albayan.edu.saalbayan.edu.sa/albayan_library/upload/books... · 2 ﻥﺎﻔﻬﻠﻟﺍ...

900
1 ﺍﺑﻦ ﺍﻟﻘﻴﻢ ﺍﻟﺠﻮﺯﻳﺔ – ﺍﻏﺎﺛﺔ ﺍﻟﻠﻬﻔﺎﻥ ﺍﻏﺎﺛﺔ ﺍﻟﻠﻬﻔﺎﻥ ﺍﺑﻦ ﺍﻟﻘﻴﻢ ﺍﻟﺠﻮﺯﻳﺔwww.al www.al-mostafa.com

Transcript of albayan.edu.saalbayan.edu.sa/albayan_library/upload/books... · 2 ﻥﺎﻔﻬﻠﻟﺍ...

  • اغاثة اللهفان   1     ابن القيم الجوزية –

    اغاثة اللهفان

    ابن القيم الجوزية

    www.alwww.al-mostafa.com

    www.al

  • اغاثة اللهفان   2     ابن القيم الجوزية –

    بسم اهللا الرحمن الرحيم

     الحمد هللا الذي ظهر ألوليائه بنعوت جالله وأنار قلوبهم بمشاهدة صفات كماله 

    ضاله فعلموا أنه الواحد األحد الفرد وتعرف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وإف

    الصمد الذي ال شريك له في ذاته وال في صفاته وال في أفعاله بل هو كما وصف 

    به نفسه وفوق ما يصفه به أحد من خلقه في إكثاره وإقالله ال يحصي أحد ثناء 

    عليه بل هو كما أثنى على نفسه على لسان من أكرمهم بإرساله األول الذي 

     واآلخر الذي ليس بعده شيء والباطن الذي ليس دونه شيء ليس قبله شيء

    وال يحجب المخلوق عنه تستره بسر باله الحي القيوم الواحد األحد الفرد الصمد 

    المنفرد بالبقاء وكل مخلوق منتهى إلى زواله السميع الذي يسمع ضجيج 

    األصوات باختالف اللغات على تفنن الحاجات فال يشغله سمع عن سمع وال 

    لطه المسائل وال يتبرم بإلحاح الملحين في سؤاله البصير الذي يرى دبيب تغ

    النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء حيث كانت من سهله أو 

    جباله وألطف من ذلك رؤيته لتقلب قلب عبده ومشاهدته الختالف أحواله فإن 

    إن أعرض عنه لم يكله إلى أقبل إليه تلقاه وإنما إقبال العبد عليه من إقباله و

    عدوه ولم يدعه في إهماله بل يكون أرحم به من الوالدة بولدها الرفيقة به في 

    حمله ورضاعه وفصاله فإن تاب فهو أفرح بتوبته من الفاقد لراحلته التي عليها 

    طعامه وشرابه في األرض الدوية المهلكة إذا وجدها وقد تهيأ لموته وانقطاع 

     اإلعراض ولم يتعرض ألسباب الرحمة بل أصر على أوصاله وإن أصر على

    العصيان في إدباره وإقباله

  • اغاثة اللهفان   3     ابن القيم الجوزية –

    وصالح عدو اهللا وقاطع سيده فقد استحق الهالك وال يهلك على اهللا إال الشقى 

    الهالك لعظيم رحمته وسعة إفضاله وأشهد أن ال إله إال اهللا وحده ال شريك له 

    ه واألمثال وتقدس عن األضداد واألنداد إلها واحدا أحدا فردا صمدا جل عن األشبا

    والشركاء واألشكال ال مانع لما أعطى وال معطي لما منع وال راد لحكمه وال 

    [ وإذا أراد اهللا بقوم سوءا فال مرد له ومالهم من دونه من وال : معقب ألمره 

    وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائم له بحقه وأمينه على وحيه : ] الرعد 

    ن خلقه أرسله رحمة للعالمين إماما للمتقين وحسرة على الكافرين وخيرته م

    وحجة على العباد أجمعين بعثه على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم 

    الطرق وأوضح السبل وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعظيمه وتوقيره 

    ه فشرح والقيام بحقوقه وسد إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح ألحد إال من طريق

    له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره وجعل الذل والصغار على من خالف أمره 

    وأقسم بحياته في كتابه المبين وقرن اسمه باسمه فال يذكر إال ذكر معه كما 

    في التشهد والخطب والتأذين فلم يزل صلى اهللا عليه وسلم قائما بأمر اهللا ال 

    صده عن ذلك صاد إلى أن أشرقت الدنيا يرده عنه راد مشمرا في مرضاة اهللا ال ي

    برسالته ضياء وابتهاجا ودخل الناس في دين اهللا أفواجا أفواجا وسارت دعوته 

    مسير الشمس في األقطار وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار ثم استأثر اهللا به 

    لينجز له ما وعده به في كتابه المبين بعد أن بلغ الرسالة وأدى األمانة ونصح 

    األمة وجاهد في اهللا حق الجهاد وأقام الدين وترك أمته على البيضاء الواضحة 

    هذه سبيلي ادعوا إلى اهللا على بصيرة أنا ومن اتبعني : البينة للسالكين وقال 

    : يوسف [ وسبحان اهللا وما أنا من المشركين  108 ]

  • اغاثة اللهفان   4     ابن القيم الجوزية –

    ردا للتكليف فإن اهللا سبحانه لم يخلق خلقه سدى همال بل جعلهم مو: أما بعد 

    ومحال لألمر والنهي وألزمهم فهم ما أرشدهم إليه مجمال ومفصال وقسمهم إلى 

    : شقي وسعيد وجعل لكل واحد من الفريقين منزال وأعطاهم مواد العلم والعمل 

    من القلب والسمع والبصر والجوارح نعمة منه وتفضيال فمن استعمل ذلك في 

     إليه ولم يبغ عنه عدوال فقد قام طاعته وسلك به طريق معرفته على ما أرشد

    بشكر ما أوتيه من ذلك وسلك به إلى مرضاة اهللا سبيال ومن استعمله في 

    إرادته وشهواته ولم يرع حق خالقه فيه يخسر إذا سئل عن ذلك ويحزن حزنا 

    إن السمع : طويال فإنه البد من الحساب على حق هذه األعضاء لقوله تعالى 

    36: االسراء [ كان عنه مسئوال والبصر والفؤاد كل أولئك  ]

    ولما كان القلب لهذه األعضاء كالملك المتصرف في الجنود الذي تصدر كلها عن 

    أمره ويستعملها فيما شاء فكلها تحت عبوديته وقهره وتكتسب منه االستقامة 

    أال : والزيغ وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله قال النبيصلى اهللا عليه وسلم 

    لجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله فهو ملكها وهي المنفذة لما وإن في ا

    يأمرها به القابلة لما يأتيها من هديته وال يستقيم لها شيء من أعمالها حتى 

    : تصدر عن قصده ونيته وهو المسئول عنها كلها ألن كل راع مسئول عن رعيته 

     والنظر في كان االهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون

    أمراضه وعالجها أهم ما تنسك به الناسكون ولما علم عدو اهللا إبليس أن المدار 

    على القلب واالعتماد عليه أجلب عليه بالوساوس وأقبل بوجوه الشهوات إليه 

    وزين له من األحوال واألعمال ما يصده به عن الطريق وأمده من أسباب الغى 

     من المصايد والحبائل ما إن سلم من بما يقطعه عن أسباب التوفيق ونصب له

    الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق فال نجاة من مصايده ومكايده 

    إال بدوام االستعانة باهللا تعالى والتعرض ألسباب مرضاته والتجاء القلب إليه 

    وإقباله عليه في حركاته وسكناته والتحقق بذل العبودية الذي هو أولى ما 

    [ اإلنسان ليحصل له الدخول ضمان إن عبادي ليس لك عليهم سلطان تلبس به 

    فهذه اإلضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين وحصولها  ] 42: الحجر 

    سبب تحقيق مقام العبودية لرب العالمين وإشعار القلب

  • اغاثة اللهفان   5     ابن القيم الجوزية –

  • اغاثة اللهفان   6     ابن القيم الجوزية –

    إخالص العمل ودوام اليقين فإذا أشرب القلب العبودية واإلخالص صار عند اهللا 

    40: الحجر [ ن المقربين وشمله استثناء إال عبادك منهم المخلصين م ]

    ولما من اهللا الكريم بلطفه باالطالع على ما اطلع عليه من أمراض القلوب 

    وأدوائها وما يعرض لها من وساوس الشياطين أعدائها وما تثمر تلك الوساوس 

    لسيىء مصدره من األعمال وما يكتسب القلب بعدها من األحوال فإن العمل ا

    عن فساد قصد القلب ثم يعرض للقلب من فساد العمل قسوة فيزداد مرضا 

    على مرضه حتى يموت ويبقى ال حياة فيه وال نور له وكل ذلك من انفعاله 

    : بوسوسة الشيطان وركونه إلى عدوه الذي ال يفلح إال من جاهره بالعصيان 

    فيه هللا بالفضل واإلحسان أردت أن أقيد ذلك في هذا الكتاب ألستذكره معترفا 

    : ولينتفع به من نظر فيه داعيا لمؤلفه بالمغفرة والرحمة والرضوان وسميته 

    في : الباب األول : إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ورتبته على ثالثة عشر بابا 

    في ذكر حقيقة مرض : انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت الباب الثاني 

     في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية الباب :القلب الباب الثالث 

    في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر : الرابع 

    في أن حياة القلب وصحته ال تحصل إال بأن يكون : وفتنة فيه الباب الخامس 

    ادة في أنه ال سع: مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره الباب السادس 

    للقلب وال نعيم وال صالح إال بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية 

    في أن القرا ن الكريم : مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه الباب السابع 

    في زكاة القلب : متضمن ألدوية القلب وعالجه من جميع أمراضه الباب الثامن 

    في عالمات : سه الباب العاشر في طهارة القلب من أدرانه وأنجا: الباب التاسع 

    مرض القلب وصحته

  • اغاثة اللهفان   7     ابن القيم الجوزية –

    في عالج مرض القلب من استيالء النفس عليه الباب : الباب الحادي عشر 

    في مكايد : في عالج مرض القلب بالشيطان الباب الثالث عشر : الثاني عشر 

    الشيطان التي يكيد بها ابن ا دم وهو الباب الذي ألجله وضع الكتاب وفيه فصول 

    مة الفوائد حسنة المقاصد واهللا تعالى يجعله خالصا لوجهه مؤمنا من الكرة ج

    الخاسرة وينفع به مصنفه وكاتبه والناظر فيه في الدنيا واال خرة إنه سميع عليم 

    وال حول وال قوة إال باهللا العلي العظيم

  • اغاثة اللهفان   8     ابن القيم الجوزية –

    الباب األول في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت لما كان

    ياة وضدها انقسم بحسب ذلك إلى هذه األحوال الثالثة القلب يوصف بالح

    هو القلب السليم الذي ال ينجو يوم القيامة إال من أتى اهللا به : فالقلب الصحيح 

    : الشعراء [ يوم ال ينفع مال وال بنون إال من أتى اهللا بقلب سليم : كما قال تعالى 

    ات كالطويل والقصير والسليم هو السالم وجاء على هذا المثال ألنه للصف ] 88

    والظريف فالسليم القلب الذي قد صارت السالمة صفة ثابتة له كالعليم والقدير 

    وأيضا فإنه ضد المريض والسقيم والعليل

    أنه : وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم واألمر الجامع لذلك 

    ارض خبره الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر اهللا ونهيه ومن كل شبهة تع

    فسلم من عبودية ما سواه وسلم من تحكيم غير رسوله فسلم في محبة اهللا 

    مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه واإلنابة إليه والذل له وإيثار 

    مرضاته في كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق وهذا هو حقيقة العبودية 

     هو الذي سلم من أن يكون لغير اهللا :التي ال تصلح إال هللا وحده قالقلب السليم 

    إرادة ومحبة وتوكال وإنابة : فيه شرك بوجه ما بل قد خلصت عبوديته هللا تعالى 

    وإخباتا وخشية ورجاء وخلص عمله هللا

  • اغاثة اللهفان   9     ابن القيم الجوزية –

    فإن أحب أحب في اهللا وإن أبغض أبغض في اهللا وإن أعطى أعطى هللا وإن منع 

     والتحكيم لكل من عدا رسولهصلى منع هللا وال يكفيه هذا حتى يسلم من االنقياد

    اهللا عليه وسلم فيعقد قلبه معه عقدا محكما على االئتمام واالقتداء به وحده 

    دون كل أحد في األقوال واألعمال من أقوال القلب وهي العقائد وأقوال اللسان 

    وهي الخبر عما في القلب وأعمال القلب وهي اإلرادة والمحبة والكراهة 

    لجوارح فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دقعه وجله هو ما جاء وتوابعها وأعمال ا

    به الرسول صلى اهللا تعالى عليه وآله وسلم فال يتقدم بين يديه بعقيدة وال قول 

    [ يأيها الذين آمنوا ال تقدموا بين يدى اهللا ورسوله : وال عمل كما قال تعالى 

    : أمر قال بعض السلف أي ال تقولوا حتى يقول وال تفعلوا حتى ي ] 1: الحجرات 

    لم وكيف أى لم فعلت وكيف فعلت : ما من فعلة وإن صغرت إال ينشر لها ديوانان 

    هل هو حظ عاجل من حظوظ : فاألول سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه 

    العامل وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس أو خوف ذمهم أو 

    ل أم الباعث على الفعل القيام بحق استجالب محبوب عاجل أو دفع مكروه عاج

    العبودية وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى وابتغاء الوسيلة إليه

    أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لموالك أم فعلته : ومحل هذا السؤال 

    لحظك وهواك

    سؤال عن متابعة الرسول عليه الصالة والسالم في ذلك التعبد أي : والثاني 

     كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي أم كان عمال لم أشرعه هل

    ولم أرضه

    فاألول سؤال عن اإلخالص والثاني عن المتابعة فإن اهللا سبحانه ال يقبل عمال إال 

    بهما

    بتجريد اإلخالص وطريق التخلص من : فطريق التخلص من السؤال األول 

    لقلب من إرادة تعارض اإلخالص بتحقيق المتابعة وسالمة ا: السؤال الثاني 

    وهوى يعارض االتباع فهذا حقيقة سالمة القلب الذي ضمنت له النجاة والسعادة

  • اغاثة اللهفان   10     ابن القيم الجوزية –

    فصل في القلب الميت

    ضد هذا وهو القلب الميت الذي ال حياة به فهو ال يعرف ربه وال : والقلب الثاني 

    و كان فيها سخط يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه بل هو واقف مع شهواته ولذاته ول

    ربه وغضبه فهو ال يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط فهو متعبد 

    حبا وخوفا ورجاء ورضا وسخطا وتعظيما وذال إن أحب أحب لهواه وإن : لغير اهللا 

    أبغض أبغض لهواه وإن أعطى أعطى لهواه وإن منع منع لهواه فهواه ا ثر عنده 

    إمامه والشهوة قائده والجهل سائقه والغفلة وأحب إليه من رضا مواله فالهوى 

    مركبه فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور وبسكرة الهوى وحب 

    العاجلة مخمور ينادى إلى اهللا وإلى الدار اال خرة من مكان بعيد وال يستجيب 

    للناصح ويتبع كل شيطان مريد الدنيا تسخطه وترضيه والهوى يصمه عما سوى 

    يه فهو في الدنيا كما قيل في ليلىالباطل ويعم :

    ومن قربت ليلى أحب وأقربا فمخالطة صاحب ... عدو لمن عادت وسلم ألهلها 

    هذا القلب سقم ومعاشرته سم ومجالسته هالك

    فصل في القلب المريض

    قلب له حياة وبه علة فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى وهو : والقلب الثالث 

    فيه من محبة اهللا تعالى واإليمان به واإلخالص له والتوكل لما غلب عليه منهما ف

    ما هو مادة حياته وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على : عليه 

    ما : تحصيلها والحسد والكبر والعجب وحب العلو والفساد في األرض بالرياسة 

    وله داع يدعوه إلى اهللا ورس: هو مادة هالكه وعطبه وهو ممتحن بين داعبيين 

    والدار اآلخرة وداع يدعوه إلى العاجلة وهو إنما يجيب أقربهما منه بابا وأدناهما 

    إليه جوارا قالقلب األول حى مخبت لين واع والثاني يابس ميت والثالث مريض 

    فإما إلى السالمة أدنى وإما إلى العطب أدنى

     من قبلك وما أرسلنا: وقد جمع اهللا سبحانه بين هذه القلوب الثالثة في قوله 

    من رسول وال نبي إال إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ اهللا ما يلقي 

    الشيطان

  • اغاثة اللهفان   11     ابن القيم الجوزية –

    ثم يحكم اهللا آياته واهللا عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في 

    قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين 

    بك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن اهللا لهاد الذين أوتوا العلم أنه الحق من ر

    54 52: الحج [ آمنوا إلى صراط مستقيم  ]

    قلبين مفتونين وقلبا : فجعل اهللا سبحانه وتعالى القلوب في هذه اال يات ثالثة 

    القلب : القلب الذي فيه مرض والقلب القاسي والناجي : ناجيا فالمفتونان 

     المطمئن إليه الخاضع له المستسلم المنقادالمؤمن المخبت إلى ربه وهو

    أن القلب وغيره من األعضاء يراد منه أن يكون صحيحا سليما ال ا فة به : وذلك 

    يتأتى منه ما هيىء له وخلق ألجله وخروجه عن االستقامة إما ليبسه وقساوته 

    وعدم التأتي لما يراد منه كاليد الشالء واللسان األخرس واألنف األخشم وذكر 

    العنين والعين التي ال تبصر شيئا وإما بمرض وآفة فيه تمنعه من كمال هذه 

    األفعال ووقوعها على السداد فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه األقسام الثالثة

    ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى : فالقلب الصحيح السليم 

    لهإدراكه فهو صحيح اإلدراك للحق تام االنقياد والقبول 

    ال يقبله وال ينقاد له: والقلب الميت القاسي 

    إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي وإن غلبت عليه : والقلب المريض 

    صحته التحق بالسليم

    : فما يلقيه الشيطان في األسماع من األلفاظ وفي القلوب من الشبه والشكوك 

    ك ويكرهه ويبغضه فتنة لهذين القلبين وقوة للقلب الحي السليم ألنه يرد ذل

    ويعلم أن الحق في خالفه فيخبت للحق ويطمئن وينقاد ويعلم بطالن ما ألقاه 

    الشيطان فيزداد إيمانا بالحق ومحبة له وكفرا بالباطل وكراهة له فال يزال القلب 

    المفتون في مرية من إلقاء الشيطان وأما القلب الصحيح السليم فال يضره ما 

    يلقيه الشيطان أبدا

    قال رسول اهللا صلى اهللا تعالى عليه وا : يفة بن اليمان رضي اهللا عنه قال حذ

    له وسلم تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا فأي قلب أشربها 

    نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب 

    قلب :على قلبين 

  • اغاثة اللهفان   12     ابن القيم الجوزية –

  • اغاثة اللهفان   13     ابن القيم الجوزية –

    رف معروفا وال ينكر منكرا إال ما أشرب من هواه أسود مربادزا كالكوز مجخيا ال يع

    وقلب أبيض فال تضره فتنة ما دامت السموات واألرض فشبه عرض الفتن على

  • اغاثة اللهفان   14     ابن القيم الجوزية –

    القلوب شيئا فشيئا كعرض عيدان الحصير وهي طاقاتها شيئا فشيئا وقسم 

    قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها كما : القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين 

    سفنج الماء فتنكت فيه نكتة سوداء فال يزال يشرب كل فتنة تعرض يشرب ال

    عليه حتى يسود وينتكس وهو معنى قوله كالكوز مجخيا أي مكبوبا منكوسا فإذا 

    اسود وانتكس عرض له من هاتين اال فتين مرضان خطران متراميان به إلى 

    وال ينكر منكرا اشتباه المعروف عليه بالمنكر فال يعرف معروفا : أحدهما : الهالك 

    وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرا والمنكر معروفا 

    تحكيمه هواه : والسنة بدعة والبدعة سنة والحق باطال والباطل حقا الثاني 

    على ما جاء به الرسول صلى اهللا تعالى عليه وآله وسلم وانقياده للهوى 

    واتباعه له

    يمان وأزهر فيه مصباحه فإذا عرضت عليه وقلب أبيض قد أشرق فيه نور اإل

    الفتنة أنكرها وردها فازداد نوره وإشراقه وقوته والفتن التي تعرض على القلوب 

    هي أسباب مرضها وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات فتن الغي والضالل فتن 

    المعاصي والبدع فتن الظلم والجهل فاألولى توجب فساد القصد واإلرادة 

    فساد العلم واالعتقادوالثانية توجب 

    وقد قسم الصحابة رضي اهللا تعالى عنهم القلوب إلى أربعة كما صح عن حذيفة 

    قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب : القلوب أربعة : بن اليمان 

    أغلف فذلك قلب الكافر وقلب منكوس فذلك قلب المنافق عرف ثم أنكر وأبصر ثم 

    1دة إيمان ومادة نفاق وهو لما غلب عليه منهما ما: عمى وقلب تمده مادتان 

    قلب أجرد أي متجرد مما سوى اهللا ورسوله فقد تجرد وسلم مما سوى : فقوله 

    فأشار بتجرده إلى سالمته من : الحق و فيه سراج يزهر وهو مصباح اإليمان 

    شبهات

  • اغاثة اللهفان   15     ابن القيم الجوزية –

    لعلم الباطل وشهوات الغى وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور ا

    واإليمان وأشار بالقلب األغلف إلى قلب الكافر ألنه داخل في غالفه وغشائه فال 

    وقالوا قلوبنا غلف : يصل إليه نور العلم واإليمان كما قال تعالى حاكيا عن اليهود 

    وهو جمع أغلف وهو الداخل في غالفه كقلف وأقلف وهذه  ] 88: البقره [

    على قلوبهم عقوبة له على رد الحق الغشاوة هي األكنة التي ضربها اهللا 

    والتكبر عن قبوله فهي أكنة على القلوب ووقر في األسماع وعمى في األبصار 

    وإذا قرأت القرآن جعلنا : وهي الحجاب المستور عن العيون في قوله تعالى 

    بينك وبين الذين ال يؤمنون باآلخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن 

    فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد  ] 25: األنعام [ نهم وقرا يفقهوه وفي آذا

    وتجريد المتابعة ولى أصحابها على أدبارهم نفورا

    فما : وأشار بالقلب المنكوس وهو المكبوب إلى قلب المنافق كما قال تعالى 

    أي نكسهم  ] 88: النساء [ لكم في المنافقين فئتين واهللا أركسهم بما كسبوا 

    الباطل الذي كانوا فيه بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة وهذا شر وردهم في 

    القلوب وأخبثها فإنه يعتقد الباطل حقا ويوالي أصحابه والحق باطال ويعادى أهله 

    فاهللا المستعان

    وأشار بالقلب الذي له مادتان إلى القلب الذي لم يتمكن فيه اإليمان ولم يزهر 

    لذي بعث اهللا به رسوله بل فيه مادة فيه سراجه حيث لم يتجرد للحق المحض ا

    منه ومادة من خالفه فتارة يكون للكفر أقرب منه لإليمان وتارة يكون لإليمان 

    أقرب منه للكفر والحكم للغالب وإليه يرجع

  • اغاثة اللهفان   16     ابن القيم الجوزية –

  • اغاثة اللهفان   17     ابن القيم الجوزية –

    الباب الثاني في ذكر حقيقة مرض القلب قال اهللا تعالى عن المنافقين

    ليجعل ما : وقال تعالى  ] 10: ه البقر[ في قلوبهم مرض فزادهم اهللا مرضا  :

    يا : وقال تعالى  ] 53: الحج [ يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض 

    نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فال تخضعن بالقول فيطمع الذي 

    أمرهن أن ال يلن في كالمهن كما تلين المرأة  ] 32: األحزاب [ في قلبه مرض 

     منطقها فيطمع الذي في قلبه مرض الشهوة ومع ذلك فال المعطية الليان في

    لئن : يخشن في القول بحيث يلتحق بالفحش بل يقلن قوال معروفا وقال تعالى 

    لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغر ينك 

    ما جعلنا وما جعلنا أصحاب النار إال مالئكة و: وقال تعالى  ] 60: األحزاب [ بهم 

    عدتهم إال فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا 

    وال يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض 

    أخبر اهللا سبحانه عن الحكمة  ] 31: المدثر [ والكافرون ماذا أراد اهللا بهذا مثال 

    الئكة الموكلين بالنار تسعة عشر فذكر سبحانه خمس التي جعل ألجلها عدة الم

    فتنة الكافرين فيكون ذلك زيادة في كفرهم وضاللهم وقوة يقين أهل : حكم 

    الكتاب فيقوى يقينهم بموافقة الخبر بذلك لما عندهم عن أنبيائهم من غير تلق 

    من رسول اهللا صلى اهللا عليه وآله وسلم عنهم فتقوم الحجة على معاندهم 

    اد لإليمان من يرد اهللا أن يهديه وزيادة إيمان الذين آمنوا بكمال تصديقهم وينق

    بذلك واإلقرار به وانتفاء الريب عن أهل الكتاب لجزمهم بذلك وعن المؤمنين 

    فتنة الكفار ويقين أهل الكتاب وزيادة إيمان : لكمال تصديقهم به فهذه أربعة حكم 

     الكتابالمؤمنين وانتفاء الريب عن المؤمنين وأهل

  • اغاثة اللهفان   18     ابن القيم الجوزية –

     حيرة الكافر ومن في قلبه مرض وعمى قلبه عن المراد بذلك فيقول : والخامسة

    وهذا حال القلوب عند ورود الحق المنزل  ] 26: البقره [ ماذا أراد اهللا بهذا مثال :

    قلب يفتتن به كفرا وجحودا وقلب يزداد به إيمانا وتصديقا وقلب يتيقنه : عليها 

     وقلب يوجب له حيرة وعمى فال يدري ما يراد به واليقين فتقوم عليه به الحجة

    وعدم الريب في هذا الموضع إن رجعا إلى شيء واحد كان ذكر عدم الريب مقررا 

    لليقين ومؤكدا له ونافيا عنه ما يضاده بوجه من الوجوه وإن رجعا إلى شيئين بأن 

    ريب عائدا إلى يكون اليقين راجعا إلى الخبر المذكور عن عدة المالئكة وعدم ال

    عموم ما أخبر الرسول به لداللة هذا الخبر الذي ال يعلم إال من جهة الرسل على 

    صدقه فال يرتاب من قد عرف صحة هذا الخبر بعد صدق الرسول صلى اهللا عليه 

    ذكر مرض القلب وحقيقته وقال تعالى : وآله وسلم ظهرت فائدة ذكره والمقصود 

    ة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة يا أيها الناس قد جاءتكم موعظ:

    فهو شفاء لما في الصدور من مرض الجهل والغى فإ ن  ] 57: يونس [ للمؤمنين 

    الجهل مرض شفاؤه العلم والهدى والغي مرض شفاؤه الرشد وقد نزه اهللا 

    والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى : سبحانه نبيه عن هذين الداءين فقال 

    ووصف رسوله صلى اهللا تعالى عليه وآله وسلم خلفاءه بضدهما  ] 1: النجم [

    عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وجعل كالمه : فقال 

    سبحانه موعظة للناس عامة وهدى ورحمة لمن آمن به خاصة وشفاء تاما لما 

    في الصدور فمن استشفى به صح وبرىء من مرضه ومن لم يستشف به فهو 

    ما قيلك :

  • اغاثة اللهفان   19     ابن القيم الجوزية –

     نجا وبه الداء الذي هو قاتله...إذا بل من داء به ظن أنه 

    وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنن وال يزيد الظالمين إال : وقال تعالى 

    واألظهر أن من ههنا لبيان الجنس فالقرآن جميعه شفاء  ] 82: اإلسراء [ خسارا 

    ورحمة للمؤمنين

    رض البدن والقلبفصل في أسباب ومشخصات م

    ولما كان مرض البدن خالف صحته وصالحه وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي 

    لفساد يعرض له يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية فإما أن يذهب إدراكه بالكلية 

    كالعمى والصمم والشلل وإما أن ينقص إداركه لضعف في آالت اإلدراك مع 

    لى خالف ما هي عليه كما يدرك الحلو استقامة إدراكه وإما أن يدرك األشياء ع

    مرا والخبيث طيبا والطيب خبيثا

    وأما فساد حركته الطبيعية فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو 

    الدافعة أو الجاذبة فيحصل له من األلم بحسب خروجه عن االعتدال ولكن مع 

    والحركةذلك لم يصل إلى حد الموت والهالك بل فيه نوع قوة على اإلدراك 

    إما فساد في الكمية أو في الكيفية: وسبب هذا الخروج عن االعتدال 

    إما لنقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها وإما لزيادة فيها فيحتاج إلى : فاألول 

    نقصانها

    إما بزيادة الحرارة أو البرودة أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن : والثاني 

    ى ذلك ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن القدر الطبيعي فيداوي بمقتض

    المؤذى واستفراغ المواد الفاسدة ونظر الطبيب دائر على هذه األصول الثالثة 

    وقد تضمنها الكتاب العزيز وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة

  • اغاثة اللهفان   20     ابن القيم الجوزية –

    فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان : فأما حفظ القوة 

     إذا قدم والمريض إذا برىء حفظا لقوتهما عليهما فإن الصوم ويقضي المسافر

    يزيد المريض ضعفا والمسافر يحتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر والصوم 

    فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال : يضعفها وأما الحمية عن المؤذي 

    يمم حمية الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره وأمره بالعدول إلى الت

    له عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه فكيف بالمؤذي له في باطنه

    فإنه سبحانه أباح للمحرم الذي به أذى من رأسه : وأما استفراغ المادة الفاسدة 

    أن يحلقه فيستفرغ بالحلق األبخرة المؤذية له وهذا من أسهل أنواع االستفراغ 

    وأخفها فنبه به على ما هو أحوج إليه منه

    واهللا لو سافرت إلى الغرب : ذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال و

    في معرفة هذه الفائدة لكان سفرا قليال أو كما قال

    وإذا عرف هذا فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته وهو اإليمان وأوراد 

    الطاعات وإلى حمية عن المؤذي الضار وذلك باجتناب اال ثام والمعاصي وأنواع 

    خالفات وإلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له وذلك بالتوبة النصوح الم

    واستغفار غافر الخطيئات ومرضه هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره للحق 

    وإرادته له فال يرى الحق حقا أو يراه على خالف ما هو عليه أو ينقص إدراكه له 

    طل الضار أو يجتمعان له وتفسد به إرادته له فيبغض الحق النافع أو يحب البا

    وهو الغالب ولهذا يفسر المرض الذي يعرض له تارة بالشك والريب كما قال 

    أي شك وتارة  ] 10: البقره [ مجاهد وقتادة في قوله تعالى في قلوبهم مرض 

    فيطمع الذي في قلبه: بشهوة الزنا كما فسر به قوله تعالى 

  • اغاثة اللهفان   21     ابن القيم الجوزية –

    ] مرض  الشهوةفاألول مرض الشبهة والثاني مرض ]

    والصحة تحفظ بالمثل والشبه والمرض يدفع بالضد والخالف وهو يقوى بمثل 

    سببه ويزول بضده والصحة تحفظ بمثل سببها وتضعف أو تزول بضده ولما كان 

    من يسير الحر والبرد والحركة ونحو : البدن المريض يؤذيه ما ال يؤذي الصحيح 

    من الشبهة أو الشهوة : شيء ذلك فكذلك القلب إذا كان فيه مرض ا ذاه أدنى 

    حيث ال يقوى على دفعهما إذا وردا عليه والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف 

    ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته

    وبالجملة فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وضعفت قوته وترامى 

    إلى التلف ما لم يتدارك ذلك بأن يحصل له ما يقوى قوته ويزيل مرضه

  • اغاثة اللهفان   22     ابن القيم الجوزية –

    طبيعية وشرعية: الثالث في انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين الباب 

    وهو النوع المتقدم : نوع ال يتألم به صاحبه في الحال : مرض القلب نوعان 

    كمرض الجهل ومرض الشبهات والشكوك ومرض الشهوات وهذا النوع هو أعظم 

    لهوى تحول النوعين ألما ولكن لفساد القلب ال يحس باأللم وألن سكرة الجهل وا

    بينه وبين إدراك األلم وإال فألمه حاضر فيه حاصل له وهو متوار عنه باشتغاله 

    بضده وهذا أخطر المرضين وأصعبهما وعالجه إلى الرسل وأتباعهم فهم أطباء 

    هذا المرض

    مرض مؤلم له في الحال كالهم والغم والغيظ وهذا المرض قد : والنوع الثاني 

     أسبابه أو بالمداواة بما يضاد تلك األسباب وما يدفع يزول بأدوية طبيعية كإزالة

    موجبها مع قيامها وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما 

    يشقى به البدن فكذلك البدن يتألم كثيرا بما يتألم به القلب ويشقيه ما يشقيه

  • اغاثة اللهفان   23     ابن القيم الجوزية –

    لبدن وهذه قد ال أمراض القلب التي تزول باألدوية الطبيعية من جنس أمراض ا

    توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت وأما أمراضه التي ال تزول إال باألدوية 

    االيمانية النبوية فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم إن لم يتداركها 

    بأدويتها المضادة لها فإذا استعمل تلك األدوية حصل له الشفاء ولهذا يقال شفى 

    عدوه آلمه ذلك فإذا انتصف منه اشتفى قلبه قال غيظه فإذا استولى عليه 

    قاتلوهم يعذبهم اهللا بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم : تعالى 

    فأمر بقتال  ] 14: التوبه [ مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب اهللا على من يشاء 

    عدوهم وأعلمهم أن فيه ست فوائد

     فإن شفاه بحق اشتفى وإن شفاه فالغيظ يؤلم القلب ودواؤه في شفاء غيظه

    بظلم وباطل زاده مرضا من حيث ظن أنه يشفيه وهو كمن شفى مرض العشق 

    بالفجور بالمعشوق فإن ذلك يزيد مرضه ويوجب له أمراضا أخر أصعب من مرض 

    العشق كما سيأتى إن شاء اهللا تعالى وكذلك الغم والهم والحزن أمراض للقلب 

     والسرور فإن كان ذلك بحق اشتفى القلب وصح من الفرح: وشفاؤها بأضدادها 

    وبرىء من مرضه وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر ولم يزل وأعقب أمراضا هي 

    أصعب وأخطر

    وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب فمن الناس من يداويه بعلوم ال تنفع ويعتقد أنه 

    ضه قد صح من مرضه بتلك العلوم وهي في الحقيقة إنما تزيده مرضا إلى مر

    لكن اشتغل القلب بها عن إدراك األلم الكامن فيه بسبب جهله بالعلوم النافعة 

    التي هي شرط في صحته وبرئه قال النبي صلى اهللا تعالى عليه وآله وسلم 

    قتلوه قتلهم اهللا أال سألوا إذ : في الذين أفتوا بالجهل فهلك المستفتي بفتواهم 

    لجهل مرضا وشفاءه سؤال أهل لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال فجعل ا

    العلم

    وكذلك الشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين 

    ولما كان

  • اغاثة اللهفان   24     ابن القيم الجوزية –

    ثلج صدره وحصل له برد اليقين : ذلك يوجب له حرارة قيل لمن حصل له اليقين 

    وهو كذلك يضيق بالجهل والضالل عن طريق رشده وينشرح بالهدى والعلم قال 

    فمن يرد اهللا أن يهديه يشرح صدره لإلسالم ومن يرد أن يضله يجعل : لى تعا

    125: األنعام [ صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء  ]

    : وسيأتي ذكر مرض ضيق الصدر وسببه وعالجه إن شاء اهللا تعالى والمقصود 

    دوية أن من أمراض القلوب ما يزول باألدوية الطبيعية ومنها ماال يزول إال باأل

    الشرعية اإليمانية والقلب له حياة وموت ومرض وشفاء وذلك أعظم مما للبدن

  • اغاثة اللهفان   25     ابن القيم الجوزية –

    الباب الرابع في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته

    مادة كل شر فيه

    كمال حياته ونوره فالحياة: أصل كل خير وسعادة للعبد بل لكل حي ناطق 

    أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا : الى والنور مادة الخير كله قال اهللا تع

    ] 122: األنعام [ يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها 

    الحياة والنور فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه : فجمع بين األصلين 

    وعفته وشجاعته وصبره وسائر أخالقه الفاضلة ومحبته للحسن وبغضه للقبيح 

    ما قويت حياته قويت فيه هذه الصفات وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه فكل

    الصفات وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه فالقلب الصحيح الحى 

    إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها بخالف القلب 

    ن مسعود رضي اهللا الميت فإنه ال يفرق بين الحسن والقبيح كما قال عبداهللا ب

    تعالى عنه هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف وينكر به المنكر

  • اغاثة اللهفان   26     ابن القيم الجوزية –

    وكذلك القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك 

    بحسب قوة المرض وضعفه

    وكذلك إذا قوى نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما 

    ن الحسن بنوره وآثره بحياته وكذلك قبح القبيح وقد ذكر هي عليه فاستبان حس

    وكذلك أو : سبحانه وتعالى هذين األصلين في مواضع من كتابه فقال تعالى 

    حينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب وال اإليمان ولكن جعلناه نورا 

    ] 52: الشورى [ نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم 

    فجمع بين الروح الذي يحصل به الحياة والنور الذي يحصل به اإلضاءة واإلشراق 

    وأخبر أن كتابه الذي أنزله على رسوله صلى اهللا عليه وآله وسلم متضمن 

    : لألمرين فهو روح تحيا به القلوب ونور تستضىء وتشرق به كما قال تعالى 

    به في الناس كمن مثله في أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي 

    أي أومن كان كافرا ميت القلب  ] 122: األنعام [ الظلمات ليس بخارج منها 

    فهديناه لرشده ووفقناه لإليمان وجعلنا قلبه حيا بعد : مغمورا في ظلمة الجهل 

    موته مشرقا مستنيرا بعد ظلمته فجعل الكافر النصرافه عن طاعته وجهله 

    نه وترك األخذ بنصيبه من رضاه والعمل بما يؤديه بمعرفته وتوحيده وشرائع دي

    بمنزلة الميت الذي ال ينفع نفسه بنافعة وال يدفع عنها من : إلى نجاته وسعادته 

    مكروه فهديناه لإلسالم وأنعشناه به فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها ويعمل 

    عد في خالصها من سخط اهللا تعالى وعقابه فأبصر الحق بعد عماه عنه وعرفه ب

    جهله به واتبعه بعد إعراضه عنه وحصل له نور وضياء يستضىء به فيمشي 

    : بنوره بين الناس وهم في سدف الظالم كما قيل

     وظالمه في الناس ساري...ليلى بوجهك مشرق 

     ونحن في ضوء النهار...الناس في سدف الظالم 

    عباده أما األول ولهذا يضرب اهللا سبحانه وتعالى المثلين المائي والنارى لوحيه ول

    أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل : فكما قال في سورة الرعد 

    السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليه أو متاع زبد مثله كذكلك 

    يضرب اهللا الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في 

     األمثالاألرض كذلك يضرب اهللا

  • اغاثة اللهفان   27     ابن القيم الجوزية –

  • اغاثة اللهفان   28     ابن القيم الجوزية –

    فضرب لوحيه المثل بالماء لما يحصل به من الحياة وبالنار لما يحصل بها من 

    االضاءة واإلشراق وأخبر سبحانه أن األودية تسيل بقدرها فواد كبير يسع ماء 

    كثيرا وواد صغير يسع ماء قليال كذلك القلوب مشبهة باألودية فقلب كبير يسع 

     بقدره وشبه ما تحمله القلوب من الشبهات علما كثيرا وقلب صغير إنما يسع

    والشهوات بسبب مخالطة الوحي لها وإمازته لما فيها من ذلك بما يحتمله 

    السيل من الزبد وشبه بطالن تلك الشبهات باستقرار العلم النافع فيها بذهاب 

    ذلك الزبد وإلقاء الوادى له وإنما يستقر فيه الماء الذي به النفع وكذلك في المثل 

    يذهب الخبث الذي في ذلك الجوهر ويستقر صفوه وأما ضرب هذين : ذي بعده ال

    مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما : المثلين للعباد فكما قال في سورة البقرة 

    أضاءت ما حوله ذهب اهللا بنورهم وتركهم في ظلمات ال يبصرون صم بكم عمى 

    ب من السماء فيه ظلمات أو كصي:  فهذا المثل الناري ثم قال 2فهم ال يرجعون 

     فهذا المثل 1ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت 

    المائي

    وقد ذكرنا الكالم على أسرار هذين المثلين وبعض ما تضمناه من الحكم في 

    كتاب المعالم وغيره

    أن صالح القلب وسعادته وفالحه موقوف على هذين األصلين قال : والمقصود 

     فأخبر أن االنتفاع بالقرآن 2 إن هو إال ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيزا تعالى

    واإلنذار به إنما يحصل لمن هو حي القلب كما قال في موضع آخر إن في ذلك 

     وقال تعالى يأيها الذين آمنوا استجيبوا هللا وللرسول 3لذكرى لمن كان له قلب 

    أن حياتنا إنما هي باستجابتنا لما  فأخبر سبحانه وتعالى 4إذا دعاكم لما يحييكم 

    يدعونا إليه اهللا والرسول من العلم واإليمان فعلم أن موت القلب وهالكه بفقد 

    ذلك

    وشبه سبحانه من ال يستجيب لرسوله بأصحاب القبور وهذا من أحسن التشبيه 

    فإن أبدانهم قبور لقلوبهم فقد ماتت قلوبهم وقبرت في أبدانهم فقال اهللا تعالى 

     ولقد أحسن القائل5 يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن اهللا :

  • اغاثة اللهفان   29     ابن القيم الجوزية –

     وأجسامهم قبل القبور قبور...وفي الجهل قبل الموت موت ألهله 

     وليس لهم حتى النشور نشور ولهذا ...وأرواحهم في وحشة من جسومهم 

    الروح من يلقي : جعل سبحانه وحيه الذي يلقيه إلى األنبياء روحا كما قال تعالى 

    وكذلك أوحينا :  في موضعين من كتابه وقال 1أمره على من يشاء من عباده 

     ألن حياة األرواح والقلوب به وهذه الحياة الطيبة هي التي 2إليك روحا من أمرنا 

    من عمل صالحا من ذكر أو أنثى : خص بها سبحانه من قبل وحيه وعمل به فقال 

    3هم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزين

    وأن : فخصهم سبحانه وتعالى بالحياة الطيبة في الدارين ومثله قوله تعالى 

    استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي 

    للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار :  ومثله قوله تعالى 4فضل فضله 

     ومثله قوله تعالى للذين أحسنوا في هذه 5ة ولنعم دار المتقين اآلخرة خير وزياد

    الدنيا حسنة وأرض اهللا واسعة فبين سبحانه أنه يسعد المحسن بإحسانه في 

    الدنيا وفي اآلخرة كما أخبر أنه يشقى المسيء بإساءته في الدنيا واآلخرة قال 

    يامة أعمى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم الق: تعالى 

    فمن يرد اهللا أن يهديه يشرح صدره :  وقال تعالى وقد جمع بين النوعين 6

    لإلسالم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأ نما يصعد في السماء 

    7كذلك يجعل اهللا الرجس على الذين ال يؤمنون 

    فأهل الهدى واإليمان لهم شرح الصدر واتساعه وانفساحه وأهل الضالل لهم 

     الصدر والحرجضيق

    8أفمن شرح اهللا صدره لإلسالم فهو على نور من ربه : وقال تعالى 

    فأهل اإليمان في النور وانشراح الصدر وأهل الضالل في الظلمة وضيق الصدر

    وسيأتي في باب طهارة القلب مزيد تقرير لهذا إن شاء تعالى

    لمته مادة كل أن حياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه وموته وظ: والمقصود 

    شر فيه

  • اغاثة اللهفان   30     ابن القيم الجوزية –

  • اغاثة اللهفان   31     ابن القيم الجوزية –

    الباب الخامس في أن حياة القلب وصحته ال تحصل إال بأن يكون مدركا

    للحق مريدا له مؤثرا له على غيره

    قوة العلم والتمييز وقوة اإلرادة والحب كان كماله : لما كان في القلب قوتان 

    ادته وصالحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصالحه وسع

    فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل 

    وباستعمال قوة اإلرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل 

    فمن لم يعرف الحق فهو ضال ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه ومن 

    عرفه واتبعه فهو منعم عليه

    ه وتعالى أن نسأله في صالتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم اهللا وقد أمرنا سبحان

    عليهم غير المغضوب عليهم وال الضالين ولهذا كان النصاري أخص بالضالل ألنهم 

    أمة جهل واليهود أخص بالغضب ألنهم أمة عناد وهذه األمة هم المنعم عليهم 

    لنصاري ومن ولهذا قال سفيان ابن عيينة من فسد من عبادنا ففيه شبه من ا

    فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ألن النصاري عبدوا بغير علم واليهود 

    عرفوا الحق وعدلوا عنه

    وفي المسند والترمذي من حديث عدي بن حاتم عن النبيصلى اهللا عليه 

    اليهود مغضوب عليهم والنصاري ضالون: وسلمقال 

    : تابه فمنها قوله تعالى وقد جمع اهللا سبحانه بين األصلين في غير موضع من ك

    وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي 

     فجمع سبحانه بين االستجابة له واإليمان به 1وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون 

    ومنها قوله عن رسولهصلى اهللا عليه وسلم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه 

    الم ذلك الكتاب :  وقال تعالى 2 أولئك هم المفلحون واتبعوا النور الذي أنزل معه

    ال ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصالة ومما رزقناهم 

    ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وباآلخرة هم يوقنون 

    أولئك على

  • اغاثة اللهفان   32     ابن القيم الجوزية –

    : ي وسط السورة  وقال اهللا تعالى ف3هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون 

    ولكن البر من آمن باهللا واليوم اآلخر والمالئكة والكتاب والنبيعين وآتي المال 

    على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي 

    والعصر إن :  وقال تعالى 4الرقاب وأقام الصالة وآتى الزكاة إلى آخر اآلية 

     وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا اإلنسان لفي خسر إال الذين آمنوا

    5بالصبر 

    فأقسم سبحانه وتعالى بالدهر الذي هو زمن األعمال الرابحة والخاسرة على أن 

    كل واحد في خسر إال من كمل قوته العلمية باإليمان باهللا وقوته العملية بالعمل 

    ه به بطاعته فهذا كماله في نفسه ثم كمل غيره بوصيته له بذلك وأمره إيا

    وبمالك ذلك وهو الصبر فكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وكمل غيره 

    بتعليمه إياه ذلك ووصيته له بالصبر عليه ولهذا قال الشافعي رحمه اهللا لو فكر 

    والعصر لكفتهم: الناس في سورة 

    يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم : وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة 

    وا الحق واتبعوه وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه الذين عرف

    أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره

    وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين ال تتعطالن في القلب بل إن استعمل قوته 

    العلمية في معرفة الحق وإدراكه وإال استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه 

    وته اإلرادية العملية في العمل به وإال استعملها في من الباطل وإن استعمل ق

    ضده فاإلنسان حارث همام بالطبع كما قال النبيصلى اهللا عليه وسلم أصدق 

    حارث وهمام: األسماء 

    فالحارث الكاسب العامل والهمام المريد فإن النفس متحركة باإلرادة وحركتها 

    دا يكون متصورا لها متميزا عندها اإلرادية لها من لوازم ذاتها واإلرادة تستلزم مرا

    فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته وأرادته والبد وهذا 

    : يتبين بالباب الذي بعده فنقول

  • اغاثة اللهفان   33     ابن القيم الجوزية –

  • اغاثة اللهفان   34     ابن القيم الجوزية –

    الباب السادس في أنه ال سعادة للقلب وال لذة وال نعيم وال صالح

    مطلوبه وأحب إليه إال بأن يكون اهللا هو إلهه وفاطره وحده وهو معبوده وغاية 

    من كل ما سواه

    من ملك أو إنس أو جن أو حيوان فهو : معلوم أن كل حي سوى اهللا سبحانه 

    فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره وال يتم ذلك إال بتصوره للنافع والضار 

    والمنفعة من جنس النعيم واللذة والمضرة من جنس األلم والعذاب

    عرفة ما هو المحبوب المطلوب الذي ينتفع به أحدهما م: فالبد له من أمرين 

    معرفة المعين الموصل المحصعل لذلك المقصود وبإزاء : ويلتذ بإدراكه والثاني 

    معين دافع له عنه فهذه : مكروه بغيض ضار والثاني : ذلك أمران آخران أحدهما 

    : أربعة أشياء

    وب العدم الثالث أمر مكروه مطل: أمر هو محبوب مطلوب الوجود الثاني : أحدهما 

    الوسيلة إلى دفع المكروه : الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب الرابع :

    فهذه األمور األربعة ضرورية للعبد بل ولكل حيوان ال يقوم وجوده وصالحه إال بها

    فإذا تقرر ذلك فاهللا تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب 

    به ويطلب رضاه وهو المعين على حصول ذلك الذي يراد وجهه ويبتغى قر

    هو المكروه الضار واهللا هو المعين : وعبودية ما سواه وااللتفات إليه والتعلق به 

    على دفعه فهو سبحانه الجامع لهذه األمور األربعة دون ما سواه فهو المعبود 

    المحبوب المراد وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له والمكروه 

    غيض إنما يكون بمشيئته وقدرته وهو المعين لعبده على دفعه عنه كما قال الب

    أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من: أعرف الخلق به 

  • اغاثة اللهفان   35     ابن القيم الجوزية –

    اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي : عقوبتك وأعوذ بك منك وقال 

    نجى إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك ال ملجأ وال م

    منك إال إليك فمنه المنجي وإليه الملجأ وبه االستعاذة من شر ما هو كائن 

    بمشيئته وقدرته فاإلعاذة فعله والمستعاذ منه فعله أو مفعوله الذي خلقه 

    بمشيئته

    فاألمر كله له والحمد كله له والملك كله له والخير كله في يديه ال يحصي أحد 

    لى نفسه وفوق ما يثني عليه كل أحد من من خلقه ثناء عليه بل هو كما أثني ع

    إياك نعبد وإياك : خلقه ولهذا كان صالح العبد وسعادته في تحقيق معنى قوله 

    فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب لكن على أكمل  ] 4: الفاتحه [ نستعين 

    من معنى : الوجوه والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب فاألول 

    محبة : من معنى ربوبيته فإن اإلله هو الذي تألهه القلوب : ي ألوهيته والثان

    وإنابة وإجالال وإكراما وتعظيما وذال وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكال والرب هو الذي 

    يربى عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى مصالحه فال إله إال هو وال رب إال هو فكما 

    واهأن ربوبية ما سواه أبطل الباطل فكذلك إلهية ما س

    فاعبده : وقد جمع اهللا سبحانه بين هذين األصلين في مواضع من كتابه كقوله 

    وما توفيقي إال باهللا عليه : وقوله عن نبيه شعيب  ] 123: هود [ وتوكل عليه 

    وتوكل على الحىالذي ال يموت وسبح : وقوله  ] 88: هود [ توكلت وإليه أنيب 

    ه تبتيال رب المشرق والمغرب ال إله إال وتبتل إلي: وقوله  ] 58: الفرقان [ بحمده 

    قل هو ربي ال إله إال هو عليه توكلت : وقوله  ] 8: المزمل [ هو فاتخذه وكيال 

    ربنا : وقوله عن الحنفاء أتباع إبراهيم عليه السالم  ] 30: الرعد [ وإليه متاب 

    : الممتحنة [ عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير  4 ]

  • اغاثة اللهفان   36     ابن القيم الجوزية –

     مواضع تنتظم هذين األصلين الجامعين لمعنيى التوحيد اللذين ال فهذه سبعة

    سعادة للعبد بدونهما ألبتة

    أن اهللا سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته : الوجه الثاني 

    واالنابة إليه ومحبته واالخالص له فبذكره تطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم 

     نعيمهم فال يعطيهم في اآلخرة شيئا هو وبرؤيته في اآلخرة تقر عيونهم ويتم

    من النظر اليه وسماع كالمه منه : أحب إليهم وال أقر لعيونهم وال أنعم لقلوبهم 

    بال واسطة ولم يعطهم في الدنيا شيئا خيرا لهم وال أحب إليهم وال أقر لعيونهم 

    مع من اإليمان به ومحبته والشوق إلى لقائه واألنس بقربه والتنعم بذكره وقد ج

    النبي صلى اهللا عليه وسلم بين هذين األمرين في الدعاء الذي رواه النسائي 

    أن : واإلمام أحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهم من حديث عمار بن ياسر 

    اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على : رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم كان يدعو به 

    كانت الوفاة خيرا لي وأسألك الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا 

    خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى وأسلك 

    القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما ال ينفد وأسألك قرة عين التنقطع وأسألك 

    الرضى بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك 

    في غير ضراء مضرة وال فتنة مضلة اللهم زينا بزينة وأسألك الشوق إلى لقائك 

    اإليمان واجعلنا هداة مهتدين

    فجمع في هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شىء في الدنيا وهو الشوق إلى 

    لقائه سبحانه وأطيب شىء في اآلخرة وهو النظر إلى وجهه سبحانه ولما كان 

    : دنيا ويفتن في الدين قال كمال ذلك وتمامه موقوفا على عدم ما يضر في ال

    في غير ضراء مضرة وال فتنة مضلة

    ولما كان كمال العبد في أن يكون عالما بالحق متبعا له معلما لغيره مرشدا له 

    واجعلنا هداة مهتدين: قال 

    ولما كان الرضى النافع المحصل للمقصود هو الرضى بعد وقوع القضاء القبله 

    القضاء انفسخ ذلك العزم سأل الرضى بعده فإن ذلك عزم على الرضى فإذا وقع 

    االستخارة قبل وقوعه والرضى بعد وقوعه فمن : فإن المقدور يكتنفه أمران 

    سعادة العبد أن يجمع بينهما كما في المسند وغيره عنهصلى اهللا عليه وسلمإن 

    من سعادة ابن آدم استخارة اهللا ورضاه

  • اغاثة اللهفان   37     ابن القيم الجوزية –

  • اغاثة اللهفان   38     ابن القيم الجوزية –

    استخارة اهللا وسخطه بما قضى اهللا بما قضى اهللا وإن من شقاوة ابن آدم ترك 

    تعالى

    ولما كانت خشية اهللا عز وجل رأس كل خير في المشهد والمغيب سأله خشيته 

    في الغيب والشهادة

    ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق في رضاه فإذا غضب أخرجه غضبه إلى 

    لمة الباطل وقد يدخله أيضا رضاه في الباطل سأل اهللا عز وجل أن يوفقه لك

    ال تكن ممن إذا رضي : الحق في الغضب والرضى ولهذا قال بعض السلف 

    أدخله رضاه في الباطل وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق

    ولما كان الفقر والغنى بليتين ومحنتين يبتلي اهللا بهما عبده ففي الغنى يبسط 

    ذي يده وفي الفقر يقبضها سأل اهللا عز وجل القصد في الحالتين وهو التوسط ال

    ليس معه إسراف وال تقتير

    نوعا للبدن ونوعا للقلب وهو قرة العين وكماله بدوامه : ولما كان النعيم نوعين 

    أسألك نعيما ال ينفد وقرة عين ال تنقطع ولما : واستمراره جمع بينهما في قوله 

    زينة البدن وزينة القلب وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا : كانت الزينة زينتين 

    ا خطرا وإذا حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه في العقبى سأل ربه وأجلهم

    الزينة الباطنة فقال زينا بزينة اإليمان

    ولما كان العيش في هذه الدار ال يبرد ألحد كائنا من كان بل هو محشو بالغصص 

    والنكد ومحفوف باآلالم الباطنة والظاهرة سأل برد العيش بعد الموت

    ي هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا وأطيب ما في أنه جمع ف: والمقصود 

    اآلخرة فإن حاجة العباد إلى ربهم في عبادتهم إياه وتأليههم له كحاجتهم إليه 

    في خلقه لهم ورزقه إياهم

  • اغاثة اللهفان   39     ابن القيم الجوزية –

    ومعافاة أبدانهم وستر عوراتهم وتأمين روعاتهم بل حاجتهم إلى تأليهه ومحبته 

    قصودة لهم وال صالح لهم وال نعيم وال وعبوديته أعظم فإن ذلك هو الغاية الم

    فالح وال لذة وال سعادة بدون ذلك بحال ولهذا كانت ال اله إال اهللا أحسن الحسنات 

    وكان توحيد اإللهية رأس األمر وأما توحيد الربوبية الذي أقر به المسلم والكافر 

    لك وقرره أهل الكالم في كتبهم فال يكفي وحده بل هو الحجة عليهم كما بين ذ

    سبحانه في كتابه الكريم في عدة مواضع ولهذا كان حق اهللا على عباده أن 

    يعبدوه وال يشركوا به شيئا كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ بن جبل 

    أتدري ما حق اهللا على عباده : رضي اهللا عنه عن النبيصلى اهللا عليه وسلمقال 

     يعبدوه وال يشركوا به شيئا حقه على عباده أن: اهللا ورسوله أعلم قال : قلت 

    حقهم : اهللا ورسوله أعلم قال : أتدري ما حق العباد على اهللا إذا فعلوا ذلك قلت 

    عليه أن ال يعذبهم بالنار ولذلك يحب سبحانه عباده المؤمنين الموحدين ويفرح 

    بتوبتهم كما أن في ذلك أعظم لذة فليس في الكائنات شيء غير اهللا عز وجل 

    يه ويطمئن به ويأنس به ويتنعم بالتوجه إليه ومن عبد غيره يسكن القلب إل

    سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته وهو 

    بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ وكما أن السموات واألرض لو كان فيهما آلهة 

    األنبياء [  لفسدتا لو كان فيهما آلهة إال اهللا: غيره سبحانه لفسدتا كما قال تعالى 

    فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير اهللا تعالى فسد فسادا ال يرجى  ] 22:

    صالحه إال بأن يخرج ذلك المعبود منه ويكون اهللا تعالى وحده إلهه ومعبوده الذي 

    أن فقر العبد إلى أن : يحبه ويرجوه ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه الوجه الثالث 

    انه وحده ال يشرك به شيئا ليس له نظير فيقاس به لكن يشبه من يعبد اهللا سبح

    بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس فيقاس بها لكن بينهما 

    فروق كثيرة فإن حقيقة العبد قلبه وروحه وال صالح له إال بالهه الحق الذي ال إله 

     وهو كادح إليه كدحا إال هو فال يطمئن إال بذكره وال يسكن إال بمعرفته وحبه

    فمالقيه وال بد له من لقائه وال صالح له إال بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه 

    ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فال يدوم له ذلك بل ينتقل من 

    نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في حال وبهذا في حال 

    وكثيرا ما يكون ذلك

  • اغاثة اللهفان   40     ابن القيم الجوزية –

  • اغاثة اللهفان   41     ابن القيم الجوزية –

    يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته وأما إلهه الحق فال بد له منه في الذي 

    كل وقت وفي كل حال وأينما كان فنفس اإليمان به ومحبته وعبادته وإجالله 

    وذكره هو غذاء اإلنسان وقوته وصالحه وقوامه كما عليه أهل اإليمان ودلت عليه 

    له من قل نصيبه من السنة والقرآن وشهدت به الفطرة والجنان ال كما يقو

    إن عبادته وذكره وشكره تكليف : التحقيق والعرفان وبخس حظه من اإلحسان 

    ومشقة لمجرد االبتالء واالمتحان أو ألجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل 

    كالمعاوضة باألثمان أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من 

    حظه من معرفة الرحمن وقل نصيبه من الحيوان كما هي مقاالت من بخس 

    ذوق حقائق اإليمان وفرح بما عنده من زبد األفكار وزبالة األذهان بل عبادته 

    ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين اإلنسان وأفضل لذة للروح والقلب والجنان 

    وأطيب نعيم ناله من كان أهال لهذا الشان واهللا المستعان وعليه التكالن

    العبادات واألوامر المشقة والكلفة بالقصد األول وإن وقع ذلك وليس المقصود ب

    ضمنا وتبعا في بعضها ألسباب اقتضته البد منها هي من لوازم هذه النشأة

    فأوامراه سبحانه وحقه الذي أوجبه على عباده وشرائعه التي شرعها لهم هي 

    ها وفالحها قرة العيون ولذة القلوب ونعيم األرواح وسرورها وبها شفاؤها وسعادت

    وكمالها في معاشها ومعادها بل ال سرور لها وال فرح وال لذة وال نعيم في 

    يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم : الحقيقة إال بذلك كما قال تعالى 

    وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل اهللا وبرحمته فبذلك 

    فضل اهللا :  قال أبو سعيد الخدري  ]57: يونس [ فليفرحوا هو خير مما يجمعون 

    باإلسالم الذي : أن جعلكم من أهله وقال هالل بن يساف : القرآن ورحمته :

    من الذهب والفضة : هداكم إليه وبالقرآن الذي علمكم إياه هو خير مما تجمعون 

    القرآن : اإلسالم ورحمته : فضله : ابن عباس والحسن وقتادة : وكذلك قال 

    فضله القرآن ورحمته اإلسالم: السلف وقالت طائفة من 

    أن كال منهما فيه الوصفان الفضل والرحمة وهما األمران اللذان امتن : والتحقيق 

    وكذلك أوحينا إليك روحا من : اهللا بهما على رسوله عليه الصالة والسالم فقال 

     رفع واهللا سبحانه إنما ] 52: الشورى [ أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب وال اإليمان 

    من رفع بالكتاب واإليمان ووضع من وضع بعدمها

  • اغاثة اللهفان   42     ابن القيم الجوزية –