة وحياة اإلنسان ؟

والرد بالنسبة لي على ھذه األسئلة أساسي لوضع األمور في نصابھا وليس مجرد

أؤمن بأن اإلنسان ھو حاليا أخطر العوامل التي تتھدد صحة سفسطة . نعم أنا

اإلنسان النفسية والجسمية أو على األصح أن غريزة الكنف المتمكنة من أعماقه

ھي مصدر خطر داھم يتھدد كل واحد منا . ھل فكرنا في معنى العنف ودوره كتعبير

غ في عصرنا ھذا عن أقوى غريزة : غريزة حب السيطرة والتملك ؟ ھل ندرك أنه بل

ذروته ؟

ماذا نستنتج من القانون التاريخي القائل بأن فترات السالم ھي فترات ال حرب أي

أنھا مجرد مراحل تعقب أو تسبق حربا ما وأن اإلنسان ما اكتشف سالحا إال

واستعمله مھما كانت النتائج ؟

ثة المدمرة التي ألسنا حاليا أمام خيار مصيري تفرضه علينا نوعية األسلحة الحدي

اخترعھا اإلنسان : القضاء على العنف أو قضاء العنف علينا ؟

ومن ثمة فأول سؤال يعترضنا ھو معنى تواجد ھذا العنف , وأسبابه . ھل اإلنسان

عنيف بطبعه , أما ھل ھو مجبر عليه نظرا لظروف قاھرة ؟

لى ظروف اإلنسانية وال يكون الرد على مثل ھذا السؤال الحيوي إال إذا تعرضنا إ

الموضوعية .

فاإلنسان مضطر منذ البداية كما ھو معروف إلى االنصھار في بوتقة الجماعة التي

ال تكون الحياة بدونھا , والجماعات اإلنسانية مضطرة منذ البداية نظرا لقلة الموارد

ن المترتبة عن الجھل والفقر والتخلف إلى التصارع المتالك أكبر مساحة ممكنة م

األرض لتنعم بخيرات أقل ما يقال عنھا أنھا ضرورية وحيوية . وقد تغيرت تركيبة

الجماعات عبر التاريخ إذ انتقلت من طور المجموعة الضيقة إلى طور القبيلة ثم

121

إلى طور الشعب فاألمة . لكن عالقة الصراع بين مختلف األطراف المتنازعة على

ودموية بمر القرون . والمالحظ من دراسة امتالك األرض لم تتغير بل ازدادت حدة

موضوعية لتاريخ أن ھناك بعض القوانين العامة التي يمكن للكل قبولھا بغض

النظر عن االنتماء إلى ھذه العقيدة أو تلك والتي تحدد كيفية عمل العنف وأھدافه

تتكون الجماعات البشرية قبائل أو شعوبا أو أمما بالحرب . ھل أنا بحاجة )1

التذكير بأن صورة عالمنا المعاصر (أي التقسيم الحالي لألرض بين إلى

الشعوب واألمم ) ھي نتيجة الحروب والصراعات السابقة وأنھا صورة

لتوازن القوى الحالي بين مختلف المجتمعات المتنازعة والمتناحرة وأن

الوضعية قابلة لتغير الجذري بالحرب . ألسنا محقين في تساؤلنا : ھل

ل الصين بامتالك روسيا ألراضي سيبيريا الشاسعة والخالية تقريبا ستقب

من السكان بينما تعاني من الضغط السكني داخل حدودھا الحالية المتزايد

يوما بعد يوم ؟ ھل سيقبل الغرب بامتالك العرب لثروات البترولية الھائلة

روسيا التي ال يستطيع االستغناء عنھا ؟ ھل ستتعايش القوتان العظميان

وأمريكا بسالم أبد الدھر أم ھل سيحاول أحد البلدين تغيير الوضعية

لصالحه بالحرب ؟ أال يعلمنا التاريخ أن روما لم ترض بھزيمة قرطاج

بديال وإن فترات السلم بين الروم والفرس لم تكن إال فترات مؤقتة تتلو

نشاھد حربا وتسبق أخر . من يضمن لنا أن السيناريو لن يتكرر؟ أال

يوميا تفاقم التناقضات وتكاثر الحروب األھلية واإلقليمية وآثار الحرب

العالمية األخيرة لم تنمح بعد ؟

تطمح كل جماعة إلى توسيع الرقعة األرضية المسماة بالوطن بكيفية )2

مباشرة ( االحتالل ) أو بكيفية غير مباشرة ( االستعمار الثقافي أو

تملك إال عمال بالقول المأثور " مكره أخاك ال االقتصادي ) وال تقنع بما

بطل"

يشكل الغزو العسكري ظاھرة تاريخية قارة مارستھا كل الجماعات بدون )3

استثناء مما يجعلنا نقر بأن الحكم المعياري على الحرب كتحميل اآلخرين

122

وزرھا أو شجبھا بصفة عامة غير فعاال وال يعني شيئا ألن الحرب

القة له بإرادة اإلنسان . ال أعني بالطبع أنھا عملية كالموت واقع ال ع

أخالقية ومشروعة أو أنه يجب تبريرھا بل أقول أنھا قوة داھمة تفرضھا

عوامل بيولوجية اقتصادية قاھرة أي أنھا تنتمي في الواقع إلى منطقة ما

وراء األخالق .

) على يفصل الصراع بين الغزاة وضحايا الغزو ( وھم عادة غزاة قدامى )4

امتالك أرض حسب ثالثة سيناريوھات :

أولھا إبادة الجماعة المغزوة عن بكرة أبيھا ( كإبادة األوروبيين للھنود الحمر

عند استعمارھم ألمريكا ) أو اندماج الغزاة المغزوين بعد فترة طويلة من

التعايش السلمي والالسلمي في قالب شعب واحد ( نشأة األمة العربية بھذه

ريقة ) أو تغير ميزان القوة لصالح المغزوين وطردھم للغزاة عاجال أو آجال الط

( طرد العرب لصليبيين وطرد االسبان للعرب )

يتطلب الحفاظ على األرض المغزوة سابقا والمھددة دائما كثيرا من الحذر )5

واليقظة لذلك ترى الجماعات البشرية حتى في حالة السلم , مضطرة إلى

وإدماجه في مؤسساته فتخصص الكثير من مواردھا البشرية تنظيم العنف

واالقتصادية لتنظيم الجيوش وتدريس فنون الحرب في مدارس خاصة

يتعلم فيھا الضباط الجنود وسائل الكر والفر وأحسن اإلمكانيات لقتل أكبر

عدد ممكن من األعداء , كما تسخر عبقرية أبنائھا الكتشاف أمضى

وتدميرا في انتظار استعمالھا الحتمي يوما أو آخر . األسلحة وأكثر فتكا

وھكذا تعيش األمم قابعة وراء جيوش تحتمي بھا إذ لم تخضع لھا .

وتواجھه الجماعة البشرية بعد تمكنھا من مساحة معينة من األرض تضيق أو

تتسع بتغيير موازين القوى , مشكلة الموارد التي تدرھا أرض الوطن .

ة عبر التاريخ إذا استثنينا بعض القبائل البدائية , ھي أن التوزيع والظاھرة القار

غير عادل بالمرة إذ تتمكن فئة قليلة من أغلبية الموارد في حين تضطر األغلبية إلى

التعيش على جزء ضئيل من اإلنتاج الجماعي . وترجع أسباب انقسام المجتمع إلى

123

لعدالة االجتماعية جذور بيولوجية . طبقات , إلى عدة عوامل منھا أنه ليس لفكرة ا

فنحن نالحظ مثال في كل المجتمعات الحيوانية بدون استثناء وجود تفاوت ھام بين

األفراد إذ تظھر التجربة والمالحظة العلمية الدقيقة إن ھناك أفرادا يتمتعون داخل

المجموعة بامتيازات جنسية وفي ميدان السلطة , ال تشاركم فيھا األغلبية .

واإلنسان ھو حيوان وإن كان حيوانا عاقال " مع األسف" كما أضاف أحد الظرفاء .

كذلك ال ننسى أن الحضارة التي تشكل ھدف اإلنسانية ال تكون في البداية إال

بالتفاوت الطبقي . فمن البديھي أنه لوال العنف لما شيدت االھرامات ولوال العنف

اعي لما تفرغ بعض الناس للفن والعلم لما بنيت القصور ولوال الظلم االجتم

والفلسفة بينما األغلبية تكد لكسب لقمة العيش .

وأخيرا تؤدي حالة الحرب الدائمة بين الجماعات البشرية إلى إفراز المجتمع

لتركيبات معينة كالدولة وما ينجر عنھا من جيوش وإدارات الخ تحمل على عاتقھا

نھا ونعتبر أنه من الطبيعي أن تتمتع بأوفر مھمة توسيع رقعة األرض والدفاع ع

قسط من الخيرات التي تغزوھا وتدافع عنھا . ومن ثمة يولد العنف الموجه ضد

اآلخرين عنفا موجھا ضد األھل واألقارب من غير المتمكنين من ھذه السلطة أو

تلك .

لتي تنتج أغلبھا بيد أن األغلبية ال تقبل ھذه القسمة الالمتعادلة للموارد االشتراكية ا

فتدخل في صراع مزمن أو حاد مع األقلية الحاكمة فتكون ھذه االنتفاضات والثورات

المتعددة التي يحفل بھا التاريخ .

العنف إذن عامل ھام في تاريخ الحضارة واإلنسانية لكنه ليس الممثل الوحيد من

أبدا للتعامل مع حسن الحظ وإال لدمر العالم منذ زمن بعيد . فھو مضطر دائما و

الفكر الذي يخفف من خطر الغريزة وغلوائھا ويحاول ما استطاع التوفيق بين

متطلبات وحاجيات متناقضة .

فالفكر يخلق الخيرات أين ال تعرف الغريزة إال استھالكھا وتوزيعھما الظلم , والفكر

أين ال تعرف يؤمن بالعقل أين ال تؤمن الغريزة إال بالقوة , والفكر يقول بالحرية

الغريزة إال االنضباط أو الفوضى , والفكر يؤمن بوحدة البشرية أين ال ترى الغريزة

124

إال قبائل وشعوبا وأجناسا , والفكر يؤمن باستحالة تحقيق الرخاء والسعادة ما لم

يتوفر للكل الحد األدنى من الخبز والحرية والكرامة بينما ال تؤمن الغريزة إال

الجماعة الضيقة .بإرضاء شھوات

فتاريخ البشرية ھو إذن تاريخ تطور وصراع ھذين الممثلين الرئيسيين وأنا

أتصوره شخصيا كمفاعلة كيماوية تتوقف نتيجتھا على نسبة الفكر والغريزة وقوة

تأثير أحد العاملين إبان تطورھما عبر الزمن أي أن من الممكن وصف سيناريوھين

و انتصار الفكر . محتملين : انتصار الغريزة أ

أي االحتمالين سيتحقق ؟ ھل ھناك احتمال ثالث كأن تبقى الحرب سجاال بين الفكر

والغريزة بدون حل جذري إلى نھاية التاريخ ؟

أنا ال أعرف الرد بالطبع وال أظن أنه يوجد إنسان واحد على سطح األرض يعرف

سف نالحظ إخفاق اآلمال اإلجابة أو يستطيع التكھن بنتيجة المفاعلة . نحن لأل

العظيمة التي علقتھا البشرية منذ قرن على العلم والصناعة أو على ھذا النظام

السياسي أو ذاك , وكذلك تبخر المطامح واألحالم في ساحات الوغى وفي محتشدات

اليمين واليسار على حد سواء . كما نشاھد تصاعد العنف يوما بعد يوم وخاصة

طر األسلحة المتوفرة . إال يعلمنا التاريخ أن اإلنسان لم التصاعد الرھيب في خ

يكتشف سالحا إال واستعمله في يوم ما مھما كانت النتائج ؟

ھل معنى ھذا أننا ضحية قوى بيولوجية اقتصادية قاھرة تحركنا بمنتھى العنف

وإن اإلنسانية ھي وقود التاريخ أكثر مما ھي محركة ؟

ارية ومن الممكن التأثير على نتيجتھا حتى ولو اتخذت ألن المفاعلة ج ! ال أظن

االتجاه الذي نعايشه .

فمن البديھي أن تحقيق العالم األفضل رھين بارتفاع نسبة الفكر في المفاعلة أي

بارتفاع مستوى العمل الخالق ( للتغلب على الفقر ورديفه الظلم االجتماعي )

) وارتفاع مستوى األخالق ( باحترام اآلخر وارتفاع مستوى العقل ( بالعلم والثقافة

واعتبار حريته وكرامته الضمان الوحيد لحريتي وكرامتي ) ومن البديھي كذلك أننا

125

لن نلجم الغريزة ولن نرفع نسبة الفكر ومستواه في العالم إن لم نركز فرديا

وجماعيا الجھود لتحقيق ھذا الھدف النبيل .

عتبرنا الماضي والحاضر . لكن المغامرة البشرية حقا , حظوظ النجاح قليلة إن ا

جارية واإلنسانية في حالة تطلع وشوق جارف إلى العالم األفضل ونحن كلنا

مسؤولين عن النتيجة أيا كانت .

يبقى أن األمة العربية ھي جزء من المفاعلة التي تغلي في قدر التاريخ . وإن

قت الذي تؤثر فيه بدورھا على مصير مصيرھا يتقرر حاليا داخل ھذه القدر في الو

الطبخة . والسؤال المطروح أمامھا ( أو باألحرى التحدي ) ھو ھل تساھم في رفع

نسبة الفكر في العالم أي ھل ستكون قوة سالم تدفع بالبشرية إلى ضفاف إنسانية

عليا , أم ھل ستكون إحدى الروافد التي تصب في دنيا الغريزة لتقاسي منھا بدورھا

.

والمتأمل للوضعية الحالية لھذه األمة مضطر لمالحظة أنھا وضعية ال تحسد عليھا .

فانقسامھا إلى شعوب وأنظمة متناحرة وضعيفة ووجود إحدى شعوبھا تحت نير

االحتالل األجنبي وھشاشة قواھا العلمية واالقتصادية والسياسية ومن ثمة

كل لحظة . العسكرية تجعلھا عرضة لكل الضربات القاتلة في

والمستقبل بطبيعة الحال مجھول , لكنه لن يكون لألمة غير طريقين :

يمكن أن تتزايد حدة الحرب األھلية بين األنظمة فتزيد من تعميق الھوة )1

بين الدول وحتى الشعوب , ويمكن أن يتزايد عدد العرب القتلى بالرصاص

ل العسكري إلى العربي وسيؤدي ھذا بصفة أوتوماتيكية إلى تزايد الثق

إسرائيل التي ستنخر في جسم األمة كسرطان يتزايد مفعوله بتزايد ضعف

جسم األمة وستكون نھاية ھذه المرحلة عودة االستعمار . فمن السذاجة

أن نتصور أننا أن نستعمر من جديد بصفة مباشرة إذا اضطرت األمم

معنى ھذا أن األخرى القوية إلى استعمارنا لدفاع عن بقائھا ووجودھا .

ضعفنا الذاتي ھو الذي يولد العنف بيننا وھو الذي يطمع فينا الشعوب

واألمم التي نتزاحم معھا على ركح مسرح التاريخ .

126

مع العلم بأنه –لنفترض أننا تعلمنا قبل فوات األوان من تجاربنا التاريخية )2

التجربة (فاألمم ھي األخرى بحاجة إلى –ليس في اإلمكان إبداع مما كان

والوقت الزم لنموھا ولنضجھا مثلما ھو الزم لنمو ونضج النبات

والحيوان واإلنسان ) لنفرض أن ھذه السلبيات التي نشاھدھا حولنا وفي

أعمق أعماقنا ليست إال المحرك الذي يدفع بنا إلى األمام . ستكون نتيجة

المفاعلة كاآلتي :

نصھر في بوتقة أمة واحدة ودولة ستتغلب الشعوب واألنظمة على حزازاتھا لت

واحدة أيا كان الشكل الذي ستتخذه ھذه الدولة , وبتغلبھا على ضعفھا الداخلي

ستستطيع ھذه األمة العظمى أن تلجم إسرائيل وأن تقلم أظافرھا وأن تقبل بوجودھا

عن قوة ومناعة ال عن ضعف واستسالم . –إن قبلت –

العظمة اإلمبريالية بدورھا آنذاك وھل ھل سيصيب ھذه األمة العظمى جنون

ستستخدم قوتھا لتسحق الشعوب واألقليات التي تدور في فلكھا أو تعيش في كفنھا

أي ھل ستعيد من جديد سيناريو العنف والغريزة مع استبدال األدوار فتكون الجالد

ل بعد أن كانت الضحية وتفشل اإلنسانية مرة أخرى في فترة الخروج من فترة ما قب

التاريخ , أم ھل ستستعمل عظمتھا وقوتھا وبعد تجربتھا التاريخية لتدفع بالعلم

والفكر والفن والسياسة خطوة جبارة إلى األمام .

ذلك ھو السؤال , ذلك ھو التحدي الماثل أمامنا .. والقول الفصل للمستقبل الذي

. على فشلنا . سيكافئ مجھوداتنا , أو يحكم بال ھوادة على فشلك .. على فشلي .

أي مستقبــــل للعــــرب بعـــد مائــة عام

طال الحديث بيننا وتشعب عن تونس , عن مصاعبھا اليومية , عن إمكانياتھا

المتواضعة . كأنه سئم الموضوع أو باألحرى واقعه المرير , فغير مجرى النقاش

"!ستؤول :" تعال نتصور تونس بعد قرن , كم أود أن أعلم إلى أي مآل

127

قلت : " عملية التنبؤ بالمستقبل من الصعوبة بمكان لكنھا عملية مشروعة وواجبة

ألن التخطيط للمستقبل البعيد من واجبات الحاضر . ھل تعلم أنه توجد في الغرب

مؤسسات حكومية وخاصة تجمع خيرة علماء االجتماع واالقتصاد ونخبة من

وحيدة التكھن بالمستقبل البعيد وتصور كل المفكرين في شتى الميادين , مھمتھا ال

االحتماالت ووضع إستراتيجيات مختلفة ومتناقضة يمكن اللجوء إليھا عند الحاجة .

والھدف من ھذا التفكير المبني على المعلومات الموضوعية والنقاش الحر ,

ه والمخيلة المعقولة : التكھن بخطوط القوة للمستقبل حتى بمكن التحكم فيه وتوجيھ

وتفادي المفاجئات الناتجة عن قصر النظر .

الواقع أن مثل ھذا التفكير لم يثبت إلى حد اآلن فعاليته . أتذكر أن تقرير نادي روما

الشھير في بداية السبعينات تنبأ بكل شيء إال بزيادة أسعار البترول وبأزمة الغرب

نظام الشاه لم تتوقع االقتصادية , وإن العقول اإللكترونية المكلفة بالسھر على

لحظة أن الخطر على الشاه سيأتي من عجوز متدين ال عالقة له ال بموسكو وال

ببكين وال بالضباط األحرار .

كل ھذا ال يمنع العرب والتوانسة من األخذ بھذه المنھجية وتطويرھا حتى نعرف

أين نضع أقدامنا .

وع وإن الواقع يتمخض دائما قال : صحيح أن الحذر من التنبؤات والتصورات مشر

عن مفاجئات مثيرة لم يتوقعھا أحد . لكنني سأحاول رسم صورة معقولة , لمستقبل

معقول ألنني رغم كل الظواھر أعتقد أن لنا مستقبال .

. البالد مقاطعة ذات حكم ذاتي داخل 2079نحن في الخلدونية ( تونس سابقا ) سنة

ھذه مقاطعة ذات حكم ذاتي داخل اتحاد األمم جمھورية العرب , وجمھورية العرب

المتحدة . خرجنا نھائيا من مرحلة التخلف الفكري واالقتصادي , انتھت أزمة

السكن منذ أمد بعيد .

مستشفياتنا على ما يرام , طرقاتنا أوتوروت , سياراتنا كھربائية , أصبحت

ية . الديمقراطية من األمور البديھية وكذلك العدالة االجتماع

128

العالم في سالم ورخاء منذ ألغت اللجنة األممية العليا كل الجيوش باستثناء الجيش

األممي حارس السلم بين الشعوب : محور الحديث ھذه السنة في البالد , موضوع

المفاعالت النووية التي ترد العاصمة الفيدرالية ( مكة الجديدة ) فرضھا على

ن اإلدارية يجتمع اليم برئيس المعارضة التخاذ المقاطعة . مفوض التوانسة للشؤو

قرار نھائي في ھذا الموضوع خاصة بعد رفض حكومات الناصرية ( القاھرة سابقا

) والعمرية ( القدس ) واإلدريسية ( الدار البيضاء ) إيواء ھذه المفاعالت الجبارة

بعبارة أخرى إني أرى آماال قد أينعت وطاب قطافھا . –الخطرة

رت ضاحكا ,, انفج

"نسيت حق السفر للجميع إلى القمر , وارتفاع معدل الحيات إلى ثالثة قرون ,

مشكلة تغيير أوقات صاروخ جربة المريخ .

أجاب ممتعضا : " ولم ال ؟ ھل كان جدنا البدوي راعي اإلبل في دوز يتصور عالمنا

ھذا وإنجازاته ؟

ستقبل كتحسين للماضي . لو طلب من قلت , ھنا تكمن الغلطة المنھجية . نتصور الم

جدنا رحمه هللا تصور تونس ھذا القرن في بداية شبابه لتصور في أحسن الحاالت

دوز عاصمة لتونس , والرخاء على شكل امتالك كل تونسي لآلالف من البعير

والتقدم في تسلق النخل لھضاب عين دراھم .. وال أظن أنه كان يتصور أھوال

و غزو الفضاء أو حلة بالدنا الحقيقية وتغيرھا الجذري . الحرب العالمية أ

المستقبل ليس االمتداد األوتوماتيكي للحاضر بل ھو شيء مغاير ومن ثمة صعوبة

التكھن به . أضف إلى ھذا أن تصورك غير موضوعي ألنك لم تأخذ بعين االعتبار

مستقبل لكنه غير إال عاملين ھما عامل الشھوة واإلرادة ( وھو عامل الزم لصنع ال

كافي ) وعامل قدرة العلم والتكنولوجيا ( وھو عامل ھام لكنه ليس على كل شيء

قدير ) . تعال نستعرض بضعة عوامل ستلعب دورا ھاما في تكوين صورة مستقبلنا

.

) المناخ : السؤال الھام الذي أود طرحه على أھل االختصاص ھو : أسيكون 1

تبتلعھا الرمال ؟ ھل صحيح أن كثبان الرمال تتقدم لتونس وجود بعد قرن أم ھل س

129

سنة بعد سنة وإنھا قد تصل إلى البحر في يوم ما ؟ ھل يولي المسؤولون اھتمامھم

لھذا االحتمال الرھيب ؟ ھل توجد خريطة مفصلة لدى المسؤولين لتدلھم على

راقبة وضعية بلدنا الجيولوجية . ھل تخرج معاھدنا علماء من الطراز األول لم

الصحراء وإيقاف تقدمھا ؟ لماذا ال نساھم مع إخواننا في الجزائر في مشروع

الحزام األخضر ؟ ھل ھناك اعتمادات كافية لدراسة المشكلة ومحاربتھا أم ھل أن

االتفاق على سفارة في الدانمارك والكونغو أھم ؟

, كما تعرف أن الماء : أنت تعلم أننا بلد جاف وأننا نعرف من اآلن مشكلة مائية

أخوتنا الجغرافيين ما فتئوا يلفتون نظر الحكومة والشعب إلى خطورة المشكلة

واحتمال تفاقمھا . ترى ھل سنعرف يوما ما أھوال العطش الجماعي . ال تعجل عليا

بسخريتك وال تذكرني بقدرات العلم والتكنولوجيا , فنحن في الوقت الحاضر أمام

ألحسن أن نعي الكل بأھميتھا قبل فوات األوان . مشكلة عويصة وخطرة ومن ا

سأقص عليك قصة ليست طريفة في شيء تدل على عمق اإلھمال وانعدام الوعي

عند الناس بقلة الموارد وأھمية المحافظة على كنز أثمن من البترول .

منذ ثالثة أشھر وأنا أتناول طعام الغذاء في مطعم األطباء بمستشفى الرابطة ,

أول يوم حنفية القاعة معطوبة وإن الماء يسيل منھا وبدون انقطاع , الحظت

نھضت من مكاني وكبست عليھا بمنتھى القوة فلم أنجح في إغالقھا , قلت

سيصلحونھا ونسيتھا , مرت أيام والماء يسيل من دون انقطاع . في األخير توترت

ر بأنه أصلحھا وإنه أعصابي , ذھبت إلى الطباخ طالبا منه إصالح الحنفية فاعتذ

سيصلحھا وإنه , وإنه الخ ... مرت األيام واألسابيع ولم تصلح الحنفية بطبيعة

الحال , اتجھت إلى زميل طبيب مكلف , فوعد وأخلف . بمضي األسابيع أصبحت

ھذه الحنفية اللعينة أصل عقدة نفسية أضفتھا إلى قائمة عقدي الطويلة وأطلقت

ن , عقدة حنيفة الرابطة , والعقد كما تعلم مصدر إزعاج عليھا االسم العلمي الرنا

نفسي ( كانت أعراضه عندي الغيظ والقھر ) ومصدر كوابيس . أذكر أنني حلمت

ليلة بھذه الحنفية تسيل منھا أنھار من الماء , تضيع ھباء بينما أرض بلدي الجافة

العطشى تتشقق تحت شمس جھنمية .

130

وأقول لك : حنفية الرابطة رمز لھذا المستقبل تسأل ما عالقة ھذا بالمستقبل

الصعب : قلة الموارد وتبذير مجرم يسنده الوعي بھيمي . كل الدراسات العلمية

تثبت خطورة المشكلة . ونحن نبذر ھذا الكنز في غسل السيارات في مسابح الفنادق

المسؤولين الفخمة ( المتاخمة للبحر ايه وهللا ) والحنفيات المعطوبة . يا حضرات

عن إدارة الرابطة لقد ألردت أن أدفع ثمن اإلصالح من جيبي فلم أحد أتجه إليه لذلك

أرجوكم أصلحوا ھذه الحنفية ألنني ( في حالة تقاعسكم ) لن أخجل من رفع قضية

إلى الرأي العام . فالمسألة خالفا لما تعتقدون ليست تافھة أو ھامشية بل ھي رمز

ي فھي قضية مصيرية وشكرا لكم على تسرعكم بمعالجة لقضية مصيرية وبالتال

األمر باسم حفدتي وحفدتكم .

الغذاء : تتھدد المجاعة العالم الثالث نظرا لتزايد السكان المخيف , وفشل الثورات

الخضراء , وتقلبات الطقس , وجشع تجار الحبوب من دول وشركات عالمية ,

سلم ضعيف جدا ... ال يمكن أن يفي واالحتياطي العالمي من الحبوب في زمن ال

بحاجة البشرية فما بالك إن نشبت حرب كبيرة أو أصيبت منطقة حساسة بجفاف ,

أضف إلى ھذا أن الدول التي تملك القمح ليست بشقيقة أو صديقة وبالتالي يمكنھا

تھديدنا بالتجويع في حالة قيام نزاع مصيري بيننا وبينھا .

ة لخطر الجوع إن لم نصل في أقرب وقت إلى مرحلة معنى خذا أننا سنبقى عرض

االكتفاء الذاتي من الناحية الغذائية ولن يتيسر ھذا إال بإعطاء الحكومة األولوية

المطلقة لھذا االستقالل الحقيقي ووقف االعتمادات التي توفرھا لصناعة ظرفية

ر عقلية الناس ومھددة كالسياحة لتحويلھا إلى ميدان الفالحة واألھم من ھذا تغيي

ونظرتھم إليھا . إذ يجب على مجتمع ال يريد الموت جوعا أن يجعل من الفالحة

أشرف مھنة وأكثرھا ربحا ومن الضروري أن بكون بطل المسلسالت العاطفية

الھزيلة التي تقدمھا التلفزة فالحا عصريا يقوم بحرث الصحراء ويخلق منھا

لى جعل ابني طبيبا أو محاميا أو مھندسا الخيرات . على كل أنا شخصيا ال أطمح إ

وإنما أتمنى أن أراه ينقب عن الماء في الصحراء , ويزرع آالف الھكتارات منھا

131

بالقمح والذرة ويحصد من بساتين دوز وضواحيھا الموز والتفاح , كما أعرف أنني

لن أزوج بناتي إال لرجال يزرعون ويحصدون وتكون الحياة بعرقھم وجھدھم ...

لطاقة : العالم كما تعرف مھدد عاجال أو آجال بنضوب البترول , والبديل النووي ا

غير جاھز . فماذا أعددنا لمرحلة ما بعد البترول ؟ ال شيء على ما يظھر . صحيح

أننا ننتج القليل منه , لكن صحيح أيضا أنه إلى زوال وأننا نبذر مواردنا القليلة في

كل شيء ھي حركة التقدم , وھي الكھرباء . ھي خزانات السيارات . الطاقة ھي

عمل المصانع ھي الفالحة العصرية الخ ... والبترول أيضا اآلن ھو كل الطاقة

والسؤال الذي يجب طرحه ھو بماذا سنتنقل , بماذا سنشغل مصانعنا ونضيء

طرقاتنا عندما ينضب البترول .

مشكلة فنحن نسير في طريق تستطيع التذرع بكل الجمل اللغوية , لكنك لن تحل ال

مسدود . كل األخصائيين يعرفون الحقيقة والرأي العالمي واع خاصة في الغرب

بأھمية األمر . فھل سمعت مسؤوال واحدا في بلدنا يتحدث عن معضلة الطاقة وخطر

نضوبھا الحتمي ؟ العكس ھو الصحيح , تصور أنني قرأت مؤخرا عن مشروع

فكدت أتميز من الغيض ( وأندب خدودي وأقطع صنع سيارة تونسية صغيرة ,

شعري ) ھذا ھو الالوعي بعينه والالمسؤولية بعينھا .

ال يمكن تفادي أزمة الطاقة أو باألحرى تأخير وقت مجيئھا إال باالعتماد تقتير

وبخل أبطال الجاحظ في أھراق البترول الثمين , وسياسة المحافظة على المورد

ة ورثناھا من الغرب أ ي عقلية االستھالك المفرط واألحمق تتطلب تغير عقلية سمج

–والسيارات الفردية رمز لھذه العقلية . أغلب البترول يضيع في خزانات السيارات

االستنتاج المنطقي المعقول إذن ھو سن سياسة طويلة النفس لتخلص من السيارة

تركيز على سياسة النقل كوسيلة نقال تبذر البترول وتلوث المدن وتقتل األبرياء وال

الجماعية التي يجب تعصيرھا وتحسينھا من ناحية الكم والنوع وتقليل كلفتھا من

ناحية الطاقة . إن كان ال بد من مصانع , أوصيكم يا حظرات المسؤولين لتشجيع

صنع دراجة تونسية يقبل عليھا الكل وتنفع في التنقل والتمتع .

132

, ستالقون صعوبات جمة ألن سياسة استبدال نعم يا حضرات االخوة المسؤولين

السيارة الفردية ومحاربتھا حتى على األمد البعيد لن تكون شعبية بالمرة ( ألننا في

حالة إدمان على السيارات ) . لكنكم مسؤولون عن مستقبل البلد ال عن رضاء

يصبح لتر الناس أم أنتم يا إخواني المواطنين من أصحاب السيارات وهللا ليأتين يوم

البنزين أغلى من لتر الويسكي فاحتاطوا وتعلموا المشي وركوب الدراجة وأسكنوا

المدن الصغرى ولقد أعذر من أنذر .

يبقى بعد ھذا علينا اكتشاف مصادر أخرى للطاقة . ھل تعلم أن الشمس التي تحرق

ية جلودنا طوال الصيف , ھي حل ممكن . كل الدراسات العلمية تدل على إمكان

استعمال الشمس لتوليد الكھرباء , أو لخلق حاالت أخرى من الطاقة . ھل تولي

الحكومة أھمية قصوى لھذه الدراسات ؟ ھل لنا معھد عالي لتتبع األبحاث في ميدان

الطاقة الشمسية والمساھمة فيھا ؟ ھل لنا جواسيس وعيون ومخبرون يجمعون كل

متى نبدأ في تصنيعھا وتجربتھا خاصة المعلومات عن صناعة المرايا الشمسية ؟

في الجنوب ؟

الحرب : ھناك قانون تاريخي يقول : السالم فترة تتلو حربا أو تسبق )3

أخرى .

وھناك قانون ثان يقول : ما اكتشف اإلنسان سالحا إال واستعمله مھما كانت

العواقب , وقانون ثالث يسن : عندما تصل التناقضات بين مصالح الشعوب إلى

مرحلة خطرة تتفجر الحرب بالرغم من أنف الجميع .

نحن إذن مھددون بالحرب والذرية منھا على وجه الخصوص . وأنا واثق أن نھاية

ھذا القرن والقرن المقبل سيشھدان حروبا ضخمة في إفريقيا , بين الصين واالتحاد

السوفيتي , بين العرب وإسرائيل , بين العرب والغرب الخ .

الحال نحن شعب صغير , فقير ,ومسالم وبالتالي ال نثير طمع أحد أو ضغينة بطبيعة

أحد لكننا عرب وبالتالي مصيرنا مرتبط بمصير العرب المقدمين على صراعات

جذرية ضد الصھيونية وضد الغرب الذي سيحاول ( عندما يقترب سكين نضوب

كان الثمن . ھل نحن الطاقة من عنقه ) االستيالء على ارض العرب وخيراتھا مھما

133

مستعدون لمواجھة ھذا االحتمال الرھيب ؟ من البديھي أننا ال نستطيع بناء شبكة

صواريخ مضادة للطائرات أو الدخول في سباق التسلح مع زيد أو عمرو وإن أقصى

ما نستطيع عمله ھو االستعداد لحب دفاعية قليلة االحتمال حقا لبعدنا عن المواقع

نفط لكنھا ممكنة في إطار مجابھة شاملة . كيف ؟ باالكتفاء الحساسة كحقول ال

الذاتي في ميدان الغذاء وبالالمركزية . باالكتفاء الذاتي في ميدان األدوية

الضرورية واألجھزة الطبية الحيوية , بوجود احتياطي من الوقود وغيره . ھل

ا الدولة ليكون ھناك مخططات إلفراغ المدن بنظام وشبكة الالسلكية مستقلة توفرھ

لھا وجود وفعالية حتى في أحلك

الظروف ؟ وھل لنا السيناريوھات المختلفة المعقولة منھا والغير المعقولة في

ميدان الدفاع المدني ؟ يحق لك أن تبتسم بسخرية لكن مستقبل الشعب وحياته

يتطلبان أن تحسب الحساب لكل شيء وخاصة للمجھول والتخطيط السليم ال يكون

ال باعتبار المدى البعيد . إ

قال وھو يغالب امتعاضه " يا شيخ فال هللا وال فالك . المستقبل إذن بالنسبة إليك

حرب ومجاعة وعطش وكثبان الرمل في شوارع قرمبالية تتأھب ليبتلع منزلنا

المتواضع في حمام األنف "

نا لمن المستقبل قلت : ھذا سيناريو ممكن خاصة إن تمادينا في عملنا وال مسؤوليت

" مساحة مفتوحة " ونحن صانعوه , التحكم فيه للوصول إلى المدينة الفاضلة التي

تحلم بھا وأحلم بھا يتطلب :

أوال : الكثير من العزيمة والكثير من التضحيات .

ثانيا : التخطيط الحكيم والبعيد المدى للعوامل الموضوعية التي رأينا أھمھا .

التكھن ( بإجھاد المخيلة بالعوامل الطارئة والمجھولة التي يمكن أن ثالثا : محاولة

تفسد كافة حساباتنا . واعتبار السيئ لتفادي األسوأ .

على كل واجبنا واضح , نعم أقول وأكرر إننا ال يجب أن نردع بوھج السراب وأن

والتفكير علينا االستعداد لمستقبل صعب , لنقم بواجبنا في ميدان التخطيط واإلنتاج

والتخمين , لنجند الذكاء والمخيلة والعضالت وكلھا مواد خام ال تنقص ھذه البالد

134

ثم لنقل بعدھا : حظ سعيد يا تونس , حظ سعيد يا ديار العرب , حظ سعيد يا

إنسانيتنا المسكينة .

العــــــــرب والعلــــــم : رسالــة إلى مســـؤول

خليج مليون عرب مصابون أو سيصابون في العشر يجب حاليا من المحيط إلى ال

سنوات المقبلة بمرض السرطان وأملھم الوحيد في الشفاء من ھذا المرض الخطير

أن تكتشف العقول الغربية في جامعات برنستون وبركلي وستاند فورد بالواليات

المتحدة , أو جامعات لندن وباريس وكوبنھاغن في أوروبا أو جامعات اليابان

االتحاد السوفيتي, سر انقسام الخاليا المجنون وعد إطاعتھا لقانون الحد من و

االنقسام . كذلك يتركز أملھم على قدرة مختبرات المصانع الكيماوية الكبرى في

سويسرا على تحضير الدواء بسرعة وبيعه إلينا في أقرب اآلجال .

ريكية السوفيتية والغربية تجد حاليا فوق رؤوسنا العديد من األقمار الصناعية األم

تحصى علينا أنفسنا وتعرف بالضبط كل شيء عن خيراتنا النجمية باإلضافة إلى

معرفتنا الكاملة لكل معداتنا العسكرية . واألھم من ھذا أن مواصالتنا الھاتفية

والتلفزية متعلقة بقدرة العقول الغربية على صنع األقمار التي سنحتاجھا عما قريب

شقة بينا وتبادل برامجنا التلفزية , وبقدرة العقول الغربية أيضا على لتقريب ال

اكتشاف أحس وأرخص الوسائل لبعث ھذه األقمار إلى الفضاء من صواريخ

ومكوكات .

ومن البديھي أن تحصلنا على ھذه اإلمكانيات مرتبط بمدى خضوعنا لبعض القيود ,

دائما وأبدا عرضة للمصادرة ومن البديھي كذلك أن مثل ھذه الوسائل ستبقى

والمراقبة .

تجد حاليا فوق رؤوسنا طاقة جبارة ھي طاقة الشمس التي تحرق جلودنا وتحرق

زرعنا وتجدب أراضينا وھي طاقة ال محدودة وسخية يمكن أن تكفل ألبنائنا

135

وأحفادنا عندما ينضب البترول , ما يكفي حاجياتھم لالستنارة والتدفئة والتنقل الخ.

أملنا األوحد في استغالل ھذه الطاقة الجبارة أن تكتشف العقول الغربية في و

جامعات منبالي ومرسليا وأمستردام , أحسن الوسائل العلمية والتقنية لصنع

المرايا أو الوسائل األخرى , حتى نستطيع نحن العرب بإذن منھم التمتع بھذه

الطاقة التي ال تنضب .

حار المحيطة بنا وفي المحيطات الكبرى , باإلضافة إلى توجد حاليا في أعماق الب

القطبين الشمالي والجنوبي ثروات ھائلة . منھا الثروات البيولوجية كالسمك

وبعض األمور األخرى التي تخطط الشركات العالمية الستعمالھا كأدوية , ومنھا

دن في ) وھي جبال من المعا Nodulesالمعدنية وأخص منھا بالذكر ما يسمى (

قاع البحر والتي ستشكل كنز علي بابا .

عندما تكتشف العقول في جامعات الغرب مفتاحھا العلمي والتقني , وھناك في ھذه

اللحظة عشرات من البواخر الغربية والسوفياتية واليابانية تجوب البحار ال تحمل

ھمتھا على مدافع وال ركاب وال بضائع وإنما أجھزة علمية بالغة التعقيد تقتصر م

دراسة كل خصائص البحر مخططة للمرحلة المقبلة : استنزاف خيراتھم , بطبيعة

الحال سيتقاسمون الوليمة , وسيلقي إلينا بالفتات باسم اإلنسانية والرأفة والعدالة

وتمكيننا من نصيب من الكنز .

ت توجد حاليا في أراضينا المحتلة مفاعالت نووية جبارة وأدمغة صھيونية خطط

وتخطط لوضعنا تحت رحمة القنابل الذرية المصنوعة والجارية الصنع . أما

المفاعالت النووية التي تبيعھا لنا بعض الدول بعد تقليع أظافرھا , فھي إن قارنھا

بالمفاعالت الموجودة في أوروبا وأمريكا واالتحاد السوفيتي , كالعربة المجرورة

بالنسبة للبوينج .

الوطن العربي مشكلة خطيرة تتفاقم يوما بعد يوم ھي مشكلة توجد حاليا في

التصحر , وأملنا الوحيد أن تكتشف في كاليفورنيا أحسن تقنيات لوقف زحف

الصحراء , بل واستخدامھا في ميدان الزراعة .

136

توجد حاليا في مختبرات البيولوجية المتقدمة بجامعات الغرب واالتحاد السوفيتي ,

ول تطوير البرنامج اإلعالمي للخاليا حتى يمكن خلق جراثيم دراسات حثيثة ح

وفيروسات ال يعرف ضدھا دواء ويمكن استعمالھا ضدنا إن تطلبت الحاجة , كذلك

تجري محاوالت أخرى أقل خطر لتجعل الخاليا " مصنعا بيولوجيا " يعطي ما

لجوع الخ .. تحتاجه اإلنسانية من أدوية كاألنسولين , أو بروتينات للقضاء على ا

ولربما ستذھلون إن قلت لكم أن بعض الباحثين ھم بصدد دراسة إمكانية التغلب

على الموت .. فقد استطاع عقالني غربيان ھما قوردون وكنشي إعادة صنع

ضفدعة بأكملھا ابتداء من خلية أخذت من الغشاء المعوي للضفدعة األولى وبھذا

تمكن من إعادة نسخ أي واحد منا كما لو كان يكونا قد فتحا البابا لتجارب رھيبة قد

مجرد نص يوضع في الناسخة كلما تطلب األمر ذلك .

باإلضافة إلى ھذا , فإن العقول الغربية الجبارة في ''مونت نبالومار ''بكاليفورنيا

تجس نبض الكون فتقيس عمره وتحدد تاريخ ميالده بعشرين مليار سنة , وتقيس

ابتعادھا عنا عما تزن النجوم والكواكب وتكتشف يوما بعد بعد المجرات وسرعة

يوم أسرار ھذا الكون المھيب , متالعبة بأعقد النظريات الحسابية , ومستعملة في

ھذا أعقد العقول اإللكترونية لمساعدتھا في وضع المجرات والنجوم والكواكب في

من ھذا أن القوم إطار معادالت حسابية تبھر روعتھا وتتألق جماال . واألغرب

بمركب فضائي اسمه ''بايونير'' وعليه رسالة مكتوبة 1972بعضوا في سنة

باللغة الكونية : الحسابيات ومھمة ھذا المركب , أن يغوص في أعماق الفضاء

الالمتناھية طوال ماليين السنين عله يقع بين أيدي كائنات أخرى فتدخل في اتصال

وقع ھذا بعد آالف السنين , فإن الذين سيشعرون مع البشرية . بطبيعة الحال إن

بالزھو والخيالء , لن يكونوا أحفاد العرب . واآلن ماذا عن وضعيتنا نحن ؟ ما ھو

وزننا العلمي . ما ھي مساھمتنا في ھذه المغامرة الفكرية التي لم تعرف لھا

اإلنسانية ما فينا ؟

دب والنحو والصرف وكم من مرة نحن نسمى علما الدراسات في الفقه واللغة واأل

سمعت الناس يتشدقون , بعلميتھم وبأھمية البحث العلمي وبعلمية بحثھم . وفھمت

137

أن الكلمة ال تدل على منھج بقدر ما تدل على إيمان سحري واستعمال سحري

للكلمات , وھي كما تعلمون بعض من خصائصنا العقلية فالعلم ليس بحثا وشكا ,

, بل كلمة نلصقھا بكل ما نريد أن يقتنع به الناس , أي أنھا في نقدا وحركية دائمة

الواقع ذلك البديل النظري للعنف الذي طالما مارسناه بيننا من قبل إلسكات المخالف

في الرأي بسم هللا والدين , واألخطر من ھذا أن عملية التمويه على الخير والذات

يحسن السكوت عنه فالناس تجند اتخذت ھذه السنوات األخيرة طابعا مرضيا ال

قواھا لتشدق بأمجاد الماضي وبالتذكير على فضلنا على الغرب في كل ما يفعلون

متناسين دور الھنود والفرس واإلغريق على حضارتنا العربية ومتعامين عن تفاھة

ھذا التفكير الممل بأيادي أجدادنا على أناس وطأت أقدامھم أرض القمر وتخطط

سطح المريخ. وقد بلغت ھذه الھلوسة المرضية الناتجة عن محاولة للمشي على

تخطي عقدة النقص بأبخس الوسائل إلى جد التطاول على القرآن الكريم نفسه

فجعلت منه كتاب فيزياء وكيمياء وطبيعيات الخ تھرع إلى آياته تفسرھا بعد كل

يفوق باحثة الغرب اكتشاف علمي كما تشاء وبأتم الحرية لتثبت أن هللا بحاث علمي

الذي عجزنا عن مواجھتھم في ساحة العمل الجاد ورافضين النصيحة المتمثلة في

استنباط االكتشافات المقبلة قبل أن تقع من قراءتھم العلمية للقرآن حتى نستطيع أن

نحصل على قصب السباق وإن نتخطى ونتجاوز ھؤالء المساكين الغربيين الذين

. يعملون بدون وحي من هللا

وما كان أحرى بھذه العقول الذليلة أن تأخذ بقول ايليا أبو ماضي :

سبيل العز أن تبني وتعلي

فال تقنع بأن سواك يبني

وألنك عالة في عنق جد

رميم العظم وعبئا على ابن

تبقي رغم ھذه الظاھرة أن لنا عشرات الجامعات وأن لنا عشرات وإن لم تكن مئات

اآلالف من الطلبة في الفروع العلمية . وإننا ال زلنا نبني المعاھد والمختبرات ومن

138

لدرب سائرون وأقول بكامل ثمة قد تتساءلون : أليس ھذا الدليل على أننا على ا

الصراحة ال وذلك اعتمادا على تجربتي الشخصية في ميدان البحث والتدريس .

نحن ال نكلف أنفسنا حتى عناء ترجمة ما يأتينا والحال أن عملية الترجمة ومن ثمة

اإلدماج ھي أولى أسباب المناعة الحضارية والتقدم العلمي الحقيقي . ذلك ما أثبته

رارا . فنحن في أغلب جامعاتنا نأخذ ما يأتي من الخارج لندرسه لطلبتنا التاريخ م

باإلنقليزية والفرنسية , والحال أنه يوجد في يوغسالفيا جامعات تدرس الطب

والفيزياء والنووية باللغة المحلية للمقاطعات الفيدرالية التي ال يزيد عدد سكانھا

ة ال تتوقف عند النقل المباشر دون عن بضعة ماليين . وأھمية وخطورة ھذه القضي

عناء الترجمة فالتبويب فاالنتقاء وإنما يتجاوزھا إلى ما أخطر . فالعربية كما

تعلمون ھي العمود الفقري ألمتنا ولحضاراتنا . إن انھارت انھار معھا كل شيء. فال

شيء آخر يجمعنا في الواقع غير لغة القرآن ولغة محمد ابن عبد هللا القرشي

سس ھذه األمة وحاميھا من التفكك منذ أربعة عشر قرن . ومن ثمة خطر مؤ

التطاول على ھذه الدعامة والركيزة األساسية . وإنه لمن المؤسف حقا أن تكون

الجامعات العربية ھي مصدر ھذا الخطر حاليا إذ تكون من نخبة أمة نخبة منبتة بال

لذي تنھل منه بكل سلبية . مشيعة جذور , مرتبطة فكريا ومن ثمة مصيريا بالمنھل ا

التشوش الفكري أي الحضاري في عقول الشباب , ومشيعة ھذه اللغة البشعة التي

أصبحت لغة مثقفي المغرب العربي الفرانكوا آراب . ھل أدت ھذه المصيبة على

األقل إلى ارتفاع في مستوى العلم وھو ما يحاول أن يھمنا به أعداء التعريب التعليم

ي الذين يتحملون أمام التاريخ مسؤولية فادحة ؟ العال

ال طبعا . فالسلبية المشوشة المضطربة ال تخلق وأقصى ما يمكن أن تصل إليه ھو

حس االستھالك .

عندما أقرأ أن لنا في تونس وزارة للبحث العلمي أضحك وعندما أقرأ أن لموريتانيا

لى شھيق البكاء منه إلى ما والصومال وزارة للبحث العلمي أضحك ولكنه أقرب إ

نسميه ضحكا .

139

في عمل اليوم أنا أكتفي عندما أحاضر في أمراض المخ بنقل آخر ما ورد في

النشرات العلمية الغربية وقد أناقض نفسي من سنة إلى أخرى فأقول بغير ما قلته

السنة الماضية ألن العقول الغربية غيرت رأيھا في الموضوع وبطبيعة الحال أنا

حاضر بالفرنسية مما يقيني تعب الترجمة ويحفظ طلبتنا عن ظھر قلب المقاالت أ

العلمية في الغرب ومعرفتھم ألمراضه أعمق من معرفتھم لألمراض في بالدنا

وطريقة تعاملھم وتفكيرھم ھي نسخة تكاد تكون طبق األصل من تفكير زمالئھم في

عالقة له بمريض ھؤالء الغرب مع فارق ھام ھو أنھم يتعاملون مع مريض ال

الزمالء .

ھذا ال يعني طبعا أننا ال نقوم في تونس مثال بأبحاث علمية والحق يقال أنھا متنوعة

وكثيرة . المشكلة أنھا تفسير التفسير, وتعليق على نص كتبه غيرنا .

مثال اكتشف العقل الغربي المسمى ''ھونسفليد ''مبدأ جھاز السكانار , وھو جھاز

الكشف على أغلب أمراض المخ وكأننا ننظر داخله بدون أدنى حاجة إلى يمكن من

فتح الجمجمة .

قامت عقول المھندس وأيدي العمال المھرة في الغرب بصنع الجھاز .

تھاطل الباحثون على الجھاز ودرسوا في سرعة رھيبة أغلب األمراض ثم اشترينا

ه في حالة وقوع عطب ما . الجھاز ودفتر االستعمال واستعرنا مھندسا ليصلح

نقوم ببحوث ھامشية ونعيد ما قاله اآلخرون أو نصف مرض غير موجود عندھم .

وننشر ھذا البحث بالفرنسية أو اإلنكليزية في مجلة علمية نشرت آالف المقاالت

قبله وستنشر آالف المقاالت بعده .

ذا المستوى . ھل ھذا دليل األغلبية الساحقة ألبحاثنا العلمية من ھذا النمط وعلى ھ

على عجز العقل العربي ؟ ال طبعا , وتفسير الظاھرة يجرنا إلى التوقف عند أھم

خصائص البحث العلمي المعاصر : أھمية تكاليفه وتعقيد معداته أي استعصاؤه على

صغار الجامعات والشعوب . الزال كثير من الناس يتصورون أن الباحث العلمي ھو

ن هللا عليه بموھبة , تجعل عقله الجبار يتفتق بشيء من الحيلة إنسان عبقري م

وبعض األجھزة البسيطة على االكتشاف العلمي الذي سيغير التاريخ .

140

كان ھذا التصور صحيح لكن األحداث تجاوزاته , ھل تعلمون يا سيادة المسؤول أن

يكلف أكثر مرصد "مونت بالومار " الذي مكن علماء أمريكا من دراسة الكون ,

من مصاريف الدولة التونسية وإن الدول األوروبية اضطرت لتجمع حتى تستطيع

مواجھة التكاليف المفاعل النووي التجريبي الموجود في ''جينف ''. كذلك أنتم ال

تجھلون أن ميزانية بعض الشركات الصيدلية في سويسرا وألمانيا تفوق ميزانية

ية , وإن أوروبا لم تستطع إطالق الصاروخ'' الكثير من الدول العربي الالنفط

أريان'' إال بعد التجمع واقتسام العمل وال يختلف األمر في االتحاد السوفيتي الذي

ينفق أمواال ھائلة على البحث العلمي مشيدا مدينة كاملة في سيبيريا ھي

''أكاديموجورود'' للباحثين وحدھم .

ل في ساحة البحث العلمي الذي لم تعد ومن ثمة يتضح لكم سبب عجزنا عن الدخو

تقدر عليه إال كبرى الدول والجامعات والمؤسسات والمحزن في كل ھذا أن جامعاتنا

التي تكلف شعوبنا الفقيرة كثيرا من التضحيات تصدر يوميا عددا كبيرا من األدمغة

لنوع لمثل ھذه المؤسسات الكبرى ألسباب بديھية . فالباحثون العرب من نوعين : ا

المحلي الذي ال يضيره أن يقضي عمره في التغني بمجد األجداد أو في شرح الشرح

والتعقيب ما تكتشفه العقول الغربية . أما النوع الثاني فھو من جنس ھؤالء العقول

الجبارة لكن قلة اإلمكانيات وضيق السوق الفكرية وانعدام وجود جائزة نوبل عربية

الھرمي للجامعة وتدخل السياسة في تقييم األشخاص لتقدير العلماء , والتنظيم

واألعمال , وتجبره على مغادرة الوطن لتغذية ھذه المؤسسات التي ستصدر لنا فيما

بالمائة من األدمغة المھاجرة 25بعد تكنولوجيتھا وأفكارھا عن الحياة والكون و

ة التي تمنى بھا في العالم عربية . وقد يعطيكم ھذا الرقم فكرة عن فداحة الخسار

أمتنا نظرا لعيبھا الرئيسي : سوء توزيع الموارد وانغالق األقطار على بعضھا

البعض اقتصاديا وعلميا وتبذير إمكانياتھا وتشتت طاقاتھا. والنتيجة ؟ أخوف ما

أخافه أن نخسر المعركة الحضارية على الصعيدين :

صعيد الفاعلية : -1

141

ب شحاذين في سوقھا وسنفقد الكثير من أسباب سنبقى متطفلين على علوم الغر

المناعة واالستقالل . فمن البديھي أن أمة ال تنتج علما وال تكنولوجيا ال يمكن أن

تكالب بشيء وإن عليھا أن تقنع بفتات المائدة وتدفع " الجزية " لكي تنقل

ثمنا برامجھا التلفزية والتليفونية عبر األقمار الصناعية وأن تدفع " جزية "

الستعمال االختراعات في ميدان الطاقة وأن ال تنتظر شيئا من األمم التي ستستولي

على خيرات البحار والقطبين .

صعيد الشرف : -2

األفراد واألمم بالنسبة لي ھم مجرد حملة الفكر في زمن ما ومكان ما . تمر

طريق تفسير الحضارات ويموت األفراد لكن الفكر البشري خالد , يمضي قدما في

أسرار الكون . والمغامرة ھذه ھي الحقيقة األولى واألخيرة وكل ما عداھا فقاقيع

الصابون . المھم أن امتنا لعبت دورا ھائال في وقت ما . حملت مشعل الفكر لكن

المشعل انطفأ وأضاء لھبه عند اآلخرين , وھم أبناؤه البررة وفلذات كبده , بھم

قابعون في زنزانة مظلمة نريد المساھمة في التنوير , مشعله يضيء الكون ونحن

نقدح علبة الكبريت المبتلة لعل وعسى . بصراحة أنا ال أقول أنه ليس من المھم أن

تكون لنا أقمار صناعية أو صواريخ قاذفة وجامعات بحرية ومولدات نووية

الفكر أن نعيد وشمسية , لكن األھم من ھذا ھو أن نعيد لھذه األمة دورھا في ملحمة

لھا .. شرفھا الحضاري . أليس باإلمكان أن نحقق على صعيد البحث العلمي شيئا

من ھذه الوحدة التي عجزنا عن تحقيقھا سياسيا واقتصاديا .

ھل فات األوان :

إن المتأمل لواقعنا االقتصادي والفكري والسياسي اليوم والمقارنة لھذا الوضع بما

يصاب بخيبة أمل كبرى وبيأس عارم لكنني أقول أن النظرة ھو موجود في الغرب ل

خاطئة ألنھا ال تطرح موضوع تطورنا في إطاره التاريخي صحيح واقعنا ھو واقع

التخلف والتشتت والتبعية , ولكن صحيح أيضا أننا واعون بھذا الواقع وأننا بصدد

ظرف الربع قرن إصالحه , فإن نظرة واحدة على تاريخنا تثبت أن األمة حققت في

األخير ما لم تحققه في عشرة قرون وأنھا لم تعرف يوما واحد في الماضي قدرا

142

مماثال من التقدم العلمي والصحي واالقتصادي وحتى من الوحدة وبالتالي فإن

مازوشيتنا في التكلم عن واقعنا ليست إال دليال على نفاد صبرنا وعجلتنا الشرعية

ذين يضحكون علينا من الخارج وعلى شقاقنا ونزاعنا في تحقيق أھدافنا . أما ال

الدائم فھم كمن يحتج على طفال يتعثر للقول بأنه لن يمشي يوما والحال أن الطفل

بصدد تعلم المشي بفضل تلك العثرات . أقولھا إذن بكل ثقة كما قالھا ايليا أبو ماضي

:

لدنيا ونملئه حمدا إذا األمس لم يرجع فإن لنا غدا نضيء به ا

نعم لن ينتھي القرن إال ونجد حلوال منطقية لمشاكلنا ألنه ال خيار لنا : فإما الزوال

وإما مواجھة التحديات . ومن جملة ھذه التحديات التحدي العلمي الذي نستطيع

مواجھته بتعبئة طاقاتنا وتوزيع المجھودات المالية بين األقطار والحد من ھجرة

تعادة من ھاجر منھا . إذن إيمانا مني بدور القاعدة وشرعية مبادراتھا أدمغتنا واس

رغم ما يفرض علينا من صمت ورغم وعيي بأن ھذه الرسالة قد تكون صيحة في

واد تضاف إلى آالف الصيحات العربية التي لم تلق أدنى صدى , فإنني أطالب

ومراقبة معاھد بتعيين لجان مختصة لتبحث موضوع بعث وتمويل وبناء وإدارة

عربية علمية على مستوى عالمي . وحال إعداد ھذه الدراسات عرضھا على أقرب

قمة عربية ليتحمل ملوك ورؤساء دولنا مسئوليتھم التاريخية . أما المعاھد التي

تحتاجھا األمة لكي تضمن مصالحھا وشرفھا وتنفع بھا شتى دولھا وشعوبھا في

فھي : إطار تقسيم الصالحيات والمنافع

مركز المعلومات ومھمته ترجمة كل ما يكتب في العالم وخزنه في عقول -

إلكترونية تكون تحت تصرف الباحثين العرب

المعھد العربي لألبحاث النووية المتقدمة -

المعھد العربي لعلوم األحياء -

المعھد العربي للعقول اإللكترونية -

المعھد العربي للزراعة الصحراوية -

143

ربي لدراسة البحور والقطبين المعھد الع -

المعھد العربي للطاقات الجديدة -

قال أجدادنا " زرعوا فأكلوا , نزرع فيأكلون " فلنبادر بالزرع وكفى ما أضعنا من

وقت حتى ال يقال عنا أحفادنا تلك الجملة الفظيعة التي طالما رددناھا نشتم بھا آبائنا

" يا أمة ضحكت من جھلھا األمم "

ــــة الشعبيـــــــــةالجامعـ

الحلقة المفرغة :

ما ھو الفرق الرئيسي بين الشعب المتقدم والشعب المتخلف ؟

أغلب اإلجابات في السوق الفكرية تخلط : النظام السياسي , مستوى المعيشة الخ ..

لكنني أدعى أننا نخلط بين السبب والنتيجة ألن الثروة مثل النظام السياسي ھي

قدم وثمرته وليست سببه . حصيلة الت

إذن ما ھو العامل األساسي في عملية تطور الشعب ؟

أقول : كمية المعلومات المتوفرة داخل المجتمع .

ھل تعلم مثال أن رأسمال بلدان كاليابان وكوريا والدانمارك ھو العلم ؟ وھل تعلم

( The know Howأنھم يصدرون في ھذا البلد األخير مثال محصول اسمه

) ؟ بطبيعة الحال ال نملك ترجمة Le savoir faireوھما ما يسميه الفرنسيون .

عربية لھذه الثروة ألننا ال نملك أبسط جزء منھا . وبالتالي كيف تريد أن نكون اسما

لشيء نجھله ؟

لنعرف إذن بأن الثورة , ابتداء من مثال بسيط :

ج ... أفكارا ... نعم أفكارا ومخططات لقد عرفت شخصيا فالحا دانمركيا يبيع للخار

حول أحسن طريقة لتنظيم اإلسطبل الصناعي ... أو الحفاظ على القمح ... أو ... أو

... وقد تجھل أن الثمن الباھظ الذي ندفعه عندما نشتري بضائع ومصانع ھو ثمن

144

من الفكر الذي خلق وانتج إذ ال تتكلف " الخردة " المادية إال جزاء مأويا ضئيال

ثمن ما نشتريه .

الظاھرة القارة في المجتمعات المتقدمة ھي أھمية المعلومات التقنية المتوفرة عند

العامل والفالح وسرعة تجددھا وقابلية المجتمع إلفراز وخلق معلومات جديدة في

إطار تطوره المتسارع . ثقل المجتمع الغربي ووزنه ليس كما يخيل للسذج منا في

ة بل في ثروته الفكرية التي ھي سبب ثروته المادية . ثروته المادي

واآلن ما ھي وضعيتنا بالمقارنة ؟

تخلفنا المادي ھو الواجھة للتخلف الحقيقي أي التخلف الفكري .

من البديھي أن قبيلة بدائية معزولة ال يمكن اعتبارھا جاھلة طالما تماشت تقنياتھا

فرادھا والمحيط . افتح لھا أبواب العالم مع حاجياتھا وطالما وجد توازن بين أ

العصري المعقد وستصبح ھذه القبيلة جاھلة كل الجھل إذ ستواجه بعجزھا الكلي

على التعامل معه وھذه وضعيتنا ولو أن عجزنا نسبي .

فنحن نعاني من فرق فادح بين ما تتطلبه حاجيات مجتمع متقدم وبين إمكانياتنا

الفكرية والتقنية .

بر مثاال معروفا : العمل الرديء . ھو ظاھرة شائعة إلى درجة أنني أصبحت لنعت

أعتقد أن شعار كل من يمارس عمال في ھذه البالد ھو " كعور وأعطي لالعور " .

فالعمل الرديء في اإلدارة , في المستشفى , في الصناعة الخ ... بطبيعة الحال

المطلق بأن العمل ال يوفر الخبز ھناك مصدر نفساني للعمل الرديء : إيمان الناس

والكرامة وإن الطرق الملتوية التي يمارسھا االنتھازيون الذين طبعوا العشرية

الماضية بطابع قد لن ينمحي , ھي الوسيلة الوحيدة لإلثراء ومن ثمة فال داعي "

لتكسير الرأس " .

دور قلة أو رداءة باإلضافة إلى ھذا السبب الوثيق الصلة باعتبارات سياسية , تجد

المعلومات التي تتوفر عند الموظف والفني والطبيب والفالح الخ ... زد على ھذا

ظاھرة العصر األولى أي سرعة التغيير وتصاعد وتراكم المعلومات , ومن ثمة

التغييرات لنكتشف أن مجتمعنا من ناحية وفرة وجودة المعلومات التي تمكن من

145

ع الواقع ضعيف إلى أبعد حدود الضعف وھذا ما يفسر ( التعامل الصحيح والفعال م

إلى مدى معين طبعا ) حالة العديد من مؤسساتنا .

العمل الصناعي : متقدم عندھم ورديء إلى غاية درجات الرداءة عندنا .

الفالحة : أي إنتاجية الفالح التونسي من إنتاجية نظيره الياباني ؟

دون ونحن نستھلك البحث العلمي : ھم يبحثون ويج

11سنة , نسبة وفيات األطفال 57سنة وعندنا 75الصحة : معدل الحياة عندھم

في األلف في تونس الخ ... 80في األلف في السويد و

طبقات الجھل

أول ما يتبادر إلى الذھن عندما نقول إن شعبنا متخلف ھو أوال وقبل كل شيء شعب

القراءة والكتابة , أي أننا نجعل الجھل جاھل , وإن جھله ھو عدم التمكن من

مرادفا لألمية ولألمية فقط . ھذا صحيح نسبيا . يكفي أن نعلم أن نسبة األمية في

بينما تبلغ في اليمين أو % 60وأن نسبتھا في تونس % 1سويسرا أو اليابان

لكي نقدر خطورة الوضعية من ھذه الناحية . % 90السودان

الكتابة وإن كان عامال ھاما في تعريف الجھل ليس أھمھا . لكن جھل القراءة و

لنتساءل مثال عن مدى فاعلية تعامل المتعلمين وأنصاف المتعلمين مع الواقع أي

ھل تمكنھم المعلومات التي تلقوھا على كراسي المدرسة من فھم عالمھم والتأثير

عليه ؟

اھضة في تعليمه القراءة وبعبارة أخرى يستطيع اإلنسان الذي أنفقنا أمواال ب

والكتابة الحفاظ على صحته وفھم أسباب غالء المعيشة وطبيعة النظام السياسي

واالجتماعي الذي يتعامل معه , وھل ينفعه ھذا في إتقان عمله وھل تعلم كيف يتعلم

وكيف ينمي مداركه ويالحق تطورات العصر ؟ والرد ال بطبيعة الحال , ألن نظامنا

تقريبا من القادرين على مواكبة ھذه الثورة % 1تربوي ال ينتج إال التعليمي وال

الثقافية الدائمة التي يجھدھا العالم , وجلھم من طلبة وأساتذة الجامعة وبعض

القطاعات النخبوية الھامشية من رجال العلم والفن واألدب والسياسة .

146

األميين أن من % 60ومن ثمة فالسؤال المطروح ھو : كيف يمكن لشعب فيه

يتقدم , وھل للواحد في المائة من المتشبعين بتقنيات ومفاھيم العصر وزن كاف

الذين نعرفوا أنھم يحسنون القراءة % 39لترجيح كفة الميزان , وما ھو وزن الـــ

والكتابة ؟

وأرد : أال تعتقد أنه تقدم مغشوش ؟ ! وقد تعترض بأننا نتقدم رغم ھذه األرقام

جامعات تبني وتتقشر واجھاتھا بعد ! قة لكن المصعد فيھا ال يصعدعمارات شاھ

سيارات وطرقات , لكن ! تلفزة تعمل ولكن لبرامج للمتخلفين ذھنيا ! ستة أشھر

بضريبة ألف قتيل سنويا الخ ...

وقد تلح في اعتراضك مذكرا بأن الشعوب المتعلمة كانت جاھلة في يوم ما ثم

ھو حاصل في بالدنا حيث يشيع التعليم ويعمھا رويدا تعلمت وأن ھذا بالضبط ما

رويدا , ومن ثمة فالمسألة مسألة وقت ال أكثر . فما ھي إال بعض سنوات ونلتحق

في ميدان " كمية المعلومات " بمصاف الشعوب المتقدمة .

واالعتراض منطقي لكنه سطحي . فوضعيتنا ليست وضعية تلك الشعوب في بداية

نھا بدأت في درجة معينة ثم نمت تقنياتھا شيئا فشيئا وتماشى تكور طريقھا ذلك أل

العقلية مع نتاج التقنيات الحديثة مما جعل المجتمع يتطور بكيفية متوازنة. أما

عندنا فالعكس ھو الصحيح ألن العالم الغربي فرض علينا تقنياته ومفاھيمه

موضوعية للتعامل الصحيح وتسربت كلھا إلينا بسرعة كبيرة في حين أن المعرفة ال

مع ھذه التقنيات والمفاھيم لم تتوفر إال في قطاعات نخبوية ھامشية ومن مجتمعتنا

, فحصل انفصال حضاري خطير داخل النسيج االجتماعي إذ خلقت بھذا قطاعات

ھائلة من المجتمع يمكن أن نقول عنھا أنھا في نشاز كلي مع معطيات حضارة

ولم تواكب تطورھا لكي تستطيع التأقلم والتكيف مع في مفروضة لكنھا لم تخلقھا

األوان .

أما الرأي الثاني القائل بدور التعليم في مسح ھذا الجھل رويدا فھو يجھل أو يتجاھل

أن تعلم القراءة والكتابة شيء والتعامل مع تقنيات العصر شيء آخر باإلضافة أنه

147

ين , وكيف نستطيع التعامل معه وإدماجه من األمي % 60ال يفسر لنا ماذا نفعل بالـــ

في مخطط التنمية الشاملة, مع العلم بأنه من السذاجة تصور اختفاء األمية والجھل

من تالمذة االبتدائي الذين يطرودون من % 70بفضل التعليم ألن مصير الــــ

جھال ) التعليم ( والذي لن يجدوا إال في تلفزتنا العظيمة وقاعات السينما ما يزيدھم

ھو طبعا الضياع وال يمكن اعتبارھم عنصر فعال في عملية تقييم الوزن العلمي

للمجتمع .

التشخيص إذن كاآلتي :

ھناك نشاز كبير بين الطلب والعرض الحضاري يؤدي إلى -1

شيوع العمل الرديء يھدد عملية التقدم ويؤخرھا .

د على تقنية تغلغل المعلومات المطلوبة بطئ وبطئ جدا ألننا نعتم -2

قديمة ھي تعلم القراءة والكتابة ومن ثمة اعتقدنا في بداية

االستقالل أن محاربة األمية ھي تعليم كل الناس مبادئ القراءة

والكتابة ونحن لن نتقدم في ھذا الميدان طالما لم نفھم أبعاد

الثورة العارمة التي نعيشھا حاليا في ميدان نقل المعلومات .

عطف خطير في تاريخ الحضارة ألننا ندخل بضفة فنحن نواجه من

ال رجعة فيھا في عالم قلت فيه أھمية القراءة والكتابة لنقل

التراث الحضاري وتعميمه والمحافظة عليه . حقا شكلت ھذه

التقنية تقدما ملحوظا بالنسبة لتقنية الشفوية لكنھا حاليا ضحية

لوسائل السمعية التقدم الذي تسببت فيه إذ ستصبح بالنسبة ل

المرئية أداة قليلة الفاعلية باھظة التكاليف .

مثال بسيط : تكتب قصة تطبع منھا ثالثة آالف نسخة يقرأھا عشرة آالف شخصا

في أحسن الحاالت . واآلن أكتب نفس القصة للتلفزة المصرية وسيشاھدھا خمسون

التقنيتين في نشر مليون نسمة . والفارق بين الرقمين ھو الفارق بين إنتاجية

المعلومات .

148

الغريب أنه حتى ( محلفو ) جائزة نوبل لم ينتبھوا إلى التحوير الخطير الذي أدخلته

الوسائل السمعية البصرية على عالم المعرفة وفي ميدان األدب على وجه التحديد .

ر فھم يصرون على منح الجائزة ألدباء مغمورين متجاھلين أن أكبر أدباء ھذا العص

وكوروزاوا EISENSTEINھم الذين يكتبون بالكاميرا من أمثال ايزنشتاين

KUROSAWA وكوبريكKUBRIK وشابلنCHAPLIN ... الخ

واألغرب أن المسؤولين عن التعليم والثقافة لم ينتبھوا إلى األھمية الخارقة لھذه

لسياسة عليھا ) الوسائل الحديثة ( وربما كان السبب استحواذ أعرافھم من رجال ا

والحال أنھا وحدھا الكفيلة بنشر المعلومات الالزمة وأن محاولة محاربة األمية مثال

بنشر القراءة والكتابة في عصرا كھذا ليست فاشلة فحسب و لكنھا بدون أي أھمية

ألن فاعلية مثل ھذه التقنية ال تكاد تذكر .

الحل : جامعة الشعب السمعية المرئية :

سؤوال في وزارة االقتصاد أو مدير البنك المركزي ( الحظ أني ال أقول لو كنت م

مسؤوال في وزارة التعليم أو الثقافة ) لنادية بفتح جامعة الشعب السمعية المرئية

في إطار إنجاح خطة التنمية السادسة وذلك اعتمادا على البديھيات اآلتية :

د تشبع المجتمع ال يمنك اإلسراع بالخروج من التخلف إال بتزاي -1

بأكبر عدد ممكن من المعلومات وكل مخططات التنمية مھددة في

مسيرتھا بوجود األمية والجھل بمفاھيم العصر وتقنياته .

ھناك في المجتمع معرفة كان لھا دورھا يوما ما لكنھا أصبحت -2

اليوم عائقا لتقدم . ومن ثمة يجب تغير البنية العقلية للناس قبل

منازلھم أو مدارسھم أو الطرقات التي يتنقلون محاولة تغير

عليھا .

إن أحسن حل للقضاء على جيوب الجھل وربح الوقت في -3

معركتنا الضاربة ضد التخلف والفقر والمرض ھو بعث جامعة

الشعب السمعية المرئية وتكون مھمتھا كاآلتي :

149

ن مسح جيوب الجھل التي تؤدي إلى عرقلة مسيرتنا , مثال : في ميدا -

الصحة : نعرف أم مئات الرضع يموتون سنويا لجھل األمھات . ومن ثمة

تكون مھمة الجامعة التثقيف الصحي للشعب . كذلك نعلم أن أحد أسباب

ضعف إنتاجية الفالح جھله للقواعد العصرية للفالحة ( مع العلم أن ھنالك

تعليم أسبابا أخرى اقتصادية ومائية الخ ... ) إذن تقوم جامعة الشعب ب

الفالح ولرفع مستوى كل من يعمل بصفة عامة

إن التغيير المتصاعد السرعة للحركة العلمية يجعل حتى أعلم -4

قطاعات الشعب مھددة بالتسجيل . ومن ثمة فإن رسكلة الطبيب

والمعلم واألستاذ والمھندس ھي عملية مصيرية . إذن تكون

ت المتقدمة من المھمة الثانية لجامعة الرسكلة الدائمة للقطاعا

شعبنا حتى تستطيع مواكبة العصر .

للشعب التونسي معلومات عريقة في كثير من الميادين وخبرات -5

متعددة وحكم وآداب وأشعار الخ ... ونحن نجھل عنھا كل شيء

تقريبا رغم أنھا تراثنا الجماعي ومن ثمة فإن مھمة الجامعة

تعريفنا بتراثنا.

يو والتلفزة يقومان بھذه المھمة ولكن الواقع يكذب وقد يعترض القارئ بأن الراد

ھذا . فدور ھذين الجھازين يتوقف على الدعاية السياسية والترفيه الرخيص أي في

الواقع على تجھيل الشعب , أما ما يبث من برامج تثقيفية بين الفينة األخرى فمجرد

ذر الرماد في العيون .

ن يكون نابعا إن إرادة سياسية يخطط لھذه نحن بحاجة إلى برنامج ال يمكن إال أ

الجامعة ويعطيھا كافة اإلمكانيات المادية والبشرية لكي تضطلع بمھمة على قدر

كبير من الخطورة . فعوض أن نعطي االعتمادات لقناة ثانية فرنسية لتشيع

إيديولوجية اإلنبتات والتغرب والتسلية الرخيصة لطبقة ضئيلة من الشعب , يجب أن

خر مثل ھذه القناة للتثقيف العلمي والصحي واالقتصادي والرسكلة المتواصلة نس

بلغة ھذا الشعب بخبرات أبنائه .

150

وفي االنتظار يجب أن تتضافر جھودنا ببعض نوات ھذه الجامعة في العاصمة وفي

كل المدن الكبرى .

و التكنوقراطين لقد تعودنا نظرا لمفاھيمنا القديمة انتظار الفرج من رجال السياسة أ

, وھذا نتيجة تربية ال تتالءم مع روح العصر . فتونس اليوم يجب أن تكون كشركة

متعددة األسھم ساطعة االسم , يفوض المشاركون فيھا إلى مجلس إدارة يرأسه

مدير معين بمھمة تطوير أرباح الشركة والمساھمين , ونجاح الشركة رھين حقا

ين أيضا بعدد األسھم ووزنھا الذي يساھم بھا كل بجدارة ذلك المجلس , ولكنه رھ

فرد . لذلك أقول علينا نحن المواطنون التخطيط لھذه الجامعة ثم رفع المخطط

لمجلس اإلدارة لينفذ وإن نجعل من ھذا المشروع مطلبا مثل الترفيع في األجور أو

روع . كرامة االنتخابات الحرة , والعمل من اآلن من مواقعنا على إنجاح المش

ھذا المقال ليس تحديدا ولكنه نداء , فھل من مجيب ؟

أي مستقبــــــــــــل لجامعتنــــــــــا

عيوب الجامعة التونسية أكثر من أن تحصى أو أن تعد : التنظيم الھرمي , التحجر ,

انعدام الديمقراطية , استعمال اللغة األجنبية ... لكن لنترك النقد جانبا . فمصير

الجامعة الطبيعي ھو التغير بفضل السلبيات . ومن ثمة فإن السؤال المطروح ال

يتعلق بالحكم المعياري على ھذه الجامعة بقدر ما يتعلق بمستقبلھا . فأي مستقبل

للجامعة تريد إذن ؟

الخطوط العامة :

* أوال : يشھد العالم تغيرا جذريا ناتجا عن دخول الثورة اإلعالمية (

Révolution informatique وقد أصبحت ھذه الثورة إحدى اإلمكانيات , بل . (

وأھمھا للخروج سريعا من التخلف إذ يمكننا أن نقفز مباشرة إلى القرن الواحد

والعشرين , إذا استطعنا استعمال التكنولوجيا الحديثة والمتوفرة من عقول

151

يق ونقتصد مجھودات الكترونية , وطاقة شمسية وھندسية بيولوجية, فنختصر الطر

شاقة مر بھا الغرب .

السؤال إذن : كيف يمكن التمكن من ھذه التكنولوجيات ؟

الجواب : باستعمال الطاقة التي ال تنضب : الطاقة الفكرية البشرية .

* ثانيا : الجامعة ملك للشعب التونسي دون سواء , أي أنھا ليست ملك الحكومة ,

قائدية أو األساتذة المتمركزين أو " شيوخ الجامعة " , أو األحزاب السياسية والع

وھي إحدى وسائل الشعب التونسي لمكافحة الجھل والفقر والمرض , ومن ثمة فإن

مھمتھا تقتضي أن تسخر لھذا الھدف , ولھذا الھدف وحده .

جامعة شعبية

تعتبر الجامعة وسيلة للتقدم وتحدد لھا مھمتان :

ھندسين , وأطباء ... وذلك لالستجابة إلى حاجيات تكوين األخصائيين كم )1

معينة للمجموعة الوطنية .

تصبح ھذه الجامعة مركز رصد يتابع تطور األفكار والنظريات في عالم )2

التكنولوجيا المتصاعدة التعقيد وتكون مھمتھا اكتشاف وتلخيص كل

تقدم. المعلومات في شتى الميادين التي يمكن أن تشكل عامال من عوامل ال

بطبيعة الحال يجب تعميم ھذه المعلومات الحيوية على جملة المجموعة .

بعبارة أخرى يجب أن تكون الجامعة وكالة المخابرات علمية تضع

إمكانياتھا في خدمة الحكومة والشعب .

وحتى تصل المعلومات إلى مختلف القطاعات التي نحتاجھا , يجب أن تدخل اإلذاعة

ف الجامعة , أو على األقل أن تكون لھا قناة مستقلة , تكون والتلفزة تحت إشرا

مھمتھا بث المعلومات في كل الميادين . والمالحظ ھنا , أن اإلذاعة والتلفزة على

شكلھا الحالي وبرامجھا المتدنية التي تقتصر على الدعاية البدائية والترفيه

ھا عامال من عوامل الرخيص , تشكل أداة تجھيل للشعب , ومن ثمة يمكن اعتبار

التخلف وتأصيله .

152

بطبيعة الحال يجب أن تكون برمجة ھذه القناة محكمة لكي تعمم برامج مختلفة

حسب حاجيات القطاعات المختلفة للمجتمع ذات المستويات المتباينة مثال : التثقيف

الصحي لألمھات , تحسين معلومات الممرضين و رسكلة األطباء الدائمة .

الجامعة الشعبية لن تكون بطبيعة الحال اللغة األجنبية أو شكلھا البشع " لغة ھذه

الفرنكوآراب " وإنما لغة ھذا الشعب : العربية .

جامعة مفتوحة :

يجب فتح أبواب الجامعة على مصراعيھا لكل من يريد , ولكن من يبحث عن العلم

قطاعا معينا من الجامعة . , أي أن الطلبة واألساتذة القارين , يجب أال يشكلوا إال

لماذا ال يستطيع معلم القرى البعيدة متابعة دروسه في الجامعة ؟ لماذا ال يحق

ألرملة في الستين أن تدرس مبادئ العربية أو علم االعتناء باألطفال المعاقين ؟

لماذا ال تستعمل الجامعة المھارات الفائقة في إطار المجموعات الوطنية والتي ال

ل لقب " الدكتور البروفسور " ؟ من المؤكد أن الكثير من ھذه الكفاءات تحم

تستطيع أن تنفع الجيل الناشئ والجامعة أكثر من عدد ال يستھان به من الدكاترة .

معنى ھذا أن الجامعة المغلقة والمتقوقعة حاليا على مصالحھا ( أي مصالح نخبة

العلوم والمعرفة . أقول إذن من جديد من أساتذتھا ) تھدر طاقات الوطن في ميدان

وأركز على ھذه النقطة : يجب فتح الجامعة على مصراعيھا بإحداث وخلق

إمكانيات متعددة لمتابعة الدراسات بشتى أصنافھا , كذلك يجب إقامة الجسور بين

مختلف الكليات الموجودة في الجامعة ألن في التخصص المفرط ضررا فادحا . فمن

طالبا في اآلداب ال يعلم شيء عن التقدم التكنولوجي ودعامته النظرية البديھي أن

ھو غير قادر على التعامل الصحيح مع العالم . ومن المؤكد أيضا أن طالبا في الطب

يجھل الخلفيات االقتصادية والسياسية واالجتماعية والنفسية للمريض ھو محكوم

عليه بالفشل .

من طلبتھا % 80حال أن جامعتنا تتسبب في طرد وقد يبدو كالمي ھذا غريبا وال

المرسمين , فأني لھا أن تفتح أبوابھا وھي حصون وقالع منيعة ؟ لكن المالحظ

لسير الجامعة الحالي مجبر على مالحظة ما يلي :

153

* يشكل المطرودون من داخل الجامعة , والمحرومون من دخولھا خسارة فادحة

ين يتحكمون في مصير البشر أن كل طالب للعلم يقصى للشعب , إذ يجھل السادة الذ

عنه ھو مخ يبعد عن جھاز األدمغة الخالقة الذي يقوى بتزايد المشاركين فيه .

* تضيع بخروج ھذه األدمغة عن ساحة العمل الخالق ثروة ال تقدر بثمن , إذ يجھل

إلنسان ... إن ھؤالء السادة أن العامل الرئيسي للثروة خاصة في عصرنا ھذا ھو ا

فلسفة االنتقاء أظھرت دائما وأبدا فشلھا . كل كلية تتسبب في طرد

% 20من طلبتھا تثبت بھذا أنھا ال تقدر على تأدية مھمتھا إال بنسبة % 80

والكل يعلم أن أي مؤسسة يكون مردودھا متدنيا إلى ھذه الدرجة يجب إما إغالقھا

أو إعادة النظر في كيفية عملھا .

جامعة ديموقراطية

يجب إعادة النظر في صيغة العالقات داخل الجامعة وذلك عمال بالقانون اآلتي :

لم يعد لمفھوم الطالب من معنى : أنا بصفتي أستاذا جامعيا , طالب و سأبقى طالبا

إلى آخر حياتي أي أنني في حاجة دائمة إلى التعلم وإال فاتني قطار العلم في ميداني

ذ تتجدد فيه المعلومات كل خمس سنوات بصفة كلية . معنى ھذا أن ( الطب ) إ

مفھوم األستاذ تغير ھو أيضا تغير جذريا . فاألستاذ اليوم ھو من يعلم اآلخرين كيف

يتعلمون ومن يتابع تعليمه إلى آخر يوم من أيام حياته . بعبارة أخرى إن تصاعد

ون مھمتنا األولى في الجامعة وتعقيد وتجدد الحركة العلمية تفرض علينا أن تك

تعليم الطلبة أن يكون أساتذة أنفسھم ال إعطاء معلومات تبلى بسرعة فائقة . لذلك

يجب أن نعلم ابتداء من السنة األولى تقنيات البحث والتعليم المبرمج الذاتي (

AUTOENSEIGNEMENT . (

اليوم عملية جامعية كذلك يجب أن نعلم الطلبة العملة المشترك ألن البحث العلمي

Lesولو تعد عملية فردية . فمن البديھي أن دور الشيوخ الجامعة (

mandarins سيتضاءل ألن أوليتھم المطلقة وتسخيرھم للجامعة لمصالحھم (

الشخصية ترتكز على مغالطة ھامة ھي استيعابھم المفروض لعلم لم يعد يخضع

154

سما. ومن ثمة يجب إعادة النظر في في الواقع لمحاولة احتواء من أي عقل مھما

دوري ومھمة المسؤول الجامعي إذ يجب أن تلغ مھمة األستاذ القار . أو رئيس

القسم القار المسمى إلى آخر الحياة واستبدال ھذه الوظيفة بوظيفة األستاذ المنشط

التي تتلخص مھمته في إدارة األبحاث التي تقوم بھا مجموعة من الباحثين

في الحقوق والواجبات , أي استبدال النظام الھرمي القاتل للمواھب , المتساوين

والخانق لالبتكار واإلبداع , بنظام أفقي وديمقراطي يعطي لكل المواھب فرصتھا .

جامعة البحث

يجب إعادة النظر في برامج التعليم الجامعي حتى يخضع للشروط التالية :

تفسح المجال للعمل الذاتي يجب أن تشكل الجامعة منطلقا للبحث وأن )1

والمبرمج , أي أن تكون منطلقا لعملية التعليم الدائم الذي ال ينتھي إال

بنھاية الحياة .

يجب أن تعكس البرامج مشاغل المجتمع الحقيقية . مثال : الحظت أن )2

برامج الدراسة الطبية , ال تفسح المجال لموضوع المعاقين ( وھم

واحدة , بينما تخصص ساعات طويلة نسمة ) ولو ساعة 400.000

ألمراض منعدمة في بلدنا , أي أنه يجب اعتبار رأي المستھلكين في

برمجة الجامعة .

مردود البحث العلمي حاليا ضعيف جدا , ألنه ال يخضع لتخطيط محكم يأخذ )3

بعين اإلعتبار حاجيات المجتمع الماسة إذ يترك المجال للمبادرات الفردية

لحال أننا نواجه مشاكل عويصة في شتى الميادين تتطلب المتفرقة وا

أبحاث جادة . ومن ثمة يجب إحداث لجنة تخطيط متعددة األطراف , تقرر

األولويات وتوزع العمل على مؤسساتنا الجامعية . مثال : نستطيع في

ميدان األدب أن نركز األبحاث على تحديث اللغة العربية بدال من إضاعة

طويلة في التنقيب على بعض وجوه الماضي . كذلك , مواھب وسنوات

يمكن أن نعھد إلى رجال الحقوق بالتركيز على قانون البحار والعالقات

الدولية. ومن البديھي أيضا أننا سنحث األطباء في إطار ھذا العمل

155

المشترك على تتبع وترجمة كل المعلومات الحديثة وإلى توجيه أبحاثھم

انتشارا في بالدنا , وسنبني أبحاثنا على المعلومات إلى األمراض األكثر

المتوفرة في السوق العلمية .ومن ثمة تتضح أھمية التكوين مركز وطني

للمعلومات تكون مھمته جمع كل المعلومات وخزنھا في بنك المعلومات (

Banque de données يستعمل العقل اإللكتروني , وھو ما تحاول (

Révolutionة خاصة في إطار الثــورة العلمــيةكل البلدان المتقدم

informatique) . (

ھذه مالمح جامعة المستقبل نفرضھا على أنفسنا قبل أن يفرضھا علينا الواقع

والواقع ال يرحم من يتخلف عن الركب .

من أجل نظرة موضوعية لمفھوم التطور

مجتمعنا بمقياسه فنقرر نحن ضحية سراب خداع : النموذج الغربي للتقدم , نقيس

أننا متخلفون , وأننا سنعد من المتقدمين يوم تربض المرسيداس أمام فيلة كل واحد

منا . أقول نحن ضحية سراب خادع ألننا لم نكلف أنفسنا عناء التساؤل : ھل ھذا

نموذج ممكن التحقيق ؟ ما ھو ثمنه الحقيقي ؟ ھل يستحق ھالة القدسية التي

من مفھوم آخر ؟ أول سؤال : نضيفھا عليه ؟ ھل

ھل النموذج الغربي للتقدم في متناولنا ؟ ال بالطبع فقد أظھرت دراسات نادي روما

أنه لو أراد كل فرد من أفراد البشرية التمتع بمستوى العيش الغربي لما كفت موارد

األرض الطبيعية من بترول وفحم ومعادن الخ ...

عن ثمن التقدم الغربي وكلفته الحقيقية ؟ ھذا ما يؤدي بنا إلى التساؤل

على الصعيد السياسي :

حقق الغربيون الكثير من المنجزات الحضارية العظيمة بفضل عملھم ونبوغھم لكن

ارتفاع مستوى معيشتھم كان وال يزال مرتبطا باستغالل خيرات العالم : مثال يشكل

156

من الطاقة ويفرضون % 40من سكان األرض لكنھم يستھلكون % 6األمريكان

ھذا االستھالك المجحف بشتى أنواعه القوى : العسكرية, التكنولوجية , السياسية

الخ ...

معنى ھذا أن غناھم ھو النتيجة الحتمية لفقرنا وأن ازدھارھم مبني على ضخ

خيرات العالم بأبخس ثمن . فال غرابة أن يعانوا من أزمة اقتصادية خانقة ابتداء من

التي فرض عليھم تغير ميزان القوى دفع الثمن الحقيقي للخيرات التي اللحظة

تعودوا على ابتزازھا . معنى ھذا أيضا أننا لن نستطيع التمتع بمثل رخائھم في حالة

غياب موارد كافية أو قوة عسكرية لنھب خيرات اآلخرين .

على صعيد البيئة :

إلى تدمير رأس مالنا األول أي أدت فلسفة التقدم المطرد واالستھالك المحموم

البيئة الطبيعية وبشكل رھيب . ھل تعلم أن ھناك مناطق كاملة في اليابان وأمريكا

أصبح السكن فيھا خطرا على صحة الجسم والنفس , ھل يجب ويمكن االستغناء

عن المال والھواء واألشجار والبحر والوقت من أجل التمتع بآلة غسل الصحون

شاة السنان الكھربائية , والسيارة الجديدة كل ثالث سنوات . الكھربائية وفر

و على الصعيد اإلنساني :لم يؤد ارتفاع مستوى المعيشة في الغرب إلى ارتفاع

مستوى الفضيلة أو األخالق أو السعادة , بل العكس ھو الصحيح , ويسعني أن أقرر

فرنسا وحدھا يشكل ھذا اعتماد على تجربة عشرة سنوات في مستشفياتھم . ففي

اإلدمان على الكحول

من % 40( وھو ظاھرة على وجود خلل نفساني ) آفة اجتماعية ھائلة , تمتص

اعتمادات الصحة , كما يرتفع عدد المرضى النفسيين والعقليين سنة بعد سنة (

وھو عدد يقدر بالماليين ) والسبب في ھذا الصراع المحموم المفروض على الناس

أوصال العائلة والعزلة , وتكديس البشر في وحدات سكنية ضخمة ال , وتفكك

إنسانية . ھل تعلم مثال أن االنتحارات في بلد كاليابان خاصة بين الكھول والطلبة

وحتى تالمذة الثانوي تصل إلى أرقام خيالية ؟

و على الصعيد البيولوجي :

157

األيدي العاملة أوقات النمو تتطلب العجلة االقتصادية استھالك أكبر عدد ممكن من

السريع ومن ثمة تحرر المرأة المزعوم الذي ھو في الواقع العذر البراق لرمي

النساء في أتون اإلنتاج واالستھالك , أضف إلى ھذا شيوع فلسفة اللذة والتمتع وزد

عليه انتشار وسائل منع الحمل ,, ماذا تكون النتيجة ؟ انخفاض مھول في نسبة

تضاف إلى ارتفاع عدد الشيوخ نظرا الرتفاع معدل الحياة والخاتمة الوالدات

الحتمية : أمم ھرمة في ألمانيا وفرنسا مثال عاجزة عن تحديد األجيال , يموت منھا

أكثر مما يولد لھا وبالتالي مھددة بشبح االضمحالل وحتى االنقراض . الحضارة ھنا

ھي السم في الدسم .

على صعيد الفاعلية : -5

يقول ريمون رويار : أن األمم التي سترث العالم في القرون اآلتية ستكون األمم

التي منعھا نخلفه النسبي للمعرفة االضمحالل البيولوجي من جھة وتعقيد

المجتمعات الصناعية القاتلة . الرجل على حق . لنفكر قليال : المجتمعات المعقدة

اتھا ھي فالواقع مجتمعات حساسة للغاية أي والمغالية في التقنية التي نطمح لمحاك

ضعيفة للغاية .

1969كلم حوالي نيويورك سنة 500مثال : أصيبت منطقة أمريكية تمتد على طول

بشلل تام النقطاع تيار الكھرباء نتيجة خلل في إحدى مولدات الطاقة . توقف كل

لتحاق بشقته الكائنة في شيء . انھارت دعائم الحياة . لم يعد المواطن قادرا على اال

الطابق السابع والسبعين .

فسدت األطعمة في الثالجات انقطعت األخبار , مات الناس من البرد ,, الخ .

تكرر نفس السيناريو مؤخرا نظرا النقطاع جزئي ومؤقت في البترول . الواحد منھم

ألنه يسكن في ال يتحرك أربع خطوات إال بسيارته . أقطع عنه البترول تقطع حياته

ضاحية بعيدة ,, ألنه نسي المشي ,, ألنه الخ ..

حساسية ھذه المجتمعات إذن ظاھرة ھامة . يكفي أن يضع كمشة من المخربين

ثالثة قنابل في بعض األماكن اإلستراتيجية لتتوقف العجلة . امنع البترول كليا عن

شيء ھام بالنسبة الغرب يموت , أمنع نفس البترول على أوغندا ,, لن يتغير

158

لألغلبية . ھذا ال يعني أنني أدعو لنموذج أوغندي للتقدم لكن علينا فھم وتقدير

أبعاد ھاته الظاھرة واستخالص العبر منھا . ھل يجب محاكاة نموذج يكون شكله

المتقدم والمنتھي خطرا على وجودنا نفسه ؟

ھو ھل فات األوان أي السؤال الذي يطرح نفسه حاليا عندما نشاھد نوعية تطورنا

ھل تغلغل فينا النموذج الغربي للتقدم إلى درجة أنه أصبح مرضا عضاال وھل سرنا

في طريقه إلى درجة أننا وصلنا إلى نقطة الالعودة ؟

يمكن الرد إيجابيا لألسف فيما يخص بعض القطاعات . لنأخذ مثالين بسيطين :

السكن والمواصالت

السكن :

لناس في العمارات الشاھقة في نفس الوقت الذي اكتشف فيه بدأنا في تكديس ا

الغرب آثام ھذا النوع من السكن . أنا ال أجھل الدوافع االقتصادية التي ترغم على

اختيار مثل ھاته الحلول , لكن ھل أدخل المسؤولون الفنيون والسياسيون في

اق العصبي الخطير حساباتھم الثمن اإلنساني الباھظ , ھل قدروا ثمن واھية اإلرھ

الناتج عن الضوضاء واالزدحام ؟ ھل قدروا ثمن انحراف المراھقين الذي يكثر في

مثل ھذه التجمعات الالإنسانية ؟ ھل فكروا في استحالة إيواء الجد العجوز والجدة

المريضة في عمارة بال مصعد ؟ ھل أضافوا إلى حساباتھم ثمن مآوي العجز التي

ن تكثر مثل ھاته العمارات باإلضافة إلى المستشفيات العقلية . تكثر أوتوماتيكيا أي

ألم يكن الحل االقتصادي الحقيقي بناء أصغر عمارات ممكنة واعتبار عاداتنا

وتقاليدنا إبان التخطيط وخاصة التركيز على المرافق االجتماعية من البداية كالنادي

تساكنين . والمكتبة والحديقة ,, حتى ولو تطلب ھذا مساھمة الم

التنقل :

أصبح التنقل داخل تونس ال يقل صعوبة عن التنقل داخل أي مدينة غريبة ولو أنه

أخطر نظرا لقلة انضباطنا وقدم السيارات التي تشكل البعض منھا توابيت متحركة ,

والنتيجة : إھدار طاقة ثمينة , تلوث , موت جسد , المترجلين وتطلعھم المحموم

ة التي أصبحت عالمة التوفق والرجولة والنجاح االجتماعي . ھل المتالك السيار

159

ھذا معقول , ھل ھذا ممكن ؟ ال بالطبع . التطور ھنا ھو طرد السيارة من وسط

حث الناس على استعمال الدراجة التي تمرن عضالت القلب –المدينة لنتنفس

استعمال وسائل –تحسين وسائل النقل الجماعية وتكثيفھا –وتطيل العمر وال تلوث

التمھيد البطيء لالستغناء عنھا كليا يوما ما . –اإلعالم لتغيير نظرة الناس للسيارة

ھل ھذا ھو الطريق الذي انتھجناه ؟ ال ,, نحن نكرر تجربة فاشلة ونقرر صنع

سيارة تونسية .

من البديھي إذن أن إعادة النظر في اختياراتنا األساسية ومعرفة عيوب ھذا

لنموذج الذي نقلده . فنحن لحسن الحظ متخلفون أي أنه الزلت لدينا في الكثير من ا

الميادين قدرة على التراجع والتغيير

بطبيعة الحال نحن ال نتطور في جزيرة معزولة بل في إطار عالم له خاصيتان

أساسيتان : التقلب والخطر .

عالم متقلب :

لسبعينات إال وتدخل الصين الشعبية في حرب أنه لن تنتھي ا 1969لو لي أحد سنة

مع فيتنام الشعبية أو أن مصر ستتحالف مع إسرائيل ضد العرب وإن نصف الشعب

الكمبودي سيباد وإن الھند ستصبح بلدا مصدرا للقمح , ال تھمته بالجنون . حصل

ي كل ھذا . لماذا تتھموني بالتشاؤم والمبالغة إن قلت أنه من الممكن أن ال تنتھ

مثال ثان –الثمانينات إال وتحل القوات األمريكية الخليج جزءا واسعا من السعودية

: ( بعد اطالق أيدي الروس لتدمير الصين واحتالل مندشوريا ) وإن الغرب سيعلن

. نفرا 24حظر تصدير القمح وإن المعدل السنوي للسواح في تونس سيبلغ

عالم خطير :

التي كنا نؤمن بھا في بداية الستينات : لم يقع أي تقدم في تبخرت األحالم العظيمة

ازداد عدد األميين في العالم ( –فشلت الثورات الزراعية –ميدان نزع السالح

تراجعت –مليون نسمة ) االحتياطي العالمي من الغذاء ال يكفي شھرا واحدا 800

وم ما الوحدة العربية أبعد لم تكن في ي –انقسم العالم االشتراكي –الحركات الثورية

–يعاني الغرب من أزمة حضارية واقتصادية خانقة –عن التحقيق منھا اليوم

160

خطر الحرب يزداد يوميا –مرة 40الدول تملك ما يكفي من السالح لتدمير األرض

بازدياد التناقضات واستحالة فضھا بالحوار .

المجنون ( الذي ال نتحكم في شيء من البديھي أن ھدف التطور األول في ھذا العالم

في القوى الھائلة التي تسيره ) يجب أن يكون : البقاء على قيد الحياة أو بعبارة

أكثر تفاءال األسرع بتحقيق المنجزات الحيوية التي ال معنى لكلمة االستقالل بدونھا

.

طبيعة ھذا العلم إذن وإمكانياتنا المتواضعة ھي التي يجب أن تملي علينا

استراتيجية مرنة للتطور وفق مفھوم موضوعي ومحلي له ,,

إن من واجب الحكومة إجبار المھندسين المعماريين والبلديات وأصحاب النزل

على وضع مخطط محكم ودقيق الستعمال آخر للمنشئات في حالة توقف السياحة ,

إدارة أو وأن ال يرخص لبناء نزل طالما لم يظھر قابليته ألن يصبح مستشفى أو

مأوى للعجز الخ ...

مثال ثاني : يجب تحديد المرافق الحيوية التي ال يمكن العيش بدونھا كالحد األدنى

من األدوية ( لتعلم صنعھا ) واالكتفاء الغذائي ( للتوصل إليه ) الخ ...

اكتفى بھذين المثالين البسيطين ألنني أشعر بأنني وقعت في فخ كالسيكي ھو اللعب

ظريات بدون احتكام كافبالن

للواقع . صحيح أنه يجب إحكام النظر في المشاكل والتكھن بكل االحتماالت , ونقد

نموذج للتقدم أؤمن بفساده واستحالة تطبيقه ولكن األھم أي خلق نموذج محلي ,

عملية تفوق قدرة شخص واحد وأربعة أشخاص يجتمعون في مقھى أو ناد

وكذا من المشاريع فتختفي المشاكل . لماذا ؟ ألن على ويقررون أن يجب تحقيق كذا

أي نموذج للتقدم إن أراد النجاح أن يفھم من أكبر عدد ممكن من المواطنين وأن

يقبل عن قناعة وان يطبق بفضل ھاته القناعة وإال بقي المصير معلقا بين نظريات

شيء . جوفاء وتصرفات تفرضھا علينا الصدفة والضرورة وال نتحكم فيه في

معنى ھذا أننا مطالبون بفتح حوار بناء داخل بلدنا وبتعميم الوعي لدى مواطنينا

بالمشاكل العويصة التي نتخبط فيھا أي بأسبابھا الحقيقية واالمكانيات الحقيقية

161

لتقدم معقول بدال من الجري وراء وھج السراب . لكن كيف يمكن تعميم ھذا الوعي

قيت فلسفة اإلعالم الرسمي على حالھا : مواقفنا الضروري والحيوي طالما ب

كل شيء على ما يرام . –مسيرتنا المباركة في تقدم حثيث –أوتوماتيكيا موفقة

النقد عالمة الخيانة والعمالة . أقول بكل بساطة : الشعب التونسي ذكي بالفطرة

لحظ صغير بلدنا لحسن ا –نخبته المثقفة متوفرة ومن أحسن الطراز –والحمد

وشعبنا قليل العدد ومتجانس ( أقول لحسن الحظ ألن أسعد المجتمعات نسبيا في

العالم ھي المجتمعات الصغيرة مثل السويسرية أو النيوزلندية ) .

واتعس المجتمعات وأصعب الدول حكما وإدارة دولة المجتمعات الكبرى وأخطر

عن المليون , كل ھاته العوامل المدن كما يثبت علم االجتماع ما زاد عدد سكانھا

اإليجابية من شأنھا أن تسھل حوارا بناء بين المفكرين والسياسيين والفنيين

وعامة أفراد الشعب للتفكير في نموذج محلي للتقدم يأخذ بعين االعتبار فشل

النموذج الغربي واستحاالته وامكانياتنا في إطار العالم المعاصر وأكرر من جديد أن

ل اإلعالم أن ترفع إلى مستوى الشعب أي أن ترفع من مستواھا وأال تزيد على وسائ

الطين بلة بدعاية محمومة وال شعورية للنموذج الغربي . مثال أنا أكره المسلسالت

العاطفية السخيفة

( واألفالم العربية ) التي يعرضھا التلفزيون ال لسخافتھا بل ألنھا تروج وتدعو

للحياة لن نقدر على تحقيقه أغلبية شعبنا . فالبطل مثال دائما ضمنيا إلى نوع معين

وأبدا برجوازي صاحب فيال فخمة وسيارة أنيقة , والبطلة فتاة جميلة ترتدي آخر

موديل من فساتين باريس الخ .. بمضي الوقت يتغلغل ھذا النموذج في عقول الناس

خرھم المزعوم . لنفرض ويصبح المقياس الذين يقيسون به تقدمھم المزعوم أو تأ

أننا حققنا ھاته الصورة المفروضة , سنكتشف أن النموذج الغربي باھظ الثمن ,

قليل الفعالية , وأبعد ما يكون عن تحقيق السعادة . لنفرض اآلن و ھذا أصح

أن األغلبية عجزت عن تحقيقه ووقفت دونه . سينتشر الشعور –االحتمالين

رمان والنقمة وكلھا مشاعر مدمرة وخاطئة ألنھا كما العميق والمرضي بالغبن والح

قلت تخلط بين نوع من الغنى والسعادة وبين التقدم الحقيقي وصورة مشوھة له .

162

من الممكن أن يحقق بعض اآلالف من التونسيين النموذج بما يعنيه ھذا من ارتباط

ة جمة , مصيري بالغرب , ومن المحقق أن عددا أكبر سيقترب من الھدف بصعوب

لكن األغلبية ستقف دونه ضحية شعور بالغبن والقھر , وخطر ھاته الحالة واضح

والسيناريو معروف وھو يكرر نفسه عبر الزمان والمكان برتابة مملة :

ستفرض تونس الغربية مصالحھا ونمط عيشھا بالقوة على تونس المحرومة , لكن

سھا على األغلبية إال لفترة تطول أو القانون يسن : أن األقلية ال يمكن أن تفرض نف

تقصر لكنھا مؤقتة . لنفرض أن تونس المحرومة أخذت مكان تونس الغربية , لن

تتحقق أي معجزة إن كان الھدف ھو نفسه لم يتغير أي النموذج الغربي للتقدم وذلك

نظرا لإلست حاالت السياسية واالقتصادية .

كل التونسيين ليس تحقيق مجتمع القوة فالھدف الوحيد الذي يجب أن يتفق عليه

واالستھالك وإنما تعزيز أمنا تونس بكل ما تحتاجه من تجھيزات متينة ودائمة

وتحقيق مجتمع يتمتع فيه الجميع بالشورى والمشاركة الالمركزية واالستعداد

للمواجھة سنوات صعبة , في إطار عالم خطير متقلب , مھدد كل لحظة بشبح

ة . الحرب والمجاع

يجب أن نتذكر دائما أن مصير الباخرة تونس أما أن تصل إلى المرفأ بكل ركابھا أو

أن يبتلعھا اليم بكل ركابھا أيضا .

***

163

لماذا ستطأ األقدام العربية سطح المريخ

و صارم إلى أبعد حدود قال : حكمك على مجتمعنا قاس إلى أبعد حدود القسوة

الصرامة . ومن ثمة فھو متجن وسلبي , وأنا أفضل عليه فلسفة أجھزة أعالمنا

رغم بدائيتھا وذلك لتركيزھا على إيجابيتنا القليلة المشجعة على مواصلة العمل .

فقلت : يقول ال وتسو .

الجھل بالحقيقة مرض

واأللم منه بداية الشفاء

ه ألنه دائم األلم أم الحكيم فال يصاب ب

وعيبنا الدائم أننا متخلفون أي مقصرون في حق أنفسنا وحق الحضارة , وھي

بداية الشفاء . أما فلسفة الفخر بالماضي والتطاول على الحقيقة كما تمارسھا

العقول الذليلة , فھي مظھر من مظاھر التخلف الحضاري وإحدى أعراض المرض

الذي نعاني منه .

عدة : إن النقد الذاتي الموضوعي الدائم ھو البديل األوحد للتحجر خذھا مني قا

والتخلف أي للجمود والموت . على كل ھل تعلم أنني ال أحكم على تخلفنا المزري

ووضعيتنا المأساوية من موقع المازوشية ألنني واثق أتم الثقة أنه لن تمضي مائة

عام إال وتطأ األقدام العربية أرض المريخ .

غر فاه وصمت دقيقة ثم انفجر ضاحكا وانتظرت دقائق طويلة أن تھدأ قھقھته ف

الصاخبة .

قال : صحيح أنك طبيب أعصاب و صدق من قال " رب طبيب يداوي الناس وھو

عليل " ثم أضاف وھو يغالب ضحكه : يوم يطلق الصاروخ العربي ستكون أكبر

د لزيارة قاعة المحركات وسيلعب مھزلة في تاريخ الفضاء ... سيتزاحم أھل الروا

الصغار باآلالت اإللكترونية , سيصل قائد الصاروخ متأخرا , بالطبع سيكون من

قبيلة الديكتاتور األكبر , ھذا إن لم يكن ابن أخته العزيزة , ستتعطل أجھزة اإلطالق

لذلك سيعطي اإلذن باإلقالع بصفارة القطار ...

164

اجر المھندسون ويتضاربون في غرفة ستتشابك األوامر وستتضارب وسيتش

العمليات . سيكون خطاب الدكتاتور األكبر أطول من زمن الرحلة وأخيرا سيرتفع

الصاروخ مائة متر ثم سينفجر ألن زيت المحرك مغشوش والمحرك صنعته أيد

تونسية , بالطبع لن تظھر تلفزتنا إال انطالقة المائة متر األولى لتدعى في ما بعد "

حي من القائد الملھم ونظرا ألسباب تقنية طارئة قرر العلماء والفنيون إرجاء أنه بو

مسيرتنا المضفرة نحو المريخ إلى قرن آخر " . قلت : كالمك أصدق دليل على ما

أقوله دائما أي أن عمق وقوة عقدة النقص المتأصلة في نفوسنا والتي نحاربھا

والوھمية وتارة أخرى بالكذب على أنفسنا تارة باالستنجاد بأمجاد أجدادنا الحقيقية

وعلى الغير ھي مكمن الداء ... ھاك عينة أخرى من عقدة النقص ھذه : أنا ال أذھب

إلى أي مكان عمومي لقضاء أبسط الحاجات إال وأواجه بمعضلة اسمھا فوض

الناس وأنانيتھم وانعدام حس المواطنة واالنضباط عندھم . في البلدان المتحضرة

ر دورك بصبر وراء من سبقك ويمتد الصف أحيانا مائة متر . عندنا ھذه تنتظ

القاعدة مجھولة , أمام شباك التذاكر يتزاحم الناس وتمتد األيدي فوق رأسك ويكثر

الصراخ والشتم وتتبادل اللكمات في بعض األحيان . ھذا المنظر البشع تراه في كل

م المسرح . إنه المؤشر الحقيقي على مكان ... في اإلدارة ... في المحطة ... أما

التخلف ... تشعر بأن شعار القوم المثل العامي : " ذراعك يا عالف ... حوت يأكل

حوت و قليل الجھد يموت " ... المضحك أنك تسمع وأنت تجاھد للحفاظ على

نظارتك فوق أنفك أصواتا ترتفع تارة بالفرنسية وأغلب الوقت بلغة ھذه المدينة

الفرانكوآراب : " العربي عربي يا ريان آفار " كل ھذا على مرأى ومسمع الھمجية

كثيرا من األجانب كيف أصل لك مشاعري وأنا أصلي بنظرات احتقار العرب من

األجانب واحتقار العرب ألنفسھم .

قال وقد استعاد جده : " صحيح أن ھذه الظاھرة داللة على استشراء الحاجة

نانية , ومن ثمة أسألك أنى لشعب ال يحترم الصف , ويجيد والخصاصة والجھل واأل

احتقار نفسه أن تطأ أقدامه أرض المريخ " .

165

قلت : " أول خطوة على الدرب الطويل اسمھا استعادة الثقة بالنفس وبالمستقبل

وھذا أمر في متناول أيدينا " .

حة حرب أھلية طاحنة تنظر إلى وضعيتنا الحالية فتراھا مزرية ... الوطن العربي سا

ساخنة تارة وباردة أخرى , واقعنا واقع التشتت والتمزق والضياع , طاقاتنا

وثرواتنا تھدر على طاوالت القمار وفي ترسانات األسلحة , حازة أصغر الشعوب

اإلفريقية على استقاللھا وأمتنا تنظر إلى شعب من شعوبنا يعاني عار االحتالل وال

ى كل زار وله عدو وعليه عاتب " كما يقول ابن المقفع تحرك ساكنا " وكل عل

والحال في وطننا الصغير كما تعرف : تقدم سطحي وقف على طبقة تمتاز بالجشع

والصفاقة وقلة الذوق , تغرب ثقافي مھول : تحطم وتشوه لغتنا المقدسة , جھوية

ة , عشائرية ،عمل رديء , تدھور مخيف على صعيد العالقات البشرية , فضاض

قسوة , تواكل ... وأنا وابن عمي على الغريب ... سيادة الواسطة وتراجع القانون

... إعالم بدائي وثقافة تعاني من كثرة الرقباء الخ ... الخ ....

لكن الحق أن تتساءل وإني ألمة كھذه أن تصل المريخ . أقول ال تنظر إلى واقعنا وال

ه التاريخي وستتضح لك الحقيقة : نحن أمة تزنه بمقياس اللحظة ... ضعه في إطار

عظمى ... نحن أمة توحد مصيرھا يوما بعد يوم ... نحن أمة فتية تزخر بكل

مقومات القوة ... بكل إمكانيات المشي على سطح المريخ .

* أمة تتحدي الزمن

ھذه األمة موجودة على ساحة الحضارة منذ خمسة عشرة قرنا ... أنظر حواليك

عمر ھذه األمة التي تحمك الدنيا : روسيا : قرنين .. أمريكا ثالثة قرون ... وقل لي

األمم األوروبية : خمسة قرون ... نحن مع الصينين والھنود أقدم األمم وأعرق

مجدا . واألھم من ھذا أننا رغم قدمنا أمة فتية , شابة , يافعة , تتفجر دماءھا حيوية

المسيطرة ھي مقتلھم , ألمانيا بلد ال تجدد األجيال وطموحا . نسبة العجائز في األمم

مليون فقط والرجال 24مليون نسمة إلى 50 فيه , ستمر فرنسا في ظرف قرن من

كما تعرف عتاد األمم .

166

واآلن راجع تاريخ ھذه األمة العريقة , الفتية , ستجده خطأ متصال لم ينقطع يوما ,

واالنتصارات نحو ھدف يفوق مداركي وكأنه نھر عات يشق طرقه عبر الھزائم

ومداركك .

أبدا التاريخ بالقرنين اللذين سبقا الھجرة : إنھا فترة التحفز واالستعداد . ھاھي

المعلقات السبعة تصھر في بوتقتھا وتصقل كما تصقل سبائك الذھب اللغة الجبارة

بداع تبدأ الممھدة لبروز الحدث األعظم . واآلن ھاھي فترة المجد والخلق واإل

بھجرة الراعي البدوي محمد بن عبد هللا القرشي , لتنتھي بموت المأمون خليفة

المكتبات .

ھاھي اآلن أمتنا تدخل في كابوس طويال يدوم عشرة قرون اسمه االنحطاط . ترى

ھل ستضيع مياه النھر في صحراء الزمان , وھل سيجف النبع الفياض ؟ ألم يكن

مم ؟ لكن ھذه األمة من معدن غير تلك المعادن ھاھي الحياة ذلك مصير كثير من األ

تدب من جديد في أصولھا ,وھاھي تزاحم من جديد لتحتل مكانا تشعر أنه خلقت

الحتالله .

لماذا لم تمت األمة ولن تندثر كما اندثر اإلغريق والرومان والتتر ... أقول ألن لھا

ة القرآن . عمودا فقريا ال يكسر , واسم ھذا العمود لغ

الحظ عدد األخطاء والھزائم والتراجعات التي يحفل بھا تاريخھا ... أنھا أكثر من أن

تعدى , لكن الحظ أيضا أنھا فشلت في القضاء علينا كأمة تعبر الزمن وأقول إن ھذه

النكسات والھزائم ھي المحرك الرئيسي لتاريخنا . تناقضاتنا ونقائصنا ھي التي

مام وھذا قانون ... فاألمور ال تتطور إال بسلبياتھا والسلبيات ھي تدفع بنا إلى األ

محرك التاريخ ... بصراحة لو كانت أمتنا تتربع على قمم المجد في ھذه اللحظة

لخفت عليھا . فالنكسة تتبع المجد والمجد يتبع النكسة كما يتتابع الليل والنھار

كتھا تشنجية وأنت عندما تنظر والبعد والقبل ونحن أمة تتحرك ... بسرعة ... حر

إليھا ال ترى إال التشنجات ... أضبط أعصابك وحاول تصور الحركة التاريخية بدل

التوقف والضياع في آالف التفاصيل الثانوية عد بذاكرتك إلى ثالثين سنة خلة وھي

كما ترى لحظة عابرة من تاريخ يضرب في خور الزمان :

167

أوضاع اجتماعية متعفنة إلى أقصى درجات التعفن االستعمار في أرجاء الوطن ...

... جھل فاضح ... فقر مخيف ... مرض قاتل ... أترك سلبيات تجربة التقدم فقط

تحدثنا عنھا بما فيه الكفاية . ھل بوسعك أن تذكر حقيقة ھذا التقدم أنظر إلى انتشار

فريسة لمرض التعليم والصحة وتصاعد مقومات القوة األخرى , صحيح أننا وقعنا

خطير مزمن اسمه االنحطاط وإن ھذا المرض سھل لجرثومة االستعمار وطفيليات

اإلمبريالية وفيروس الصھيونية وسرطان الديكتاتورية واإلقطاعية العمل فكانت كل

ھذه العوامل تقضي علينا كأمة تخلق الحضارات , لكن ھذا اآلفات المتعددة الخبيثة

المتماوت , ألن جسم ھذه األمة أفرز األجسام فشلت في القضاء على الجسم

المضادة التي شلت عمل سرطان اإلقطاع وجرثومة االستعمار والطفيليات

الصھيونية وكان ھذا التطور السريع الذي تشھده فينا وحوالينا , ھل تعتقد حقا أن

ھذه الحركة العاتية المتصاعدة السرعة ستقف عند حد . ال أقول أننا سنصل بصفة

وتوماتيكية إلى القمة فتزايد حركية التاريخ ظاھرة تعرفھا كل المجتمعات بدون أ

استثناء , بل من الممكن أن نعرف في المستقبل ھزائم ونكسات أنكر مما عرفنا إلى

حد اآلن ... لكن ذلك لن يكون أبدا خاتمة بل منطلقا جديدا ... نحن ال نتعلم إال من

دفع بنا خطوة إلى األمام ولو لم يتضح ذلك . وبفضل أخطائنا , وإن كان خطأ ي

وسترى 1967سترى أنھا ولدت الملحمة الناصرية , وھزيمة 1947أدرس ھزيمة

أنھا ولدت المقاومة الفلسطينية وجيال عربيا جديدا في تفكيره وھزيمة ( أو نصف

سترى أنھا أدت إلى استيالئنا على ثرواتنا البترولية وأنھا خضخضت 1973نصر )

فما –الغرب . كل معركة تزيدنا سالما وتمرسا بفنون القتال . كل نكسة , كل ھزيمة

بالك باالنتصار يعطي لجسم األمة مزيدا من مقومات القوة والصمود , وضني أنه ال

شيء قادر على الوقوف بين العمالق المتماثل لشفاء وعلى مطمح يقرر بلوغه .

الوحدة غدا أو بعد قرن :

يھي أن العربي الذي سيمشي يوما على سطح المريخ سيكون سفير كل من البد

العربي ومن ثمة فإن إحدى شروط الرھان أن نتحد بشكل أو بآخر . ال تسارع

بالقھقھة من جديد واسمع رأي في الموضوع .

168

والء العربي لحيه قبل أن يكون للعرش وللعرش قبل أن نحن شعوب قبلية بالفطرة.

وللقبيلة قبل أن يكون للشعب وللشعب قبل أن يكون ألمته . تاريخنا يكون للقبلة ,

منذ قديم تاريخ صراع قبائلنا وإن غلفناه بغالفات عقائدية . كم مزقنا أوصال ھذه

األمة وكم ستمزق أوصالھا من جديد كل ما سمحة لنا الفرصة . لم نجد إلى يومنا

إلى حد اآلن العمل بوقف إطالق ھذا حال مرضيا لمشكلة ناقة البسوس , لم يجر

النار بين داحس والغبراء ... بصراحة أنا لم أھضم إلى ھذه اللحظة ما فعلته بكر

بتغلب وفظائع تغلب تجاه بكر . أما حروب الملوك الطوائف وتواطأ البعض منھم مع

ملوك قشتالة فھو جرح ينزف في ذاكرتي ولن يندمل أبدا .

أن قدر العرب الوحدة غدا أو بعد قرن . أھو تكتل الشعوب ومن أين لي اإليمان إذن ب

واألمم المتزايدة ؟ أھو ضرورة اختفاء الدويالت المصطنعة في إطار لعبة سياسية

لم تعدى تقدر إال األمم العظمة ؟ لكن ھذه األسباب خارجية وظرفية بينما توحيد

اسأل التاريخ عن األمة عملية داخلية متواصلة منذ أكثر من أربعة عشر قرن ,

العرب والوحدة وستجد الصراع على أشده طوال ھذه القرون المصيرية بين قبلية

العربي الفطرية ودعوة ذلك البدوي الفقير المسمى محمد بن عبد هللا القرشي باعث

ھذه األمة ومؤسسھا. الحظ انتصارات محمد المتتابعة عبر القرون وعلى امتداد

يوحدھا محمد فيخلق لحمة إمبراطورية مترامية األطراف ثم المكان . قبائل متحاربة

ھي القبائل تعود إلى حروبھا التي ال تفتر وھي اإلمبراطورية تتمزق أطرافھا لكن

صوت محمد يدوي في الذاكرة العربية ... نكسة تتبعھا أخرى ليليھا انتصار تخلفه

أراضي شاسعة الرقعة ... ھزيمة نكراء ... لكن اللغة تنتشر رويدا رويدا وتتجذر في

ھاھي القبائل متحاربة تنصھر شيئا فشيئا في قالب مجموعات امتن وأصلب عودا :

الشعوب العربية ... واآلن ھاھي الشعوب التي ھضمت القبائل تتقارب فتتنافر ...

إنھا نكسات جديدة لكن محمد لھا بالمرصاد ... ھا ھو الوعي القومي يتسلل إلى

كسارق ليل وكم ضحكوا منه وكم سخروا وھم أھل القبلية الشعور الجماعي

والشعوبية : " أضف صفرا إلى صفر يكون الحاصل صفرا" لكن األصفار وكأن

شيء قاھرا يدفعھا تتقارب ولو كان ذلك رغم عنھا . إنھا قوة التاريخ ... إنه دفع

169

ماله حركة ذلك الذي رفض أن يقايض بدعوته ولو وضعوا الشمس يمينه والقمر ش

... واآلن ھاھي مالمح الوحدة الكبرى تتضح : تطالب مصالح مشتركة لغة واحدة

واألھم من ھذا أماني وطموحات واحدة وضغط ھذا العالم الذي يضع الخيار أمامنا :

أن نتحد أو ال نكون . تنظر إلى ھذا االجتماعات العقيمة وتسمع إذاعتنا البلھاء :

فق على قيام وحدة شاملة وفورية ومدروسة , تقابل الرئيس زيد مع عمرو وات

ويتمخض الجبل فيرد خطابا ويسدل الستار على مھزلة أخرى من مھازل العرب .

عندئذ تصاب بخيبة أمل وتقرر أنه ال خير ينتظر من ھؤالء الناس . منا كلنا .

وتصب جام غضبك على رأسي ورأسك ... ويعز عليا أن تغضب وأن تيئس ألن

ھو غضب األمة التي تتلھف وتتحرق شوقا إلى يوم يتحقق فيه غضبك ويأسك

برنامج محمد . لكني أقول لك : ال تخاط بين الزبد والبحر وال تتعجل ... فمحمد

بالمرصاد . ھو يمھد لھذه األمة منذ أربعة عشر قرن ونحن على الدرب سائرون .

أيضا مثلي ومثلك تماما ليجتمعوا, ليقرروا, ليتشاجروا , ليخطبوا ما طاب لھم . ھم

. حملة آمال ھذه األمة وعيوبھا . ويوم تتغلب آمالنا على عيوبنا أي يوم ننضج

سينضجون ھم أيضا يتعلمون من أخطائھم ثم ال ننس أن الوحدة ليست دولة أو

ھيكال سياسيا .ھي أھم واشمل واعمق من ھذا . يوم صدرت أول جريدة عربية في

روت وبغداد كان ذلك أول مسمار في نعش القبلية , ويوم القاھرة ليقرأھا أھل بي

يتمركز القمر الصناعي العربي فوق أرض الوطن لينقل برامجنا التلفزية ( على

غبائھا ) سنتقدم على درب الوحدة خطوة أخرى وھكذا إلى أن تطأ أقدامنا أرض

المريخ ... نعم الوحدة قدرنا غدا أو بعد قرن ...

ة تتحدى الزمن وتوحد قواھا بدون كلل أو فترو منذ أربعة عشرة من البديھي أن أم

قرن ال يمكن أن تتمخض إال عن قوة جبارة تكون طموحاتھا في مستوى تلك القوة

الھائلة التي تنضح بھا , وفي مستوى الطموحات التي حددھا لھا محمد بن عبدا هللا

ب يدرسون النجوم القرشي . لقد طال غيابنا عن العلم : ھم في مخابر الغر

والكواكب , ويدرسون أسرار المادة, ويتتبعون كل ألغاز الكون أكانت في أعماق

البحار , أو في قلب المجرات البعيدة عنا بمليارات الكيلومترات , ھم ينقبون عن سر

170

الحياة في قلب الخلية , وفي نواة الشمس , وألنھم قوة فكرية ضاربة غزوا العالم

أقمارھم الصناعية , ألنھم قوة ضاربة مشوا على سطح القمر , وملئوا الفضاء ب

والعالم اليوم في بداية التاريخ , واإلمكانيات المتوفرة للبشرية تفوق كل مداركنا

وكل أحالمنا المجنونة . من كان يتصور منذ قرن أننا سنعبر المحيطات على متن

يمشي على سطح القمر , طائرات بسرعة ألف كيلومتر في الساعة أو أن إنسانا س

من سيستطيع اليوم التجاسر على تكذيب أولئك الذين يتنبئون بأننا سنبني

المستعمرات في القمر , أننا سنزرع المريخ وعطار والمشتري , أننا سنجعل من

الصحاري أراض زراعية , أننا سننتج كل الخيرات في أعماق البحار ... وھذه األمة

الحضارة قرونا طويلة ستساھم في المجھودات الجبارة ... العظمى التي فاتھا ركب

ستمسك من جديد بمشعل الحضارة ليضئ طريق اإلنسانية .

لذلك أقول أن قدر ھذه األمة أن تحقق جزءا من ھذه األحالم المجنونة التي ستصبح

غدا واقع أحفادنا . نعم ستزرع ھذه األمة الصحراء , ستحرث البحر وستبني

ت للعلم , وستمخر أساطيلھا الفضاء ولذلك سيمشي بكل بساطة أحد كاتدرائيا

روادھا يوما على سطح المريخ ..

قال وقد استعاد من جديته :

أنت تھذي ... تخلط بين أحالمك وبين الواقع ... أحمد هللا أن أحدا ال يسمع -

و إال اتھمت بالسكر والجنون .

ي قرن قبل أن تطأ األقدام قلت : أنا واع ما في تقريري بأنه لن يمض -

العربية أرض المريخ من إثارة وغرابة بل من وقاحة إذا نحن اعتبرنا

حالتنا المزرية . لكنني خالفا لك واع بأن ھذه الحالة ھي نقطة في خط بدأ

منذ أربعة عشر قرن وقد ال ينتھي إال بنھاية البشرية نفسھا . تعال

ي يمكن أن يتمخض عنھا نستعرض موضوعيا األربع اإلمكانيات الت

المستقبل .

يمكن أن تبقى دار لقمان على حالھا : تخلف , تشتت , تبعية -1

حضارية , اتساع عمق الھوة التي تفصل بيننا وبين األمم

171

الخالقة مع بعض التحسينات الجزئية ھنا وھناك التي لن تغير

شيئا من معادلة سعد زغلول : صفر + صفر + صفر = صفر .

تزداد األوضاع تدھورا كأن ندخل في حروب أھلية يمكن أن -2

تلوح مالمح البعض منھا في حين وصلت بعضھا إلى حيز

التنفيذ ومن ثمة يزداد ضعفنا وتزداد تبعيتنا , بل من الممكن أن

يعاد استعمارنا من جديد في إطار حرب عالمية مثال .

: يمكن أن يقلب عامل مجھول كل حساباتنا ومخططاتنا . مثال -3

نزول أھل الكواكب على سطح األرض, حدوث تغييرات جذرية

في الطقس , نشوب حرب نووية ماحقة والبقية أتركھا لمخيلتك

الخصبة .

يمكن أن تتمخض آالم الوضع التي تعاني منھا أمتنا عن دولة -4

فيدرالية مھابة تضمن للشعوب إدارة شؤونھا بنفس مع توحيد

تنمية االقتصادية والعلمية الجھود في إطار خطة متناسقة لل

تضع األمة في ظرف قرن في مصاف األمم األولى فيرفرف العلم

العربي على قمة جبل اإلفريست وعلى سطح الكواكب في الوقت

الذي ترصد مراقب جبارة في القطبين حركات النجوم , وتعمل

فيه الجزر العائمة في قلب المحيطات الستخراج ما نحتاجه من

ة وغذاء . معادن وأدوي

تسأل ومن أين لي العلم بأن ھذه الفرضية األخيرة ھي التي ستتحقق . أقول : أنا ال

أعلم إنما أتكھن . الفرضية األولى مرفوضة بطبيعة الحال ألن المستقبل ليس

امتدادا للماضي ومن ثمة يستحيل أن تبقي دار لقمان على حالھا . لو آمنت بھذه

أ وھو في نھاية القرن التاسع عشر أن أمور العرب الفرضية ال كنت كجدلك يتنب

ستبقى على ما ھي عليه أو أن أقصى ما يمكن انتظار ھو أن يھدي هللا الخليفة

العثماني فبصلح أمور الرعية ويعم الرخاء أرجاء الخالفة ويمتلك كل عربي قطعانا

ار حروب كاملة من الجمال . تقول ومن أدراك بأننا لن نعرف نكسات ھائلة في إط

172

رھيبة . أقول االحتمال ممكن لكن ھذه النكسات حتى في إطار حرب نووية لن تزيل

الحضارة وال األمة كما يتصور البعض . كل ما في األمر سترجئ عملية المشي على

سطح المريخ قرنا آخر . أما دور العامل المجھول صعب التقدير وقد لن يلعب دورا

تبقى إذن الفرضية الرابعة , وھي أمتن الفرضيات أخطر من دور الحرب النووية ,

على اإلطالق . بطبيعة الحال أنا ال أجزم بأنھا ستصدق وإنما أراھن على جديتھا

ومعقوليتھا . وأقول إن حظوظ تحقيقھا كبيرة جدا ومن ثمة يمكن ترجيح نجاحھا

على بقية الفرضيات األخرى . سيكون المشي إنسان عربيا على سطح المريخ

معجزة خاصة إذا اعتبرنا خصائصه في نھاية القرن العشرين . فھو كما تعلم إنسان

خيالي العقلية , رديء العمل , يجھل أنه يجھل , عديم االنضباط كثير الفوضى, لكن

تحقق المعجزات ھو القانون العام واألوحد في الكون , فھذا اإلنسان الذي يحتقره

أنه أصبح يؤمن بأنه أھل للتحقير , زاخر بكل الكل الذي يئس من نفسه إلى درجة

المقومات التي تخلق المعجزات . نعم سيصبح العربي علماني العقلية , كثير اإلنتاج

يعلم أنه يجھل دقيق العمل . منضبطا إلى أقصى درجات االنضباط وستطأ قدماه

أرض المريخ .

قوانين عمل الكون . وأركز من جديد . سيكون ھذا ألن تحقق المعجزات قانون من

عد بذاكرتك أو على وجه التدقيق بمخيلتك إلى بداية مغامرة الحياة أكنت تراھن

على أن تلك الخاليا البدائية المنسية على ضفاف المحيط ستتمخض عن شجرة

الحياة الباسقة التي يشكل اإلنسان خصنا من أغصانھا الوارفة . واآلن ھاھو

ھن على أنه سيروض السباع والفيلة وأنه بأنيابه اإلنسان البدائي . أكنت ترا

وأظافره تلك سيصبح سيد األرض ؟ أنظر ھاھي قريش قبيلة عربية مغمورة تعيش

في ظل اإلمبراطوريات العظمى . أكنت تراھن على أنھا سنغلب قيصر وكسرى وأنھا

ستبني مسجد قرطبة وأنھا ستنجب يوما ابن عربي والحالج وابن خلدون واآلن

ھو اإلنسان العربي يرفل في التخلف الفكري والمادي . ال تتوقف عند المظاھر ھا

وال تنسى امتداد وعمق تجربته عبر التاريخ . آلمك وآلمي من وضعيتنا المزرية ,

مراجعتنا الصارمة ألنفسنا , األحالم الغامضة التي تراود مخيالت وعقول شبابنا ,

173

شھدھا مجتمعاتنا ال تعبر عن شيء وال تھدف ھذه الحركات العنيفة التشنجية التي ت

إلى شيء آخر غير تحقيق المعجزات لذلك أقول بمنتھى الجد : لن يمضي قرن إال

وتطأ األقدام العربية أرض المريخ .

قال ماطا شفتيه : سفسطة , ونحن العرب أبطال أولمبيون في فن الكالم قلت غير

فجأة : ھل تعلم أنني قد بدأت أخطط مكترث بمسحة الكآبة التي مرت على وجھه

للرحلة .

قال ضاحكا وقد استعاد مرحه فجأة :

أعرفك متطفال على الدب والفكر ولكنني لم أفكر يوما انك ستقحم أنفك حتى في -

ھندسة الصواريخ .

قلت : بناء الصواريخ أسھل ما في العملية , وستوكل األمة بالمھمة ألبنائھا

يدان في الوقت المناسب. تعال نتحدث على األھم من البديھي المتخصصين في الم

أن المشي على سطح المريخ ليس ھدفا في حد ذاته وإن األمة لن تتخذه ھدفا إال

ألنه سيكون الدليل والمؤشر على تقدمھا وتوحدھا وسيطرتھا من جديد على عالم

لذي سيحقق المعجزة العلم والتكنولوجيا , من البديھي كذلك أن اإلنسان العربي ا

سيكون مختلفا عنا اختالفنا عن أجدادنا , ومن ثمة تفھم أن نقطة البداية التي

ستنطلق منھا المغامرة تتطلب إعادة صياغة اإلنسان العربي . قد يبدو لك األمر

مستحيال , لكنه أبسط مما تظن . رحلة األلف ميل تبدأ بخطوة والخطوة األولى ھي

سنا وأولى عالمات ھذه الثقة أن نكف عن الشدق بأمجاد األجداد استعادة ثقتنا بأنف

أو أن نلقي تبعية تخلفنا على ھذا أو ذاك , بل أن نحكم على أنفسنا وواقعنا بأقصى

التجرد والموضوعية لكي نتعلم من أخطائنا ولكي نتقدم بفضلھا. ثاني خطوة :

طح المريخ لن يكون إال خاصية العمل العربي : التخلف الرداءة . والمشي على س

في متناول شعب يحب العمل ويتقنه . أتقن عملك أيا كان وسنتقدم . ثالث خطوة:

تھيئة الجيل الجديد لكي يكون جيل العلم والتكنولوجيا ال جيل الكتب الصفراء

والعقائد المتحجرة التي خدرت عقول أجدادنا . بطبيعة الحال يجب اعتماد كل

ھدف وأنا قررت أن أضيف حبة رمل أخرى إلى الھرم الذي ما الوسائل لبلوغ ھذا ال

174

انفكت ھذه األمة وھذه مساھمتي المتواضعة أقص عليك فصال منھا . قلت في نفسي

يوما : ھذه الكتب التي يقرأھا صغارنا ال تترجم إال للعقلية الخيالية المتخلفة ونحن

فكرة سلسلة تحبب بحاجة غدا إلى غير ھذا , اتصلت بناشر شاب وعرضت عليه

العلوم لألطفال وخاصة علوم الفضاء .

قال الناشر في أول لقاء لنا: فكرة عظيمة . تبدأ بكتابة قصة الطب لألطفال . قلت :

ويكون ثاني كتاب عن الكون , عن تكنولوجيا الصواريخ , عن غزو الفضائي , قال

الناشر : ويكون كتابك عن الطب في عشرين صفحة ملونة .

قلت : ونقص في الكتاب قصة طفل أمريكي اسمه نايل أرموسترونغ يحلم بالمشي

على سطح القمر ويضحك منه أھله وزمالؤه .

قال : وتسلمه لي في ظرف ثالثة أشھر .

قلت : ونظھر كيف أن نايل لم يكن يعيش في دولة متحاربة مع جارتھا بل في بلد

تھم للجامعات وتعتبر الدولة فيه العلم عظيم ألنه متحد يعطي األثرياء فيه ثروا

سالحا .

قال : يجب التفكير في تغيير العنوان .

قلت : ثم نبرز في السيناريو حب نايل للعمل اليدوي ولكل أنواع التكنولوجيا ثم

ولعه بالبحث العلمي وجسارته وھو يركب الصاروخ في اتجاه القمر . إنه نوع من

أطفالنا التشبه به , يكفي من عنترة بن شداد . األبطال الذي يجب أن يحاول

قال : ستقبض عشرة في المائة خمسة عند تسليم النص والبقية على عشرين سنة

.

قلت : وأنا أودعه : آخر لوحة ستكون عن نايل وھو يرفع العلم األمريكي على

أرض القمر , وننھي الكتاب بصورة ضخمة للمريخ مع تعليق من نوع : أي علم

سيرفع يوما على ھذا الكوكب ؟

وتركت اليوم ذلك الناشر لمشاريعه . خرجت من عنده وفي مخيلتي آالف من

الصور المضطربة المجنونة . فجأة انفجرت ضاحكا والمدينة الھمجية تلطمني

بمظاھر تخلفھا وفوضاھا ورداءة عملھا . كان صوت شيطاني يسري في آذني :

175

ينھق البھيم في البحر " , ولم أستمع إلى صوت ھؤالء على المريخ ... يوم "

شيطاني و أسكتت ضحكي و أنا اردد بثقة و طمأنينة أبيات شاعري المفضل إيليا

أبو ماضي :

إذا األمس لم يرجع فإن لنا غـــــدا نضيء به الدنيا و نمألھا حمدا

أنسامه ندا وتلبسنا في الليل آفاقه سنـــــــــى و تنشرنا في الفجر

فإن نفوس العرب كالشھب تنطوي و تخفي ولكن ليس تبلى و ال تصدى

***

176

ردود القراء

التخــــلـف بالـــنسبــة لمــاذا ؟

ن. و.

ر المرزوقي للنقاش وإبداء الرأي , أثار عدة ھذا السؤال الذي كان طرحه الدكتو

ردود وبالتالي فقط حرك بعض األفكار للتالقح والتفاعل والخروج بالفائدة المرجوة

من وراء ذلك أال وھي تشخيص األسباب الحقيقية لھذا الداء الذي ينخر المجتمعات

وإيجاد الحلول الكفيلة بمعالجته .

الموضوع إلى استعراض مظاھر التخلف عندنا وقد ذھب أكثر المتكلمين في ھذا

معتمدين في ذلك على مقارنة أوضاعنا الحالية بأوضاع المجتمعات الغربية الراقية

والمتحضرة في نظرھم . وھذا النقد الذاتي يعتبر إيجابيا إلى حد ما يصلح بدوره

منطلقا لتعمق أكثر في الموضوع وزيادة سبر أغواره .

ن أتطرق إليه عالوة عن سرد مظاھر التخلف التي نالحظ في والشيء الذي أريد أ

حياتنا اليومية , ھو مدى إدراكنا لحقيقة ھذا التخلف الذي نسعى إلزالته أو باألحرى

مفھومنا الصحيح للرقي وللحضارة التي ننشدھا .

فإن كانت الحضارة المنشودة ما ھي عليه اليوم المجتمعات الغربية بدون تمييز بين

ث والسمين , فإن ذلك يدعو على األقل إلى بعض الجدل حول سالمة ھذا المفھوم الغ

, بل أني أذھب إلى أكثر من ذلك والقول بأن سعينا لھا سيبوء بالفشل ألن ما ننشده

سيكون ھباء منثورا , وما ھذا التقدم والرقي إال أعراض مدنية زائلة قوامھا

حتما إلى االندثار مثلما باءت من قبلھا كل التطور العلمي المادي البحث سينتھي بھا

الحضارات التي سادت .

أما إذا كنا ننشد حضارة حقيقة يمكن أن نضمن لھا الديمومة والنجاح فعلينا أن

نعتبر بأخطاء غيرنا من قدامى وجدد وننظر في التاريخ ونتعلم منه كيف نشيد

177

ة قوامھا الجانب الروحي أو حضارة خالدة . فقد علمنا التاريخ أنه ال دوام لحضار

المادي فحسب , وال بقاء ألحدھما ما لم يقع شد أزره باآلخر . فكم من حضارة زالت

بسببي تھاون مشيديھا بالجانب الروحي منھا , وانصرافھم إلى اللھو والمجون ,

وكم من حضارة شابت بسبب !وارتكابھم لألثام والظلم والجور والتعسف والرذيلة

ا عن الجد والعمل وزھدھم في العلم واستكانتھم إلى األقدار وخوفھم عزوف أھلھ

إنھما شيئان متكامالن : الروح والمادة عليھما جبل اإلنسان منذ خلق , !من التجديد

كلما فرط –وإلى األبد يالزمانه , وال يمكن له االستغناء بأحدھما عن اآلخر , وھو

وط . في أحدھما , إال وتداعى معه اآلخر للسق

ذلك ھو شـأن الحضارة البشرية . ال تكون إال بمسيرة جماعية لكل البشر ونھضة

مبنية –كما ھو واضح –روحية ومادية مزدوجة . والحضارة الغربية المعاصرة

على شقا واحد ھو الجاني المادي الذي بلغ أعلى درجات الكمال , أما الجانب

باالنھيار , لذلك فإن مآل ھاته الروحي فھو يتردى في الحضيض ويھدد شقيقه

الحضارة لن يخرج عن المألوف وسينفذ فيھا قانون الحياة وسنة هللا في خلقه "

ولن تجد لسنة هللا بديال " .

فكيف نتصور حضارة إنسانية وصلت فيھا مقدمة الركب بالعلم والعمل إلى غزو

خرة مازالت تعيش الكواكب والبحار وتسخير جميع قوى الطبيعة في حين أن المؤ

في األدغال عيشة بدائية مع الوحوش ؟

تصوروا قطار يحمل مسافرين أوله في نيويورك , وآخره في مجاھل إفريقيا وآسيا

, من يضمن له السالم ؟

أي رباط مقدس يجمع بين ھؤالء ليواصل القطار سيره .

ت في أية حضارة ھاته التي فيھا اإلنسان ينفق في يومه آالف الدوالرا -

!الترفه والبذخ , وإنسان آخر يموت جوعا وعريا

أية حضارة ھاته التي يدوس فيھا الكبار الصغار , ويجرونھم وراءھم جرا -

!ويجلدونھم جلدا , وقلوب الصغار تقطر حقدا وكراھية ودما

178

أية حضارة ھاته يتربص فيھا الكبار ببعضھم وال يتورعون في سبيل ما -

اء العالم كله ؟ ربھم ونزواتھم عن إفن

!أية حضارة ھاته المبنية على براكين الدمار والخراب -

أية حضارة ھاته التي نتھافت عليھا ونسعى لھا بكل جھودنا بدعوى -

وأي تخلف أكبر من التخلف الروحي !العمل على الخروج من التخلف

الذي أصيبت به الشعوب المتقدمة ؟ وأي ويل على اإلنسانية من ويالت

ارة الغربية ؟ الحض

صحيح أننا متخلفون : ومظاھر تخلفنا تتمثل في فقرنا وجھلنا وأمراضنا , ولكن ,

أو ليس من التخلف أيضا أن ينعم إنسان بأرغد العيش في حين أن جاره يئن الجوع

والبرد ؟

من التخلف أن يبقى اإلنسان جاھال أميا أو شريرا متشردا , ولكنه من أكبر التخلف

يكون إنسان عالما ومثقفا أو فاضال ومؤدبا في حين أن صاحبه يشكو كذلك أن

أو ليس الطبيب الذي امتنع عن !الجھل واالمية أو متھما في سيرته وأخالقه

العالج أو ھجر البلد طمعا في زيادة الكسب أكثر تخلفا من المرضى الذين لم يجدوا

من ينصحھم بالحمية ويعالجھم بالدواء ؟

العلة إذن ؟ ففي من تكمن

من ھنا يتبين أن التخلف الحقيقي إنما ھو في العقليات وطريقة التفكير عند جميع

فئات البشر وأن التقدم الصحيح يجب أن يكون مبنيا على تفكير سليم ومجرد وروح

أخالقية عالية تنبذ األنانية وحب الھيمنة والمصالح الشخصية , وتعتمد نكران الذات

مل على إسعاد اإلنسان في نطاق مجتمعه الصغير وكذلك في نطاق وخدمة الغير والع

مجتمعه الكبير ألن في ذلك عمال على صون الذات وتأمينا على النفس .

أما إذا كنا ننشد الحضارة بصورة عشوائية ديننا في ذلك التقليد العمى واالنسياق

ون مآلنا وراء المصالح الجاھزة وعدم اعتبار من حولنا ودوس قيمنا , فسيك

الرجوع إلى الحيوانية والجاھلية األولى .

179

والرقي المادي ليس بعسير إذا توفرت األرضية الروحية الطيبة وأخذنا بأسباب

الحضارة الحقيقية ألن المجتمع سيتقدم آليا من الناحية المادية عندما يصبح متشبعا

بھاته الروح :

م خصاصة " األغنياء فيه " يؤثرون على أنفسھم ولو كان بھ

والفقراء فيه " يحسبھم الجاھل أغنياء من التعفف " و " ال يسألون الناس الحافا

. "

والعامة فيه " يأمرون بالمعروف وينھون عن المنكر " .

وولي األمر فيه " خليفة في األرض يحكم بين الناس بالحق وال يتبع الھوى " .

العـــــــــرب متخـــــلفـــــــون ...

!ألن األنظــــــــــــــمة السيــــــــاسية متخـــــــلفــــة

ابن

السباسب

شارك عدد من األخوة في الحوار الذي اقترحه المنصف المرزوقي وابرزوا عينات

فن . وإن كنت ال أشك في مصداقية تلك العينات , أرى أن الشعوب من الواقع المتع

العربية شاعرة بالداء وبمواطنه وإن حاولت األنظمة إخفاء ذلك باطراد بإبرازھا

للواقع كجنة متوازنة تنمو . والشعوب العربية لم تحرك ساكنا ألسباب عديدة

سأعود إليھا من خالل مالحظاتي ھذه .

وار أعتقد أن الواجب يحتم وضع النقاط على الحروف واعطاء وتصحيحا لمسار الح

كل ذي حق حقه . إذ أنه من غريب اإلدعاء بأن األنظمة العربية متخلفة ألن

الجماھير متخلفة . فالقيادة تعتبر من النخبة والنخبة اقرب إلى الحقيقة والكمال من

صالح االجتماعي عامة الناس . وإنه لمن الدمغجة أن يدعي البعض إمكانية اإل

والمدني من ناحية وتجاھل الجانب السياسي . ولنفرض أن الجماھير انضبطت

وقنعت بأنھا طبقة أكلت البيض ودقيق الذرة . فھل سنلحق عندئذ بالركب الحضاري

180

؟ ألن يدفع ذلك األنظمة للتمسك بسياساتھا الوھنة والمريضة ؟ عمال بالمثل القائل :

" وحتى ال أشھد شھادة زور أقول : أن األنظمة تحتكر " السكوت عالمة الرضى

النفوذ وتتبنى السياسات في جميع الميادين وھي بالتالي المسؤولة بالدرجة األولى

عن فشل تلك السياسات . ثم من المسؤول عن الفوضى والمحسوبية وعمليات

االرتشاء والنھب التي تسود اإلدارات المؤسسات اليوم ؟

رة على شؤون الوطن العربي , لنبھنا الواقع إلى وجود أنظمة تعمل ولو ألقينا نظ

على خلق األزمات لتلھية الجماھير عن قضاياھا المصيرية . وھي تغذي الصراعات

داخل بوتقة حكمھا وبين ھذه األخيرة وبقية األنظمة العربية مما أدى بالمجتمعات

تربط بين أفرادھا وال حتى العربية إلى االنحالل . فال عالقات زوجية أ, رحمية

عالقات مصلحية موضوعية . وأصبح ھمھا الوحيد التھافت على الكسب بأيسر

السبل وأوضع الوسائل . فأين نحن اليوم من الحديث : " وإنما األمم األخالق " ؟

... وننسى أنھم تالمذة ألسوأ أساتذة . يأخذون يوميا عن القيادات دروسا مثالية

التطاحن واستعمال أوضع الوسائل كالنميمة والغش والمغالطة في التناحر و

والتعسف كل ذلك في سبيل الحفاظ على المواطن النفوذ . ألم تتتلمذ الجماھير عن

وسائل اإلعالم التي تفرض على السوق االطمئنان إلى البضائع الثقافية واإلعالمية

المتعفنة والوضعية ؟

نتجاھل أمر أغلبية النخبة التي فرت التزاماتھا انحمل عامة الناس المسؤولية و

وأصبحت تسبح بتلك األنظمة تمجد أعمالھا ولو تداعت وتسبح بحمدھا ولو زاغت .

وھذا ال يعني التنكر لتضحيات األقلية المناضلة التي عانت وتعاني األمرين داخل

السجون وخارجھا وما بدلت تبديال .

يخلو من قصر في النظر وتداع في البرھان فإن كانت إن الرأي القائل أننا فقراء ال

الجماھير في أغلبيتھا تشكو الخصاصة والحرمان , فھذا ال يعني أن الوطن العربي

فقير , بل ھو غني بخيراته : المواد األولية متوفرة واألرصدة المالية ضخمة

والسوق والتراث العربي غني فكريا وثقافيا والطاقات الفكرية والمھنية مھملة

قائمة الذات وھي لعمري أسس النھضة الشاملة والسريعة . ومن ھنا يتضح فشل

181

األنظمة في تحليل مسؤولياتھا . وأني ال تساءل ھل أقرت األنظمة يوما نھج سياسة

خير وفالح وقاطعتھا الجماھير ؟ كال , فھذه األخيرة لم تتعود رفض مقترحات القمة

ر تعلم أن الداء كامن في األنظمة وھياكلھا وھي مع ولو اتضح ضاللھا . أن الجماھي

ذلك ال تقدم على عملية التصحيح ألنھا خائفة . فاإلصالح يعني مجابھة السلطة .

سلطة الحديد والنار . والمجابھة تعني السجن وربما الموت .

ولسائل أن يسأل كيف السبيل للخروج من الوضع الحالي ما دامت الجماھير تخاف

والسياسة ؟؟ الساسة

ال شك أن الطريق صعبة وشائكة وتتطلب الكثير من المعاناة والتضحية وبما أن

كلمة " إيديولوجية " ترعب البعض , أقول علموا الجماھير معنى الكرامة وذلك

بتمكينھا من حقوقھا قبل أن تطالبوھا بواجباتھا . مكنوھا من تصور موضوعي

تحقيق ذلك المجتمع , حيث ال أنانية وال تسلط ال للمجتمع العادل وأوضحوا لھا سبل

حيف وال مغالطة حيث ال محسوبية وال رشوة حيث ال سلطة إال سلطة القانون

والشريعة . إن من يريد بناء مجتمع على أساس الواجبات كمن يريد تشييد مسكن

مون فوق كثبان من الرمال . أن " الحوار في سبيل هللا " أيھا األخوة المحتر

يحتم رفع كلمة هللا والعمل بأحكام هللا . فلنعلم أوال ولنقفه آخرا أنه ال إصالح

اجتماعي ومدني بدون اإلصالح السياسي . وإن ال التزام وال صالح بدون اقتناع

الجميع بالعدالة , وال عدالة بدون نظام ديمقراطي وال نظام ديمقراطي بدون التقاء

المجموعة وأن في تحقيق األنظمة العربية مصالح الجميع في خير وصالح

الديمقراطية التقاء مصالح جميع الشعوب العربية في خير ومصلحة األمة جمعاء

وبذلك فقط تستطيع األمة العربية خوض غمار معركة الرھان الحضاري في عالم

الساعة علم التكتالت , عالم الحماية االقتصادية والمصالح الوطنية الضيقة . أما

لئك الذين يأملون تحقيق معجزة الدھر بإمكانيات دولھم المحدودة عددا وعدة , أو

فمثلھم كمثل الذي يطمح لھد جيل بفاس .

وأني العتقد جازما أن األمة العربية تعيش حاليا فترة مخاض عسيرة . والواجب

يدعو الطليعة للتمسك بزمام األمور حتى ال تنتھي العملية بإجھاض المولود

182

الي إلى جر الوطن العربي إلى عھد جاھلي جديد . وليس من المحال أن نكسب وبالت

األمة العربية لرھان وتبرز بوجھھا الحقيقي , وجه خير أمة أخرجت للناس رائدھا

في ذلك خدمة اإلنسانية جمعاء ال مصالح إقليمية ضيقة .

نضال الحق . وبادي ذي بدء , فلتكن لنا في الرأي وأسرتھا خير قدوة على درب ال

ولنترك التربية الغذائية إلى وقت الحق ولنبدأ بترميم بنية المجتمع المتداعية وذلك

بمساندة إخواننا الذين يحترقون داخل السجون وخارجھا وفي المنفى بعد أن أقدموا

على التضحية بأنفسھم فداء لنا جميعا ولنشرع في معالجة عقدة الخوف واليأس

ل من الخبز النظيف ھدفا لھا بدل الخبز الملطخ . ولكن حذار , عند الجماھير . ولنجع

وألف حذار أن تكون كالمطاحن التي تصم األذان بجمجمتھا وتبخل بالطحين على

األفواه الجائعة . حافزنا في ذلك هللا يمھل وال يھمل .

وهللا ال يتخلى عن عباده المجاھدين الصادقين .

مع تحيات ابن السباسب

ــــام والتخلـــــــــفالنظـ

الھادي الفقية

إن الھيكلية التي أقام عليھا األستاذ مقالتيه , والتي أظھرت أوجھا اجتماعية للتخلف

بل قد وقفت دون التدليل المنطقي على التخلف المطلق للتونسي كظاھرة خاصة به ,

ودللت في بعض األحيان على خير ذلك . المؤشر الذي التمسه الدكتور للتدليل على

تخلف التونسي يكمن في سلوك فردي أحيانا , وجماعي أحيانا أخرى يتسم

بالتناقض مع ما تمليه مثل معينة : مثل الغربي , وعادات الغربي, وعادات الغربي

ب وھاته المثل والعادات والطقوس والطقوس االجتماعية للغرب . مع أن التناس

,وإن بدأ للدكتور ظاھرة تخلف , فإنه يبدو لي دليال قاطعا على األصالة والوعي ,

يقول األستاذ :

183

" من البديھي إذن أن الصعوبات المادية , وعدم التقدير الكافي الذي يعاني منه

قانونية يجعل من العامل الخالق , والشعور بالغبن , واستحالة التعبير عنه بطرق

ھذا العمل الرديء نوعا من االحتجاج الصامت الذي يستحيل تتبعه وعقابه "

واألستاذ المرزوقي يحمل تبعة التخلف لمجتمع ما , على المجتمع نفسه , حيث

يلغي مسؤولية النظام القائم إذ يقول أن نظام الحكم ألي أي بلد ھو إحدى المؤشرات

وليس أكثر من ھذا . فمن البديھي أن نظام الحكم في على تقدم أو تأخر المجتمع

السويد ھو ديمقراطي ألن حالة المجتمع في السويد ال يمكن أن تفرز وال يمكن أن

تقبل غير ھذا النظام " .

وأجيب األستاذ : متى كان للشعوب السائرة في طريق النمو اختيار ساستھا والنظم

الشعوب عن ساسة فرضوا أنفسھم المنصبة عليھا ؟ ھل نسي أعراض بعض

بالحديد والنار إلى درجة نزوح الواعين والمثقفين منھم إلى ديار الغربة ؟ ثم ماذا

يكون جواب األستاذ لو سألناه عن مدى مسؤولية الشعب األلماني كمجموعة في

الحرب , عن األعمال البدائية التي قاموا بھا . ھل كان يمكن لھذا الشعب أن يخرج

مسار الذي سطره ھتلر ؟ إن لنظام دور فعال في تخطيط المسار الذي تتخذه عن ال

المجموعة . والقانون سالح فعال بيد النظام يمكنه من فرض اإلستراتيجية التي

يريد توخيھا أو بلوغھا .وقد يكون لھذا السالح تأثيره الفعال على ماھية أمة كاملة

لى المحيط االجتماعي والسياسي الذي بحيث ال تمكن مؤاخذة الفرد بدون الرجوع إ

يعيش فيه .

وبعد فإني أقدم ھاته االحترازات , فال أدعي غير ما أصر عليه الدكتور , ولكن ,

حيث يرى المشكل مشكال اجتماعيا يجب معالجته من الداخل بالتوعية والتربية ,

طھر أعراضه أرى أنه معضلة حياتيه ممالة من الخارج . أن التخلف في تونس ال ت

لدى الجاھل والمعدم ماديا بنفس الحدة التي تظھر بھا لدى المثقف المحظوظ ماديا

أسوق مثاال من جملة ما تزخر به حياتنا من الحاالت البالغة الداللة على مدى –

سيطرة المادة وتكالب التونسي المعاصر عليھا : المھندس الذي يبيع رخصة

مسكه متلبسا . فلو حللنا ھذا المثال , لرأينا –ھا لسبكت –السياقة بطريقة يستحيل

184

أن المشكل يتعدى حدود شذوذ أو سلوك فردي إلى وضع " سوسير بسيكولوجي "

تطغى فيه المادة وحب الترف والتھالك على المادية وذلك على حساب كرامة الفرد

حكم على فالغبن ھو غير الغبن عندما يصبح المعيار الوحيد لل –والمبادئ والقيم

الشخص أوله طاقته المادية . إمكانياته النفعية . إزاء ھذا الوضع , تختل المقاييس

, وينقسم المجتمع إلى شقين , فئة نفعية عميلة ديناميكية تبادر بمسك زمام األمور

والمبادرة الحتالل مراكز النفوذ مھما كانت الطرق والضريبة فھي إلى " الوعي "

ضة لنمط يتعارض مع مثلھا وتفكيرھا, فھي , إذا ال تبلع في سباقة , وأخرى , راف

رفضھا قدرا يتحتم عليھا فيه الصدام مع الفئة األخرى , لتتخبط في " التخلف " .

ولكنھا في " تخلفھا " ھذا ال تبقى مكتوفة األيدي , بل" تناضل" بطريقتھا, وعلى

ى طريقة التزييف المتواصل كل الجبھات : في المعمل , واإلدارة , والكلية , وتتوخ

والبطيء لطاقات األمة :

" التكركير " و" دزان العجلة "

أن التخلف عندنا ھو إذن ليس تنكر آلداب المعاملة وال استخفاف بمستوى القراء

والمستمعين , وھو أيضا ليس مجرد تعدى ھذا على قانون المرور أو عدم تخفيض

ة الغير . وإھمال مضيفة لواجبھا في المطار صوت جھاز التلفزة وعدم مراعاة راح

إن تخلفنا حقيقة رھيبة مھولة تدخل في استراتيجية الرجل األبيض الذي يعرف –

أن خروجنا من التخلف , معناه القضاء على ديناميكية اقتصادياته , وتحقيق النمو

عندنا , ھو خنق طموحاته و محدودية توسيعه , والوعي عندنا معناه القضاء

الحتمي على حلمه بالسيطرة واإلشعاع .

إن الصراع الذي أمتد إلى كامل حدود أوروبا , واجتاح العالم بأسره في فترة من

فترات التاريخ المعاصر , والذي كاد أن يؤدي إلى القضاء على البشرية قاطبة ألكبر

دليل على أن الرجل األبيض في نزوعه إلى السيطرة المطلقة , ليتوخى طرقا

ولعلني أمام ما –ووسائل أكبر ما يقال فيھا أنھا تتجاوز محدودية المنطق والمعقول

توخوه من وسائل ألغراضھم وھم في أوج نضجھم ووعيھم , أبقى حريصا على

تخلفي .

185

فحيث يرى األستاذ أن التخلف ظواھر وحقائق –نصل إذن إلى جوھر الخالف

ي سلوك فردي أحيانا وجماعي أحيانا ملموسة , حيث يقدمھا في شكل استنتاجات ف

أخرى , أجزم أنا أن التخلف ھو ظرف حياتي , واختيار خطط له عن سابق إضمار

من طرف قوى ورادات رھيبة تمأل , أو تسمح لنفسھا التملك في إرادة الجماھير ,

وتكييف مستقبليتھا وتسييرھا حسب مشاربھا , وتسخيرھا إلى أھداف نفعية لھا .

ه األغراض لتسخر أجھزة عمالقة رھيبة إلمالء النظام الخاضع لھا , وھي لھات

لخلق الظروف المتماشية مع مصالحھا( ولعل التخلف ھو المناخ األفضل لنمو

فيروس التبعية لھا ) , وبطبع ھوية أصحاب البلد على النمط الذي ترتضيه في

مدارھا .

أس. إن التحدي ھو أكبر وازع ھل يعني ھذا أن دور التونسي ينعدم أمام جدار الي

للتحدي . وقد يكون اليأس أكبر دافع لبلوغ قمم األدب العالمي األستاذ المسعدي

على لسان غيالن : " ليس في الحدود والعراقيل حد واحد وال عقال واحد يعجز عن

كسره العزم " . وقديما نظر حنبعل إلى البحر , وحلم بما وراءه , وراوده حلم : لو

ولم يقتصر حلمه عن الحلم . –ع أن يتخطى البحر بخطوة واحدة استطا

أما ما أتى في مقال األستاذ المرزوقي , فھو حديث الوجدان المتأجج . أن حب

التونسي لتونسه , وغيرته عليھا وإيمانه بأزليتھا , وتشبثه بانصھاره في ھويتھا ,

لھو أكبر ضمان على رفع التحدي يوما , وكسب الرھان .

كيـــف نخـــرج مــن التخلـــــف ؟

م . س . طالب

أن المتتبع للمقاالت التي نشرت بجريدة " الرأي " حول موضوع التخلف منذ مقالة

الدكتور المرزوقي حتى ما كتبه لنا األستاذ سعيد يالحظ اتجاھين :

186

طرح األول مظاھر التخلف تكاد تكون أخالقية بحتة ما داموا قد قدموا لنا )1

مجموعة من األخالقيات التي اتسمت بھا بعض المجتمعات " المتقدمة "

ومقابلتھا في مجتمعنا " المتخلف"

وفي الجھة المقابلة نجد محاولة تحليلية للبحث عن أسباب التخلف مع )2

تقادي دون الوصول إلى السبب الرئيسي تقديم بعض مالمح الحل في اع

في نظري . لكن يبقى مقال األستاذ سعيد أقرب إلى صلب القضية خاصة

باعتماده منذ البداية على تحديد لمصطلح التخلف وھو تحديد " مقبول "

في نظري دون أن أقول "علمي " ألني أرفض من يدعون بوجود مفاھيم

التخلف " و "التقدم " و " " علمية " لبعض المصطلحات من قبيل "

الثورة " والتي ھي تحديدات نسبية في نظري ترضخ إلى االنتماءات

اإليديولوجية لواضعي ھاته التحديدات من ناحية , وفي غياب اديولوجية

لديھم , ترضخ تحديداتھم إلى انتماءاتھم الحضارية والثقافية والطبقية .

ول من طرحھا أو أنھا لم تطرح قبلنا بل وعلى كل حال , فإن قضية التخلف لسنا أ

ھي ظلت الشغل الشاغل للمصلحين منذ أواخر القرن التاسع عشر بصفة عامة ,

وقبل ذلك بصفة نسبية وفي شتى أنحاء العالم اإلسالمي حيث ال حظوا الفارق

الحضاري الذي يفصلھم عن المجتمعات األوروبية . فحاولوا االھتداء إلى األسباب

ھا وصلوا إلى تقديم أطروحات لحل " أزمة " التخلف . ومن المشاكل وعلى ضوئ

التي خاضوا فيھا أثناء تحليالتكم قضية المصطلحات التي تعكس الواقع العربي ,

وتقفوا كثيرا عند عقبة ترجمة مصطلحات أوروبية أطلقت على وضعية المجتمعات

المتخلفة وأخرى على وضعية المجتمعات المتقدمة .

ح القضية آثار جدال بين المھتمين باألمر تواصل إلى يومنا ھذا خاصة وأن وطر

اليوم نشھد فشل بعض الحلول التي أرتاھا األوائل ممن طرحوا القضية .

وملخص ھاته االطروحات ھي :

187

أن سبب التخلف يكمن في ھذا النمط من الحكم الذي ساد عصور االنحطاط )2

مما خول للساسة آنذاك ممارسة استبداد والمتميز أساسا بارتباطه بالدين

سياسي واحتكار للسلطة وعزل الجماھير عن السلطة .

ويقترح أصحاب ھذا الرأي أنظمة بديلة معمول بھا بأوروبا التي أتخذت كمثال لتقدم

يجب النسج على منوالھا , خاصة وأن أوروبا تسودھا أنظمة ليبرالية وعلمانية

لضرورة .

ال سائد اآلن لدى االتجاھات المطالبة بتغير األنظمة السياسية وھذا التصور ماز

نحو ديمقراطية غربية أو ديمقراطية شرقية. وكالھما ينطلق من نقطة أن الحل ھو

في تغيير نمط الحكم رغم االختالف الھام في التحاليل والبرامج المقترحة.

نظر رواده أما الطرح الثاني فھو طرح تعقيدي تربوي إذ سبب التخلف في )3

والجھل واالنحطاط األخالقي والحل ھو انتشار التعليم واستبدال األخالق

السلبية بأخرى إيجابية , ولذلك حاولوا تأسيس المدارس واھتموا

باإلعالم ...

وھذا االستقرار بھاته االتجاھات حاولنا فيه تقديم الصبغة األساسية لالتجاھات التي

اء طرحھا لقضية التخلف . أثن –ومازالت توجد –وجدت

والذين يھمنا ھنا ھو األول الذي يحتوي ضمنيا االتجاه الثاني , خاصة وأن ھذا

االتجاه األول مازلنا نجد المتحمسين له اليوم . وھذا االتجاه يسقط التغيير من القمة

إلى القاعة مقترحا وسائل ومحتويات ضربة في مجتمعات تختلف عنا تاريخيا

بالتالي نفسيا وعقائديا . ثم ھو ينظر إلى مجتمعنا ويحلل وضعيته على وحضاريا و

ضوء المجتمعات المتقدمة وواقعھا .

وھذا الحل وقع تجربته في البلدان اإلسالمية منذ أوائل القرن العشرين إلى اليوم .

بالتخلص من الخالفة وبناء دولة " عصرية " على 1924فبدأت تركيا منذ سنة

ة وقومية . وفي بقية البلدان اإلسالمية , التي خرجت أو تحررت من أسس علماني

االستعمار حسب زعم البعض وخاصة الزعماء , وجربت األنظمة الليبرالية

188

والجمھورية البرلمانية .. وبعضھا جرب األنظمة االشتراكية " –الدستورية

العلمية " حينا " المؤمنة " أحيانا أخرى .

د أخذ أشكاال أخرى أكثر تعقيدا وخطورة مثل : التبعية وما راعنا والتخلف ق

الحضارية والسياسية واالقتصادية وإجبار األمة على استھالك القيم والبضائع

والبرامج المستوردة بالرغم من أن جماھيرنا عبرت عن استحالة ھضم ھاتة

الحلول وواقعھا المتخلف المتردي ينبئنا بذلك .

المقيت للسلطة من طرف أحزاب ومجموعات عسكرية ومثل ھذا االحتكار البشع

تمارس القمع ضد كل من يشتم منه رائحة المعارضة .

ثم ظھور ردود أفعال ھستيرية تارة كاالنقالبات العسكرية الدامية أو البيضاء .

وتارة جماھيرية مثل الثورة اإليرانية والحركات اإلسالمية المتواجدة في كل البلدان

رغم االختالف المسجل في حجمھا وتجذرھا .. اإلسالمية

الشيء الذي يفسر مدى عدم ثقة األنظمة الحاكمة في نفسھا وفي شعوبھا وتخبطھا

وعدم استقرارھا عل برنامج معين يأبى االنتماء للكتلة الشرقية أو الغربية .

وفي نظري أن ھذا الفشل يعود لألسباب التالية :

و االشتراكية لم ترتبط بالخلفيات الحضارية والعقائدية ) إن الحلول الليبرالية أ1

وبالتالي النفسية لمجتمعنا إذ أن التقدم األوروبي لم يحصل عن طريق تركيب حلول

وواقعه , بل حصل تقدمه –وجدت بمجتمعات تختلف عنه حضاريا وعقائديا –

ية حسب تطور وضعية المجتمع األوروبي الذي له خصائصه الحضارية والعقائد

والنفسية بل ھي أسس ھذا التقدم ومنطلقاته .

أو وضعھا في –وتونس تنتمي إليه طبعا –فتجاھل خصائص المجتمع اإلسالمي

مرتبة ثانوية من األھمية يعتبر بمثابة الحواجز التي يستحيل تجاوزھا في مسيرة

التنمية والخروج من التخلف .

اخل الجماھير فعملية اإلسقاط ھاته ) عملية إسقاط الحلول وعدم انطالقھا من د2

يمارسھا من يجھل كيفية تطور المجتمعات األوروبية وبلوغھا الوضعية الحضارية

الحالية . فالتقدم األوروبي لم يحدث بمشيئة األنظمة الحاكمة أو اختياراتھا

189

وبرامجھا المسلطة على الشعب بقدر ما ھو ناتج عن تحركات جماھيرية وصلت

نظمة وفرض أخرى . ولكنه يعلم أن منذ بداية النھضة العلمية إلى إسقاط أ

األوروبية ظھرت انتفاضات شعبية ضد وضعيات اقتصادية وسياسية وعقائدية

مغضوب عليھا .

وھنا أطرح السؤال الھام الرئيسي : كيف يمكننا الخروج من التخلف ؟

فيه األستاذ سعيد . وجوابا على ھذا السؤال فإني ال أذھب في نفس الخط الذي سار

إذ أن تحسيس الجماھير بقضاياھا وتشريك حقيقتھا في عملية التقدم , ووعينا

وتركيزنا على الواقع المتخلف , ليس ھو الحل بقدر م ھو خطوة نحو الحل أو بعض

مالمح الحل .

فكيف نوعي الجماھير " بكيفية حل مشكالت التنمية والتقدم " ونحن لم نقدم إليھا

لحلول الناجعة لقضية التخلف ؟ بعد ا

وھنا أخلص إلى القول بأن التخلف الذي تعانيه جماھير أمتنا منذ قرون إلى اليوم

ھو نتيجة غياب إيديولوجية تتفاعل معھا الجماھير وتبشر ھاته اإليديولوجية بحل

مشاكل الجماھير وتحقق لھا تطلعاتھا وآمالھا في العدالة والحرية والكرامة دون

ال عقائد األمة وتاريخھا , وتكون الجماھير ھي غاية الخروج من التخلف إھم

ووسيلته .

وبذلك تتفجر مختلف طاقات الشعب لصالحه وبوعي منه الشيء الذي يؤدي إلى

توظيف لك اإلمكانيات المادية والبشرية المتاحة فعال في المجتمع .

يديولوجية ال تنطلق من ويجب أيضا أن تكون الحلول التي تبشر بھا ھاته اإل

منطلقات ال تؤمن بھا الجماھير .

ولكن تبقى مسألة توعية الجماھير واقتناعھا بھاته اإليديولوجية وھي مسؤولية

المتبنين لھا والمؤمنين بھا . مع إحاطتھم علما أن محاولة إسقاطھا وفرضھا على

فيھا . الجماھير من فوق ھي طريق مسدودة ال يمكن حتى مجرد التفكير

وبذلك إذا تنطلق التنمية من داخل الجماھير وبوعي وبطلب منھا , وال بإغراق

الجماھير بالمال أو البضائع والتجھيزات المستوردة أو بتغيير محيطھا الخارجي

190

وھو الذي حدث إلى حد اآلن .

م . س

طالب –

اإلعـــــــالم وتكـــــريس التخــــلـــــف

لقد طالعت باھتمام بالغ الحوار الذي دار منذ مدة على صفحات جريدة " الرأي "

صعوبة تناول –كما كان متوقعا –ول موضوع " لماذا نحن متخلفين " وبدت ح

ھذا الموضوع لعظمه واتساعه وتشابكه تسابك أوضاعنا وتأزمھا . وحاول كل

إرجاع تخلفنا إلى أسباب أحيانا سياسية وأخرى حضارية أو اقتصادية أو اجتماعية

–حسب رأيي –أس الداء . وكانت كل ھذه التفسيرات معقولة ومقبولة إال أن ر

يكمن في السياسة . فإذا صلح الحاكم ووفر عواما الصالح واإلصالح من عدالة

اجتماعية وديمقراطية ومناخ ثقافي سليم يصلح المحكوم ... وبالتالي ال أوافق

الدكتور المرزوقي فيما ذھب إليه من أن تأخرنا السياسي ناتج عن عدم وعي

الدكتور أن الشعب الجاھل المتخلف ال يفرز إال حاكما الشعب وجھله . فحسب رأي

متخلفا يزيده تقھقرا وجھال وكبتا وتأخرا . وعليه , فال نتصور أن يفرز الشعب

اإلنكليزي حاكما مثل عيدي أمين أو أن يتوج الشعب السويدي على نفسه ملكا مثل

" بوكاسا " .

الحدود ألنه يحكم على البلدان ومما ال ريب فيه أن ھذا المنطق سوداوي إلى أبعد

المتخلفة أن تبقى متخلفة أبد الدھر . وتلد حكاما متخلفين يزيدونھا تخلفا . ثم تفرز

ھذه األوضاع المتدھورة حكاما أكثر تخلفا من أسالفھم تضاعفون تخلفھا الخ ..

وھكذا تبقى تدور في حلقة مفرغة يسلمنا تخلف ھذا إلى تأخر ذاك .

التاريخي يشھد على بطالن ذاك وإال كيف نفسر ظھور زعماء ثم حتى المنطق

مصلحين واعين في شعوب متخلفة متأخرة . كيف نفسر ظھور ماو تسي تونغ وھو

191

شي منه وجمال عبد الناصر وغيرھم كثير , ثم كيف نفسر ظھور " بوكاسا "

أوروبي أو أمريكي في دول " متقدمة " أمثال ھتلر وترومان ؟؟

, أعتق أن صالح المحكوم ال يكون إال بصالح الحاكم وحسن نيته , وعلى ھذا لذا

األساس سأحاول أن أنزل بالحوار من التحليل النظري إلى الواقع مسميا األشياء

بأسمائھا , متناوال بالحديث ركنا أساسيا لعب دورا ھاما جدا في تخلفنا سخرته

ير الوجھة التي تريد أال وھو وسائل النظم الحاكمة ومازالت تسخره لتوجيه الجماھ

اإلعالم .

ال أحد ينكر دور أجھزة اإلعالم في المجتمعات المتخلفة باعتبارھا جزءا من بنية

الطبقة المسيطرة تسعى إلى توجيه الرأي العام اتجاھات معينة لخدمة مصالحھا

حة بخلق وتحقيق أھدافھا المتمثلة في المحافظة على سيطرتھا على الطبقات الكاد

اھتمامات غالبا ما تكون تافھة توجه إليھا الرأي العام قصد استنفاذ طاقاته فيھا .

وال يترك النظام الحاكم منفذا إال ويطل منه برأسه على الشعب باثا برامجه

المسمومة تارة والمخدرة أخرى قصد تلھية الناس وإبعادھم عن مشاكلھم اليومية

الحياتية ...

عة الدور الرئيسي في ھذا المجال إذ تعتبرھا نظم الدول المتخلفة ال وقد كان لإلذا

وسيلة تثقيف وتوعية وتسلية بريئة بل اتخذت منھا منبرا لشعرائھا وأدبائھا

ومشائخھا ومطبليھا ومزمريھا , يطلون منه على الشعب يخدرونه بحقن القناعة

والرضاء واإليمان بالمكتوب والقضاء :

أطيع الخليفة ... أطيع والديك

أطيع التنابلة ... دا مفروض عليك

وعود عيالك فضيلة الرضا

ألن إحنا طبعا عبيد القضا

علينا ببعض النشوة فغالبا ما تكون ھذه النشوة ھابطة ھدفھا التخدير وإذا ما جادوا

وغسل األدمغة وخلق عالم صوفي كله لذة وأنين وحب حنين وفراق ولوعة

واستعداد للتضحية في سبيل أشياء تافھة . فليس غريبا إذن أن تكون القيمة

192

أن يتخذ األساسية في الغناء البورجوازي ما زوشية , وليس من الغريب أيضا

النظام البورجوازي من "أم كلثوم " رائدة الفن وست الكل , فكانت أھرامات مصر

طوال نصف قرن تبث في نفوس الناس فضيلة " الرضا بالھوان " و"

السكوت واالنتظار " والقناعة والقعود والسلبية التامة واالكتفاء بما بين اليدين

حامدين هللا شاكرين فضله :

م كلثوم حياتھا الغنائية بإنشاد : لي لذة في ذلتي وخضوعي بدأت أ

فكانت بذلك منبعا متدفقا من الذل والخضوع والمازوشية يصب في عقل ووجدان

أجيال وأجيال متتالية من العرب

وطيلة نصف قرن عشنا في حفلة ذكر مرددين مع " تومة " وتحول ھذا " الترديد

و مرض الصبر واالنتظار والتعذب في صمت " بطول الممارسة إلى مرض مزمن ھ

والتألم في سكوت , وعشش فينا ھذا المرض الخبيث فأصبحنا ال نقدر على العيش

دون عذاب أو الحب دون ألم أو االنتشاء دون قسوة , فإذا ما أحببنا الورد فال

لشيء إال لشوكه :

علشان الشوك اللي في الورد أحب الورد

ونريد االنتقام ألنفسنا والتشفي من معذبينا فإننا نتشفى وحتى حين نغضب ونثور

منھم ألنھم حرموا أنفسھم من أناس يندر أن يجدوا مثلھم في تعذيب ذواتھم

وتحطيم كبريائھم , إنھم ال شك سيندمون على فراقھم لنا , سيخسروننا ألنھم لن

يجدوا أمثالنا في التذلل والوجع والرضاء بالذل والھوان .

! وحين يرفضون ذلنا ال نتخلى نحن عنه وال ننساه , بل نحن إليه

كثرة ھذه األمثلة التي تنمي فينا ال فضيلة الرضاء فحسب بل حب الخنوع

واالستسالم والتلذذ واالنتشاء بالعذاب , ھذه الفضائل التي كانت تحقننا بھا " ست

193

ا كله أنين ولوعة وحرقة الكل " , كانت تصور لنا في أغانيھا عالما خياليا صوفي

وتضحية وآھات من أجل أشياء تافھة .

إنھا كانت تبيع لنا دينا ال تؤمن به ال ھي وال أسيادھا . فبينما تدعونا إلى الرضا

والقناعة واالكتفاء بما بين اليدين كان

" دخلھا اليومي قبل الحرب العلمية الثانية ثالثة آالف جنية يوميا من اإلذاعة

وانات . والمعروف أن كوكب الشرق تنفق بسخاء لتعيش عيشة بذخ وترف واالسط

. فھي تقتني ( اليوم ) مجموعة ثمينة من المجوھرات واألحجار الكريمة لتتزين بھا

في حفالتھا "

لكن األخطر من ھذا كله أن " تومة " استحالة أفيونا يتلھى به الناس ويدخنونه

تنصال من مشاكلھم ومن الواقع والھروب من ليال نھارا . مھربا يلجئون إليه

المسؤولية مسؤولية التعبير والتغيير .

وإذا شئت أن تحفظ نفسك من غضب الشيطان وغدر الزمان ووجه الحكومة وغناء

اإلذاعة الذي يشبه رأي حماتك

؟ ) فاستمع إلى صوت الجمال يناديك في صوت أم كلثوم . ! (

وسة التي تنتابھا إذا ما استمع إلى صوت " تومة " , ويصف أحد عشاقھا حالة الھل

قائال : " إذا شئت أن يسقط إليك القمر من السماء أو يصعد إليك من الغدران

فأسھر على صوت سيدة العصر وأشرب العطر من صدور البنات ... ولتغني ما

" . شاءت وما شاء صوتھا العظيم . فھو الخمر في الدن في الليل في حانات بغداد

وكان المرحوم عبد الحليم حافظ ھو اآلخر جزءا من النسيج المتكامل للعالم

الكلثومي والعالم البورجوازي . فكثرت في أغانيه التأوھات وارتمى مغيره من

الفنانين والمازوشيين في بحر العذاب والحرقة واللوعة واليسر على الشوك

ار الحب ويتألم , ويجد لذة في ھو اآلخر كان يحترق بن ! والبلور والمسامير

احتراقه وألمه ويستحيل إلى تراب تحت أقدام يستعطف ويسترحم .

وكان كلما ابتعد عن معذبه وازداد له حبا وبه تعلقا . ولم يطق صبرا عليه كيف ال

وھو الذي لم يكتف بتعلم فضيلة الرضا فحسب بل لقن فضيلة التلذذ بالظلم والركوع

194

لك تلميذا نابغا من البورجوازية الحاكمة يبث سموم النشوة في واالنبطاح وخرج بذ

الذل والذل في النشوة والراحة في الخضوع والتسامح . لذا كان " قلبه أبيض "

فإذا ظلم كثيرا ما ينسي وإذا ما اعتدى عليه كثيرا ما يسامح بل وھو مظلوم يدوس

على كبريائه ويقوم بالخطوة األولى نحو محبوبه .

وأسأل عنك ما قبل ما إنت اتجيني اجري

يعود ليمشي على الشوك والمسامير والحبال ليؤدي دوره على أحسن ما يكون في

ھذا السرك البورجوازي الھابط :

راجع بعد الشوق ما ضناني راجع , راجع , راجع ثاني

فوق الشوك ... فوق الشوك

ق من لوعته واتخذ موقفا إيجابيا من األوضاع السائدة فأنه ال أما إذا تفق أن أفا

يتعدى البكاء والنشيج أو على األكثر التحسر والتأوه :

ناري يا حبيبي نار

وھذه المواقف في أغلبھا منبثقة عن رؤية شاملة ودقيقة ... ھذه الرؤية تعكس

. بوضوح طبيعة الحكم المصري والسلطة المصرية ثم موقفه تجاھھا

يا سيدي أمرك , أمرك يا سيدي

ما قدرش أخالفك

ألني عارفك

تقدر تحط الحديد في ايدي

إال أن المطرب الراحل لم يقتصر على ھذا الدور " السلمي " في خدمة

البورجوازية بل تعدى ذلك ليكون بوقا صداعا لالشتراكية والحرية على الطريقة

المصرية :

كتكوتلماليمو الشخلوعة الدلوعة ال

الليلة حيتنھد ويغني ويموت

يشيلوه قال على لندن

علشان جده ھناك

195

من بعد يتاليم على دخل الشباك

ويھرب أموالك ويقولك : أھواك

يا شعب يا متلوع مانتش القي القوت

ولم تقف الصحافة مكتوفة األيدي تجاه ھذا الوضع بل أدلت بدلوھا مع الجماعة

ذه المسرحية ... وكان لھا نصيبھا في ھذه العملية في ھ ! فكان لھا دورھا المشرف

, عملية التلھية وغسل األدمغة وتوجيه االھتمام إلى مواضيع تافھة فاتخذت من

الرياضة مثال ال وسيلة تقارب وتعارف وتآخي بل أداة تفرقة وتجزئة متبعة سياسة

مباراة " فرق تسد " وكان ذلك يظھر في صفحاتھا األولى بعناوين كبيرة حول "

الموسم " والمباراة المصيرية " والمباراة الثأرية "

يقول نجم مصورا الدور التضليلي الذي تقوم به الصحافة لتلھية الناس عن

مشاكلھا األساسية :

ال كورة نفعت

وال أونطة

وال المناقشة وجدل بيزنطة

وال الصحافة والصحفجية

شاغلين شبابنا

عن القضية

ى استغالل األحداث التافھة فتخصص لھا الصفحات والصفحات كما كانت تعمد إل

كاالحتفال بانتخاب ملكة الجمال أو أخبار زوجة كندي أو احتمال زواج الفنان فالن

من الفنانة فالنة مع نشر صور لھما إن أمكن في شكل خليع أبعد ما يكون عن

صد أبعاد الرأي الذوق الرفيع , أو خلق مواضيع مفتعلة وتكثيف النقاش حولھا ق

العام عن االھتمام بمواضيعه األساسية الحياتية :

يحكى أن

والزم يحكى

وكان بإمكان

196

قبل الجنة

كان فيه بيضة

وفرخة كمان

ذبحوا الفرخة , طبت سارخة

قامت البيضة

طقت شارخة

طقشت فقست فرخ فصيح

يدن ويھلل ويصيح

حتى إن كان على وش دبيح

يفضل يدن لما يموت

اويتوت ح

حاوي توت

إال أن خطر الصحافة يبدو محدودا بالمقارنة مع اإلذاعة نظرا لمحدودية المتعلمين ,

إذ تؤكد النتائج األولية للتعداد العام للسكان واإلسكان أن نسبة األمية في مصر ھي

معنى ھذا أن أكثر من نصف الشعب المصري ال عالقة له بالثقافة % 56,5

يذھب إلى القول بأن متوسط التوزيع –أقدم قليال –ء المكتوبة بل ھناك إحصا

ألف نسخة يوميا في وقت كان تعداد 626اليومي للصحف المصرية ال يزيد عن

فقط من المصريين ھم الذين يقرءون % 3مليون نسمة . إذن فــ 31.5مصر فيه

تدخل الصحف وبالتالي فخطر ھذه الوسيلة محدود خاصة إذا قورن مع اإلذاعة التي

البيوت دون استئذان فتبث فيھا سمومھا وحقنھا المخدرة ..

كما تسرب اإلعالم البرجوازي إلى وسيلة أخرى من وسائل التثقيف تعتبر مقدسة

ھي الكتاب , فشوه رسالة ھذا األخير, من التثقيف وفتح أفاق القارئ باعتباره أداة

ار االستسالمية والتميع نوعية وترشيد وإطالع وإثراء إلى أداة ترويح لألفك

واالنحالل ممثلة خاصة في قصص يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس كما اتخذ

صھيوني " أنيس منصور في –الكتاب بعدا آخر بما ينشره الصحفي " البرو

197

كتاباته وبما يروجه من خزعبالت ومزاعم ضارة وتدجيل وشعوذة محاوال ربطھا

فاستمع إليه في كتابه " القوى الخفية " يقول , بالعلم واالختراعات العلمية ,

بالحروف الواحد , في حديثه عن الجراحات الورحية : " إن عددا من المعالجين

الروحيين في الفيليبين قد أذھلوا العالم كله . ففي الفيليبين تتوقف الطائرات الذاھبة

, والناس يمرون إلى أمريكا والعائدة منھا لترى رجال أسمر نحيفا قد عصب عينيه

أمامه فيضع يده على المعدة أو على القلب أو على الظھر أو على المفاصل بسرعة

غريبة وبعد لحظات يشفى كل إنسان من مرضه , إن ھذا يجري عمليات جراحية

بأصابعه على البطن ويعيده إلى ما كان عليه " .

الطبية األميركية نصف ويستطرد قائال : " يحدث ھذا اآلن باندونسيا .. والمجالت

ذلك بالتفصيل واألطباء والعلماء أكثر دھشة من المرضى , وقد صوروا الرجل

وأصابعه ثم كيف يعيده كما كان وكيف يمشي الناس على أرجلھم بعد ذلك دون أن

يصاب أحد بتلوث أو تسمم أو دون أن يموت الناس إن ھذا المعالج الروحي

المعقمة وال غرف اإلنعاش , إن ھذا يتم يوميا أمام الفيليبيني ال يستخدم األدوات

الناس " .

ونترك للقارئ يتبين بطالن ھذه االدعاءات لبعدھا عن التفكير السليم والمنطق

العلمي , وبالتالي مساھمتھا في تكوين جيل ( مخرف ) مشعوذ يؤمن بالدجل

والخوارق ومصباح عالء الدين وخاتم سليمان .

ث وال حرج , فنظرة بسيطة على األفالم المعروضة في قاعات أما السينما فحد

السينما تبين مدى انحطاط مستواھا الفني واألخالقي . فمن " الفاتنة والصعلوك "

إلى " الكروان له شفايف " إلى " أبي آخر من يعلم " إلى " عذاب فوق شفاه

ضة لكل أنواع تبتسم " سخرية من تفاھة ھذه الجماھير اليائسة المستغلة المعر

العنف الثقافي وغسل األدمغة .

مشكلة التخلف والفكر العربي الحديث

198

بقلم كمال

الذيب

رغم أھمية القضية المطروحة فإنھا لم تستقطب أنظار المثقفين في البالد ,

األمر داللة خطيرة . ولھذا

بقطع النظر عن قيمة المحاوالت التي أسھم بھا بعض القراء فإنھا ذات أھمية

باعتبار أن مجرد اإلحساس بالتخلف والوعي به أمر ذو قيمة .

المالحظة الثالثة تتنازل طريقة طرح الموضوع من طرف الدكتور )2

رأسا على المرزوقي وتتمثل في كون المحاوالت التي قدمت لم تجب

بل –والذي كان من المفروض أن يحدد منھج الطرق –السؤال المطروح

كانت رصدا لبعض مظاھر التخلف العامة والجزئية .

أن المسألة المطروحة تستحق في رأيي اھتماما جديا . ونظرا لعدم قدرتنا )3

على إنجاز عمل أو مساھمة عملية دقيقة في ھذا المجال لظروف

نكتفي على كل حال بإبداء بعض المالحظات التي تبقى موضوعية , فإننا

بمتطلبات العمل العلمي وكمحاولة منا في المشاركة في ھذا النقاش نرى

أنه يمكن النظر إلى ھذه القضية في محاور ثالثة متكاملة :

محور تاريخي تمھيدي )1

محور تحليلي للقضية )2

سأحاول طرح ومحور نستخلص فيه النتائج ونقترح فيه الحلول . و )3

المحور األول للنقاش اآلن مؤجال المحورين اآلخرين إلى رفص الحقة إذا

أمكن .

) ھل نحن متخلفون ؟ .. قبل لماذا نحن متخلفون ؟ 1

إن طرح القضية على الصعيد التاريخي والفكري في رأيي ھام . فاستقراء إفراز

مسألة في محورھا الفكر العربي في ھذا المجال أمر ضروري , والنظر إلى ال

الزماني أكثر أھمية ألن التطور في النظر للقضية له داللة على مستوى الواقع

199

العربي والواقع الفكري على حد السواء وألن االطروحات التي ظھرت في بداية

النھضة مازالت متواجدة أو لھا أصداء على األقل في الفكر العربي المعاصر وھذا

وأھميته . ولھذا السبب أري ضرورة ھذا المدخل ما يزيد من طرافة الموضوع

التاريخي الفكري قبل الحديث عن القضية في حد ذاتھا .

أول قضية تواجھنا في استقرائنا للفكر العربي الحديث ھي : ھل كان الفكر -

العربي يسلم بواقع التخلف ويعتبره أمر حاصل ؟

دامه بالواقع األوروبي الحديث أول ما يالحظ أن الفكر العربي الحديث على إثر اصط

والقفزة النوعية التي أنجزھا العالم الغربي فكل المجاالت أحس بتغير الموازين

وأدرك أنه أصبح يعيش على وتيرة متخلفة جدا عن العالم الحديث . وزاد من ھذا

اإلحساس قوة ومفاجأة التدخل االستعماري في البالد العربية وامتزاج انبھار

رب ( أكان العربي وربما مازال إلى اآلن يقف مدھوشا أمام منجزات البعض بالغ

الحضارة الغربية ويحس بالذوبان واالنسحاق أحيانا )

إال أن المالحظ أن ھذا اإلحساس بالتخلف الذي كاد يحظى بإجماع الجميع قد شد

عليه التيار المحافظ . فقد وجد في بداية النھضة من كان يرى أننا غير متخلفين

أصال ونحن ھكذا على أحسن ما يرام وينتھي إلى القول بأننا شرقيون وتلك طبيعتنا

منذ أقدم العصور . وقد حاول االستعمار تغذية ھذا اإلحساس وتدعيمه ومازال ..

وھذا التيار متكون من اإلقطاعيين الباشوات الذين كان من مصلحتھم إبقاء األمور

حافظة على مصالحھم . قد بين التاريخ كيف على ما ھي عليه حتى يتسنى لھم الم

تحالف وتواطأ ھؤالء مع االستعمار إلجھاض حركة البورجوازية العربية النامية

وإجھاض كل فكر عقالني وتجديدي . وقد رأينا كيف وقعت محاربة مواجھة الفكر

الديني الداعي إلى النھضة واليقظة والمحاول لبعض الفكر اإلسالمي على أسس

. ورأينا كذلك كيف وقع التصدي لطالئع اللبرالية في مصر ثم التصدي جديدة

لطالئع االشتراكية .. الخ

فالتيار المحافظ فعل كل شيء من أجل إبقاء األمور على حالھا . ولكن لم يمنع ذلك

من تبلور رؤى جديدة متجاوزة ومختلفة وربما متناقضة ومتصارعة أحيانا , رغم

200

اقع التخلف . وسنتعرض إلى ھذه التيارات بإيجاز مبينين اتفاقھا كلھا حول و

موقفھا من التخلف .

) ... متخلفون ولكن لماذا ؟2

لئن اتفق الفكر العربي الحديث منذ عصر النھضة حول واقع التخلف فإنه عند

تحليله لألسباب اختلف اختالفا جذريا

إيديولوجية الالفعل والجبر ولئن اتفقوا جميعا على معارضة اإليديولوجية المحافظة

, فإنھم اختلفوا جوھريا في طبيعة الفعل الذي يجب أن نقوم به للقضاء على التخلف

أو لتجاوزه

رأى البعض أننا متخلفون ألننا تركنا اإلسالم أي أننا أحدثنا قطيعة معه )4

وبقدر ما نبتعد عن اإلسالم نبتعد عن الصواب وبالتالي نتقدم نحو التخلف

التقدم ھو درجة االبتعاد أو االقتراب عن اإلسالم ( الصافي ) أي ومقياس

عصر اإلسالم الذھبي . ھذا التيار يفسر المسألة بمعادلة بسيطة : تشبث

ابتعدوا عنه –المسلمون باإلسالم فتقدموا وسادوا العالم وأشعوا فيه

Shematiqueفتخلفوا وتشتتوا . ويضعون المسألة على صعيد شكلي (

صارفين النظر عن الظروف التاريخية والحضارية . ويظھر جليا من )

خالل ھذه المعادلة كيف أن الحل يبدو واضحا : يجب أن نبدأ من اإلسالم(

نعود إلى اإلسالم فنتقدم ) وھكذا يجد الحاضر أي الواقع العياني المعاش

حله في اللحظة الماضية .

ا التيار مشروعا بدا في إنجازه ومازال إلى وإلنجاز ھذه العودة إلى اإلسالم وضع ھذ

اآلن :

النضال ضد االستعمار بشكليه العسكري والثقافي -

العودة إلى التراث وإحيائه -

مشروع تجاوز الخالفات بين الفرق اإلسالمية ولم الشمل للتصدي ألعداء -

اإلسالم وتأجيل الخالفات الداخلية

201

يرة في ھذا االتجاه وقد أنجز الكثير من الرواد أعماال كث

وتطور ھذا التيار عبر التاريخ وخاصة في مصر وفي منطقة الھالل الخصيب

وعرف منعرجين في تاريخه :

أ) الحركة األولى : لم الشمل ومحاولة التجاوز األولى

ارتبط ھذا الفكر في مرحلته األولى بالنضال ضد االستعمار وكان للحافز -

ھمم , ومواجھة االستعمار والمحافظين على الديني أثر فعال في تحريك ال

حد السواء .

محاولة عقلنة الشريعة اإلسالمية وإحياء أصولھا ( ولكن من منظور -

سني في غالب األحيان )

قيادة حركة ضد التغريب ورفض قيم الغرب التي بدأت تتسرب إلى الواقع -

حيانا حتى العربي(ورغم ھذا التيار نفسه قد تأثر بالغرب دون وعي منه أ

في كيفية النظر إلى الدين وكيفية التوفيق بينه وبين الحياة المعاصرة...)

النضال ضد حركة التغريب التي قادھا بعض المفكرين األوائل من طالئع -

البورجوازية .

–جبھات : االستعمار 3إذن حاول ھذا التيار في بداية النضال على -

المحافظة –التغريب الداخلي

وحاول قدر اإلمكان –ر في ھذه المرحلة األولى شوطا كبيرا في خط العقلنة وقد سا

قديم في نفس الوقت يستند إلى الشريعة اإلسالمية من ناحية –بناء فكر جديد

ويحاول األخذ بعين االعتبار التطورات الحاصلة في الواقع المعاصر .

ب) الرد والتحجر :

صر وبداية ظھور طالئع الفكر االشتراكي الذي على إثر تنامي الحركة الثورية في م

ھدد الفكر الديني في الصميم عرفت الحركة اإلسالمية ارتدادا وتحجرا ظھرا مع

حركة اإلخوان المسلمين سريعا ما أغلقا الباب الذي فتح في بداية الحركة اإلسالمية

بمفاھيم . وكان ذلك التصلب كرد فعل ضد ھذا الواقع الجديد , فأزداد التشبث

قروسطية والتشدد في فھم وتقدير الشريعة اإلسالمية وعرفت الحركة مسارا جديدا

202

وبرز منھج العنف والتصلب في التعامل مع بقية التيارات فحوكم الفكر الحر وزندق

األباء وكفر الكتاب وصودرت كتب كثيرة ( حوكم طه حسين وحوكم علي عبد

يزان اإلسالم ( من وجھة نظر التيار طبعا ) . الرزاق ..الخ) ووقع وزن كل كتاب بم

وھكذا وقع التيار في طريق مسدود وسقط في لعبة اإلرھاب وكان ھو أولى

ضحاياھا في مصر . فقد برز وكأنه كھنوت جعل من نفسه وصيا على اإلسالم

وأعطى لنفسه الحق في محاكمة الغير والقضاء عليھم إذا تبينت عداوتھم

لذلك اضطھد ھذا التيار اضطھادا بشعا لم يعرف التاريخ وخطورتھم وكنتيجة

العربي مثله .

وال شك أن تلك التجربة القاسية والمريدة التي تعرضھا لھا ھذا القرن في البالد

المصرية خاصة قد أفادته كثيرا واستخلص منھا النتائج والعبر وعاد ليظھر من

تجاه إيجابي نسبيا إال أنه حافظ جديد في أشكال أخرى وقد تبلورت بعض رؤاه في ا

على مقوالت كبيرة ال تنسجم ورغبته الجادة في إحداث تغيير إيجابي في صلب

الفكر العربي اإلسالمي الحديث وبقي دون برنامج واضح مسند إلى عموميات

معتبر أن مجرد التصريح بأنه تيار إسالمي كاف لتحديد طبيعته وبلورة رؤاه . مما

تھجينه سھال على خصومه في كثيرا من األحيان . جعل أمر نقده و

وحتى ال ندخل مجال التقييمات السياسية التي ليست موضوعنا اآلن , نكتفي بھذه

اللمحات التاريخية ونتحول لننظر في الشق المقابل وماذا كان يرى .

متخلفون ... والحل في الغرب -

افة أوروبية والمتأثرين بالمنجزات رأى التيار المقابل وباألخص طالئع المثقفين ثق

العقالنية والعلمانية في الغرب , رأى ھؤالء أن فھم مسألة التخلف يمر عبر معادلة

بسيطة .

تقدم الغرب لماذا ؟ وتخلفنا لماذا ؟ -

تقدم الغرب ألنه نھج نھجا جديدا في الفكر والسياسة والحياة االجتماعية خاصة (

يرا إلى الجانب االقتصادي , فالذي كان يھمھم ھو الجانب ھؤالء الرواد لم ينتبھوا كث

الفكري الثقافي )

203

تقدم الغرب ألنه حقق الدولة العلمانية بفصله بين الدين والدولة .

تقدم ألنه حصر ميدان الدين وتأثره في المعتقد الشخصي تقدم ألنه بنى الدولة على

وتجاوزه ألنه آمان بالعلم و في أسس عقلية و ديمقراطية , تقدم ألنه راجع تراثه

الحضارة باالستناد إلى التقنية .. باختصار ألنه اختار العقل .

ولھذا يمكن أن نفھم لماذا نحن متخلفون , وبالتالي ال حل إال عبر الغرب عبر

سلوكه ومنھجه .. ولھذا ركز ھؤالء الرواد على الفكر الغربي وعلى الجوانب

نھم ومن بينھم حتى أصحاب االنتماءات الدينية في نقاش الثقافية. شارك العديد م

طويل حول مفھوم الخالفة ومفھوم الدولة . ھل الخالفة ضرورية ؟ ھل الدين ال بد

أن يرتبط بالدولة ؟ وكرس ھؤالء حياتھم لنھوض بالفكر العربي وعقليته .

ي إال أن نظرتھم كانت متسرعة ومنبھرة ولم يالحظوا حتى جوانب الضعف ف

الحضارة الغربية وبالتالي لم يكن اقتباسھم نقديا .. بل كان دغمائيا في أغلب

األحيان ثم : إن رؤية ھؤالء لقضية الحل كانت في أغلبھا رؤية ال جدلية وال

تاريخية أي أنھا تسقط في التجاوز غير الواقعي ( إرادة تجاوز واقع متخلف

ذلك االفتقار إلى الرؤية المتكاملة بإسقاط رؤى بعيدة على ھذا الواقع أضف إلى

للمسألة للتركيز على الجانب الثقافي )

وھكذا لم يعالج واقع التخلف حتى مع ھؤالء معالجة صالحة .. ( الحل ال ينبثق من

الواقع ومؤشراته بل من رؤى مسقطة ) وھكذا يشترك مع التيار األول في كونه

يقفز عن الواقع بمنھجية أحادية الجانب .

فإن ھؤالء األوائل قد القوا األمرين من نضالھم ضد التعصب وتجبر -وعلى أية حال

السلط الدكتاتورية . وقد اسھموا في إخصاب الفكر العربي وفتح نوافذه . ومع ذلك

كانت رؤيتھم محدودة .

تيارات أخرى ... أكثر تماسكا لكنھا مثالية : -

واالجتماعية , تيارات أكثر ثورية تيارات أخرى ظھرت على الساحة الفكرية

وأكثر منھجية في طرح القضايا ومناقشتھا . إال أنھا جد مثالية . تأثرت ھذه

التيارات بما كان يروج وقتھا من فكر اشتراكي بنوعية العلمي والمثالي وركزت

204

حلولھا وأطروحتھا على الھياكل االقتصادية ورأت الحل في الغرب ( ولكن بعد نقد

وتعريته ورفض الجوانب المظلمة فيه مثل االستغالل ... ) الغرب

إال أنھا بالغت وتطرفت .. أعدمت القوات ورأت ضرورة قطيعة ابستيمولوجية مع

الدين والتراث .. وھكذا سقطت ورفضھا الجسم االجتماعي والحضاري المعنوي

اإلسالمي .

.. فقد كان ھؤالء األوائل من واصطدمت بالحساسية الدينية .. ولم تلق رواجا كبيرا .

العلمانيين االشتراكيين متحمسين ولكنھم كانوا يحملون كثيرا . فوقعوا في

مجاوزات كانت سبب عقمھم وعدم قدرتھم على اإلشعاع والتأثير في أوسع

الجماھير .( وسيتطور ھذا التيار في ما بعد ويراجع أطروحته ويبني مفاھيمه

وواقعية .. وحلوله على أسس أكثر علمية

( وھذا يتجاوز حدود موضوعنا .. إذ التزمنا بالحديث عن األوائل .. أي الرواد ) ..

محاولة توسط... لكنھا فاشلة .. -

بين ھذين النقيضين ظھر جماعة ( ھم من كل التيارات ) رأوا أن مسألة التخلف ال

لى اآلن ولكن في تحل إال بمحاولة التوسط .. وطرحوا الشعار الذي مازال مطروحا إ

منظور آخر : األصالة المعاصرة .

وكان ھذا يعني بالنسبة إليھم : االستناد إلى األصل : التراث وعدم التفريط فيه ألنه

ھو الحضور التي يشدنا إلى حضارتنا , ومحاولة تطعيم ھذا األصل وإثرائه بمفاھيم

واقتباس منه كل ما من المعاصرة : االنفتاح على منجزات الفكر اإلنساني الحديث

شانه أن يعيننا على الخروج من التخلف ( التقنية والعلم )

واعتقد ھؤالء أن التقنية والعلم يمكن اقتباسھما خارج سياقھما الحضاري ... لقد

فتحوا الباب ولكنھم لم يستطيعوا بناء نظرية التوسط على أسس موضوعية ... فقط

و تغليب شق على آخر ( المعاصرة أو األصالة ) كانوا يسقطون كثيرا في التلفيق أ

فبقيت مسألة التوسط مسألة نظرية أكثر منھا مسألة واقعية ( ربما يرجع ذلك لكون

205

ھذه الطائفة كانت تشمل أفرادا من تيارا مختلفة ( التيار اإلسالمي , التيار العروبي ,

التيار الليبيرالي ... الخ وكلھا متداخلة )

لجدلي لم يوجد وقتھا .. ... المنظور ا

من خالل ھذا االستعراض الذي طال أكثر مما كنا نضنه , تتبين لنا مجموعة من

الحقائق :

إن الفكر العربي الحديث كان عازما على معالجتھا وسعى فعال إلى طرح )2

البدائل والحلول .

إن الفكر العرب يقد توزع توزعا ملحوظا في أثناء طرحه للحلول . )3

االطروحات كانت تقفز فوق الواقع ( أما نحو الماضي أو نحو إن جل )4

الغربي أو نحو مثل بعيدة التحقيق )

إن الفكر العربي كان يفتقر في النظر إلى مسألة التخلف إلى رؤية جدلية و )5

متكاملة . فقد كانت االطروحات أحادية الجاني في أغلبھا .

دة كبيرة وصراع بين إن الطرح من أجل الخروج من التخلف انطبع بح )6

التيارات نفسھا وتحولت المجھودات في أغلبھا إلى التناحر بين ھذه

الفئات , وكان ذلك أمرا طبيعيا . فقد ارتبط الصراع ضد التخلف بالنسبة

إلى كل تيار بالصراع ضد التيارات السياسية المتواجدة معه .

ي الموضوعات التي كانت مطروحة للنقاش بالدرجة األولى ھ )7

–الديمقراطية –الدولة –الموضوعات السياسية والفكرية ( الخالفة

الحكم ... )

قضية نقطة البداية في الخروج من التخلف تطورت حسب خط تطور )8

حركة الفكر العربي نفسه :

في البداية كان التركيز على السياسة -

ثم التركيز على الثقافة -

بط جدلي متكامل . ثم التركيز على االقتصاد ودائما دون ر -

206

ھذه مجموعة من الحقائق ( رغم سطحية وتسرع عرضھا ) يجب وضعھا في

مكانھا , وأخذھا بعين االعتبار عند حديثنا عن قضية التخلف ألن معرفتنا بالفكر

العربي الحديث ومناقشته لھذه المسألة تنيرنا وتوضح لنا السبيل وتساعدنا في فھم

ت المعاصرة ومعرفة امتداداتھا وجذورھا وخلفياتھا ما يجري وفي تفسير االطروحا

.

... ثم أن انطالقنا من ھذا المدخل التاريخي القصير قد يساعدنا على تجاوز المزالق

التي وقع فيھا الرواد . وبالتالي نتمكن إذا نحن عرفنا مواطن الخطأ والضعف أن

وبالتالي أكثر واقعية . ننظر إلى المسألة نظرة أكثر صالبة وأكثر جدوى وفاعلية .

فالفكر العربي الحديث كان في أغلبه ينظر إلى أوروبا نظرة إما مثالية وإما خاطئة (

نظرة الصراع الدائم أو نظرة التضاؤل ) ... وإن نحن حاولنا أن نستثمر محصول

الفكر العربي الحديث في ھذه المسألة فإننا ال شك سنستطيع تجاوز الكثير من

خطاء التي وقع فيھا األوائل .األوھام واأل

الفكـــــرة الخطيـــــــــرة

ھشام عطاء هللا

منذ نشرنا مقال األستاذ المنصف المرزوقي " المبتذالت العشر وردي عليھا "

أصحابھا رأيه في المقال وردود الفعل ال تنقطع : عدة رسائل وردت علينا ضمنھا

... وبعضھم جاء إلى مقر الجريدة ليعلق عليه وغيره استوقفوا من أعترضھم من

أفراد أسرتي " الرأي " وتكلموا واستفسروا ...

كان ردود فعلھم فسيفساء كما توقعنا أن تكون : ھنا المؤيد المعجب ھناك من قال :

مقال وصاحب المقال : بعضھم رأي في " نعم ... ولكن ... " وھناك الساخط على ال

ما كتبه األستاذ المرزوقي تجنيا على اإلسالم وھناك من رأي أن صاحبه ال يعدوا أن

... ! يكون بوقا للفكر االستعماري اإلمبريالي

واستبد الحماس ببعض قرائنا فأطلقوا نعوتا واتھامات ليس ھناك مجال لذكرھا .

207

حدى مقاالت الرأي مثل ھذا الضجيج والحركة . إني وليس ھذه أول مرة يثير فيھا إ

أذكر يوم فتح الزميل حمزة األسود باب " اإلسالم والسياسية " فكانت المساھمات

والردود بكثرة التي جعلت المساحة واإلمكانيات تضغط على رحابة صدرنا وتجبرنا

. على إغالق ملف كان بودنا أن نمكن أكبر عدد من القراء للمساھمة فيه

وقد كان لألستاذ المرزوقي نفسه المبادرة في فتح حوار حول ظاھرة تخلف

مجتمعاتنا . وأذكر كم عانى وقضى من الوقت في قراءة سيل الردود التي أثارتھا

آراؤه في ھذه الظاھرة وقد كنا نشرنا العديد منھا وافق أم خالفا ما نشرناه .

لمقال أو ھذه الدراسة من ردود فعل أمثلة قليلة سقتھا عن ما يعقب صدور ھذا ا

ومساھمات ونقاش .

إن للحوار الذي يفتح القرائح التي تتفتق واألقالم التي يستثيرھا ما ننشره لھي

أثمن لدينا من كل رصيد آخر.

ال نرتاح فوق اللزوم إذا ألقيت إلينا ورود االستحسان وال نسخط على من ينتقدنا

د سبنا ألننا قلنا ماال يالئم رأيه ومزاجه . ولكن ھذا ويتھمنا ... وقد نأسف إذا أح

األسف سرعان ما يمحي عندما نرى أننا قد أثرنا القارئ ودفعناه لكي يحدثنا ويعبر

عن فكره ورأيه وكم ھي قليلة فرص التعبير في بالدنا .

قد ال يعجبك كالم اآلخرين ولكن في استماعك إليه وردك عليه خروج من العزلة

ع إلى آفاق تكون معرفتك لھا دوما أحسن من جھلك لھا . وتطل

ويحدث أن يتدنى مستوى النقاش ويحمي وطيسه فيخرج بعضنا عن اللياقة فيشتم

ويتجنى على غيره بطريقة مجانية . ولھؤالء بعض العذر ألن تقاليد الحوار لدينا

ھر الحمل مازالت في طور الحمل . وكلكم يعلم أن الحامل يتعكر مزاجھا في أش

األولى وقد يصيبھا الغثيان, ولكن الجنين إذا كان سليما ولقي من ال رعاية ما يكفي

ينمو ويصل إلى منتھى الرحلة ويبعث رسوال للحياة واألمل . فلنترفق بھذا الجنين

الذي يترصد به من ال رغبة لھم فيه ... أال يكفي أن قانون الصحافة يتحين كل

لمه في أسرة إعالمية يسودھا " التنظيم العائلي " ال فرصة الجھاضه كي يحقق ح

يحق العيش فيھا إال للتلفزة وأخواتھا .

208

كلما كتبنا ورددتم ... كل ما حدثتمونا وشرفتمونا بإبالغنا أفكاركم وھواجسكم سواء

وافقت رأينا أم خالفته كان ذلك حافزا جديدا لنا لكي نكتب ونستمع منكم .

أن تخالفونا أو أن تھاجمونا ولكن يحز في أنفسنا أن نراكم ال يحز في أنفسنا

المبالين ... فال شيء يغيظ الطموح مثل الالمباالة .

وألننا نطمح أن نساھم في خلق حوار وحركية فكرية تفجر الطاقات وتنفض الغبار

عن مواھب وخامات عوملت وتعامل باالزدراء حينا وبالتكميم حينا آخر , فإننا

لى آثاره ردود فعلكم وقد نغيظ بعضكم ونخالف ما يراه . ونحن نختار سنحرص ع

ھذا الرھان الخطير ألنه ال نھضة فكرية بدون تالقح وتصادم ووفاق وخالف .

" . ! وقد قال بعضھم : " الفكرة إن لم تكن خطيرة ليست فكرة

209

210