6-2- القصة والرواية: al takled ela al 7dasa.doc · Web viewالقصة القصيرة...

508
صة ق ل ا رة صي ق ل ا ي ف ة وري س ن م د ي ل ق ت ل ا ى ل ا ة حداي ل ا- 1 -

Transcript of 6-2- القصة والرواية: al takled ela al 7dasa.doc · Web viewالقصة القصيرة...

6-2- القصة والرواية:

القصة القصيرة في سورية

من التقليد إلى الحداثة

د.عبدالله أبوهيف

القصة القصيرة في سورية

من التقليد إلى الحداثة

المقدمة

أصبحت القصة القصيرة في سورية سيدة الفنون النثرية في خمسينيات القرن العشرين على أنها الإبداع الأبرز في كتابة الأجناس الأدبية، فتخطى القصاصون نظراءهم الشعراء إقبالاً على الاشتغال بالقصة القصيرة كمياً بالدرجة الأولى، فنشرت عشرات المجموعات القصصية، ثم تطور الإبداع القصصي في مستوياته الفكرية والفنية المتعددة خلال عقد الستينيات، وتصدر قصاصون مبدعون أمثال زكريا تامر وعبد السلام العجيلي وألفة الإدلبي وغادة السمان وسعيد حورانية وفاضل السباعي وأديب نحوي الساحة القصصية العربية، وخاض القصاصون في نهر التجديد والتجريب نحو الحداثة وما بعدها.

ويتصدى هذا الكتاب للتطور القصصي في سورية منذ تكوّن مصطلحها السياسي في ثلاثينيات القرن العشرين إلى اليوم، وقد وضعت تمهيداً ينظر في الإطار العام للنثر القصصي في هيمنة القص التقليدي وانبثاق الفنّ الروائي، وما آل إليه التطور السردي من تعدد أشكال النثر القصصي ونضوجها واستواء الكتابة فيها، وتلا ذلك توصيف للمشهد القصصي في الثمانينيات تمثيلاً لتباين الممارسة وأساليبها السردية خلال عقد ما، ثم التحليل النقدي الموجز للكتابة القصصية الجديدة التي استحوذت على الإبداع القصصي خلال نصف القرن الأخير.

وخصصت الفصل الأول للتعريف بالجهود الريادية والتأسيسية للقصة القصيرة واخترت عدداً من المبدعين الراحلين الذين تميزوا بإبداعهم منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وهم علي خلقي وفؤاد الشايب ومحمد الحاج حسين وسعيد حورانية وعدنان الداعوق وخديجة الجراح.

وعاينت في الفصل الثاني استواء الاتجاهات التقليدية كالواقعية عند نصر الدين البحرة وجمالية تقاليد القصّ عند اسكندر لوقا وارتقاء التعبير السردي عن الإحساس المأساوي بالحياة لدى صلاح دهني واحتضان القضايا الاجتماعية والقومية عند وهيب سراي الدين.

وتناولت في الفصل الثالث بعض الرؤى الفنية والفكرية المعبرة عن الانعطافة من التقليد إلى الحداثة وما بعدها مثل النظر في السخرية مظهراً من مظاهر الحداثة عند عدد من القصاصين وتحليل السرد الاستعاري مثالاً لتقانات القصة الجديدة وفلسطين والجولان في التعبير القصصي المقاوم حيث غلب الموضوع القومي والوطني على الكتابة القصصية إلى وقت قريب، إذ يندر أن تخلو كتابة قاص من التصدي للعدوان على الأمة والوطن وتعزيز الفعل المقاوم في منظومته القيمية الأشمل وأبعاده العربية والإنسانية والمباشرة وغير المباشرة المتعددة.

وعالجت صور المرأة في القصة القصيرة في نماذج قصصية تظهر مدى الدخول في النزعة النسوية عند القاصات والنزوع الذكوري عند القاصين تمهيداً لتحليل إنسانية صور المرأة التي جاوز فيها القصاصون معاناة النوع الاجتماعي في عمليات إنتاج المجتمع وإعادة إنتاجه.

وتناولت في الفصل الرابع نماذج التحديث القصصي ونزوعاته من خلال نماذج قصصية لعدد من القصاصين المتميزين مثل سرد الحداثة وما بعدها والاعتمال بشعرية السرد والتجديد القصصي واستطاعته الرؤيوية والسرد السوريالي في إهاب الأسطرة ومحاولات تحديث القصّ الواقعي والسرد الواقعي ورحابته في نقد المجتمع والصدق الواقعي وفن الإيماء ومجاوزة التبشير العقائدي والتحديث من خلال التزام تقاليد القص الواقعي وأسلوبية النصوص السردية وتمثل السرد السيري والابتعاد عن غواية الإنشاء اللغوي. وتظهر هذه النزوعات الكثير من مظاهر الانعطافة من التقليد إلى التحديث.

وجعلت الفصل الخامس توثيقاً لمصادر نقد القصة في سورية من خلال ثبتين الأول ثبت المجموعة القصصية من عام 1931 حتى اليوم، والثاني ثبت الكتب المؤلفة كلياً أو جزئياً عن القصة والرواية في سورية، لصعوبة الفصل في الكتابة النقدية عن أشكال النثر القصصي.

وآمل أن يقدم هذا الكتاب صورة عن تطور القصة القصيرة في سورية وانعطافتها من التقليد إلى التحديث.

المؤلف

أيار 2004

التمهيد

1- الإطار العام للنثر القصصي:

تعد فنون النثر القصصي ولا سيما القصة القصيرة والرواية، الإنجاز الأكبر للأدب الحديث في سورية سواء في تمثل تقنياته وأساليبه لغة وبنية وصنعة فنية أو في غنى الدلالة الاجتماعية والتاريخية أو في تعدد الاتجاهات والرؤى ويصعب الفصل بين أجناس النثر القصصي، وأكتفي بالإلماح إلى أهم ظواهر التطور القصصي (قصة ورواية) ثم أركز بشكل خاص على القصة القصيرة في الإطار العام لنضوجها واستواء تجاربها الفنية والفكرية، ثم توصيف المشهد القصصي في الثمانينيات انموذجاً للنظر في تطور الفن القصصي خلال عقد ما، ثم التحليل النقدي الموجز للكتابة القصصية الجديدة الناجزة أو مما هي قيد الإنجاز. وتتلخص أبرز الظواهر فيما يلي:

أولاً: تقلص مساحة المثاقفة بمعناها السلبي بفعل استواء المؤثرات الأجنبية، وامتلاك القاص والروائي لناصية فنه والتوازن بين هذا الفن والأفكار.

أن مقارنة سريعة بين الرواية «في المنفى» لجورج سالم (1962) ورواية «ملكوت البسطاء» لخيري الذهبي (1976) وروايات خليل الرز تظهر بجلاء مدى الاستفادة من النزوعات التجريبية الغربية من موقع مستقل وإبداعي واضح، فثمة تأثير أجنبي كافكاوي مباشر في الرواية الأولى، وثمة تأثير فوكنري قوي في الرواية الثانية، ولكن الروائي الثاني يوسع مجال تأثيره بنزوعات أخرى وجودية ونسبية وجديدة (نسبة إلى الرواية الفرنسية الجديدة) كتيار الوعي وتغير الضمائر وتناوب الرواة وتبديل الزمن وتعدد زوايا النظر، والتصرف بمسافة النظر، دون أن يقطع الروائي صلته بتاريخه وتجربته الروائية روائياً و مساراً روائياً عربياً وتمضي روايات خليل الرز في تجديد السرد الروائي إلى التعالق النصي والإبداعي مع الرواية الفرنسية الجديدة ضمن صياغة متميزة، بل إن روائيين آخرين يبدعون أشكالهم، وينوعون أساليبهم التعبيرية في صنعات روائية مبتكرة في الموقف من الواقع أو المجتمع الروائي أو الزمن أو التاريخ، كما هو الحال في روايات «الشمس في يوم غائم» لحنا مينة (1973)، و«المتألق» لعبد النبي حجازي (1980)، و«وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر (1984).

ثانياً: تقلص حجم العنصر السيري في الأعمال الروائية. صحيح أن أغلب الروايات المهمة في تاريخ الرواية العربية تستند إلى أساس سيري، إلا أن الروائي العربي في سورية قد استطاع أن يثمر هذا العنصر في صنعته الروائية، وأن يصير إلى حافز إبداعي في السياق الفني. وهذا واضح في أعمال حنا مينة «بقايا صور» (1975) و«المستنقع» (1977)، وأعمال نبيل سليمان «ينداح الطوفان» (1970) وحيدر حيدر «الزمن الموحش» (1973) وملاحة الخاني «بنات حارتنا» وغيرهم. وهذا واضح في القصة أيضاً كما في مجموعة «النار: حكاية طفل لم يرزق بعد» (1996) لمحمد عبدو النجاري.

ثالثاً: تقلص التحكميات السابقة على الأعمال الروائية مثل الأفكار والأيديولوجيات والتحزب والالتزام وفكرة الروائي عن فنه، وهي تحكميات غالباً ما تلغي الجنس الأدبي وتزيد من قلق الرواية وخلخلتها أمام الموقف الموضوعي في العمل الفني، وهذا القلق واضح في روايات كثيرة في الستينيات كزخم المعلومات المعرفية والطبية والذاتية والسياحية والتاريخية وغير ذلك، مما يكثر وروده في روايات عبد السلام العجيلي وفاضل السباعي وعبد الرحمن الباشا وحسيب كيالي، ويقال مثل هذا عن تحكميات أخرى.

رابعاً: نجاح القصاصين في تخليص القصة القصيرة من معضلات الممارسة الفنية التي تكمن في الإرث الطويل من تكريس الأوهام حول القصة القصيرة في النظرية والتطبيق. وقد تخففت القصة القصيرة من مظاهر التضييق المختلفة كالتداخل بين وظيفة القصة وموضوعها، والتداخل بين وظيفتها واتجاه كاتبها والتداخل بين فعالية القصة وفعالية المتلقي والتداخل بين الممارسة الاجتماعية والممارسة الفنية والتداخل بين الفن ومجرد الوثيقة أو المرحلية().

لقد وصلت القصة القصيرة إلى بلاغة مشهودة في تقنياتها وتعبيرها عن الجماعات الإنسانية والأوضاع الاجتماعية التي تصدت لها، ومن أبرز الأعمال القصصية التي تدخل دلالة واضحة على هذا التطور، «حكاية مجانين» لعبد السلام العجيلي (1972)، و«عزف منفرد على الكمان» لجورج سالم (1976)، و«النجوم» لعبد الله عبد (1977)، و«موت الحلزون» لوليد إخلاصي (1978)، و«النمور في اليوم العاشر» لزكريا تامر (1978)، و«الرجال الخطرون» لياسين رفاعية (1979)، و«الوعول» لحيدر حيدر (1978). و«سلامات أيها السعداء» ليوسف أحمد المحمود (1980)، و«رمي الجمار» لنصر الدين البحرة (1980) و«آدم والجزار» لعدنان الداعوق (1979) و«أحلام ساعة الصفر» لعادل أبو شنب (1973) و«رحيل المرافئ القديمة» لغادة السمان (1973)، و«أحزان حتى الموت» لفاضل السباعي (1975).

خامساً: تنوع الاتجاهات الفنية ولا سيما الواقعية بتقسيماتها المتعددة كالتعبيرية والانتقادية والانطباعية والاشتراكية والجديدة والطبيعية تحت وطأة تأثير الحداثة والتطلع المستمر إلى التجديد والالتزام. كانت الاتجاهات السائدة حتى مطلع السبعينيات هي التعليمية والإتباعية والرومانتية والواقعية بأشكالها الانتقادية والطبيعية، ولكن المرحلة الراهنة قد بلغت شأواً كبيراً في تحديث الخطاب القصصي بأشكال حداثية هي مجرد «موضات» عند الكثيرين، فنجد لدى القاص الواحد سوريالية وإتباعية وواقعية اشتراكية ورومانتية ووجودية وعبثية في مرحلة واحدة أو أكثر.

وفي هذا الإطار التاريخي، انطلقت تجارب القصاصين الجدد تتوسل إلى الحداثية بوسائل تعبير منسجمة حيناً، وغامضة أو مبهمة حيناً آخر، وربما كانت تجارب محمد كامل الخطيب ورياض عصمت وإبراهيم الخليل وخليل الحميدي ونيروز مالك وزهير جبور وجمانة طه وغسان كامل ووليد معماري وسحبان سواح وجميل حتمل وإبراهيم صموئيل وملك حاج عبيد هي الأكثر انسجاماً في تحديث أساليبها وتأطير رؤاها، بينما توغل تجارب أخرى كثيرة في التجديد الذي يستعصي أحياناً على الإيصال كما عند محمد خالد رمضان على سبيل المثال.

على أن ساحة القصة القصيرة ما تزال تعتمل بالصراعات الخفية بين الاتجاهات المختلفة، حيث الرومانتية والإتباعية والتسجيلية والواقعية الانتقادية ـ وما تزال ـ من أقوى الاتجاهات أيضاً، كما في قصص عبد السلام العجيلي وكوليت خوري وقمر كيلاني وفاضل السباعي وعبد العزيز هلال وصلاح دهني وجان الكسان وعدنان الداعوق وشوقي بغدادي ومظفر سلطان ودلال حاتم وحسيب كيالي وضياء قصبجي وغيرهم.

سادساً: وعي القصاصين والروائيين لتجاربهم، وهذا واضح في التنظير الواسع الذي بدأ يمارسه كثيرون مثل حنا مينة في كتابه «هواجس في التجربة الروائية» (1987) وعبد السلام العجيلي في كتابه «أشياء شخصية» (1968-1980)، وآخرون في شهاداتهم ومقالاتهم ومقابلاتهم المنشورة في الكتب والدوريات. وثمة وعي يتمثله القصاصون والروائيون في تطوير فنهم على مستوى اللغة والسرد والحكائية والحوافز والأغراض والبنية إجمالاً، وهذا ملحوظ في مئات القصص المنشورة.

2- المشهد القصصي في الثمانينيات:

ماتزال القصة القصيرة هي الأكثر دوراناً على أقلام الكتاب في سورية إنتاجاً وتنوعاً وغنى، بل إن نظرة عجلى إلى ثبت المنشور منها في مجموعات أو دوريات يشير إلى ذلك الكم الهائل بالنسبة إلى الأجناس الأدبية الأخرى، وإذا كان قصاصو الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين أمثال ألفة الأدلبي وعبد السلام العجيلي وأديب نحوي وحيدر حيدر، قد غادروا بدرجات متفاوتة إلى أجناس أخرى، ولا سيما الرواية، فإن القصة القصيرة تستأثر باهتمام الكتاب الجدد، وتثير حماستهم في الإبداع، ولا تنقل في هذا المجال إلا هوى كتابة القصة القصيرة، نظراً لطبيعتها اللاهثة المتوترة، لدى كتّاب السبعينيات اقتصر على مجموعة صغيرة واحدة لعدد غير قليل من القصاصين، ثم انقطعوا إلى مشاغل أخرى، مما يفضي إلى نتيجة أولى هي أن كتابة القصة القصيرة لدى الكتّاب الجدد في السبعينيات ليست هموماً تستأثر باهتمامهم، أو مركزاً يستقطب تطلعاتهم والتوجه الإبداعي لديهم().

ويتصدر المشهد القصصي في الثمانينيات قصاصو الستينيات والسبعينيات على وجه الخصوص أمثال، وليد إخلاصي ونصر الدين البحرة وناديا خوست وقمر كيلاني وكوليت خوري ومحمد كامل الخطيب ورياض عصمت وحسن صقر ووليد معماري وخليل الجاسم الحميدي وزهير جبور وغيرهم كثر.

ونشط الجيل الأسبق ممن كتبوا في الأربعينيات والخمسينيات إلى حد ما، كما هو الحال مع ألفة الأدلبي وأديب نحوي وعبد السلام العجيلي وفاضل السباعي وبديع حقي ومراد السباعي، وإن كانت القصة في المرتبة الثانية من اهتماماتهم. ومن اللافت للنظر أن بعض القصاصين المتميزين في المشهد القصصي في سورية قد صمتوا مثل سعيد حورانية الذي لم ينشر منذ منتصف الستينيات أكثر من قصتين أو ثلاث قصص قصيرة.

أما القصاصون المعتبرون مثل حنا مينة وفارس زرزور وهاني الراهب وحيدر حيدر فقد هيمنت الرواية على نشاطهم الإبداعي.

وعلى هذا النحو نجد أن الذين أصدروا مجموعات قصصية خلال هذا العقد، ولم يسبق لهم أن أصدروا مجموعة قصصية من قبل قد جاوزا الخمسين قاصاً()، ولعلنا نشير إلى أهم الملاحظات حول الكتابة القصصية في الثمانينيات:

1- فن القصة هو الأثير الدائر على الأقلام منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وهي حقيقة تؤكدها كمية المنشور من القصص الجديدة للكتاب القدامى والجدد في الكتب والدوريات ووسائل الاتصال بالجماهير. ويشير العدد الممتاز والملف الخاص اللذين أصدرتهما «الموقف الأدبي» عام (1987) عن القصة القصيرة في سورية إلى استمرار الحضور الكبير للقصة القصيرة في الإبداع الأدبي في سورية، وكان العدد الممتاز عن القصة القصيرة في سورية، وقصص الملف للأصوات الجديدة في القصة القصيرة في سورية، شارك فيهما أكثر من أربعين قاصاً وقاصة تعبيراً عن مثل هذه الحساسية المستمرة في حياتنا الأدبية، كما أظهر هذان الملفان أصواتاً جريئة مبدعة تخوض غمار التجريب، وتفلح في الإفصاح عن أساليبها وأفكارها لدى غالبيتهم، بل أن بعض الأصوات متميزة في المشهد القصصي الراهن، كما أن عدد المشاركين في مسابقة «الأسبوع الأدبي» عام 1992 بلغ أكثر من 190 قاصاً شارك كثير منهم بنصوص جيدة، وأغلبهم أيضاً من الكتاب الجدد.

إِنّ هذه الوقائع وغيرها تؤكد صدارة القصة القصيرة للكتابة الأدبية في سورية، ربما أكثر من الشعر أيضاً، أما الأسماء المتميزة في المشهد القصصي في سورية من كتاب الثمانينيات فنذكر منهم: حسن حميد وجميل حتمل وإبراهيم صموئيل ونضال الصالح وعلي المزعل وجمال عبود ونادر السباعي وزياد كمال حمامي وغالية قباني وفيصل خرتش وسمير بلوكباشي وأنيسة عبود ونبيل صالح وأمية عبد الدين.

2- ونلاحظ أن الأصوات النسائية متعددة في هذا العقد، وتشير بطاقاتهن الفنية والشخصية عن مهنهن المختلفة كالمهندسة والطبيبة والمدرسة والمربية.. الخ مما يزيد من ثراء التجارب القصصية، فقد ظهرت في عقد الثمانينات مجموعة قصصية لكاتبات كثيرات ينشرن كتباً لأول مرة(). مع العلم، أن لبعض هؤلاء الكاتبات كتباً منشورة في أجناس أدبية أخرى.

3- تغلب على الكتابة القصصية نبرة التجديد أو التوسل إلى التحديث في الكتابة القصصية بأدوات مختلفة يشير استخدامها في أكثر التجارب حفيظة دعاة التقيد بالأجناس الأدبية. مما يتيح أوسع الفرص لمعالجة قضية الاتصال والفنون بين الأجناس الأدبية سواء في الالتفات عن تقاليد النثر الفني العربي أو التراث القصصي العربي أو في اللحاق اللاهث الواضح بأشكال التجديد عن أصالة أو مجرد شهوة التعبير المختلف، فثمة إشارات واضحة إلى ممارسة غالبة على الكتابة القصصية لدى جيل السبعينيات ماتزال مستمرة في محاولات دائبة لتحديث الأدوات القصصية. إن ثمة تعبيراً جلياً عن هذه الحساسية الفنية الجديدة التي طبعت القصة القصيرة في سورية بطوابعها منذ مطلع السبعينيات في مجموعات قصصية كثيرة نحو الاختلاف في التعبير بعامة والتطلع إلى التجديد بخاصة، ولا سيما تطويع الحكائية والسرد لحاجات خطاب مباشر غالباً، وتعبير إنساني خافت أحياناً، وتحفل النماذج المنشورة غالباً بطوابع استحوذت على أساليب متوترة ومندفعة في استخدامات جريئة ومتأنية في بعض القصص مثل التقطيع و الترقيم وتنوع الحوار وتعدد الأصوات وشاعرية السرد. واللافت للنظر في بعض المجموعات القصصية هو تنوع التجارب القصصية والسعي الواضح لتطويع أساليبهم باتجاه حداثية منشودة.

هناك كثير من الكتابات ذات الميل التقليدي كما هو الحال عند مالك صقور وعلي المزعل وعادل بشتاوي ونضال الصالح وسميح عيسى ومحمد أحمد السوسو وخطيب بدلة وزياد كمال حمامي ومحمد رشيد رويلي وغيرهم، ولكن أصحابها جهدوا لتلوين أساليبهم بنبرات حديثة أيضاً في التمسك برؤية أشمل لموضوعاتهم، لا التوقف عند أغراض مباشرة أو صريحة، توكيداً على قلق مشروع في مساءلة أطروحاتهم في هذه الصيغة الفنية أو تلك، غير أن ثمة أصواتاً أخرى ارتهنت لذلك التجريب اليقظ في تحديث الأسلوب، في مغامرات جريئة.

يستفيد هؤلاء القصاصون من آخر إنجازات القصة الحديثة مع اختلاف التوجيه الفكري وتباين التحقق الفني: الشاعرية، نسبية وجهة النظر أو المنظور السردي، الاستفادة من معطيات الفنون الأخرى، التلاعب الحكائي بالزمن، كثافة المشاعر أو نذرتها، توسيع مدى استعارة الفعل الإنساني أو تضييقه، التجنيح الأخيولي (الفانتازي).. الخ.

وتشير هذه الكتابة القصصية إلى أن استخدام المنجزات الحداثية غير ناجز أو شاحب في بعض قصصهم، لأن كتابها تعمدوا التحديث الذي يصل إلى حدّ الاستغلاق على الدلالة ونقي الموضوع، إذ يحاول بعض الكتاب الجدد الترميز و«أسطرة» الواقع وتعدد الرواة أو المنظورات السردية والإكثار من التجنيح الأخيولي دون معادلات موضوعية كافية أو معللة بالتحويل الأدبي، إذ أن استخدام المنجزات الحداثية لا يتعلق بالنيات فقط أو وضع تقنيات قد لا تتناسب مع التجربة القصصية، والمهم في هذا المجال هو نجاح القاص في تحويل الواقع إلى أدب عبر ضبط القص وتنظيم السرد ووضوح التحفيز في تضافر البناء القصصي.

وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام هي ابتعاد غالبية قصاصي الثمانينيات عن هموم البحث في السرد في تجاربهم القصصية. إذ لا نجد قصصاً تعتني باستيحاء التراث القصصي أو ثراء السرد العربي الموروث، وإذا وجدت بعض المقاربات فلا تشير إلى وعي الهوية فثمة قصص كثيرة لجميل حتمل وسمير بلوكباشي ونبيل صالح تعلن خيارات فنية غير حاسمة، وتقارب سردها الحداثي من منظورات شاعرية وحكائية ممعنة في تحديد علاقتها بالموروث القصصي، وهي أقرب إلى القطيعة منها إلى التواصل فتعتمد على الدلالة الثقافية، وتثير الإشارات في بنية القصة، وتوغل في اللغة والتغريب اللغوي وهو التماهي المصنوع، أو تصوغ تحويلها الأدبي للوقائع الحياتية من ذكاء مشروط هو بعض حصيلة الخبرة الفنية. إن السرد في مثل هذه القصص واثق متمكن من حكائيته وكأنه يستند إلى الموروث، ويستوعبه.

4- هناك كتابات قصصية كثيرة في الثمانينيات تستمد نجاحها من موضوعها وشرف القيم التي تتحدث عنها، وهذا جلي أيضاً في قصص حسن حميد وعلي المزعل ومحمد وليد الحافظ. إنهم يتحدثون عن الموضوع القومي حيث القيم النضالية، ولا سيما فلسطين والجولان والانتفاضة، إلا أن قصصهم، وهذه مزية أيضاً، لا تكتسب قيمتها من تناولها للموضوع القومي وحده أو من إعلانها القيم النضالية فحسب بل لأسباب فنية بالدرجة الأولى، فقد جاوزت هذه القصص التعبير المباشر والمستوى الشعاري في التصدي للقضايا القومية، بمستويات متباينة إلى تعبير فني يعلي من شأن الوعي القومي في القصة القصيرة، ويواصل تقاليد القصة القصيرة في سورية في التزامها العميق والمسؤول بالقضايا القومية.

5- نجد اتساعاً في الموضوع القومي أولاً والموضوع الاجتماعي ثانياً، من حيث الموضوعات التي اقتربت منها القصص أو عالجتها، ولكن أغلب القصص ذات الموضوع الاجتماعي تعنى بالأسئلة، وتبتعد عن التفاصيل اليومية لصالح الانشغال بالمفارقة الاجتماعية كما في كتابات: عبد الباقي يوسف وعبد الحليم يوسف ومالك صقور وسمير عامودي وعماد نداف وخطيب بدلة، على أنه ملاذ للسخرية إلى حد الكاريكاتير أحياناً عند بعضهم أو ملاذ التغريب في فضاء سوريالي أحياناً أخرى.

6- ثمة ملاحظة لا يمكن إغفالها هي بروز قضية الإيصال، إذ تعاني بعض الكتابات القصصية من ضعف الإيصال وعدم ضبط التجربة القصصية، وقد عوض بعض القصاصين شيئاً من ذلك في الاستسلام لشاعرية سردية أو جمالية القص، ولكن فكرة القصة تحتاج إلى أكثر من عنصر واحد، ويبدو أن هوس التجريب لذاته قد بولغ فيه لدى عدد كبير من قصاصي الثمانينيات.

7- نلاحظ أيضاً سعي بعض الكتابات القصصية لتقديم أمثولات هي نداء لحكمة أو قيمة مما يقلل من تأثير خطاب الناشئة واليافعين فتكاد تكون قصصهم دروساً ونصائح وعبراً، فمثل هذه القصص تختزل التجربة، وتضيق عملية التحويل الأدبي كثيراً، ويشير هذا بحد ذاته إلى تنوع الأساليب لدى طلائع القصة استناداً إلى طموح مشروع تبدو القصة خطوة على طريق تحققه().

3- القصة الجديدة:

صار للقصة القصيرة في سورية عمر طويل ونضوج فني معتبر قياساً إلى التجارب القصصية في الأقطار العربية الأخرى، ولعل مرد ذلك إلى إقبال القصاصين على كتابتها أكثر من الرواية والمسرحية، فظلت القصة القصيرة سيدة فنون النثر القصصي حتى نهاية الستينيات، غير أن العقود التالية حتى منتصف التسعينات حفلت أيضاً بإنتاج قصصي وافر، فبلغ عدد المجموعات القصصية الصادرة منذ عام 1970 حتى 1995 أكثر من ثلاثمائة مجموعة قصصية، وهو انتاج غزير في الكم وذو دلالات نوعية في تحديث الفّن القصصي.

لقد برهنت سنوات الخمسينيات والستينيات أن القصة القصيرة في سورية رائدة في التجديد، فهذا الكم الوافر نتج عنه نوع لا جدال في قيمته الفنية، وفي نزعة القاص العربي الحديث إلى تأصيل الأجناس الأدبية الحديثة في حركة الحداثة التي شملت مناحي الحياة العربية كلها.

وقد أظهر عدد من الباحثين ونقاد الأدب في كتاباتهم أهمية الشغل القصصي الحديث المشبع بأصالة البحث في السرد التقليدي استناداً إلى التراث القصصي في العصور الكلاسيكية للأدب العربي وإلى وعي حاد بمعضلة الهوية إزاء تفاقم المثاقفة التي غدت أبعد من تأثير ايجابي معتدل للمؤثرات الأجنبية التي لابدّ منها لإدراج مغامرات التحديث الأدبي في دوائر الاستلاب والتبعية والخوف من الحداثة. فثمة تجديد قصصي في منتهى الثراء والجاذبية أدخل القصة القصيرة في سورية في عجلة التحديث، ويعبّر عن اشكالية التحديث برمتها القاص المبدع زكريا تامر الذي أطلق باقتدار نداء التجديد مشفوعاً بممارسة قصصية شديدة الوثوق من قابلياتها السردية والحكائية ولاسيما تحويل القصة إلى تعبير حي عن الوجود العربي المأزوم، وكان هذا واضحاً منذ مجموعته الأولى «صهيل الجواد الأبيض» (1960)، وترسخ عبر مجموعاته التالية وصولاً إلى كتبه القصصية «نداء نوح» (1994) و«سنضحك» (1998) و«الحصرم» (2000) و«تكسير ركب» (2002).

وإذا كان زكريا تامر ممن عقلنوا السرد في ضبطهم الواعي للزمن وفي إحاطتهم بأشكال متعددة للشرط الإنساني وفي ابتكار صيغ سردية تستجيب لحاجات التجديد على أنها سبيل للتحديث وفي المواءمة بين تقليد وتجديد بحلول فنية تدعو إلى الإعجاب، فإن قصاصين آخرين مهمين كانوا أوراقاً رابحة لمسار التجديد القصصي ولاسيما وليد إخلاصي منذ كتابه القصصي الأول «قصص» (1963) الطاعن في التجريب إلى منتهاه وحيدر حيدرفي كتابه القصصي الأول «حكايا النورس المهاجر» (1968) الذي اشتغل على جموح المخيلة في تجريب بديع لانبثاق السرد من هوس لغوي تصير معه القصة إلى انشاء سردي مفعم بدفق الشعر.

ولعل ميزة التجديد القصصي الذي كان علامة من علامات الفن القصصي في الستينيات هو الولع بالتجريب الشكلي اللغوي على أنه تركيب سردي مفتوح على تجربة تاريخية أعم مختلف عن القص التقليدي أو الإتباعي أو الواقعي، وإن كانت نمت في ظل هذه الوضعية واقعية جديدة أو واقعيات ذات ميل رومانسي أو طبيعي أو تعبيري أو انطباعي أو سوريالي أو نقدي مفسحة المجال واسعاً لتطوير ملحوظ للسرد في رحاب الأسطورة أو الرمز أو الوثيقة أو اللغة أو التاريخ أو الخطاب المباشر أو النفس أو الدراما، وهي ميادين طبعت التجديد القصصي مع مطلع السبعينات خلل تراكم طويل لتجربة القصّ المفتوح، وقد أثمر ذلك كلّه تيارات متداخلة كثيراً في أنماط رؤية العالم وفي تجسيد اللحظة القصصية وفي أشكال السرد وفي تقنيات الخطاب القصصي على وجه العموم.

ويعسر علينا أن نحصي القصص والقصاصين من انتاج القصة الجديدة، ليس بوصفها مخصوصة بجيل أو عمر أو مرحلة تاريخية بل بكونها حساسيات أدبية جديدة تعبر عن روح جديدة في رؤية الأدب وعن أشكال مغايرة أو مختلفة تصل في بعض التجارب إلى تطوير الأجناس الأدبية المعروفة، وهذا ما حدث في فنون النثر القصصي، فقد صار لهذا التجديد ظواهر لا شك في أهميتها خلال ربع القرن الأخير، أذكر منها:

أ- مقاربة التجريب بتحديث السرد متابعة للتحديث الذي بدأه رواد الخمسينيات والستينيات، ويتبدى التجريب واضحاً في كسر اللغة وتغييب السرد المنطقي التقليدي متضمناً كسر الايهام والنزوع إلى إيقاع داخلي لتنامي الفعل القصصي، فتوميء القصة أكثر مما تصرح به، وبرز في هذا الاتجاه قصاصون كثر().

ب- الاتجاه إلى تركيز الحياة اليومية بالتركيز على حدث مؤثر مقتطع من سيرورة السرد ليشبع بايحاء انساني مفعم بالدلالات، ومن أمثلته اللافتة للنظر قصص جميل حتمل في مجموعاته «الطفلة ذات القبعة البيضاء» (1981) و«انفعالات» (1985) و«ابق لهذه الليلة» (1992) و«حين لا بلاد» (1993)، و«قصص المرض قصص الجنون» (1995)، وقصص عماد عبد اللطيف نداف في مجموعاته «قصص حب، الكتابة على الماء «(1992) و«ما الذي حصل يا إلهي» (1994) و«خجل الكستناء» (1998).

جـ- الاتجاه إلى تحويل القصة إلى نص سردي مفتوح على التجربة الانسانية بمقدرة حكائية تمازح السوريالية على أنها سرد المخيلة في قيعان الشعور واللاشعور معاً، أو تمازح الأخيولة (الفانتازيا) على أنهاصوغ سردي آخر لجموح المخيلة دون لوازم السوريالية كلّها، وقصص سمير بلوكباشي في مجموعاته «الموناليزا تبتسم لنصل المقصلة» (1991) و«مذيعة التلفزيون وقصص أخرى» (1994) و«أمل ببضع ساعة» (2004)، وقصص نبيل صالح الذي آثر أن يسميها مجموعة نصوص، وهي «الرب يبدأ نصه الأخير» (1991)، ولعل قصص فاروق مرعشي من النماذج القوية لهذا الاتجاه فهو يسربل سرده بعلاقات غير منطقية مشحونة بالرموز والادهاش كما في مجموعتيه «الخروج من الكابوس» (1979) و«رقصة شجرة الرولة» (1987).

د- الاتجاه إلى انبثاق السرد من الأساطير والرموز أو اشباع السرد بالاساطير والرموز باجتهادات مختلفة إلى حّد التباين بين قاص وآخر،ومن نماذج هذا الاتجاه المتميزة قصص محمد ابراهيم الحاج صالح في مجموعتيه «قمر على بابل» (1993) و«دفقة أخيرة» (1995)، وتتمتع هذه القصص بدهشة أسطرة الحوافز القصصية والقدرة على ضبط الأنساق الحكائية باتجاه أغراض محددة في تحفيز تركيبي واع مدرك لقابليات السرد في استيعاب الوعي المعرفي للشروط الانسانية في وضع تاريخي ما، ومن نماذجه الدالة أيضاً أنيس ابراهيم في مجموعتيه «التفاحة» (1984) و«أرض الديس» (1993)، وفيهما استحضار واسع لمعنى الاسطورة ، بل إنه يحول مدار السرد أحياناً إلى نفس أسطوري مشبع بأمداء الاستعارة والمجاز.

وكذلك تبرز في هذا الاتجاه قصص عبد الحميد يونس، ولا سيما مجموعته «كرات الظلام» (1922) التي تفلح في صوغ جمالية سردية تعتمد على تطويع الوحدات القصصية إلى مبنى رمزي موحٍ.

هـ- الاتجاه إلى استلهام الأسطرة (المثيولوجيا) الشعبية بتعبيراتها الدينية والملحمية والحكائية الفولكلورية، لا مجرد تضمين أو استعارة لعناصر منها، بل ما هو أدخل في تناصٍ يندغم في نسيج السرد كلّه غالباً، ومن نماذجه بعض قصص نيروز مالك في مجموعاته «حرب صغيرة» (1979) و«كتاب الوطن» (1982) و«أحوال البلد» (1983) و«ما رواه الجليل» (1995) و«تلك الحكايات» (1998)، ووهيب سراي الدين في مجموعاته «الحل» (1991)، و«طائر الكريم» (1992) و«العالم في سهرة» (1994) و«نفاذ الرمل» (1998)، ونجم الدين السمان في مجموعتيه «ساعة باب الفرج» (1994) و«نون النسوة» (1995)، وهما ينحوان بالسرد إلى دعابية ساخرة إلى حدّ المرارة، ومن الواضح أن هذا الاتجاه يستأثر بتحديث تقنيات القص، واذكر قاصاً اشتغل كثيراً وآخر قليلاً الأول هو مروان المصري في مجموعاته «تفسير الأحلام في جزيرة نامو» (1979) و«التغريبة اليمانية» (1984)، وفي بعض قصص مجموعتيه «أقاصيص دمشقية» (1986) و«ما حدث لعبد اللّه» (1990)، والثاني هو مالك صقور الذي برع في استحداث الموروث الديني والشعبي بسخرية بارعة وماكرة كما في بعض قصص مجموعته «الحقل» (1991). ولاسيما قصته التي تحمل عنوان المجموعة و«حبة شجاعة» (1998).

و- السرد القصصي ما بعد الحداثي: من خلال تشظية السرد وتشظية اللغة والتداخل النصوصي والأجناسي والتماهي الوثائقي والسيري مع اللعبة السردية، وكسر الإيهام والخطاب الحواري في تعدد الضمائر الساردة وتمازجها مع المشهدية والتداعيات الذاتية على الأنساق السردية. كما هو الحال لدى سمير عامودي في كتبه القصصية «حارة البحر» (1989) و«بقايا النهار» (1996) و«مثل الكذب» (1997) و«قبر العبد» (1999).

وهذا واضح أيضاً في قصص أحمد اسكندر في مجموعاته «الانقلاب الصيفي» (1994) و«نصوص لم تكتمل» (1996) و«الكائن في عزلته» (2003)، وعبد الباقي يوسف في بعض قصصه داخل مجموعاته المتعددة، ومنها: «طقوس الذكرى» (1992) و«كتاب الحب والخطيئة» (2004).

ز- الاتجاه إلى تجريب تقني في بعض أدوات القص دعماً للتجديد القصصي الذي يكاد يطبع الكتابة القصصية في سورية بطوابعه التي عرضنا بعض ظواهرها، ومن القصاصين المجددين نذكر نادر السباعي في مجموعته الأخيرة «الغابة النائمة» (1993) الذي يمازج بين الفانتازيا والأحلام والواقع في تخييل يقظ، ورياض خليل في مجموعته «القرش والأسماك» (1995) الذي يجنح إلى الترميز دون أن يعنى بلوازم المذهب الرمزي المعروف، معولاً على تحديث السرد بتخييل ينطلق من الواقع إلى النفس ليعود في واقع آخر مشوب بدلالات ثقافية واجتماعية لا تخفى، وغسان كامل ونوس في مجموعاته «دوار الصدى» (1997) و«أحمر أبيض» (1998) و«العائذ» (2000) و«خطايا» (2002) و«مفازات» (2003) التي ينهض فيها المبنى القصصي على الاستعارة الشاملة والترميز الأعمق.

ح- القص القصير جداً: انتشر الإقبال على كتابة القص القصير جداً، وسمي عند ممارسيه «القصة القصيرة جداً»، ووضع أحمد جاسم الحسين كتاباً عن هذا الفن القصصي، ونظم مع آخرين مهرجاناً سنوياً منذ عام 2000، وأصدر عدد من القصاصين مجموعات قصصية قصيرة جداً أو ضمنوا مجموعاتهم صفحات كثيرة لهذا الفن، مثل «ذماء» ليوسف حطيني (2001). و«على هامش المزامير» لعدنان كنفاني (2001) و«الحلم المسروق» لمحمد توفيق السهلي (2001) و«جرائم شتوية» لعماد نداف (2000)، و«ومضات» لهيمى المفتي (1997)، و«ربطة لسان» لأسامة الحويج العمر (2002).

ط- القصة النسوية: اندرجت كتابة المرأة القصصية في مداميك الأدب النسوي الذي يناهض المجتمع الأبوي إلى حدّ هجاء السطوة الذكورية عند كثير من القاصات، ويندر أن نجد قاصة خلال العقدين الأخيرين لا تكتب قصة نسوية كما هو الحال مع نادرة بركات الحفار في مجموعتها «أرملة رجل حي» (2004) ووفاء خرما في مجموعتيها «الأجنحة المتكسرة لـ س و ع» (1999) و«البرج» (2000).

تلكم إلماحة سريعة حول القصة الجديدة في سورية، وهي غنية بظواهرها واتجاهاتها الحداثية التي تجعل من القصة تعبيراً فنياً عن اللحظة الحضارية التي نمّر بها، وهو تعبير فني موصول بالتراث العربي والانساني، وهذه مزية من مزاياه الكثيرة.

الفصل الأول

رواد ومؤسسون

1

علي خلقي

تعدّ مجموعة القاص علي خلقي() (1911-1984) القصصية «ربيع وخريف» (1931) أول مجموعة قصص ذات مستوى فني جعلت منه رائد القصة القصيرة في سورية، واستطاع مبكراً أن يعالج قضايا إنسانية متعددة في مناخها الاجتماعي وأبعادها الفكرية ضمن صوغ قصصي متخيل ومبتكر حرص فيه على الواقعية والتحليل النفسي واللغة القصصية.

وطبع مجموعته القصصية عام 1931، وضمت سبع قصص هي: «العم طنوس» و«مونولوج منثور» و«فتاة الحانة» و«على طريق زحلة» و«أورانغ ـ أوتانغ» و«عازف الكمان» و«مذكرات ممثل بائس»، وأثقلته طباعة المجموعة بتكاليف مادية، وانقطع عن النشر، وأعد مجموعة ثانية للطبع أواخر الثلاثينيات، وضمت المجموعة سبع قصص أخرى، وهي التي أضيفت بتقدير الباحثين والقاص نفسه إلى الطبعة المعدلة عام 1980. وقد استهلكه التدريس والإدمان على الخمر فترة طويلة بالإضافة إلى ضغوط العيش مع أسرته، فلم يطعمه القلم كسرة خبز، وصرفته الحياة إلى العمل والتعليم، فكان خلال عقود من السنين معلماً ماهراً ثم مدير مدرسة ناجحاً ذا وجدان، وحرق في الخمسينيات عدداً من قصصه والمسرحيات التي كتبها لينقذ نفسه من تهمة الشيوعية التي سببت له كارثة، فتوهم أنه ملاحق، وعاش الذعر يومياً. وأحيل إلى التقاعد في أواخر الستينيات، وقام بعدة رحلات إلى باريس وألمانيا حيث ابناه يدرسان، وبدأت حياته تأخذ طابعاً هادئاً بفضل ابنته التي سهرت على رعايته حتى رحيله عام 1984.

نُظر إلى علي خلقي رائداً للقصة القصيرة في سورية باتفاق الباحثين والنقاد الذين كتبوا كثيراً حول إبداعه()، فقد حوت «قصصه تصويراً رائعاً لحياة عصره، بعضها يروي ما قاسى في حياته الخاصة من مآس، وبعضها يقصّ علينا مشكلات الناس الذين تصيبهم الغيرة والشك والحبّ، وبعضها يعرض علينا النزاع بين الحياة الاجتماعية الجديدة التي تنفتح على الحرية وبين بقايا الطبقة السائدة من المنافقين الذين يدعون الزهد والعفاف والانصراف عن ملذات الحياة، ولكنهم يغرقون فيها حتى آذانهم، وهي قصص تضمّ إلى واقعيتها الصميمة إبداعية واضحة» بتعبير عبد المعين الملوحي في تقديمه للطبعة الثانية المعدلة.

وتصور قصصه على سبيل المثال حالات نماذج إنسانية تعاني من وطأة التغيرات الاجتماعية وخلخلة القيم، ففي قصة «العم طنوس»، صار الرجل إلى مجنون إثر خيانة زوجته مع أخيه، فغرق في الخمرة عندما انتحرت زوجته، فبقي طنوس سمير الجعة وسمير الشيطان.

وتتحدث قصة «فتاة الحانات» عن امرأة تدعى شمس التي تعلق بها صديق الراوي، وتزوجها، وأحضرت فجأة ابنة عمه رزمة من الرسائل تنال شرفه وشرف أبيه إلى الأبد مثل عداء عمه لوالده، ورضخ لأمر زواجه بابنة عمه، وما كادت سيارة العروسين تسرع بهما خارج الكنيسة حتى زعقت مكابحها، وتجمع الناس، إذ كانت جثة شمس تحت العجلات!

وتناول في قصة «مونولوج منثور» التي تشبه نجوى درامية تفاصيل الحياة على وجدان ممثل. وحفلت بعض القصص بالنقد الاجتماعي القاسي، وفي قصة «الشيخ الورع» يلحق هذا الشيخ بخادم إلى غرفتها، ويواجه بالفضيحة المدبرة، حين التم حشد الرجال المدعوين إلى وليمته، فدخلوا يصيحون برجل الدين والتقى، بينما كان الشيخ يخبط بيديه كالمجنون، ويلملم بعض ثيابه، ويهرب من الباب بين أشجار البستان.

وتشير قصص علي خلقي إلى رومانسيته من جهة وآثار المشجاة (الميلودراما) لديه من جهة أخرى، كما في ظهور حالات الموت والدم والانتحار في بعض قصصه مثل انتحار زوجة العم طنوس وانتحار فتاة البار شمس. وظهر تأثر قصصه بالعلاقات بين الفنون مبكراً مثل «المسرحة» و«التوليف» السينمائي بالنظر إلى ملازمته لأخيه الممثل أكرم طويلاً وإلى إقباله على مشاهدة الأشرطة على ندرتها حينذاك، وتبدو هذه الآثار جلية في قصتيه «منولوج منثور أو محاضرات الممثل ف عن العصر» و«الموسيقي البائس: عازف الكمان».

وحرص خلقي في كتابته القصصية على عنصرين، عنصر الواقعية المأخوذة من نطاق تجاربه وخبراته في حياته القلقة والعاصفة، وعنصر التخييل الذي يمضي إلى الانتقاد والسخرية والمفارقة، وهي تقانات فنية بادية في قصصه «الكأس» و«المرحومة» و«الضيف الثقيل».

وقد انتقل خلقي في قصصه التي منحته قيمة الريادة من أشكال المقال القصصي والصورة القصصية أو القلمية مما هو شائع آنذاك على أقلام الكتّاب إلى فنية القصّة التي تستند إلى براعة الوصف ودقة تحليل دواخل الشخصيات كما في قصة «الموسيقي البائس: عازف الكمان» التي تعبّر عن حالات تجسيد الشخصية ومعاناتها في مجتمعها من ضغوط البيئة والنفس، وقد ختمها بالعبارات التالية تشخيصاً للدواخل العميقة وتنازعاتها مع ما واجهه هذا الموسيقي تشخيصاً من عذاب:

«جن جنوني واستطار عقلي لهذه الصدمة، راجعت دائرة الشرطة فأبلغت الأمر للمخافر في العاصمة والقرى والمدن المجاورة دون جدوى اختفت ابنتي وزوجتي الفاجرة، ومنذ ذلك اليوم لم أعثر لهما على أثر. لقد فقدتهما إلى الأبد وبفقدهما دفنت هنائي وسعادتي. إني أرى دائماً زوجتي الطاهرة البريئة ماثلة أمامي في السماء في إطار من الغيوم محلولة الشعر منتحبة مولولة تناديني يا خائن ماذا فعلت بابنتي يا ظالم... امتزجت دموعي بدموع محدثي، ولم أجد أمامي لتخفيف آلامه إلا الصمت فقام ورجلاه لا تقويان على حمله يتوكأ على عصاه ينشد السلوى في كأس من الخمر في زوايا الحانات، وسمعته يقول ما أعظم عدلك يا إلهي» (ص132).

وقد حرص خلقي على القيم الأخلاقية والاجتماعية في قصصه مناهضة للرياء والفساد والابتذال بلبوس صريح حيناً وبإيماء إلى رسوخ القيم الإنسانية حيناً آخر حين ينتشر الصراع الطبقي إلى منتهاه، وأظهر من أجل ذلك دعوته المباشرة إلى الالتزام بالأفكار والعقائد والعواطف الهادفة والقيمة المتوخاة، ويتلفع ذلك كلّه بالنصح والحكمة، كخاتمة قصة «الغيرة والشك» على لسان سامي أفندي إزاء موقفه من زوجته المتهمة:

«- أين أجدها؟ لقد تمنى لو عرف أين ذهبت ليسرع إليها... ,تذكر أنه صفعها على وجهها وانهال عليها بأشد أنواع الشتائم. وبعينيه المخضلتين بالدموع، شاهد طفله يصرخ بين يديها، فشعر بالأسى يطغي على نفسه، ويهصر روحه، فهام على وجهه في ذلك الليل، وما دري كيف وصل المنزل، ولا كيف فتح بوابته الحديدية، ولكنه رأى ويا لهول ما رأى، رأى زوجه المسكينة على درجة أسفل السلم، وقد حضنت طفلها تنتظر عودته، فهلع قلبه وجثا بين قدميها، وراح يضمها، ويبلل وجهها وصدرها بدموعه، وشعر حينئذ أنه غسل بهذه الدموع أدران ماضيه وأنه استفاق من حلم كريه مزعج» (ص123).

وثمة عناية لا تخفى بلغة القصة التي تسعف عنصر التخييل بفيض التحليل النفسي المفعم بالدلالات كقول صاحب الكأس في قصة «الكأس»:

«- نعم أنها ذكرى قاتلة، ويا لها من قاتلة فلندعها إلى حين... انظر يا أخي إلى هذه الكأس أنها سمير روحي، ونديم خيالي، وهي هادمة اللذات، ومفرقة الجماعات... هذه الكأس مخففة آلامي، ومبعث فنائي، سبب سقمي وعلة آلامي..

الكأس، الكأس، أنها صديقي الودود، وخصمي اللدود... أجرعها لأنسى، وإذا حرمت أن أجرعها عاودتني الذكرى، ولاحقتني الدماء... الجثة المحبوبة، وعلى ثغرها بسمة الأطفال البريئة.. الدماء دائماً الدماء.. ثم راح يهذي بكلمات مبهمة، فتركته وانصرفت تنازعني عوامل متباينة صعب عليّ تحليلها» (ص115).

وحمل إهداؤه نفحات صادقة عن رياديته وتوظيفه للقصة في أبعادها الوطنية والإنسانية على أنه يكتب ببساطة، وأنه صنع أسلوبه القصصي بنفسه، وبذر بذور القصة في تراب بلده الطيب، وجاء كتّاب بعده، وتعهدوا تلك البذور، ونفخوا فيها روح الحياة.

2

فؤاد الشايب

فؤاد الشايب() (1911-1970) من أصحاب الريادة الأولى في الإبداع القصصي، على أن القصة القصيرة صور حياة «ووليدة ظروف زمنية وأحوال نفسية» بتعبيره، وقد تمثلت تقاليد القصة بمفهومها الإتباعي (الكلاسيكي) في صوغها الفني المتميز في زمنها، واستطاعت أن تحمل رؤى إيجابية عن مشكلات إنسانية واجتماعية وحضارية لدى استهدافه «إرضاء نفسه» من جهة، والارتقاء بفنّ القصة إلى مستوى أدبي رفيع وعميق من جهة أخرى.

أصدر الشايب مجموعته القصصية الوحيدة «تاريخ جرح» عام 1994، ثم وجدت خمس عشرة قصة أخرى في مسودات الشايب وفي الدوريات، وجمعت في المجلد الأول من المؤلفات الكاملة(). وبدأ حياته الأدبية في وقت مبكر من العمر، وظهر المقال الأول له عام 1930، وهو في العشرين من عمره(). وحوى المجلد الثاني من مؤلفاته الكاملة أبحاثاً ومقالات جاوزت الستمائة صفحة من القطع الكبير. وتناولت هذه الأبحاث والمقالات الأجناس الأدبية وعدداً من قضاياها مثل فهمه للقصة والأدب والقومية والشعر الحديث والفن الروائي وأدب القصة في سورية والأدب والحرية.. الخ.

وكتب الشايب عشرات الأبحاث والمقالات السياسية والاجتماعية أيضاً، مثلما وضع مشروعي كتابين، الأول بعنوان «ذكرى لورنس: فصول من سيرة رجل في تاريخ أمة» (1945)، والثاني يعالج ظاهرة الحرب، ويحمل عنوان «لمن تقرع الطبول» (1950)، وقدم الشايب في هذه الكتابات «نظرات وتحليلات معافاة، ولكنه يقف ضد شوارد الفكر، ولا يدخل عمقاً في تحليل الظواهر، وإن كان يطمح إلى ذلك باستمرار، وإن كانت بعض محاولاته قد أصابت نجاحاً متفاوتاً في عملية الاستقصاء والتعمق» حسب رأي حسام الخطيب().

تكتسب مجموعة قصص فؤاد الشايب الوحيدة «تاريخ جرح» التي أعاد اتحاد الكتاب العرب طباعتها عام 1978 أهمية خاصة لسببين أولهما مكانة هذه المجموعة في تاريخ القصة السورية، وثانيهما كونها تقدم برهاناً ساطعاً على نضوج الممارسة القصصية المبكرة لدى صاحبها. وقد صدرت هذه المجموعة في المرة الأولى عام 1944، ولم يسبقها آنذاك إلا أعمال قليلة أصبحت آثاراً على الماضي أكثر منها دليلاً للمستقبل مثل مجموعات علي خلقي ومحمد النجار، ثم تأتي إعادة طباعة هذه المجموعة تأكيداً لمعنى الريادة في فن القصة السورية.

إن ما تتميز به قصص فؤاد الشايب لهو كبير، فريادته لفنّ القصة لا تدخل في باب أوليات الكتابة القصصية فحسب، بل تتعدى هذه القيمة التاريخية إلى توغله الفني في التأسيس لجنس أدبي كان وما يزال حتى وقت قريب مما يختلط في أجناس أدبية أخرى من جهة، ومما يصعب على الانخراط في تقاليد أدبية محكومة بعوامل السلفية الثقافية أكثر من الانضواء تحت لواء قيم التطور والتجديد من جهة أخرى.

بدأ الشايب الكتابة مثقفاً كبيراً مدركاً لطبيعة فن القصة القصيرة مؤمناً أنه يرضي نفسه أولاً، وكأنه في جهد دائب لاكتشافها، وهو في هذا كلّه لا يجترح فناً، ولا يغاوي هدفاً، فالأدب في رأيه لا يحتاج إلى قيود خارجة عنه، بل يؤدي وظيفته من تلقاء نفسه، لأن رسالة الأدب فيه، ولعل في مثل هذه الالتفاتة إلى غاية الكتابة مما يعطي الشايب رسوخاً في الفن لم يبلغ شأوه إلا القلة القليلة ممن اندفعوا فيه وكتبوا كثيراً.

يقول الشايب:

«على أنني قد وضعت هذه القصص لأرضي نفسي، وما أشق سخرة إرضاء النفس ذات الأهواء، فلي أن أسأل هل أرضيتها؟ سؤال خطر لي وأنا أنسخها عن مخطوطاتها. وسرعان ما أتى الجواب: لا!. إني لأذكر حين كنت أفرغ من إحداها أني ضمنتها من نفسي كل ما أحب وما أبغض. فكم هي اليوم في نظري، أصغر وأضيق من أن تتضمن شيئاً! كأني الطفل يقضي ليلته مع الدمى حتى إذا أصبح ملهاً واجتواها» (ص15 ـ تاريخ جرح).

إن مأثرة الشايب الأساسية في ممارسته لفن القصة حيث أنجب في النهاية قصصاً تدوم وتبقى على صياغتها الدقيقة المرهونة لحدث أو فكرة مثل «الشرق شرق» و «أحلام يولاند» و«العانس» بصورة خاصة، فهي قصص قامت لتبرهن على صواب فكرة أو عموم تجربة. أما ما حوته هذه القصص من حياة فهي محكومة بعوامل قسر الوجوب على سريان الحياة ذاتها لصالح فكرة عن صدام الحضارات مثلاً كما في «الشرق شرق» أو حصر تجربة «المرأة فقط» على حد تعبيره في ممارسة أحادية كما في قصة «العانس».

استشهد فؤاد الشايب في مقدمة مجموعته القصصية بحديث للروائي فرانسيس كاركو حول الهدف من كتابته، وذكر فيما ذكر: «ويخيل إليّ أنني سأظل دائماً أفتش حتى أظفر بالإطار الأخير أو يظفر بي إطاري الأخير؟» (ص15).

ويعلق الشايب قائلاً: «أليس في التفتيش عن الإطار المفقود كل تلخيص القانون الأدبي الخالد؟. فأي عبث! وكم معجزة في هذا العبث!» (ص16).

أدرك الشايب عميقاً أن شهوة الكتابة مثل شهوة الحياة تلوح في الساعات القليلة التي ينجز فيها الكاتب عملاً فنياً يكشف عن النفس فتصبح القصة بعيدة الغور في الحياة مثلما هي بعيدة الغور في الفن. إنها ثمرة تذوق الحياة وقد استوت وحان قطافها، وقد أشار الشايب في مقدمته إلى أهمية التلازم بين الفن والحياة فكابر طويلاً على فن قصير النفس لا يستوعب الحياة كالقصة القصيرة في سبيل فن آخر هو فن الرواية حتى أنه أورد أن أكره ما يكرهه «في هذه الحرفة، حرفة الأدب، أن أعود إلى ما كتبت مرة ثانية عودة تذكرني بحمل يجتر أو بطفل يأكل من قيئه» (ص13)، وربما لهذا السبب نفسه كانت «تاريخ جرح» المجموعة الأولى والأخيرة في حياة الشايب خلا بعض القصص التي ظلت طي درجه حتى نشرت في مؤلفاته الكاملة تقديراً من وزارة الثقافة.

صحيح أنه ترك مجموعة متفرقة من القصص وجزءاً من رواية، غير أن من المؤكد أن فؤاد الشايب من هؤلاء القلة القليلة التي تأنف من صناعة أدب سريع زائل لا يقوى على الزمن، ومن المؤكد أيضاً أنه من هؤلاء القلة القليلة التي يسكنها هاجس الإبداع مغترباً بعد أن أفنى زهرة عمره وعصر حياته منهمكاً في الصحافة والإعلام والثقافة.

تشكل قصص «تاريخ جرح» ظاهرة في تاريخ القصة السورية مثلما كان الشايب نفسه علامة على ثقافتنا وهي تبني نفسها وسط صراع القديم والجديد من جهة، ووسط صراع الثقافة الوطنية مع العوامل الدخيلة من جهة أخرى، وما إعادة طباعة مجموعته من قبل اتحاد الكتّاب العرب هذه إلا احتفال بأصول فنّ قصصي نما سريعاً على يد فنان ومثقف ومعلم هو فؤاد الشايب وأكملت هذه الاحتفالية بطباعة وزارة الثقافة لأعماله كاملة.

لقد قيل الكثير حول مميزات الفن القصصي عند الشايب وكتبت مقالات ودراسات حول ما تثيره بعض قصصه فكرياً وفنياً دلالة على حيوية قصته()، إلا أنه ما يزال هناك الكثير مما يقال عن قصص الشايب بخاصة وتطور القصة السورية بعامة، ونربط هنا بين قصة الشايب وتاريخ القصة السورية، لأن الشايب يمثل مرحلة الريادة الحقيقية في هذا الفن، فن القصة القصيرة، ولعل في إعادة طباعة هذه المجموعة ما يشحذ همم أبناء جيله ومن تتلمذوا على يديه وممن رعاهم، وعاشوا في كنفه الأدبي أو الثقافي أن تكون فرصة لكي يكتبوا عن الشايب وأدبه وجيله والتطورات التي عاشها وهي ذات صلة وثيقة بالتطور الأدبي في سورية في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين خصوصاً وفي ظل مثل هذه الكتابات يمكن «تقويم فؤاد الشايب وأدبه تقويماً جاداً ومفصلاً» كما يدعو إلى ذلك الأستاذ عادل أبو شنب في تقديمه للمجموعة (ص10).

تضم «تاريخ جرح» إحدى عشرة قصة كتبت بين أعوام 1930 و1940 باستثناء «العانس» و«ربيع يتضور» و«المعركة» في أعوام الأربعينيات الثلاثة الأولى. ويؤكد فؤاد الشايب، أنها «وليدة ظروف زمنية وأحوال نفسيه لا تجمعها جامعة، ولا تربطها قرابة» (ص13) مما لا يصح أن تكون بين دفتي كتاب، إلا أن شأن القصة الخاص في أدبنا الناشئ هو ما دعاه لطباعتها، وهذا يعني وعي الشايب الكبير للريادة، ولقد كان رائداً حقاً.

3

محمد الحاج حسين

عُرف محمد الحاج حسين (1914-1989)() بريادته لأدب القصة والرواية إلى جانب أمثاله الرواد مثل شكيب الجابري وعلي خلقي وفؤاد الشايب، ولا سيما تعمقه في التواصل الثقافي مع الأدب العالمي، إذ عني بتلازم الرومانسية مع تعبيراتها الإنسانية المتفائلة في النظر إلى معاناة البشر الاجتماعية إزاء الإحساس المأساوي بالآلام الناجمة عن الفقر والوهن والمرض والاستغلال.

أصدر محمد حاج حسين كتابه الأول «عبقرية الأدب العربي ـ الجزء الأول» عام 1944،() وأوضح في مقدمته أنه بدأ معالجة الأدب، وهو في السابعة عشرة من عمره عندما كان طالباً في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول بالقاهرة، وانصرف بكليته إلى نشر قصصه ومسرحياته في الدوريات العربية. وصرح عن كتابته لعدة روايات لم يطبع منها شيئاً، وأكد أنها «تعالج مشكلاتنا الاجتماعية ومعضلاتنا النفسية» (ص6).

وجمع في هذا الكتاب بعض مقالاته وأبحاثه عن محمود سامي البارودي وإسماعيل صبري وحافظ إبراهيم والملاحم والشعر العربي والغزل والرثاء والمصنوع والمطبوع والهجاء في الأدب العربي وشاعرية الحطيئة وابن خفاجة الأندلسي، والأدب العربي في ميدان التوجيه.. الخ. ونشر مسرحيتين قصيرتين من تأليفه هما «ميلاد أبي العلاء» و«صاحبه عمر»، وأظهر وعياً بالكتابة لديه، إذ ألحق مسرحيته الثانية بتعقيب عن مصادرها وصياغتها الفنية واستهدافاتها القيمية.

ونشر كتابه الطريف «عباقرة الفكر في حياتهم العاطفية» عام 1956. وفيه فصول شائقات تصور أدق الخلجات الوجدانية عند كارل ماركس ونيتشه ولامرتين وتولستوي ومارك توين وديستويفسكي وبلزاك ولرمنتوف وغوته وشكسبير ومكسيم غوركي وجان جاك روسو وبوشكين وفيكتور هيغو وتوماس كارليل وغيرهم. وألمح في تصديره للكتاب أنه موضوع شديد الصلة «بينبوع الإلهام الذي كان يتفجر منهم، فأرى الحبّ يفيض بين أجنحتهم اللهيفة، هذه النيران المتضرمة التي تشعل قبة الوحي في إنتاجهم الفني الغزير، فأهرع لأسجل قصة هذا الحبّ الكابي تارة الباسم أخرى بأسلوب قصصي» (ص5).

وكان كتاب «الكميت حياته وشعره» (1972) الأخير في منشوراته على الرغم من إعلانه المتكرر في كتبه جميعها أنه سينشر مؤلفات كثيرة من إبداعه الروائي والمسرحي. وهذا الكتاب بحث علمي عن شاعر لم تلق سيرته وشعره عناية الباحثين والنقاد اللائقة.

وقد نشر محمد حاج حسين مجموعته القصصية الأولى «جنازة قلب» (1950)، وراعى في كتابتها مستلزمات الاتجاه التقليدي في إتباعه عناصر القصة التقليدية لدى تناول مشكلات جماعة مغمورة تحت وطأة مصاعب الحياة من خلال التلازم بين الوصف الخارجي والداخلي حتى تفاقمت هذه المصاعب، وأصاب عائدة مس من الجنون، و«مضى العام أثر العام، وتقادم العهد، ففقدت كلّ شيء، وكأني بذلك الرمس الذي تخيلته في اللانهاية أشيّع إليه جنازة قلبي، ما يزال فاغراً فاه ظامئاً حران» (ص36-37). وسرعان ما دفعت عائدة الثمن باهظاً إثر دخولها المستشفى، وأشهر الراوي تعاطفه العميق مع عائدة:

«وفي صبيحة يوم من أيام الخريف القلقة، وفي موكب مؤلف من شبحين اثنين، سار حفّار القبور يحمل على كاهله الضعيف جنازة قلب بريء بإثمه وأثيم ببراءته. أجل لقد فقدت عائدة كلّ شيء. وفقدت أنا كلّ شيء» (ص37).

اهتم محمد حاج حسين في قصصه بأغراض القصة إشاعة لقيم التعاطف مع شخوص جماعته المغمورة الذين أرهقتهم الحياة. وصور محمد حاج حسين في روايته «الجوع لا يرحم» (1953) التنشئة العصيبة لشخوصه في بيئة فقيرة تجاهد أسرة الراوي في سبيل تأمين لقمة العيش، وتقترب الرواية من المتن الحكائي الذي يسرد وقائع سيرية فنيّة ليافع في مقتبل العمر اضطر إلى العمل المبكر وهو يعاني من رحيل أمه وقسوة الجوع، ولا يريحه سوى الاستغراق في الأحلام حتى أتيح له العمل مع أسرة ثرية ساعدته على التكون الذاتي السليم مما يدفع عائدة ابنة الأسرة إلى مصارحته برغبتها في الزواج منه، وأعتقد أنها اختارت سواه، لأنه عامل لدى أسرتها، ثم فاجأته باختيارها:

«وحدقت بي، وطافت في عينيها الساجيتين أنوار بهية، وشعّ فيهما ألق رقراق.. وتمتمت كالحالمة: إنك أنت يا مصطفى الذي اخترته زوجاً لي.. وكدت أترنح وأهوي من فرط السعادة التي انتابتني» (ص135).

خصص روايته «ملكة الجمال» (1954) لمعاينة التعلق بالمرأة من جهة والتأسي للضغوط الاجتماعية التي أدت إلى انتحار المرأة التي أحبّها، فقد توجعت لميا من عهر أمها التي «تبيع جسدها لطالبي اللذة»، و«فدحتها النقمة على هذه الأم التي وضعتها في الوجود ثم لم تلبث طويلاً حتى غفرت لها خطيئتها.. من يدري كيف كانت ظروفها القاسية، وتعاورها الشجن العنيف، عندما استرسلت مع خيالها، واتضح أنها ستسير بنفس الطريق التي اخترقته أمها.. فالذئاب البشرية لن ترحم جمالها وشبابها، بل ستلغ في دمائها» (ص149).

وخالجها السؤال الملحاح: «أما خير لها وأبقى أن تقضي على حياتها، وتصعد إلى السماء تشكو لخالقها ظلم الإنسان» (ص149). ومضت إلى البحر، وانتحرت، فاندفع سمير إلى الجنون، على أن ملكة الحسن لا تموت، و«في مستشفى المجاذيب يقضي سمير كامل أيامه يغني ويرقص وينادي: لميا.. لولو» (ص154).

ومال محمد حاج حسين في روايته «اعترافات الشيطان الأزرق» (1954) إلى التعليمية، ومهّد لها بتوجيهه للمنظومة القيمية الأخلاقية التي بنيت عليها الرواية، وحلل تركيبه الروائي على أن الرواية تستند إلى ذكريات عاشها صديقه خالد وقصّها على المؤلف ذات يوم فسجلها بدقة. وأوضح أن خالداً يلقب بالشيطان الأزرق إزاء ولعه القاهر بالنساء، «لأنه كان دائماً يردد: إن ألم القلب الذي يخلفه حب امرأة: لا يزول إلا بألم من حبّ امرأة أخرى» (ص3).

وعرّف بموضوع روايته وطبيعة صوغه الروائي احتضاناً للحبّ: «فالحب هو الدفء والحنان والحياة.. وبدونه تتوقف أنفاسي، ,تموت نبضات الحياة في جسدي، فالحبّ يحرقني في لهبه المقدس، ثم يصفيّني ويسمو، حتى أُستحيل إلى روح شفافة تهيم في الوجود» (ص3).

وجعل الرواية منطوقة بضمير المتكلم، أي أن المدعو خالداً هو الذي يروي وقائع حياته ومجرياته، ولا سيما انغماسه في رغباته غير المحدودة بالمرأة وامتداد ذلك إلى فهمه للقيم والأخلاق، فإذا ذكّروه بالإخلاص لزوجه الطيبة ذات الخصائص الممتازة، أجابهم: «كلما ازددت خيانة لزوجي كلما ازددت لها حباً» (ص4).

وحفلت الرواية بهذه الوقائع و المجريات حتى بلوغه سن الأربعين واعداً بالتغيير، وجعل الجزء الثالث عشر والأخير من الرواية بلسان الروائي عارضاً عليه تدوينه لاعترافاته، على أنه أحسن التعبير عنها، ولو سجلها بنفسه لما جاءت أروع مما فعل، فقد رافقه ذات مرة ليلاً إلى بحمدون، وأسرع يبغي الفندق ليرتاح من جنون انهماكه في عشق المرأة، أي امرأة، فتشبث به قائلاً: «إذا أردت أن تتذوق الحياة، فيجب أن تعشق». وختم الروائي الاعترافات تاركاً إياه لمصيره المرفوض من قبله:

«وضحكت.. وأجبت لا تخلص منه: سأفعل.. سأفعل.. ثم حدق بي طويلاً.. وصرخ: سأنساها يوماً.. وستكون مجرد شبح يطوف في حياتي.. لا يحمل أي ذكرى، سيغيض جمالها، وسينطفئ سحرها.. أما أنا.. فسأقهر ألمي.. وسأتطلع إلى أفق جديد.. وسأنفض عني هذا الحبّ القاسي.. إنها لا ترحم، فهي، بعد أن اطمأنت إلى حبي العظيم لها.. عافتني ولفظتني.. سأبدأ حياة جديدة.. بعد الأربعين.

وصرخت: ليوفقك اللّه أو ليفعل بك ما يشاء..» (ص144).

وتابع أسلوبيته في كتابة القصة القصيرة في مجموعته الثانية «ثلاث شفاه» (1955) محللاً نفوس شخوصه وهي تنغمر في تجارب حياتها من خلال صوغ قصصي إتباعي يعنى بتقاليد القص من المقدمة إلى العرض إلى الوصف الخارجي لفضاء القصة بوصفها أمثولة في النهاية يتعلم منها المتلقي والقارئ بعض دروس الحياة من خلال التعاطف الإنساني الذي يرتقي بالفعل إلى مرتبة الإحساس المأساوي بالحياة كقول المرأة في ختام القصة التي تحمل اسم المجموعة شاكية من ظلم الرجل لها:

«وقبل أن أسدل الستار الأسود على مأساتي، سأرفعه بيدي، لأقول لك.. أن تبتعد عن طريقي.. فالحلم الذي عاش في ذهني قد انطفأ.. وأرجو أن تبحث عن غيري، لتكون قرباناً لفنك» (ص17).

ولجأ محمد حاج حسين إلى أسلوب الرسائل في كتابة القصة القصيرة مثلما فعل في كتابة قصة «الرجال عيونهم فارغة» التي تخاطب فيها «هيام» صديقتها العزيزة «سحاباً» عن مدى إخلاص الرجل للمرأة التي يحبها، فقد أصرت الأخيرة على رأيها الذي يزعم أن الرجل إذا خفق قلبه بالحب لفتاته المرموقة، ظل مخلصاً وفياً لها حتى آخر نفس يضطرب في صدره، وضحكت الأولى من عنادها، فثارت بها، واتهمتها بالتشاؤم وقالت لها: «متى أتاحت لك الأيام خطيباً كخطيبي، ستذوقين لذة التفاني في الحب، وتعرفين معنى الإخلاص عند الرجال» (ص75).

ثم مرّت شهور على مناقشتهما العاصفة، وقدمت هيام لسحاب تقريراً خطيراً قد يؤذيها في الصميم، عندما عملت على تحقيق فكرتها، واتخذت خطيب سحاب المصون حقلاً لتجاربها التي تؤيد فيها رأيها، فقد طلب منها الخلاص من سحاب ليخطبها، وتمنت حينها هيام أن تكون صديقتها بجانبها لترى إخلاص رجلها ولتؤمن معها «بأن الرجال عيونهم فارغة» (ص79)، على أن هيام لم تفعل ذلك إلا للبرهان عن رأيها، فنبذت هذا الخطيب، ورجتها ألا تحقد عليها وتتهمها بالدس والبهتان وعدم الإخلاص لها، «وكلي أمل ألا تصرمي خطيبك، لأن كلّ الرجال على شاكلته» (ص82)().

محمد الحاج حسين رائد من رواد كتابة القصة والرواية في سورية التي تلتزم بتقاليد القصة ونزوعها التعليمي والأخلاقي على وجه الخصوص.

4

سعيد حورانية

برز سعيد حورانية (1929-1994)() قاصاً واقعياً بجدارة في مجموعاته الثلاث التي وضعها في خمسينيات القرن العشرين وستيناته، وارتقى بفنّ القصة إلى مستوى عال في احتضان فكرة القصة وتعبيرها الفني المتميز عن تجارب بشرية في خضم الحياة وضغوطها، وحققت قصصه لدى معالجة موضوعاتها قيماً اجتماعية ووطنية وإنسانية بقلم فنان ماهر في الصوغ القصصي الناهض بالرؤى العميقة.

وشارك في تأليف مجموعة قصص «درب إلى القمة» التي حوت قصصاً لأعضاء من «رابطة الكتاب السوريين» وأضاف قصصاً إلى كتابه في أدب الرحلات «سلاماً يا فارصوفيا»، وأصدر بالإضافة إلى مجموعاته القصصية الثلاث مسرحيتين هما «صياح الديكة» (دمشق 1957)، و«المهجع رقم 6» (دمشق 1963)، ومجموعة مقالات وقصص، كما أشرنا بعنوان «سلاماً يا فارصوفيا» (دمشق 1957)، ومسرحية مترجمة للأطفال بعنوان «القطة التي تنزهت على هواها» (دمشق 1983).

صوّر سعيد حورانية في كتابته القصصية عن وعي المبدع بإبداعه على أن القصة رؤيا شعرية مكثفة للناس والأشياء ضمن حركية المجتمع نحو مجاوزة شروط التاريخ الباهظة على الوجود الإنساني لتصبح الحياة ذات قيمة أكثر جمالياً ومعرفياً. ولطالما قاربت قصصه أمداء الرؤى الشعرية في إدغام المشكلات الاجتماعية والوطنية بإحساس إنساني راق على أنها قضايا مؤرقة في سبيلها إلى تحقيق معاني الخلاص في التجربة البشرية الأشمل، وعضد رؤاه الشعرية بالتناص والاستعارية اندغاماً في شمولية الرؤيا وسعياً لتشرب المنظور القصصي والأسلوبية مسؤولية الكاتب والتزامه بالمنظومة القيمية المنشودة.

اهتم سعيد حورانية بالمبنى القصصي وغنى إيحاءاته على أنه يضيء جوهر التجربة البشرية من خلال ضبط المنظور السردي، وتبدى ذلك في إهداءاته وإشاراته القليلة وعتباته السردية المتعددة، فقد أهدى مجموعته الثانية «شتاء قاس آخر» لحنا مينة،() وخاطبه قائلاً:

«يا من فهمت ماهية الضعف البشري والقوة الإنسانية.. إليك يا صديقي.. أقدم هذه القصص» (ص5). وأشار في مقدمته لمجموعته مخاطباً القارئ أن هذه القصص جزء من عمره ومن عمر وطنه سورية، وقد منعت الظروف البائسة التي عاشها الوطن«سنوات عجافاً مظلمة» من ظهورها في وقتها، ونبذ المقدمات، وعدّها نافلة، لأنها «لعبة ساذجة من الكاتب لخداع القارئ» برأيه، «أما وجه الكاتب الحق بدون قناعه السابع فهو في إنتاجه» (ص6).

وأهدى مجموعته الثالثة «سنتان وتحترق الغابة» إلى «السنديانة الصامدة التي ترمز إلى روح شعبنا، هذا الشعب الذي تألم أكثر من كلّ شعب، إليك يا أبي.. أيها الثائر القديم» (ص5). وواضح من هذه الإهداءات أنها تندغم في مدلولات قصصه ومبناها الاستعاري.

يتبدى التناص في عنوان مجموعته الأولى «وفي الناس المسرة» وتتعالق عنوانات مجموعاته مع محتوى موضوعاتها ودلالاتها القصصية، واستخدم العبارات المفتاحية إلى جانب عنوانات قصصية تثميراً لأبعادها في إثراء العتبات السردية، كتصديره لقصة «.. وأنقذنا هيبة الحكومة» (من مجموعته شتاء قاس آخر) بعبارة توكيد يدس من الكتاب الخامس:

«قد تكون مصلحتكم في أن تكونوا أسيادنا.. ولكن كيف يمكن أن تكون مصلحتنا في أن نكون عبيدكم؟» (ص7).

وترصد القصة نضال الشعب في سورية ضد ذيول الاستعمار الفرنسي ممن عرقلوا سيرورة السلطة الوطنية حين واجه ضابط راعياً بدوياً بعد أن أطلق عليه ورفاقه الرصاص وهم في طريقهم لتسليم موارد الميزانية لبعض المراكز في الشمال، فلاحقه ليعطيه درساً في احترام ممثلي السلطة. ويبتعد سعيد حورانية في بناء قصصه عن المباشرة والوعظ، فالقصة على سبيل المثال حوار يتمازج مع الوصف لمتابعة الحدث لاستكمال مكونات التحفيز الواقعي، وألمح لدى ربط الحدث بأغراضه بذكر حالات التعدي على هيبة الحكومة كقوله:

«وكالعادة حميت الحديدة، عندما علم أن الشخص الذي تجرأ، وتعدى على هيبة الحكومة هو من جبور الفاضل التي كان يكرهها لسبب غير معروف. وكانت نظراته للرئيس فيها عتاب شديد على هذه الإنسانية التي جعلت أصابع الرئيس لا تشد على الزناد في ال