tafahom issue 57-58€¦ · Title: tafahom issue 57-58.indb Author: ghaleb Created Date: 2/10/2019...

16
وﺟﻬﺎت ﻧﻈﺮ317 : ا ّ ا ﻭﻻ ﺇﻟﻰٍ ﻭﺍﺣﺪٍ ﻞ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﻮﻥّ ﺇﻥ ﺗﺸﻜ ﻥ، ﻗﺪ ﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ ﻳﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﻜﻮ ﺍﺛﻨﻴﻦ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺗﺸﻜ ﻓﻴﻬﺎ.ً ﻓﻲ ﺗﺸﻜﻴﻠﻬﺎ، ﻭﺑﻌﻀﻬﺎ ﻗﺪ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﺮﻋﻴﺎً ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺃﺻﻴﻼ ـ ﺍﻟﺪﻳﻦً ﺃﻭﻻ ﻥ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﻓﻲ ﺗﺸــﻜﻴﻞ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ؛ ﻟﻤﺎ ﻳﻨﻄﻮﻱّ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍﻟﻤﻜﻮ ﻌﺪُ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻗﻴــﻢ ﻭﺃﺧﻼﻗﻴﺎﺕ ﻭﻃﻘــﻮﺱ ﻭﻋﺒﺎﺩﺍﺕ ﺗﻘﻮﺩ ﺍﻟﺒﺸــﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﺻﻄﻨﺎﻉ ﻫﻮﻳــﺔ ﻣﺘﻤﺎﻳﺰﺓ ﻋﻦ ﻏﻴﺮﻫــﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻬﻮﻳــﺎﺕ. ﻏﻴﺮ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻼﺣﻆ ﻣﻨﺬ ﻓﺘﺮﺓ ﺃﻥ ﺍﻹﺳــﻼﻡ ﻳﺘﻌﺮﺽ ﻻﻓﺘﺮﺍﺀﺍﺕ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺗﻬﺪﻑّ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻀﺎﺀ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺯﻋﺰﻋﺘﻪ ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺏ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﺎ ﺗﻌﺮ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺍﻟﺤﺎﻟﻲ ﺃﺷﺪ ﻭﺃﻧﻜﻰ، ﻭﻫﺬﺍ ﺃﺧﻄﺮ ﻣﺎ ﻳﻮﺍﺟﻪ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻥ ﺭﺋﻴﺲ ﻣﻦ ﻣﻜﻮﻧﺎﺕ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ، ﻓﺬﻫﺐ ﺍﻟﻤﺪﻋﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﺃﻧﻪ ﺳﺒﺐّ ﻛﻤﻜﻮ ﻓﻲ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﻓﺮﻳﺔ ﻻ ﺃﺳﺎﺱ ﺗﺄﺧﺮ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻭﺗﺪﻫﻮﺭﻫﻢ، ﻭﻻ ﺷﻚ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺤﺔ؛ ﻷﻥ ﺍﻹﺳــﻼﻡ ﺟﺎﺀ ﺛﻮﺭﺓ ﻋﻠــﻰ ﺍﻟﺠﻤﻮﺩ ﻭﺍﻟﻘﺪﻳﻢ د ﻋﻼم اﻟﻬﻮﻳﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﺑﻴﻦ أزﻣﺔ ا ﻳﺎت اﻟﻌﻮﻟﻤﺔّ وﺗﺤﺪ ﻋﻀﻮ ﺍﻟﺠﻤﻌﻴﺔ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﺔ، ﺑﺎﺣﺚ ﻓﻠﺴﻔﻲ، ﻣﺪﺭﺱ ﻣﺤﺎﺿﺮ ﺑﺠﺎﻣﻌﺔ ﺍﻟﻘﺎﻫﺮﺓ.

Transcript of tafahom issue 57-58€¦ · Title: tafahom issue 57-58.indb Author: ghaleb Created Date: 2/10/2019...

  • نظر وجهات

    317

    :36�Dا� &ّ'(- &���ا

    إن تشكّل الهوية العربية لم يكن يعود إلى مكوٍن واحٍد وال إلى اثنين، وإنما تشكل هذه الهوية يعود إلى أكثر من مكون، قد

    يكون بعضها أصيًال في تشكيلها، وبعضها قد يكون فرعياً فيها.

    أوًال ـ الدينُيعد الدين المكوّن الرئيس في تشــكيل الهوية؛ لما ينطوي عليه من قيــم وأخالقيات وطقــوس وعبادات تقود البشــر إلى اصطناع هويــة متمايزة عن غيرهــا من الهويــات. غير أنه من المالحظ منذ فترة أن اإلســالم يتعرض الفتراءات كثيرة تهدف إلى القضاء عليه وزعزعته في قلوب المسلمين، وكان ما تعّرض له في العصر الحالي أشد وأنكى، وهذا أخطر ما يواجه الدين كمكوّن رئيس من مكونات الهوية، فذهب المدعون إلى أنه سبب تأخر المسلمين وتدهورهم، وال شك في أن هذه فرية ال أساس لها من الصحة؛ ألن اإلســالم جاء ثورة علــى الجمود والقديم

    ■ ,4�(�l د��>�

    ا-عالم أزمة بين الثقافية الهوية العولمة وتحّديات

    ■ عضو الجمعية الفلسفية المصرية، باحث فلسفي، مدرس محاضر بجامعة القاهرة.

  • 318

    نظر وجهات

    الفاسد 1، فحفلت آيات القرآن بدعوات صريحة إلى العمل الدؤوب المثمر وإلى العلم الذي ينبغي تحصيله رفعًة لشأن المسلمين، لقد «جمع اإلسالم وكتابه الحكيم شتّى أصول التقّدم األدبي والروحي والمادي واالجتماعي،

    ودعا إلى مختلف المقومات العالية لمدنية فاضلة وكريمة مهذبة» 2.ويبدو لي أن إقحام الدين أو األديان عامة في هذه المشكلة ـ على أنها أحد أســباب التدهور ـ ليس في صالح هذه األديان، وهو شبيه بما نجده في عصرنا اآلن من محاولة إلصاق اإلرهاب بدين معين من األديان، فإن األديان ـ في ظنّي ـ بريئة من هذا؛ إال أن أتباعها هم السبب في إلصاق هذه التهم بها، فإذا نظرنا إلى اإلســالم وجدنا أنه كان وما زال سبب تقّدم المســلمين، وليس ينسب إليه االنحطاط في شــيٍء، «والحق الذي ال ُيرتاب فيه أن النصرانية نفسها لم تكن هي المسؤولة عن جهالة اإلفرنج المسيحيين مدة ألف سنة في القرون الوسطي، بل للمسيحية الفضل في تهذيب برابرة أوروبا، فهؤالء اليابانيون وثنيون، ومنهم َمْن هم على مذهب بوذا، ومنهم من يقال لهم طاويــون، وكثيرون منهم يتبعون الحكيم الصيني كنفوشيوس، ولقد مضى عليهم نحو ألفي سنة ولم تكن لهم هذه المدنية الباهرة، وال هذه القوة والمكانة بين األُمم، ثم نهض اليابانيون من نحو ستين سنة وترقوا وعزوا، وغلظ أمرهم، وعال قدرهم، وصاروا إلى ما صاروا إليه ولم يبرحوا وثنيين، فال كانت الوثنية إذن سبب تأخرهم الماضي وال هي سبب تقّدمهم الحاضر» 3. بل إن فكرة القضاء والقدر في اإلســالم بريئة مما ينسب إليها من افتراءات، وإن كانت ـ على رأي أحــد الباحثين ـ أقل خطورة منها في

    المسيحية، لو اتبع المسيحيون حرفية تعاليم اإلنجيل 4.إن اإلســالم زاخٌر باآليات العديدة التي تدعو إلى النظــر العقلي والتفكير الحر البعيد عن التقليد، بل إنه يدعونا إلى المنهجية البناءة وإلى اتباع المنهج

    لماذا تأخر المسلمون، ط القاهرة، دار البشير للطباعة والنشر، 1985م، ص 130. 1 ـ الشــيخ محمد النوادي، د. محمد عبد المنعم خفاجة، من ماضي اإلسالم وحاضره، القاهرة، طـ 2 ـ

    المطبعة المنيرية، الثانية، 1376هـ/1957م ص 8.ـ شكيب أرسالن، لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟ ط القاهرة، دار البشير للطباعة 3 ـ

    والنشر، 1985م، ص 130.عبد الحليم محمود، أوروبا واإلسالم، القاهرة، ط دار الشعب، بدون تاريخ، ص 138، 139. 4 ـ

  • 319

    العولمة وتحّديات ا-عالم أزمة بين الثقافية الهوية

    العلمي السديد، يقول أحد الباحثين: «واإلســالم دين العقل والفكر ما في هذا من ريٍب، وبذلك يشــهد القرآن الكريم الذي يشــيد بالعقل في كثيٍر من آياته والرســول العظيم في كثيٍر من أحاديثه، كما يدل لذلك أيضاً عقائده التي جاء بها وأصوله التي قام عليها» 1، حتى إن استقراء منهج القرآن في قصص المرسلين ليدلنا على أن الحرية العقلية ركن في الدعوة إلى اهللا، وركن في صحة العمل اإلنساني استحقاقاً للثواب أو العقاب، واإلسالم سار مع هذا المبدأ، وجعل اليقين الصحيح ثمرة النظر العميق في الكون الفسيح 2، وإذا كان المسلمون قد تأخروا في هذا الجانب العقلي، فليس ذلك ذنب القرآن الكريم وال ذنب اإلسالم؛ وإنما

    هو ذنب تكاسلهم وخمولهم 3، وهذا يقودنا إلى نفي أي تهمة تنسب إلى الدين اإلسالمي، خاصًة ونحن نعلم أن كتابه ما زال ماثًال بين أيدينا وشاهدًا على صــدق ما نذهــب إليــه، كمــا أن أحاديــث النبي محمــد ژ تتبنى الموقف نفســه، أما اإلســالم الحقيقي كما يقول الدكتور قاسم «فإن التاريخ لم يشــهد، ـ كما قلنا ـ ديناً آخر جذب القلوب بمثل ما فعل اإلسالم، وما شــهد أن إمبراطورية كبرى تنبعث من جــوف الصحــراء دون أن تكــون لها مقّدمات تــؤذن بظهورها واتســاع رقعتها في هذا

    الزمن القليل مثل اإلمبراطورية اإلسالمية» 4.ومن ثَــم نفهم أن اإلســالم الذي يتهمــه أهل الغرب ليس هو اإلســالم الصحيح؛ وإنما هو إسالم ِبَدِعي على األرجح ـ إن صح هذا التعبير ـ فهمه أهله فهماً خاطئاً، ومزجوه بأساطير األُمم األخرى، ومن ثَم فإن أهّم ما يوجه إلى محمد يوسف موسى، اإلسالم وحاجة اإلنسانية إليه، القاهرة، ط دار الفكر العربي، الثانية، دون 1 ـ

    تاريخ، ص 38.محمد الغزالي، اإلسالم واالستبداد السياســي، القاهرة، ط: دار الكتب اإلسالمية، 1404/3هـ/ 2 ـ

    1984م، ص 89.عبد الحليم محمود. منهج اإلصالح اإلسالمي في المجتمع، القاهرة، ط دار الشعب، دون تاريخ، ص 14. 3 ـ

    د. قاسم: اإلسالم بين أمسه وغده، القاهرة، ط األنجلو المصرية، بدون تاريخ. ص 65. 4 ـ

    :��_�6.�ل أ� ا�«واإل�الم د�6 ا�*.& ،ٍS6ر ��وا�8'� �� �� �Eا و(D(6 k�E� ا�.�آن ا�'�R6 ا�Eي 6)�� (��*.& �� آ�6-, وا����ل ٍ��_l �� �� ٍ��_l �� R�i*ا� k�E� ُّ6�ل ��l ،,_6د�أ �D) ه ا��� `�ء�N�.� ً�y6أ.«�D�"� ا��� ;�م ,��gوأ

  • 320

    نظر وجهات

    األُمة؛ لكي تنال فهمها: أن يطهر العلماء العقائد مما َعلََق بها من شــوائب كان سببها المسلمون؛ إذ لو فعلوا ذلك لتوصلوا إلى لب دينهم، الذي حتماً سيقودهم عندها إلى آفاق من التقدم والرقي؛ ألنهم حينها سوف يدركون أن هذا الدين ال يشجع الكسل وال التواكل، وإنما يدعو إلى العمل الدؤوب والسعي المستمر 1

    في سبيل اإللمام بالعلوم الكونية التي تقودهم إلى إدراك حكمة اهللا وقدرته.إن انبهار األُمم بالدين الجديد وتجاوبها معه وإحساسها بأنه هدية األقدار إليها جعلها تدين ألهله وتدخل فيه، وتهــب لنصرته بعد ما اعتنقته، وهذه هي طبيعة الحق عندما يحسن عرضه، وتنزاح العوائق أمام الرغبة فيه 2، وهذا يفّسر لنا كيف حوّل اإلســالم إليه أعرق األُمم في الحضارة، فأسلمت فارس ومصر. «هذه المزية ينفرد بها اإلسالم بين جميع الديانات، وهي آية العالمية والصالح لدعوة األُمم جمعاء» 3، ولو جارينا الزاعمين ونهجنا نهجهم في النيل من األديان النتهينــا مثلهم إلــى أن المســيحية كانــت وباالً علــى الحضارتيــن اليونانية والرومانية؛ «فقد اندثرت معالم الحضارة األولى منذ بدء التاريخ اإلســالمي، وأسهم آباء الكنيســة األوائل في القضاء عليها، فانطمســت معالمها منذ ذلك الحين» 4، فالواقع المشاهد والتاريخ يؤكدان أن الكنيسة قد حاربت العلم والفكر دون هوادة وطيلة قرنين من الزمان ـ القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر ـ وقضت بحرمان كثير من المشتغلين بالفكر وحاربت العلماء، وكالت لهم التهم من إلحاٍد ومروٍق وخروٍج عن الدين 5. إال أننا ندرك أن الحكم الذي ينبني على القول بأن الدين سبب التخلف ال يصدر إال من متعصب أو جاهل؛ إذ إننا نعلم جيدًا أهمية العقيدة الدينية في بناء الهوية الشــخصية وهويــة المجتمع؛ فإن المجتمعات المتدينة ـ وإن أصابها التدهور مثل غيرها من المجتمعات البدائية ـ

    انظر على سبيل المثال: عبد الغني عبود، العقيدة اإلسالمية واأليديولوجيات المعاصرة، القاهرة، 1 ـ ط دار الفكر العربي، األولى، 1976م، ص 151.

    الشيخ محمد الغزالي، كفاح دين، القاهرة، ط دار الكتب اإلسالمية، الرابعة 1402هـ/1982م، 2 ـ ص 135.

    عباس محمود العقاد، اإلسالم والحضارة اإلنسانية، القاهرة، ط نهضة مصر، 1990م، ص 155. 3 ـ د. قاسم، اإلسالم بين أمسه وغده، ص 70، 71. 4 ـ

    د. قاسم، المرجع السابق، ص 71. 5 ـ

  • 321

    العولمة وتحّديات ا-عالم أزمة بين الثقافية الهوية

    ال تموت أبداً 1؛ حيث تحاول دائماً القيام من عثرتها، وعليه نفهم أن الدين ُيعدالحاجز المنيع الــذي تتحطم عليه موجــات التغريب، التي تحــاول أن تطغى ـ بصورٍة أو بأخرى ـ على المجتمعات، فتقتلها وتقضي على هويتها. وبديل الدين هو الالدين أو اإللحاد الذي ُيعد سبباً رئيساً في ضعف األُمم والممالك كدليل حي ال يمثل في نظري أي مبالغة؛ إذ إن اإللحاد متى تملك من أُمة فإنها تفقد المعايير األخالقية عندها، وتحل الرذيلة محل الفضيلة، والدنيا مكان الدين؛

    فيضحى المجتمع خاوياً يميل إلى االنحطاط والتدهور.إن الخطاب اإلسالمي المعاصر يجب أن ينبع من جوهر اإلســالم ذاته، ذلك أن هذا الدين فيه دعوة مســتمرة إلــى التجديد، تلــك الدعوة التي المشروعة واألهداف لآلمال االســتجابة تستطيع للشعوب اإلسالمية في التنوير والتقّدم. وإذا كانت مالمح الخطاب اإلسالمي المعاصر قد فشلت في تحقيق األهداف المرجوة مــن ورائه؛ فذلك يعود إلى عدة أسباب، هي: الضعف العام في المضمون والمحتوى، واالرتجال والعفوية الناتجة عن نقص التخطيط، وضيــق األفق والتركيز علــى القضايا

    الطارئة، وأخيرًا انعكاس الخالفات الفكرية والثقافية والمذهبية، ـ فضًال عن الصراعات المحلية واإلقليمية والدولية ـ على مجمل الخطاب اإلسالمي.

    ثانياً ـ اللغة:ُتعد اللغة المكون الرئيس الثاني في تشكيل الهوية، فهي من العوامل الرئيسة في توحيد األُمم وتعاضدها وتماســكها بوصفها أداة التواصل والتعايش بين أبناء األمة الواحدة. ويبقى ارتباط اللغة العربية بالقــرآن بوصفها اللغة التي نزل بها هذا الكتاب المقدس العامل األهم في تماسك أبناء األُمة. ومن اآليات التي تدل~ ﴾ [يوسف: 2]. } | { z y ﴿ :على هذا االرتباط قوله تعالى

    د. قاسم، المرجع السابق، ص 72، 73. 1 ـ

    �6���) R�إّن ا4�Dر األُ ,*� �D)ا�]�6� و-]�ووإ���4X) �D, ��36 األ;�ار إ���D"*` �D -��6 أل�", ,-�f�� ُّSD-و-�@& ��,، و�� ا���.�,، و�Eه �� �*) ��>6 �����*3 ا�

  • 322

    نظر وجهات

    وعليه فاللغة العربية ـ كما يقول الدكتور أحمد أبو زيد ـ «ليست في حقيقة األمر مجرد وســيلة بســيطة لنقل األفكار أو تبادل المعلومات؛ وإنمــا هي ـ إلى جانب ذلك ـ أداة ومظهر في الوقت ذاتــه لقيام رابطة ذهنية وعاطفية بين الشــعوب الناطقة بهــا؛ إذ ليس ثمة ما يربــط بين الناس أو يقرب بينهــم مثل وجود لغة واحدة مشتركة تعبر عن فكر مشــترك وعن وحدة وجدانية وعاطفية. وخير دليل على ذلك التقارب التلقائي الــذي يتم بين الناطقين باللغــة الواحدة في موطن الغربة، حتى ولو لم يكن بينهــم معرفة أو عالقة ســابقة، فاللغة جزء من كيان الشخص ووجوده وشخصيته االجتماعية، والتفريط فيها فيه شيء من التنازل عن

    بعض هذا الكيان وإهدار لتلك الشخصية» 1.غير أن اللغة في عصر العولمة بوصفها مكوناً أساسياً للهوية العربية فإنها تتعرض للعديد من التحديات والتهديدات التي تحاول أن تعصف بها، تحت ستار التمدن ـ والتمدن مــن نواياهم المرذولة براء ـ أو العمــل على االرتقاء باللغة العربية، أو نتيجة لسوء التقدير أو الخطأ في التنفيذ. أول تلك التحديات التي تواجه اللغــة العربية في عصر العولمــة تلك الدعوات التي تظهــر بين الفينة والفينة، والتي تنادي بأن نستبدل الحروف الالتينية بالحروف العربية بدعوى القضاء على إشكالية التشكيل وما يتعلق به من صعوبات، وثانيها التشجيع غير البريء نحو زيادة االهتمام باللغة الدارجة أو اللهجات الكثيرة المنتشــرة ليس في الوطن العربي الكبير، إنما المنتشرة في كل ناحية من نواحي كل دولة عربية على حّدة، «ومع أنه ليس ثمة غبار على االحتفاظ بهذه اللهجات وحفظ التراث األدبي الشعبي الذي يسجل بها، بل وضرورة دراستها؛ ألن في ذلك إثراءً للثقافة العربية؛ فإن ذلك يجب أن يتــّم بغرض المحافظة على التــراث من االندثار، وليس بقصد إحالل تلك اللهجات الدارجة محل اللغة الفصحى، سواء في الكتابة أو في التدريس أو في بعض المجاالت األخرى؛ ألن مثل هذا التحوّل من شــأنه إضعاف الوحدة العضوية، القائمة بين أقطار الوطن العربي وشــعوبه، والفصل

    بينها لغوياً، ومن ثَم فكرياً ما دام الفكر يرتبط باللغة ارتباطاً وثيقاً» 2.

    هوية الثقافة العربية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013م، ص 22. 1 ـ د أحمد أبو زيد، هوية الثقافة العربية، ص 25. 2 ـ

  • 323

    العولمة وتحّديات ا-عالم أزمة بين الثقافية الهوية

    ومن تلك التحديات التي تواجهه اللغة العربية:ـ األخطاء التي يقع فيها المسؤولون.

    ـ كتابة الالفتات التي تجمع ما بين العربي واألجنبي.ـ لهجات الفيس بوك.

    ـ األخطاء الشائعة التي ترد على لسان مقدمي البرامج اإلذاعية والتليفزيونية.ـ دخول الكلمات األجنبية في حواراتنا.

    ـ تدريس اللغة األجنبية في الصفوف الدراسية األولى.فالمجتمع الذي يتخلّى عن لغته الستعمال لغة اآلخر ويتفاخر بها: هو مجتمٌع يضع هويته في دائرة الخطر واالنهيار واالضمحالل، وقــد يتعرض إلى والمصالح؛ واالســتراتيجيات الرؤى في ازدواجية فاللغة في حقيقة األمر هي الهوية في المقام األول، فالذي ال يتقن لغة أُمته ويتكلم بلغة اآلخر يكون قد نســي تاريخه وماضيه وأصوله وعاداته وتقاليده. فاإلعالم يجب أن ينشر اللغة العربية ويحافظ على ســالمتها ورونقها وجمالها، فالعالقة بين اإلعالم والهوية الوطنية هي عالقة جدلية؛ حيث إن الهوية تنعكس وتقوى وتتغلغل في نفوس أفراد المجتمع من

    خالل وســائل اإلعالم، فهي تتأثر باإلعالم وتؤثر فيه. فاإلعالم هو دون منازع اآللية األكثر تأثيرًا وقوة في صناعة الهوية والتعبير عنها وعن معالمها وصيانتها ونشرها وبعثها والدفاع عنها. فَمن ال هوية له ال حاضر وال مستقبل له، فالعالقة بين اإلعالم والهويــة ُتعد عالقة جدلية بحيــث إن المنظومة اإلعالمية هي قوة فاعلة ومؤثرة في التعبير عن الهوية وتحديــد مالمحها وتفاعالتها ومقوماتها، ومن ثَم فاإلعالم يسهم في تشكيل الهوية الوطنية، التي هي بدورها تنعكس من

    خالل الصناعات اإلعالمية والثقافية وتؤثر فيها وتصبغها بصبغتها 1.

    http://www.djazairess.com/echorouk/49893 :انظر: محمد قيراط، اإلعالم واالغتراب والهوية الوطنية 1 ـ

    أول -"k ا��

  • 324

    نظر وجهات

    ثالثاً ـ البيئة المحيطةتعمل البيئة المحيطة على تشكيل الهوية ولو بصورة أقل شيئاً ما عن تأثير كل من اللغة والدين، إال أن تأثيرها يبقى متغلغًال وقد يستحيل اقتالعه، فبعض البيئات بفعل طبيعة البيئة المحيطة تكتسب العديد من العادات والتقاليد في المأكل والمشــرب والملبس وفي العديد من نواحي الحياة، ومن المعروف أن تلك العادات والتقاليد المكتسبة من المكونات الرئيسة في تشكيل الثقافة ومن ثَم الهوية، وكما يقول جون ديوي: «فالتربية وسيلة من وسائل التثقيف، كما أن التثقيف وسيلة من وســائل بلوغ الحرية والتحرر» 1، وكل ذلك يصب في صالح الهوية؛ فاألُسرة تؤثر بقوة في ترسيخ العديد من المفاهيم الحياتية التي تشكّل ملمحاً ثقافياً يبقى أثره في الهوية ظاهرًا جلياً؛ إّال أن هذه المفاهيم تتعلق في الغالب باألمور الحياتية المتعلقة بسبل التعايش مع الحياة اجتماعياً واقتصادياً، إال أنه من ناحية المكتســبات الثقافية المشــكلة للهوية فإننا نعتقد بأن األمر مختلف؛ فقد استبدلت األُسرة بالقراءة ـ كأداة تثقيف مهمة ـ التلفاز ببرامجه الهزلية ومسلسالته الهابطة، فضًال عن تربية الذوق األدبي والجمالي؛ فالبيت العربي ال يكاد يسهم في التعريف بالثقافة اإلبداعية، فضًال عن أن يعمل على تربية الذوق الفني أو األدبي واإلحســاس الجمالي عنــد األطفال منذ الصغر

    كجزء من عملية التنشئة االجتماعية والتربية.

    رابعاً ـ التراث:وُيقصد به التراث الثقافــي ذو المدى الطويل المرتبط بوجود المســلم

    بفكره وقيمه وعاداته وتقاليده 2.ونعني بالتراث تحديدًا األمور اآلتية:

    ـ التاريخ الوطني المشترك.

    الحرية والثقافة، ترجمة أمين مرســي خليل، طبعة الهيئة العامة المصرية للكتاب، إنســانيات، 1 ـ 2014م، ص (ج).

    د. أحمد عبد السالم، االتصال اللغوي بين الشباب المسلم في ظروف العولمة، الندوة العالمية 2 ـ للشباب اإلسالمي، بحوث المؤتمر العالمي التاسع، ص 411.

  • 325

    العولمة وتحّديات ا-عالم أزمة بين الثقافية الهوية

    ـ اإلبداع الفكري والعلمي للقدماء.ـ الثقافة الشعبيّة.

    ـ الحقوق والواجبات المشتركة.ـ االقتصاد المشترك.

    ا�36�D واإل�الم:

    ُيعد اإلعالم ـ بأجهزته المختلفة المســموعة والمرئية والمقروءة: الراديــو والتلفاز والصحف والمواقع اإللكترونية ـ من الروافد األساسية التي تملك التأثير الواضح والعميق في قطاعات الشعب المختلفة بما تملكه من أدوات تستطيع بها بسهولة النفوذ إلى العقول، ومن هنا تأتي اإلشكالية، فإما أن تكون هذه الوسائل اإلعالمية عامًال إيجابياً في الحفاظ على الهوية بمفهومها ومكوناتها ومبادئها، أو أن تكون عامًال ســلبياً، يحط من قدر الهوية، ويكون خنجرًا تهتك به ستر هذه الهوية وما تقوم عليه. «فالتليفزيــون والراديو والكتاب والصحيفة

    وغيرها ليست مجرد أدوات أو وسائل لإلعالم أو وسائط لنقل المادة الثقافية أو توصيل الصيغ الثقافية المختلفة؛ وإنما هي تقــوم في الوقت ذاته بوظيفة أخرى قلما يتنبه إليها الناس، وهي إيجاد أشكال وصيغ ثقافية معينة تتالءم مع هذه الوسائل، فالمادة الثقافية التي تصدرها وسيلة كالكتاب تختلف بالضرورة

    عن المادة الثقافية التي تنتجها وسيلة أخرى مثل الراديو أو التليفزيون» 1.وعليه فإن اإلعالم يمثل خطرًا موحشــاً على الهوية، خاصة إذا كان األمر يتعلّق بالجانب السلبي منه، فهو الوســيلة األكثر شيوعاً التي يتّم عن طريقها تنمية الهوية أو اإلجهاز عليها، فاإلعالم ـ وهو ناقل للثقافة ـ قد تكون الثقافة

    د. أحمد أبو زيد، هوية الثقافة العربية، ص 138. 1 ـ

    ,-aD`X) 6ُ*�ُّ اإل�الم ـا��$�"38 ا������3 وا���3�N وا��.�وءة: }>fاد�6 وا��"�8ز وا��ا� ��وا���ا;h اإل�'��و3�4 ـ ا��وا�� األ����3 ا��� jا��ا� ��bXا�� k"�-وا�*��� �� ;���Mت ا�)*S ا��$�"38 (�� -�"', �D) h�M��- أدوات ��(�3��D ا���8ذ إ�> ا�*.�ل.

  • 326

    نظر وجهات

    التي ينقلها هذه عامــًال من العوامل التي تســاعد على التأكيــد على الهوية ومفهومها ومبادئها، وقــد تكون عامًال من عوامل نفــي الهوية واالنقالب على مبادئها، فالتليفزيون مثًال أداة موجهة إلى الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم، هذه األداة تنقل لهم ثقافة تقوي جدار الهوية أو تهدم هذا الجدار من أساسه.كما أن التليفزيون ُيعّد أخطر وسائل اإلعالم واالتصال، بل إنه كوسيلة أهم بكثير مــن مضمون البرامــج التــي يذيعها؛ ألن النــاس يقبلون على مشــاهدة التليفزيون، ويحرصون على ذلك بغض النظر عن نوعية المادة التي يقّدمها لهم. بما يعني أن الناس موجهة توجيهاً مدروساً ناحية ما يمليه عليه القائمون على أمر التليفزيون في أي مجتمع، ولشغف الناس بالتليفزيون فإنهم يجدون أنفسهم غير مخيّرين في اختبــار المادة اإلعالمية التــي تلقى على أذانهم ومــرأى عيونهم.

    وما ينطبق على التليفزيون ينطبق أيضاً على بقية وسائل االتصال واإلعالم.ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل بالفعل يتأثر المجتمع بطبيعة الوسيلة اإلعالمية أكثر من تأثــره بمضمون المادة التي يقّدمهــا؟ أو بمعنى آخر: هل مصدر اإلعالم أو االتصال لــه تأثير أعمق وأقوى من تأثيــر مضمون المادة

    المعرفية أو الثقافية التي يقدمها؟ 1يبدو لي أن األمر هنا فيه إشــكالية كبيرة، خاصة أن الفصل بين األداة اإلعالمية كالتليفزيون مثًال والمادة التي يقدهما أمــٌر في غاية الصعوبة؛ إذ ال يمكن بحال قياس تأثير التليفزيون بمعزل عن المادة المعرفية، كما ال يمكن

    قياس تأثير المادة المعرفية التي يقّدمها بمعزل عنه.واألمر نفسه يقال عن اإلذاعة كوسيلة إعالم؛ فهي تلك الوسيلة التي تقوم على الكلمة المنطوقة التي يســتمع إليهــا الجمهور بهدف نقــل المعلومات أو الثقافات، وُتعد هذه الوسيلة أقدم وسائل اإلعالم أو االتصال؛ حيث إنها أسبق من الوسائل المرئية أو المكتوبة. ونحن نعتقد بأن اإلذاعة أقل وسائل اإلعالم

    انظر: د. أحمد أبو زيد، الوسائل هي الرسائل ـ مارشــال ماكلوان ووسائل االتصال، مجلة عالم 1 ـ الفكر، المجلد الثاني عشــر، العدد األول، ص 202، وانظر له أيضاً الثقافة الســينمائية، مجلة

    الهالل عدد سبتمبر 1988م، ص 126 وما بعدها.

  • 327

    العولمة وتحّديات ا-عالم أزمة بين الثقافية الهوية

    واالتصال مع الجمهور انتهاكاً لمسألة الهوية. وربما ألنها ال تقوم على الصورة المرئية، والصورة المرئية أكثر األدوات تأثيرًا في الشــعوب سواء أكان تأثيرًا إيجابياً أم ســلبياً، فضًال عن أن اإلذاعة لها قدرة علــى مخاطبة المجتمعات، خاصة تلك الفئة التي تجهل القــراءة والكتابة، فضًال عن أن اإلذاعة ـ واألمر كذلك ينطبق على التليفزيــون ـ تتميّز عن غيرها بأنها تطــرح القضية للكل ـ العامة والخاصة ـ بصورة مبسطة وقريبة من األذهان، إال أن التليفزيون يتغلب عليها في كونه أكثر الوسائل اإلعالمية تشويقاً، ومن هنا تأتي خطورته. كما أننا ال نستطيع أن ننكر هنا دور الصحافة كوسيلة إعالمية تعمل على إعادة تشكيل

    الهوية أو الحفاظ عليها أو هدمها من األساس.ويمكن القول: إن الــكالم عن الهوية الثقافية الوطنية يثير إشكالية اإلعالم الذي يمثل المنظومة التي تحفظ هذه الهوية، والتي تــؤرخ لها، والتي تنقلها من جيل إلى جيل بامتياز. فإذا كان اإلعالم يرتبط ارتباطــاً عضوياً بمكونــات الهوية الثقافية الوطنية؛ فإن مخرجاته تخدم دون أدنى شك هذه الهوية، وتعمل على صيانتها وتقويتها وتنميتها في إطار التنمية المســتدامة، والحركة التي يعيشــها المجتمع ضمن التحوالت والتطورات العالمية. أما إذا كانت المنظومة اإلعالمية مهزومة وغير منتجة

    ومســتقبلة ومســتهلكة فقط؛ فإنها بدالً من اإلســهام في الحفــاظ على الهوية الوطنيــة وزرع مكوناتها في المجتمع؛ فإنها تتنصل مــن هذه المكونات، وتفرز قيماً وأفكارًا ومعتقدات وســلوكات تتنافى وتتناقض وتتنافر مع كل ما هو وطني وقومي ومحلــي. وهذا ما يؤدي إلــى ظاهرة االغتراب واالنســالخ والذوبان في اآلخر، وتقمص واقع وشخصيات غريبة ال تمت لواقع ورموز الوطن والبلد واألُمة بصلة. وعلى حد قول «فرانتز فانون» في كتابه «أقنعة بيضاء وبشرات سوداء»، يلبس الفرد في ظل ظاهرة االغتراب واالنسالخ أقنعة اآلخر، ما يجعله تائهاً في عالم ازدواجية األنا والشــخصية والهوية، وفي النهاية يجد نفسه مثل اللقيط

    ال ا�Eي M6�ح ا���ٴ �bX�6 &*8��) &� :,�84

    �*3 ا����"3 M) h��[ا���� -bX�ه �_l3 أ��اإل�ال(���yن ا���دة ا��� ��D؟ أو (�*�> آ@�: �ّ.6�f�ر اإل�الم أو &�اال-�fل �, -�bX� أ��� ���yن ��bX- ��وأ;�ى ا���دة ا��*���3 أو ا�_.���3 ا��� 6.���D؟

  • 328

    نظر وجهات

    الذي ال ُيعرف له أصٌل وال نسب 1. ونحن بدورنا ال نود أن نعيش لقطاء الهوية، تتقاذفنا أمواج االغتراب أو االنسالخ من الذات والهوية والوطنية.

    وفي عالم يسوده الصراع على الصورة والرأي العام، تعاني دول وشعوب كثيرة من أزمة هوية، وفي عالــم أصبح فيه الواقع الــذي تقّدمه الصناعات اإلعالمية والثقافية واقعاً مفبركاً ومصطنعاً بعيدًا كل البعد عن الحقيقة وعن

    ما هو موجود في الحياة اليومية للشعوب واألُمم.إن المتأمل للعديد من التقارير والدراســات التي ترصــد أثر اإلعالم في مجتمعاتنا العربية وعلى الهوية الثقافية العربية؛ يجد أن األمر بات ينذر بالخطر الشــديد؛ إذ مّما ال شــّك فيه أن اإلعالم في العديد من المجتمعات هو المعبر الرئيس عن الهوية القوميــة والوطنية، وعن الخصوصيــة الثقافية التي ينطلق منها، «ترى العديد من الدراسات الراصدة لدور اإلعالم في المجتمعات أنه بات يشــكّل ـ بدرجة ما ـ نموذجاً لمرآة تعكس المجتمع الناطق باسمه أو على األقل يعكس الصــور والهوية التي يــراد أن تصل لآلخــر، خصوصاً مــع التراكمات والتطورات االجتماعية؛ حيث إنه عبر التاريــخ كان لالتصال ـ بأنواعه البدائية منها وصــوالً للرقميــة ـ دور يحاول أن يبنــي من خالله سلســلة من األوصاف والمعالم لهذا المجتمع معتمدًا على األخبار أو المعلومات المتداولة، فالكثير من الحروب والتحالفات وحتى الكتابات والتخيــالت األدبية قديماً كانت تتّم وُتبنى على أســاس رســائل تصل من ذلك المكان. ومن ثَّم فهذه الرسائل والمعلومات والمخبرون الذين تحدثوا ـ سواء بالحياد، أو بالتحيز ـ والصياغات والمفردات،

    ما هي إال مرآة عكست ذاك المجتمع لغيره، ونقلت هويته وسماته عبر اللغة» 2.فإن اإلعالم العربي مطالب بأن يقــدم دوره المنوط به في صناعة أجيال تحمل من الحفاظ على الهوية بقدر ما تحمل من رغبة في االنفتاح على اآلخر واالســتفادة منه، فالهوية الثقافية في حاجة إلى نشرها بكل السبل اإلعالمية وبكل أدوات التواصل اإلعالمي أو العولمي مع اآلخر، وكذلك الرغبة الحميمة

    http://www.djazairess.com/echorouk/49893 :انظر: محمد قيراط، اإلعالم واالغتراب والهوية الوطنية 1 ـ http://www.startimes.com/f.aspx?t=34150892 :الهوية واالنتماء في وسائل اإلعالم العربية 2 ـ

  • 329

    العولمة وتحّديات ا-عالم أزمة بين الثقافية الهوية

    في االنفتاح على اآلخر، ومن ثَم فإن دور اإلعــالم أن يقّدم المضمون الهادف الذي يحقق التوازن الالزم والمناسب بين هذين األمرين. وأهم سمات المادة اإلعالمية أو الرسالة اإلعالمية أن تتحرى الدقة والمسؤولية والمصداقية، وهذا هو الذي ســيحقق لإلعــالم جودته المطلوبة، وســيحقق للهوية اســتمراريتها المنشودة، وحينها سنحكم عليه بأنه نجح في الحفاظ على الهوية الثقافية من الضياع. أما مــا دون ذلك فإنه ينــذر بمخاطر جّمة، «األمــر الذي يؤدي في النهاية إلى انتشار ظاهرة االغتراب؛ حيث يعيش الفرد في فضاء غريب عنه؛ بعيد عن بيئته الطبيعية وهويته األصلية الحقيقية، ويصبح بذلك تائهاً ومشردًا

    بين عالمين: عالم مادي يعيــش فيه في الحقيقة والواقع، وعالم اآلخر الذي تقدمه وسائل اإلعالم والصناعات الثقافية وهو بعيٌد كل البعُد عن العالم األول، وهــذا ما يــؤدي فــي نهاية المطــاف إلى انفصام وازدواج الشــخصية، وانجــراف وانحالل وذوبان في عالم اآلخر على حساب النسيج القيمي

    واألخالقي والموروث الثقافي واالجتماعي» 1.

    ا�36�D و-

  • 330

    نظر وجهات

    وعليه فإن وكاالت اإلعالم بكافة ألوانه: المســموع، والمرئي، والمكتوب، المتمثل في اإلذاعــة، والفضائيات بقنواتهــا المختلفة، والصحــف والجرائد والمجــالت، واإلعــالم اإللكتروني ـ بما يســتند إليــه من شــبكات التواصل اإللكتروني ـ أصبح لها مردود سلبي على الهوية عامة والهوية الثقافية خاصًة؛ فهي أوالً تحت ســيطرة وســائل اإلعالم في الدول الغربية، وثانياً ـ وهو األمر المترتب على ما سبق ـ تمثل تهديدًا واضحاً للهوية الثقافية والقيم األخالقية والدينية، وقد ســاعد اإلعالم العربي على ذلك بعدم جودتــه أو حياديته في معالجة األمــور، فأصبح ينطلق من زاويــة ضيقة قوامهــا التعصب واالنغالق، فتراجعت ِقيَم كنا نظنها ثابتة، وحل محلها قيم مغايرة وثقافات بديلة، ال تعبر

    عن مضمون الهوية الثقافية العربية.إننا نفتقــد في اإلعالم اإللكترونــي إلى تزكية القيــم الثقافية المتوارثة والمتعــارف عليها، كما أننــا نفتقد فيه إلــى ثقافة الحفاظ علــى الهوية، إن اإلعالم اإللكتروني في الوطن العربي يجب أن يســتند باألساس إلى بث الِقيَم وتأصيلها والمحافظة عليها، وإلى نشر ثقافة الهوية ال ثقافة التغريب، وال مانع ـ وإن كان هذا حلماً صعب المنال ـ من أن يكون هناك توجه نحو إقامة مواطنة عالمية تقوم على أساس طرح جديد ألُســس التعامل بين البشر، وتبني قضية أخالق عالمية، ترسي حّدًا أخالقياً مشــتركاً، وميثاق شرف يضع حّدًا لموجات التغريب أو االستغراب التي بدأت تهجم بضراوة على الهوية الثقافية. وعليه فإن اإلعالم اإللكتروني المبني على شبكات التواصل االجتماعي يمكن أن يكون له أثر إيحابي في الهوية، وذلك إذا استخدم االســتخدام األمثل كاستخدامه في إقامة كيانات تحافظ على الهوية، وهناك مؤشرات تدل على هذا التوجه، فقد رأينا المراكز البحثية المهتمة بموضوع الهويــة ومكوناتها، خاصة فيما يتعلق

    باللغة العربية والتاريخ والتراث.كما أن اإلعالم اإللكتروني ـ المتمثل حديثاً في شبكات التواصل االجتماعي وما يمكن أن تحدثه من تأثيــر ـ يدعو المجتمعات العربية واإلســالمية إلى البحث عن مخرج وحلول لالســتفادة من المزايا الكثيــرة لها، والحفاظ في الوقت نفســه على هويتها. ولن يتّم ذلك من دون المشاركة كفاعلين في هذه

  • 331

    العولمة وتحّديات ا-عالم أزمة بين الثقافية الهوية

    الشــبكات، وذلك بإقامة تكتالت عربية إســالمية، وزيادة التدفق المعلوماتي البيني، والتنسيق من خالل مواقع اإلنترنت بين المؤسسات الدينية واإلعالمية والفكرية والثقافية العربية واإلسالمية، وإنشاء شــبكات اجتماعية خاصة، أو

    إنشاء مجموعات عربية أو إسالمية 1.فالمتأمل في الفضائيات وشــبكة اإلنترنت والمنتجات الثقافية وغيرها من الوسائط اإلعالمية العالمية يالحظ أنها تشكّل خطرًا على الهوية الوطنية، والحل الوحيد هو تنشــئة جيل مســؤول وواٍع، يعرف كيف يتفاعل مع هذه الوســائط، ويعرف كيف يأخــذ منها ما يفيده، ويبتعد عن المواد المشــبوهة، والمواد التي

    تتنافــى وتتناقض مع مبادئ وِقيَــم المجتمع. األمر الثاني واألكثر أهمية هو تقديم البديل واالســتثمار في الصناعات اإلعالمية والثقافية؛ فالجمهور بحاجة إلى بديٍل وإلى أخباٍر وبرامج ومــواد ثقافية محلية تعكس شخصيته وهويته واهتماماته وانشغاالته، لكن إذا انعدمت المادة الجيدة والممتازة والجادة؛ فإن هذا الجمهور يتوجه إلى اآلخر وإلى المنتج األكثر جودة، بغــض النظر عن ُبعــده الثقافي والحضاري على فالحفاظ والقيمي، واأليديولوجي والسياسي الهوية يتطلب اســتراتيجية واضحة المعالم لنقل التراث التاريخي والحضــاري والقيمي لألُمة في

    صيغ وقوالب تتماشــى مع المجتمع الرقمي الذي نعيش فيه والتطورات العلمية والتكنولوجية التي يشهدها المجتمع 2.

    والولوج في المجتمع المعلوماتي مرتبط بالعولمة اإلعالمية التي تهيمن فيها وسائل اإلعالم التقليدية واإللكترونية للدول المتقدمة، وال يمكن مواجهة أخطارها عن طريق االنغالق أو منع التدفق اإلعالمــي الخارجي، وإنما من خالل تحصيــن المتلقي أينمــا كان في مواجهة ســيل المعلومــات واإلعالم

    عبد اهللا بدران، صراع الهوية اإلسالمية، مجلة الوعي اإلسالمي، الكويت، العدد 564، يونيو 2012م. 1 ـ http://www.djazairess.com/echorouk/49893 :انظر: محمد قيراط، اإلعالم واالغتراب والهوية الوطنية 2 ـ

    إّن اإل�الم اإل�'��و�4 �� ً�_6�ـ ا����_&

    '�ت ا���اg& اال`����� n �� ,b�>- �6'� أن ��و-�bX� ـ 6��� ا��]��*�ت ا�*�(�3 واإل�ال��3 إ�> �$�ج و"�ل �� ~>ا��ال���8دة �� ا��aا�6 ا�'_��ة ��D، وا�

  • 332

    نظر وجهات

    المتدفق، وتعزيــز دور اإلعالميين العام والخاص، وفتح الحرية المســؤولة أمامهما لالنطالق في كل اتجاه مع تعزيز التمويــل الكبير لهما، والتركيز على األهداف األساســية المنوطة بهما من حيث التثقيف والتوعية والتوجيه واإلرشاد، إضافة إلى الرد على ما يكال من اتهامات وأباطيل لألمتين العربية واإلسالمية، وإبراز ســماحة الدين اإلســالمي وصالحيته لكل زمان ومكان،

    وترسيخ الهوية العربية اإلسالمية في نفوس أبناء األمة 1.عليه يجب على المؤسسات اإلعالمية أن تبدع في فعالياتها الثقافية؛ كي يقوم اإلعالم بترجمة هذه الفعاليات من خالل نشــرات األخبــار والبرامج، ومالحقة الحدث الثقافي. ومن حيث دور المؤسسات في الحفاظ على الهوية الثقافية فإنه يمكن القول: إن اإلنتــاج الثقافي ليس منتجاً حرًا بالمطلــق، وإنما إنتاج مرتبط بسياق العمل، ومتأثر بالمكان والزمان والمؤثرات االجتماعية والثقافية، والظرف الذي ينتج فيه العمل اإلعالمي. ولو نظرنا للمؤسسات الثقافية ما بعد أوسلو نجد أن هناك مجموعة من المؤثرات عليها؛ منها أن المؤسسة الثقافية كمؤسسة جامعة لإلنتاج الثقافي تشــمل المنتــج الثقافي والممــول والجمهور المتلقــي والنقاد والمنظرين في مجال الثقافة. وعندما نتحدث عن المؤسســة اإلعالمية كمؤسسة اجتماعية فإن اإلنتاج مــن خاللها متأثــر بمجموعة قوى مختلفــة؛ منها التمويل

    ومصادره وأهدافه وأجنداته والقائمون على المؤسسة، وفكر المؤسسة ورسالتها.نحن ال نقدر أن نفترض أن يكون للمؤسسة اإلعالمية دور أبوي؛ ألنها ال تعمل بمفردها، وإنما موجودة كبنية ضمن سياق اجتماعي سياسي ثقافي معيّن، ويوجد عدد من المؤثرات التي تؤثر على توجهاتها وفلســفاتها وسياستها. فالمؤسسات اإلعالمية اليوم تعاني من عــدم خضوعها ألي رقابة، فمــن المفروض أن تكون هناك رقابة تحكم عمل المؤسسات اإلعالمية، كما تعاني من النشاطات المشابهة وعدم التنسيق والتعاون بينها، وأغلب المؤسسات تابعة لتيارات سياسية. بل إننا نفتقد لبرنامج جامع للشــعب العربي ينعكس على وضع المؤسسات داخل الوطن الكبير، وعلى المؤسسات الثقافية واالجتماعية والدينية وغيرها أن تتقارب بعضها

    مع البعض من خالل برامج تتواصل مع الهوية العربية.

    د. عبد اهللا بدران، صراع الهوية اإلسالمية، مجلة الوعي اإلسالمي، الكويت، العدد 564، يونيو 2012م. 1 ـ