-١-

-٢-

-٣-

حممد صاحل اهلرماسي. د

منشورات اهليئة العامة السورية للكتاب

م٢٠١٤ دمشق –وزارة الثقافة

-٤-

-.محمد صالح الهرماسي / رى الواقع العربي والتحديات الكب . سم٢٤ ص؛ ٩٦ -.م ٢٠١٤الهيئة العامة السورية للكتاب، : دمشق

)١٠دراسات فكرية؛ ( الهرماسي-٣ العنوان -٢ هـ ر م و ٣٢٠,٩٥٦ -١ السلسلة-٤

مكتبة األسد

دراسات فكرية »١٠

-٥-

ةـكلم

ا، فما نراه من تعيش األمة العربية الوقت الراهن أسوأ أيامه

تزايد العدوان اخلارجي الذي حتول من التهديد إىل التدخل املباشر، وزرع الفـــنت العديـــد مـــن األقطـــار العربيـــة إضـــافة إىل حتـــدي ــذي ــة بفلـــسطني، والـ ــاثم علـــى األرض العربيـ ــدائم اجلـ ــتالل الـ االحـميارس حتت أنظار العرب والعامل، الذي فقد ضـمريه، أبـشع صـنوف

وتــدمري البيــوت وقتــل األبريــاء والتنكيــل باألطفــال واعتقــال العــدوان املناضلني وتعذيبهم، بـل وحتويـل األرض الفلـسطينية إىل سـجن كـبري

. وملعب ميارس فيه هوايته القتل والتعذيب

جيــري كــل ذلــك أمــام نظــام عربــي يعــيش حالــة مــن التنابــذ ، وال والتــشرذم وقــوى سياســية وحزبيــة حركتــها خجولــة بــل مــشلولة

تتناســب البتـــة مــع حجـــم التحـــديات اخلارجيــة ممثلـــة العـــدوان ــة واالســتبداد والفقــر ــة األمي املباشــر، والتحــديات الداخليــة ممثل

ف . والتخل

ــن ــة مـ ــها، تعـــيش حالـ ــي، أغلبـ ــات العربيـــة فهـ ــا اتمعـ أمـاإلحباط والتلهي بسبب ما تعانيه من سياسات االستبداد والتـهميش

-٦-

، ومــا ختــضع لــه مــن ثقافــة االســتهالك مــن جهــة أخــرى، مــن ناحيــة . ولذلك تبدو كأهنا استقالت من واجباهتا ومهامها

ــأمول التحريــر والوحــدة والعدالــة، أمــا املــستقبل العربــي، املفإنه بالرغم من كل املظاهر املعيقة وحجم الصعوبات اجلسيمة الـيت

وا قـادرين علــى حتـول دون حتقيـق هــذه األهـداف، فــإن العـرب مــازال : العبــور إىل املــستقبل إن هــم آمنــوا بــه وبنــوا جــسور العبــور إليــه، أي

وهم مؤمنـون بـذلك، ويتحقـق إميـاهنم فهـم منـاخ . املعرفة واإلرادة الــصراع القــائم والعــدوان الــداهم، واســتيعاب ووعــي مــا حيــاك هلــذه

! األمة من شرور وإحلاق باملشاريع الصهيونية واالمربيالية

-٧-

-٨-

-٩-

مع حصول الدول العربية على االستقالل السياسي، انقسم الوطن العربي إلى فئتين من الدول، فئة الدول الحديثة العهد التي اختارت

وحافظت على التقسيم الدولي للعمل في " الطريق الرأسمالي للتطور"مي، ولكن من دون أن تتبلور فيها قوى إطار النظام الرأسمالي العال

برجوازية، قادرة على تحقيق السيطرة الوطنية على عملية التراكم وهذه الدول تتمثل بالمملكة العربية السعودية، . البدائي لرأس المال

وإمارات الخليج، وعمان واألردن وتونس ومراكش ولبنان، قد ربطت ألنها ليست بدول برجوازية مصيرها بمصير الرأسمالية العالمية ككل،

وطنية، حتى وإن سيطرت البرجوازية الكمبرادورية على جهاز الدولة، وحافظت هذه الدول على . إال أن عملية التراكم ظلت خارج سيطرتها

نمط السلطة التقليدية، وعلى االيديولوجيا التقليدية، التي ترفض ا في الحقبة وبإطالقية عملية تسييس الشعب، التي انطلقت سيرورته

الكولونيالية بفعل آلية التحديث بدون تصميم وال إرادة من السلطة . الكولونيالية

وكانت إستراتيجية التنمية في هذه الدول تقوم على أساس التكيف مع مقتضيات وشروط النظام الرأسمالي العالمي، وبناء اقتصاد خدمات،

ن المحافظة على عالقات وإعادة الكمبرادورية في هذه المنطقة انطالقا مالتحالف الوطيدة مع االمبريالية التي قامت عليها الكولونيالية المباشرة

، وفتح الكمبرادوريةالمعتمدة على كبار المالك العقاريين والبرجوازية األسواق لكل السلع األجنبية، والتخلي عن االكتفاء الغذائي، والخضوع

-١٠-

، واستيراد السلع المصنعة لرأس المال العالمي، وتصدير الخامات . والمواد االستهالكية

أما الفئة الثانية، فهي الدول العربية التي قامت فيها انقالبات عسكرية ضد أشكال الحكم التقليدية، ولعبت فيها الطبقة المتوسطة دورا رئيسيا، مثل مصر وليبيا والعراق والجزائر واليمن واستولى الجيش في

لطة، حيث كانت خلفيته االجتماعية من أصول ريفية، هذه الدول على السواتخذت الحكومات التي شكلتها . وضباطه من أبناء الطبقة المتوسطة

االنقالبات العسكرية إجراءات الستصالح األراضي، والقيام بإصالح زراعي الستقطاب العناصر األكثر عددا وقوة في الريف وبناء القاعدة

سة جديدة، فضربت العالقات مع االمبريالية، االجتماعية، وانتهجت سياوأنشأت عالقات صداقة مع االتحاد السوفييتي والدول االشتراكية سابقا،

. وضربت اإلقطاع والكمبرادور، وأنشأت القطاع العامالتي نجحت » التقدمية«وفي الواقع ومهما كانت الدول العربية

جية التنمية القائمة على ، فإن استراتي»االشتراكية«بتحقيق في منهجها استيعاب التكنولوجيا من أجل جعل التخطيط االقتصادي الموجه واقعا . عقالنيا وإلزاميا في مجتمعاتها، قد أفضت إلى نتائج متناقضة ومتفاوتة

ألن الشركات الوطنية والمشاريع الصناعية اتخذت معايير التشغيل أرضية اقتصادية مؤمنة بالفكر الرأسماليين، ولم تسع إلى إيجاد واإلنتاج

االشتراكي وهي بذلك عملت على غرار الشركات الرأسمالية الساعية إلى تحقيق الربح واإلنتاجية، وهذا يتناقض مع األهداف االشتراكية في

ثم إن هذه الشركات الوطنية نظرا لتمتعها بقدر من . البلدان العربيةقتصادية مع الشركات المتعددة االستقاللية النسبية، طورت عالقاتها اال

. الجنسيات، وأبرمت عقودا معها، طالما أنها تنشد الربح في حده األقصى

-١١-

ومع انتصار إيديولوجيا النيوليبرالية، أي الليبرالية الجديدة في زمن العولمة، التي تزعزع أسس الحياة االجتماعية في مختلف أنحاء

الدعوة : على المرتكزات التالية، والتي تقوم وجنوباالمعمورة شماالالمتطرفة إلى الحرية االقتصادية، وإنكار دور الدولة في ضبط آليات

تحديدا في (جتماعية وحركة النظام الرأسمالي والتخفيف من شروره االأصبحت الدول العربية مندمجة في ). العدالة االجتماعية-مجال التوزيع

بالسوق الرأسمالية العالمية، وخاضعة نظام العولمة الرأسمالية، ومرتبطة . لمنطق التبعية

وقد أخفقت الدول العربية في التخطيط لسياسات تنموية اقتصادية واجتماعية تحقق النمو المطلوب، وتقف في وجه التحوالت العالمية الضاغطة، وكذلك مسألة العالقات االقتصادية والتجارية والمالية بين

يرى . وبينها وبين العالم الخارجي من جهة ثانيةالدول العربية من جهة منير الحمش، أن عمليات االندماج في االقتصاد العالمي وتطبيق . د

وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، جعلت أداء االقتصاديات العربية بحيث أصبح «م، ١٩٩٩يتراجع منذ منتصف الثمانينيات وحتى نهاية

ربية في الناتج العالمي والتجارة الدولية الوزن النسبي لالقتصادات الع ١٩٦٥م، أسوأ بكثير من الوضع في منتصف الستينيات سنة ١٩٩٧عام

%) ١,٤(كان الناتج المحلي اإلجمالي لمجموع الدول العربية ال يزيد عن من %) ٤,١(من الناتج العالمي، وشكلت الصادرات العربية نحو

. »الصادرات العالمية الليبرالية هذه، وإن خلقت بعضا من طبقة متوسطة فإذا كانت فترة

لدرجة أن ،االقتصادي ة، قد فشلت في تحقيق قفزة في النمواستهالكيوإن كانت هذه . معدالت النمو كانت وسطيا أعلى في الفترة التي سبقتها

-١٢-

الفترة قد فاقمت البطالة والفقر والفروق االجتماعية، لدرجة أن هناك أو شاحنات بحثا عن هجرة إلى الشمال ربا يموتون في قوشبابا

وإذا كان أهم إيراد للطبقات . سيما في تونس والمغرب األوروبي، الفماذا يمكن أن تقدمه النخب . الفقيرة هو تحويالت العمال المهاجرين

الحاكمة إلى شعوبها في زمن أزمة تشتد استعارا؟ وإذا كان ما خسرته عربية النفطية في األزمة يفوق كل ما كان يلزم للنهوض بالبالد الدول ال

بالحد األدنى؟ فماذا " تضامن عربي"العربية األخرى، حتى ولو باسم على الشعوب العربية أن تطالب به؟

من الواضح أن التنمية االقتصادية في نطاق العولمة الليبرالية ال تصادي ال يعني بالضرورة عدالة والنمو االق. تعني بالضرورة نموا

اجتماعية، أو توزيعا عادال لفوائد النمو، أو تأمين رفاهية األجيال الحالية وينطبق هذا التحليل على . من دون أن تضر برفاهية األجيال القادمة

الواقع العربي، إذ يفترض أن تكون حركة النمو االقتصادي الليبرالي في ى حل األزمات االجتماعية المستعصية، والحد من العالم العربي قادرة عل

والحال أن . الفقر والفوارق الطبقية، وأن تعزز االنصهار االجتماعيالنمو الرأسمالي، هو حكما، ظالم ومدمر بقدر ما هو خالق، يتغذى من الفوارق ليولد على الدوام حاالت من حرمان الحقوق ومن تلبية الحاجات

. االجتماعيةالمتنامية في » الفوضوية«وهكذا، فإن هشاشة النمو تخفي وراءها

فهذا . المجتمعات العربية المفخخة بالنظام الرأسمالي الليبرالي المافياويالنظام يبدو عاجزا عن تحديد وجهة الحياة في المجتمع خارج إطار

ئدات النزعة االستهالكية والتبذير واالستئثار بالموارد الطبيعية وبالعاالناجمة عن النشاط االقتصادي، وعن تعميق الفوارق االجتماعية في

-١٣-

فهذا النمو أصبح األفيون الجديد للشعوب العربية التي . نهاية المطافتتحطم معاييرها الثقافية والتضامنية لكي تغرق في الهوة السحيقة الناجمة

. عن النزعة التجارية العالمية، وتداعياتها وفي ظروف األزمة االقتصادية والمالية

العربية، تعاني اقتصاديات العالم العربي في معظمها من البطالة التي باتت تهدد تماسك المجتمعات العربية واستقرارها، لما ينتج عنها من تأثيرات مدمرة تنعكس على الجانب االجتماعي بالدرجة األولى، ثم على

تصنف ضمن الجانب االقتصادي الذي سيحرم من طاقات بشريةبينما تقضي الديناميكية االقتصادية االستغالل األمثل . الطاقات المعطلة

لهذه الطاقة اإلنتاجية المعطلة، من أجل دفع عجلة التنمية إلى األمام ومما زاد . للخروج من أزمة الفقر والتخلف التي تكبل الدول العربية

قتصاديات العربية في أزمة البطالة استفحاال في العالم العربي، دخول االسيرورة العولمة الليبرالية المتوحشة، واتساع هوة االختالالت الهيكلية

. القتصادياتهافي العالم العربي مقابل % ٢٠ و١٥وتتراوح نسبة البطالة بين

عالميا وتعتبر أخطر المشكالت التي تواجه الدول العربية، ومن % ٦ ٢٥ إلى ٢٠١٢ل خالل عام المتوقع أن يصل عدد المتعطلين عن العم

ماليين فرصة عمل سنويا لمعالجة ٥مليون عربي، ما يتطلب استحداث وتعاني الدول العربية هوة واسعة في مستويات . هذه المشكلة الخطيرة

%. ١٤الدخل والمعيشة، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الفقر إلى بية منبعه ولعل أهم أسباب ما نشهده حاليا من هزات في الدول العر

تفشي البطالة وارتفاع نسب الفقر مما أدى إلى زعزعة االستقرار وقد وصفت منظمة العمل العربية، . االجتماعي وأسس لتمرد الشباب

-١٤-

األسوأ بين جميع مناطق «الوضع الحالي للبطالة في الدول العربية بـ ويجب . »في طريقه لتجاوز الخطوط الحمراء«، وأنه »العالم دون منازع

مليار دوالر، ورفع معدل نموها ٧٠على االقتصادات العربية ضخ نحو ، واستحداث ما ال يقل عن خمسة ماليين %٧إلى % ٣االقتصادي من

. فرصة عمل سنويا، حتى تتمكن من التغلب على هذه المشكلة الخطيرةوفي النظام الريعي العربي الذي تحكم فيه الدولة العربية قبضتها

وهي ثروات تفتقر إلى قيمة مضافة مصدرها البلد نفسه على الثروات،وثمة دول عربية ريعية غير نفطية، . وقيمتها مرتبطة بالطلب الخارجي

مثل مصر، تعيش على السياحة وعائدات المغتربين في الخارج ومن ويترتب على مثل هذه . عائدات قناة السويس والمساعدات األمريكية

فالدولة تراكم . اسي بين الدولة والشعباألنظمة بروز عدم تناظر سيفهذه . وليس خلق الثروات شاغل الدولة. الثروات وال توفر فرص عمل

. تخشى انحسار احتكارها توزيع الريعولكن ما هي أسباب تداعي النموذج الريعي هذا، في وقت ترتفع العائدات النفطية في الدول العربية؟ إن وراء تداعي هذه األنظمة أربعة

، بلغ عدد سكان العالم ١٩٧٠ففي . أسباب، أولها تعاظم عدد السكان مليون ٨٤,٥ مليون نسمة، ٣٠٠ مليون نسمة، وفاق اليوم ١٠٠العربي

ومع . مليون في المغرب٣٢,٤ مليون في الجزائر، و٣٥,٤في مصر، وفنموذج توزيع . ارتفاع عدد السكان، تعقدت عملية حكم المجتمعات هذه

نفد، لذا، اضطرت الدولة الريعية إلى مواجهة موجات العائدات استاالستياء الشعبي في األرياف المهمشة، وفي أوساط شباب المدن الذين

.تدنى مستوى عيشهم

-١٥-

والدول الريعية ال تدعو مواطنيها إلى العمل، وال تحفز العمل ففي سلم البطالة في العالم، . وهذا مثبت في إحصاءات كثيرة. وسوقه

س من أدنى المعدالت إلى أعالها، تتربع مصر في المرتبة وهي تقا، واألردن ١١٠، والجزائر في المرتبة١٠٩، والمغرب في المرتبة ١٠٧

، ١٨٥، واليمن، في المرتبة ١٤٠، وتونس في المرتبة ١٣٩في المرتبة ات العربية بناءعلى معدالت البطالة وعليه، قد يصح رسم خريطة الهز

الهزات في الدول العربية هي مرآة أفول النموذج ومثل هذه. والعملففي وقت تتوسل الحكومات بتوزيع العائدات على السكان . الريعي

لتخفيف الصدمات االجتماعية، يصعب عليها حمل السكان بالصدوع بالبطالة المستشرية والمزمنة بينما يتولى العمال الصينيون تشييد البنى

. )١(ئرالتحتية، كما يحصل في الجزاوالسبب الثاني وراء تداعي النموذج الريعي هو زيادة أطماع

فتحول معظم الجمهوريات العربية إلى . الحكام على وقع ارتفاع الريع. األمر الذي يؤدي إلى تقلص قاعدتها الشعبية) الملكية(الحكم بذهنية

والسبب الثالث مرده إلى اضطراب المشهد اإلعالمي العربي، ففي دول تونس ومصر والمغرب، تفوق نسبة استخدام االنترنت نظيرتها في مثل

. دول أكثر تقدما منها، على سبيل المثال، األرجنتين وتركيا وتشيليواإلقبال على االنترنت هو مرآة رغبة ملحة في الخروج من التعتيم

فاالنترنت هو هراوة المجتمع المدني . اإلعالمي واالنغالق القسريه ألنه يشكل لحظة عيش مع حرية مفقودة، أو مع أحالم العربي وسالح

. ال تهبط إلى أرض الواقع

. ٥/٢/٢٠١١الفرنسية، » لوموند«ية،عن زكي لعيدي، إخفاق األنظمة الريعية العرب) ١(

-١٦-

والسبب الرابع الذي أسهم في زعزعة المعادلة العربية هو وعنف التيارات هذه وعنف الرد عليها انقلب على . التيارات اإلسالموية

وهذه حسبت أنها في منأى من المساءلة بعد قمع . األنظمة العربيةوحركة االحتجاجات في تونس ومصر . سالميين في مصر والجزائراإل

هي مرآة احتجاج شعبي ال يتماهى مع األنظمة الحالية وال مع المعارضة فبين العنف اإلسالموي والمعاناة في كنف األنظمة العلمانية . اإلسالمية

. المزعومة، برزت مساحة سياسية اتخذتها الشعوب المهانة مالذاهاج األنظمة العربية سياسة ليبرالية اقتصادية، عمادها ومع انت

تحرير التجارة مع الغرب، تعززت القيم االستهالكية مع غزو سلع كانت تعد من الكماليات، لألسواق، وانتشرت بين الشباب والفئات الشعبية الفقيرة جدا، ضروب من ضروب أمراض البطالة مثل تعاطي المخدرات

سي، وسيادة قيم االحتيال والسرقة والقوادة، والغش، والشذوذ الجنوهي ممارسات لم تكن منتشرة في أوساط المجتمعات العربية . والتسول

فالتجأ قسم من الشباب الذي أصبحت . التي يغلب عليها الطابع المحافظنه النفسي إلى يالميوعة، والتصحر الفكري والثقافي جزءا من تكو

اطي المخدرات، والعزوف الكامل عن ممارسات غريبة، مثل تعالسياسة، والتخلي عن القيم الوطنية القومية، والقيم االجتماعية السليمة،

.كالصدقوفي ظل سيادة النمط االستهالكي الغربي في المجتمعات العربية، فقد اإلنسان العربي حريته، وأصبح مدينا إلى العديد من المؤسسات من

. السيارة، المنزل، السياحة: ات مثلأجل الحصول على امتيازلقد أصابت أمراض الثقافة االستهالكية الشباب، وهي أمراض

. إلخ. كثيرة وخطيرة ومتنوعة، اقتصادية واجتماعية وأخالقية وسياسية

-١٧-

من سوق الوهم في نمط العيش على الطريقة الغربية، تبتدئوهي عوز في حبائل بسقوط الشباب ضحايا تحت وطأة الحاجة والومرورا

كما نشأت أيضا في بعض المناطق الشعبية سوق . عصابات المخدرات .للممارسة العنف لتأجير الشباب ألغراض التخويف والتهويد والقتل

كما استفحلت أمراض البطالة حيث تفشى االتجار بالوظائف وفرص العمل، وأصبحت هناك تسعيرة لكل وظيفة أو فرصة عمل،

ث الوظائف في كثير من المؤسسات، وال عزاء ورأينا كذلك توريوأمام ضغط البطالة، يستهدف الشباب ويعرض ! للمواهب والكفاءات

عليه السقوط في ممارسة الرذيلة وتجارة المخدرات والغناء الهابط، على . أمل أن تفتح له أبواب الثراء في المستقبل

برالية إلى وتعرضت الهوية العربية اإلسالمية في ظل العولمة الليعملية تحطيم ممنهجة، وذلك بسبب محاوالت اإلمبريالية األمريكية تحطيم وتدمير كل القوى التي يمكن أن تقف في وجهها، بعد سقوط المنظومة االشتراكية التي كانت تقف كجدار في طريق هيمنتها بصورة مطلقة، كان ال بد من اختراع عدو جديد من أجل تسخير القوى

ة لمحاربته وإفساح الطريق أمام مشروعها فكان ال بد من االمبرياليتحويل الصراع نحو الثقافات الوطنية واإليديولوجيات الدينية التي كانت السبب الرئيس للتمسك بهوية المجتمعات ومن أهمها الثقافة العربية

فبالرغم من أن العولمة االقتصادية هي األساس . واإليديولوجية اإلسالمية فإن االنعكاسات واالمتدادات االجتماعية والثقافية أصبحت والهدف

واضحة وال يمكن التغاضي عنها أو إغفالها مع التطورات السياسية وانتشار ثورة المعلومات واالتصاالت من ناحية العالمية من ناحية،

أخرى وكانت هذه االمتدادات كجسر يوصل قوى العولمة للهدف

-١٨-

يتحقق بإيديولوجيات وهويات قوية تستطيع االقتصادي المنشود الذي ال . التأسيس لقوى ذات أخالقيات رافضة لظاهرة العولمة

وتعرضت الثقافة العربية اإلسالمية لقوى التقييد والتحديد من جهة وقوى التجديد والتحديث من جهة ثانية، وقوى الترويض والتهميش من

نراها في الغالب تغالي في جهة ثالثة ففي عالقة الثقافة العربية بالماضي عرضه وتفسيره وتمجيده حينا وتقع أسيرة لقيوده ومحدداته وإخفاقاته حينا ثانيا وتنهل منه دون تجديد أو إبداع أو تطوير حينا ثالثا، أما فيما يتعلق بعالقتها بالحاضر والمستقبل وما يرافقها من قوى العولمة

لب بإبداعات وانطالقات يانعة الفروع وتأثيراتها فهي تتعامل معهما بالغا أخرى ضعيفة الجذور أحيانا وبتمرد ال عقالني غير مبرر أحيانا

وبمحاوالت للتجديد والتحديث دون شمولية أو قاعدة فلسفية أو مصداقية اجتماعية حينا وكل هذا بالطبع ال يقلل من أهمية الكثير من األعمال

م تنجح حتى اآلن في بناء الزخم والنتاجات الثقافية المبدعة التي لالمناسب وإيجاد الكتلة الالزمة لتشكيل الفضاء الثقافي المتكامل المترابط

الالزمة إلحداث التأثير المنشود لالنطالقةوالتي لم تؤد حتى اآلن والتغيير المستهدف، وهو التغيير الذي يرتبط باالنفتاح الواعي والتفاعل

قة دون االنقطاع عن الجذور والتنازل عن االيجابي واالنطالقة الواثالهوية والخصوصية وبشكل عام تواجه الثقافة العربية مجموعة من الثنائيات والتي هي عبارة عن ثقافتنا العربية الموروثة المتأصلة والمتجذرة ومجموعة أخرى من القيم واألخالقيات التي تعمل قوى العولمة في العالم

. )١(ن البلدان، والبالد العربية منهاعلى فرضها في الكثير م

سنان علي ديب، العولمة - الدكتور وليد عامر -الدكتور عبد الهادي الرفاعي )١(وبعض اآلثار االجتماعية واالقتصادية الناجمة عنها، مجلة جامعة تشرين للدراسات

. ٢٠٠٥)١(العدد ) ٢٧(والبحوث العلمية سلسلة العلوم االقتصادية والقانونية المجلد

-١٩-

على أن واحدة من أهم مشكالت الثقافة العربية التي أدت إلى والتردي العربي بشكل عام هو االزدواجية التردي الثقافي خصوصا

الثقافية الفاضحة في البنية الثقافية العربية، فهذه الثقافة تشكل مسرحا الحداثة والمعاصرة، وبين الهوية للفوضى القيمية والتناقضات بين

والعالمية وبين اإليمان والعلم، وبين الفكر والممارسة، وبين المبادئ . والسلوك، وبين الدين واألخالق

وبالتالي فإن الشباب الناشئ في مجتمع يحفل بمثل هذه التناقضات ي الفكرية التىال بد من أن يواجه المعاناة القيمية وأن يعيش هذه الفوض

ففي هذا النظام الثقافي العربي . تستلبه على مستوى الوعي والتصوراتتتصارع شبكة من االتجاهات والنزعات التي يعوزها االئتالف ويسودها

فهناك الثقافة العربية التقليدية التي تمجد الماضي وتقدسه، . االختالف بين األصيل والثقافة العربية الحديثة التي بفعل ازدواجيتها وتناقضها ما

والدخيل، والتراثي واالستهالكي يعيش الفرد فيها في ضياع شبه تام، ألن زمنها الثقافي بعيد كل البعد عن كينونة الفكر العربي وخصوصيته

. الحضاريةإنها ازدواجية فاضحة يعانيها العقل الثقافي العربي إذا جاز

عقل العاجز عن التعبير، وهي مؤشر قوي على خلل عميق في بنية هذا الإنتاج ثقافته العصرية الخاصة وتحوله إلى تركيب هجين من ثقافتين غير منسجمتين، ثقافة نظرية عقيدية منقولة من الماضي اإلسالمي وأخرى عملية حياتية مأخوذة من الغرب، أي تركيب متناقض بين ماضوية الفكر

. وعصرية السلوكإلسالمية عند بنيتها التلفيقية هذه، وال تتوقف مشكلة الثقافة العربية ا

إلى وظيفتها إذ أن هذه الثقافة أصبحت أساس التخلف، بل تمتد أيضا

-٢٠-

لمساعي النهوض الوطني والقومي والتجدد وأصبح دورها معرقال . الفكري والحضاري

وإذا كنا نركز على دور الثقافة العربية اإلسالمية فألن تفريغها من ة والوطنية والقومية واإلنسانية التي عرفناها ونشأنا المضامين األخالقي

عليها، وهو التفريغ الذي تم بشكل مدروس ومنظم على مدى عقود، أدى في النهاية إلى تغيير أولويات اإلنسان العربي واهتماماته كما غير الكثير

. من تقاليده ودمر الكثير من قيمه ة األدبية والموسيقيولنا في مجاالت الثقافة والسيما الفنون

حيث جرى . والسينمائية دليل قوي على التغير السلبي الذي حدث فيهافي األدب تصفية نظرية االلتزام وطمس اآلثار األدبية الملتزمة بالقضايا االجتماعية والوطنية، وتم الترويج المكثف لمقولة الفن للفن، وفصل الفن

هدف إلى تحسين وضعية عن وظيفته السياسية واالجتماعية التي تاإلنسان وتغيير واقعه السلبي، وفتح الباب على مصراعيه للشكالنية والغموض والالمعنى، ورأينا في الكثير من شعر ونثر الحداثة العربية، إذا جاز التعبير، وتحت عنوان االبتكار والتجديد، نتاجا يغيب قضايا

قصائد الحماسية التي وبدل ال. اإلنسان العربي ويكرس ضياعه ويأسهكانت تستنهض الجماهير العربية وتشعل فيها روح الوطنية استقال

من مهام تحريض األمة على النهوض وتعبئة أبنائها » الشعر الحديث«للنضال والمقاومة، وأصبح هما نخبويا زائفا وخاليا من أي مضمون

. وطني أو قوميألغنية الوطنية والقومية وفي مجال الموسيقى تم عمدا تغييب ا

وحصارها بشكل واضح، بل تم العمل على وقف إنتاجها نهائيا إال إذا أما كل ما يمجد العروبة . كانت بهدف مدح الحاكم والدعاية لنظامه

-٢١-

واالستقالل والسيادة ويدعو إلى وحدة العرب ومقاومة االستعمار، ويذكر بل فقد أصبح من الممنوعات، باألمجاد ويحث على إرادة الحياة والمستق

وتمت إحالة أجمل األغاني واألناشيد القومية في اإلذاعات والتلفزات »السح الدح أمبو«العربية إلى رفوف األرشيف لتغزو أسماعنا أغاني

وغيرها من هذا النوع المنحط الذي »حمار بحبك يا« و»بوس الواوا«و وكذلك فعلت األفالم الهابطة أعد خصيصا إلثارة الغرائز وإفساد الذوق،

ولم يلبث أن حل عصر الفيديو كليب الراقص والتمثيليات الوقحة واألفالم التي تروج لإلباحية والشذوذ فضال عن العنف والجريمة

. والمخدراتولم يكن كل هذا سوى الوجه اآلخر لإلعالم العربي الفاسد الذي

اإلعالم التعبوي الملتزم، أحدث وتحت عنوان االنفتاح قطيعة جذرية معوأنهى لغة االستنهاض الوطني والقومي التي اعتبرت لغة خشبية، وركز

فيهها وتتفيهها وإقصاء رموزها لتصبح مرادفة للتخلف والتعصب سعلى ت .ومعاداة العصر والتقدم

وبالمقابل عمل على تلميع لغة االنهزام واالستسالم واستخدمت في تبرير التفريط " المشرف"تدال والسالم شعارات الواقعية واالع

والتنازل والتخاذل، وتم قلب المفاهيم وتغيير القيم حتى أصبح التطبيع مع العدو سلوكا حضاريا، وأصبحت الخيانة رأيا أو وجهة نظر، ولعل أخطر ما شهده الواقع العربي هو ان الكثير من هذا الظواهر السلبية التي

د واإلفساد قد وجدت طريقها إلى األقطار ذات شكلت عالم الفساااليديولوجية القومية، والتي كان يفترض أن تكون القدوة في تحويل هذه

. االيديولوجية إلى ممارسة سياسية وثقافية فعالة

-٢٢-

الذي » االيديولوجي القومي«ويبدو أن فصاما شديدا قد حدث بين ر فضفاض بال مضمون، بقي حبيس النظرية وتحول مع الوقت إلى شعا

الذي حكمته مصالح السلطة ومنافعها أكثر مما حكمته »السياسي«و . المبادئ القومية ومصالح األمة العليا

وإذ أصبح المبدأ القومي شكال بال مضمون ومظهرا بال جوهر فقد كان من الطبيعي أن يفقد حامله الثقافي والسياسي واالجتماعي، وهذا ما

الجمع بين التوجه القومي وبين غياب السياسة والثقافة يفسر تناقض . والتربية التي تخدم هذا التوجه وتحوله إلى فعل جماهيري مؤثر

ثم إن تبني األهداف القومية النهضوية والوحدوية والتحررية وهي - الصهيونية -أهداف ممنوعة بالمطلق في االستراتيجية االمبريالية

ن يستلزم بناء أقوى حصانة ممكنة للجسد الوطني الرجعية العربية كاحتى يكون عصيا على كل أنواع االختراق، واستراتيجية الحصانة هذه عملية متكاملة كان ينبغي أن يتظافر فيها مفاعيل التربية والثقافة والفكر

لكن الواقع . واألخالق والدين فضال عن مفاعيل السياسة واإلدارةإهمال الجسد وتطوراته أثبت أن ما حدث كان العكس تماما، إذ تم

الوطني وتركه هدفا للفساد واإلفساد الداخليين وللغزو الثقافي واإلعالمي الخارجي مما قاد إلى هذه النتائج الكارثية التي نراها اليوم في غير مكان

. من وطننا العربي الغارق في الدماتها ال ينحصر تأثيره إن انتشار الفساد في أجهزة الدولة ومؤسس

في نهب أموال الدولة ومواردها وعدم التوزيع العادل للثروة، بل إن األخطر من ذلك هو فساد أصحاب القرارات وواضعي السياسات، وتحولهم إلى شريحة بيروقراطية لها مصالحها المشتركة التي غالبا ما

-٢٣-

رة لذلك تتناقض مع مصالح غالبية الشعب، وتتجلى االنعكاسات الخطي : في العديد من القضايا الجوهرية والمصيرية ومنها

- مفصلة على مقاس واضعيها - وضع سياسات خاطئة وقاتلة -أ . والسيما في معالجة قضايا كبيرة ومنها مشكلة البطالة

عدم وضع اإلنسان المناسب في المكان المناسب، واستبعاد -بلى تخسير العديد من العناصر النزيهة ذات الكفاءة، ما أدى إ

. المؤسسات المنتجة وتفشيلها سوء توزيع العاملين على قطاعات الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، -ج

إذ نالحظ تضخم أعدادهم في بعضها دون الحاجة إلى ذلك، . وقلتهم في بعضها اآلخر بالرغم من الحاجة إلى أعداد أكبر

اض أجورهم، وبالتالي تشغيل القطاع الخاص لألطفال بدافع انخف - د . االستغناء عن اليد العاملة الحقيقية دون أي رادع

وال يزال الوطن العربي حتى اآلن يلملم الشظايا المتناثرة لهزيمة المدوية بوصفها بداية نقطة االنحدار التاريخي، والتحول في ١٩٦٧

- الصهيوني، واألمريكي -التوازن العربي لمصلحة التحالف األمريكي ولم تكن هذه الهزيمة هزيمة للعرب أمام إسرائيل . لرجعي العربيا

فحسب، بل كانت أيضا هزيمة لليسار العربي في مواجهة القوى المحافظة، أي بصورة رئيسية هزيمة مصر الناصرية، العالمثالثية، الشعبوية، االشتراكية، القومية في مواجهة الملكية السعودية المحافظة

وهذا الجانب ال يقل . الداعية إلى الجامعة اإلسالميةالمؤيدة للغرب وومنذ هذا التاريخ األسود . أهمية عن احتالل إسرائيل ألراض جديدة

انكفأت الدول العربية كل منها على ذاتها، وظهرت تيارات انعزالية

-٢٤-

تسيطر على تفكيرها، بحيث التفتت كل دولة لذاتها، وأسهم في ذلك ما -رمي إلى خدمة مصالح المخطط األمريكي يسمى بالعولمة التي ت

الصهيوني وأبرزها تحقيق المصالحة مع الكيان الصهيوني، بحيث تحول . األمر إلى أن بعض الدول أصبحت تابعة إلسرائيل

وال جدال في أن خروج مصر من معادلة الصراع مع إسرائيل أربك كل الموازين العربية ومهد الطريق النخراط العراق في حرب طويلة األمد مع إيران ثم لغزو الكويت الذي أدى بدوره إلى خروج دول مجلس التعاون الخليجي فعليا من الصراع مع إسرائيل، حتى ولو لم تبرم اتفاق سالم معها، ومهد ذلك الطريق لغزو أمريكي للعراق أفضى في نهاية المطاف ليس فقط إلى خروج العراق بدوره من الصراع مع

. وإنما إلى تدمير هذا البلد العربي الكبيرإسرائيل، ثمة خلل عميق في منظومة القيم واألخالق بسبب انقسام المجتمعات العربية إلى فئة قليلة تستأثر بالسلطة وتتحكم بالثروة وفئات عريضة من الجماهير تعاني من الفقر والتهميش والحرمان، وأخطر ما

طى التي مثلت تاريخيا حامل في هذا المشهد هو ذوبان الطبقة الوسعلى أن هذا الخلل . التوازن الذي يحفظ وحدة المجتمع وأمنه واستقراره

الظاهر على مستوى المجتمع ككل قد دخل في ثنايا الروابط االجتماعية أيضا فتدهورت العالقة بين أفراد المجتمع الواحد بل أصاب األسرة،

. االنحاللوهي النواة االجتماعية األولى بالتفكك ووكان من نتائج االنفتاح االقتصادي واالجتماعي والثقافي المنفلت إضعاف الهوية وضرب القيم والتقاليد التي تشكل خصوصية المجتمعات العربية اإلسالمية وتميزها، وطغيان قيم سلبية مستوردة أحدثت خرقا

ل المثال عميقا في المنظومة األخالقية التي تحصن المجتمع، وعلى سبي

-٢٥-

كل شيء حتى النفوس والذمم، ولم تعد لإلنسان من يأصبح المال يشترقيمة خارج هذه النظرية المادية النفعية التي تجرد أفراد المجتمع من

. قيمتهم اإلنسانية والروحية واألخالقيةويقدم المشهد الثقافي العربي دليال حيا على االنحالل الذي أصاب

فهنا يبرز الغزو الثقافي اللغوي والموسيقي . والفناللغة والثقافة والدرامي والسينمائي على أشده، وتتحول كل هذه المجاالت الثقافية إلى وسائل لغرس قيم سلبية بالغة الخطورة في عقول الناشئة ولإلجهاز على االنتماء الوطني والقومي، وخلق نموذج لشخصية عربية مشوهه ومفككة

. رومقطوعة الجذووحتى العقيدة اإلسالمية لم تسلم من هذا التشويه الممنهج وظاهرة عبادة الشيطان، من أكثر الظواهر ذات الداللة في هذا اإلطار، لكن ضرب العقيدة اإلسالمية قد اتخذ في اآلونة األخيرة أبعادا أكثر خطورة

. أفرادهاألنه يتم من داخل المجتمعات اإلسالمية نفسها وبأيدي جزء من وأعني به الظاهرة اإلرهابية التكفيرية التي تمثل اآلن التحدي األكبر أمام

. المجتمعات اإلسالمية واإلسالم نفسهوتعكس األهمية التي اكتسبها التوجه التكفيري لدى الجهاديين وحضورهم الدموي في أفغانستان والعراق ولبنان وبلدان المغرب

، قطيعة بين هذا الجناح المتطرف من العربي وفي سورية بشكل خاص، واإلسالم »القاعدة«اإلسالم السياسي الذي أصبح مرتبطا بتنظيم

فقد أكد . قرنا١٤التقليدي الراسخ في العالم العربي منذ ما يربو على انخراط الشباب العربي في المواجهات المسلحة في العديد من البلدان،

الشباب وحمايته من التطرف الديني عجز األنظمة العربية عن تأطير واإلرهاب، وعن تجديد الخطاب الديني، وتطويره، وإثراء مضمونه من

-٢٦-

خالل مواصلة تأهيل رجال الدين واألئمة الخطباء حتى يكونوا ملمين بأنجع تقنيات الخطابة والتبليغ واإلقناع، في ظل انشداد الشباب

. لدعاية األيديولوجيةللفضائيات الدينية، وخضوعه لتأثيراتها في اإن السبب الجوهري لعودة قسم كبير من الشباب العربي إلى اإلسالم باعتباره الملجأ الروحي الحصين للقيم األخالقية، وتنامي النزعة المحافظة في داخله، والسيما في أوساط الطبقات والفئات الشعبية التي ال

ي منه إلى وصول تتمتع بمستوى تعليمي متقدم، يعود في جزء أساس. النموذج العلماني المطبق في البلدان العربية إلى أزمته البنيوية الشاملة

وإلى عدم وجود طرق وأدوات ووسائل تعين المواطنين على تحقيق .أحالمهم

إن التجاء الشباب إلى اإلسالم الحقيقي ظاهرة طبيعية فاإلسالم دين ة هي في اختطاف اإلسالم الفطرة والعمل والعلم والسالم، لكن العل

وتشويه معانيه، واستخدامه االستخدام المخزي حين بات ورقة بأيدي أعداء األمة، تستخدم لغايات مشبوهة لتدمير الهوية العربية ثقافة وفكرا، وتاريخا وحاضرا، ولتحول دون تقدم المجتمع إلى األمام، وإغراق

ها، وصرف الفكر العربي، المجتمع في ألهيات عبثية ال طائل من ورائوالعمل العربي معا عن مجابهة المشاريع الداعية إلى التطبيع مع . األعداء، واالستسالم لمشيئتهم، والتنازل عن الحقوق والكرامة والكبرياء

وفي ظل السيطرة المطلقة من جانب األحزاب الحاكمة في البلدان نب الحياة الفكرية العربية على الفضاء العام، واحتكارها لكل جوا

والسياسية، التجأ الشباب العربي إلى الفضائيات الدينية العربية كملجأ روحي جديد، مع ما تعطيه تلك الفضائيات من تفسيرات دينية تقليدية لم

-٢٧-

تكن موجودة في المجتمعات العربية من شأنها خدمة مصالح المشروع . االستعماري واإلرهاب

ب السلفي التكفيري إلى استخدام ومن الواضح أن لجوء الشباالعنف، يأتي في سياق ردة الفعل على العنف السلطوي، الذي طبع الدولة العربية منذ نشأتها، كأداة مثلى لحسم الخالفات السياسية؛ إذ أرست ثقافة

وتوارثت مختلف األنظمة العربية التي . سياسية تنبني على هذه األداةوهر هذه الثقافة السياسية التي أصرت حكمت البالد لمدة نصف قرن ج

على تجريم المشاركة الشعبية؛ وعمدت إلى إغالق الطرق أمام التئام وسائل وآليات هذه المشاركة، وقطع قنواتها الشرعية واغتيال كل الفرص التي تسمح بتوسع نطاقها، فاتحة الباب على مصراعيه لثقافة

.. االستبداد والحكم االنفرادياتجه قسم من الشباب إلى تلقف الثقافة االستهالكية السطحية وفيما

والسقوط في االنحرافات والمزالق الخطيرة، اتجه قسم آخر من الشباب نحو العزوف الكامل عن السياسة، والعمل على تلقي الثقافة الدينية السلفية من خالل مرجعيات إسالمية مغايرة تماما للمرجعية اإلسالمية

البلدان العربية، السيما التي كانت تقوم بها حركات اإلسالم السائدة فيالسياسي ذات الطابع اإلخواني، والجماعات السلفية المتشددة، التي راحت تمأل الفجوات المتعاظمة االتساع بين الشباب واألنظمة، عبر نشر تيار السلفية الجهادية، الذي فرض نفسه فكريا وعدديا في الطيف

. عد التجربة األفغانيةاإلسالمي بعلى أن المشكلة األكبر التي يثيرها تنامي نشاط الحركات اإلسالمية التكفيرية والسيما القاعدة ومشتقاتها في الدول العربية

-٢٨-

واإلسالمية هو أن هذه الحركات التي يضعها الغرب بقيادة الواليات ب عليها في المتحدة األمريكية رسميا على قائمة اإلرهاب، ويعلن الحر

بلدانه هي اليوم األداة الرئيسية التي يستخدمها لتحقيق مشروع تفتيت المنطقة ونشر فوضى الدمار والخراب فيها وبما يسلبها كل إمكانية للنهوض والتقدم ومقاومة الهيمنة االمبريالية والصهيونية، وتحقيق

. الديمقراطية والتنمية في سورية نموذج على هذا وما يحدث منذ أكثر من ثالثة أعوام

التناقض الصارخ في سلوك الغرب السياسي والسيما سلوك اإلدارة األمريكية التي تدعم اإلرهاب في سورية عبر حلفائها اإلقليميين األتراك والرجعيين العرب، وتحقق من ذلك هدف تدمير الدولة الوطنية السورية

والتصدي لمشاريع » إسرائيل«واستنزافها وشل قدرتها على محاربة الهيمنة االمبريالية، كما تحقق هدف تشويه اإلسالم وجعله العدو األول

. لحضارة اإلنسانلقد دخل الواقع العربي بداية من أواخر القرن الماضي في أزمة عميقة، وظهرت فيه مالمح االنحالل والتفسخ التي أصابت مختلف

االقتصادية، ولم تنج من ذلك جوانبه الثقافية والسياسية واالجتماعية وحتى الحركات الوطنية والقومية التي كان يعول عليها لمواجهة هذا

بل إن معظم هذه الحركات . االنهيار وانتشال الدول العربية من براثنهتحول إلى جزء ال يتجزأ من االنهيار، وساهم بشكل أو بآخر في توسيعه

. مسؤولية اإلخفاقات والهزائموتعميقه، وهو بالتأكيد يتحمل جزءا منوقد أسهم تراجع الحركة القومية إلى بروز اإلسالم السياسي الذي تمكن من حصد شعبية ملحوظة والسيما في المناطق الفقيرة والمهمشة،

-٢٩-

ليسي عززت وتزايدت شعبيته مع تعرضه لحمالت قاسية من القمع البو كان يشكل القوة المنظمة وبما أنه. خيال الشعبيصورته المثالية في ال

الوحيدة القادرة على منافسة األحزاب الحاكمة فقد نجح في ركوب موجة التي أطاحت ببعض األنظمة العربية وأحزابها الحاكمة، " الربيع العربي"

ووصل إلى سدة الحكم على خلفية تعهده للواليات المتحدة األمريكية ". إسرائيل"بالحفاظ على مصالحها ومهادنة ربيبتها

خوان المسلمين في حكم مصر وتونس أن ولم تلبث تجربة اإلأظهرت حقيقة هذا التنظيم الذي يستخدم الدين لغايات سياسية بحته، ويرى أن السلطة هي هدفه الجوهري، ويقدم مصالح الجماعة وأهدافها على مصالح الوطن، وال يتورع عن استخدام أية وسيلة لتحقيق غاياته

ا اقتضى ذلك التنكر للمبادئ الدينية واألخالقية التي حقق الكثير حتى إذمن شعبيته بسببها، فضال عن المبادئ الوطنية التي ال يقيم لها أي اعتبار

. حقيقيخوان المسلمين عاجزون عن تحقيق وعودهم وتبين أيضا أن اإل

تحسين المعسولة التي أطلقوها الجتذاب الناخبين والسيما فيما يتعلق بالمعيشة وإنهاء البطالة والنهوض بالمناطق المهمشة وإقامة العدالة االجتماعية، وأن كل ما هم قادرون على فعله هو حصد أكبر ما يمكن

وهذا كله . من غنائم السلطة وجني المكاسب والمنافع السياسية والماديةء من أدى إلى تحطيم صورتهم المثالية في أذهان الناس وتعاظم االستيا

سلوكهم وسياساتهم ومهد للثورة على حكمهم في مصر، وتصاعد حدة . المعارضة السياسية والشعبية لهم في تونس

وفي ظل تصدع المشروع اإلسالموي هذا، فإن الفوضى الدامية في الدول العربية هي المشروع المسيطر اليوم وفي المستقبل المنظور،

-٣٠-

تلة لعقود طويلة من السياسات الكارثية وهاهم العرب يحصدون الثمار القاالتي انتهجتها األنظمة العربية الرجعية، واالنحرافات التي وقعت فيها

وأمراض المعارضة العربية بمختلف توجهاتها »التقدمية «الدول العربية . اإلسالمية والقومية واليسارية

ة هل يعني ذلك أن الواقع العربي هو اليوم محكوم بنهاية مأساوي لألمة ال أمل في تفاديها؟

في اعتقادي أن األمل موجود بقدر ما هو ضروري، وإن االستجابة لهذا التحدي المصيري ينبغي أن تكون استجابة شعبية عربية ثورية تغير الواقع العربي تغييرا حقيقيا وتنظفه من هذا التلوث السياسي

مهمة كل إنسان عربي والثقافي الذي بلغ أقصى درجات الخطورة، وهذه شريف يريد أن يستنشق أوكسجين العروبة الحرة والكريمة وليس غاز

الخانق الذي أدى، ومن خالل ما رأيناه من أفعاله، في " الربيع العربي"....) تونس، السودان، ليبيا، مصر، اليمن، سورية(بعض البلدان العربية

ه ) االستباحة(ة إلى تدمير مشاريع التنمية في هذه البلدان بقوالتي تتوجوشل الحياة ) الكنائس(بوحشيتها نحو المدارس، والمشافي، ودور العبادة

االجتماعية، والقضاء على البنى اإلدارية، والمؤسسات المعنية بشؤون . الناس، وجعل الطرق وحركة االنتقال كابوسا يوميا

ومنهجيات، هذا ناهيك عن مناداة هذه الحركات الظالمية بثقافة . تباعها رغم براءة اإلسالم من مثل هذه البدعاوقسر الناس على

-٣١-

-٣٢-

-٣٣-

:تسوية أم مقاومة

مع أن الصراع العربي الصهيوني ظاهرة حديثة بدأت مع ظهور المشروع الصهيوني في القرن التاسع عشر، والذي تجسد الحقا في

مسلمين قد لقوا من اليهود ومنذ بداية الدعوة احتالل فلسطين، فإن الوعلى الرغم من أن اليهود كانوا مواطنين . المحمدية العداوة والتآمر

كاملي الحقوق في الدولة اإلسالمية الوليدة، فقد قاتلوا المسلمين ووصل وعنهم يقول eاألمر ببعضهم إلى محاولة اغتيال الرسول الكريم

المائدة (}أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهودلتجدن {: القرآن الكريم }وال يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا{) ٨٢

). ٢١٧البقرة (وعلى مر التاريخ اإلسالمي لم يتعرض اليهود للتمييز أو المعاملة

لموقف السيئة إال في فترات محدودة وألسباب ال عالقة لها مطلقا باووجدوا في الديار . اإلسالمي المبدئي منهم كما حدده دستور المدنية

العربية اإلسالمية حضنا دافئا الستقبالهم عندما كانوا يفرون إليها هاربين من خطر اإلبادة الجماعية كما حدث عندما هاجروا إلى بلدان المغرب

ن، دأب الفكر وعلى الرغم من احتالل فلسطي. العربي بعد سقوط األندلسالسياسي العربي المعاصر عموما والفكر القومي خصوصا وانسجاما مع . منطلقه اإلنساني على التمييز تمييزا جذريا بين اليهودية والصهيونية

والقبول باألولى كدين سماوي ورفض الثانية باعتبارها ايديولوجية ع التأكيد على عنصرية إرهابية تستهدف فلسطين والوطن العربي كله م

-٣٤-

في تلك االيديولوجية والسيما ) العهد القديم المحرف(األثر التوارتي . الدعوة التوارتية اليهودية إلبادة العرب واغتصاب أرضهم وعرضهم

المحمل بهذه العقيدة " اليهودي"ومن هنا فإن الفرق شاسع ونوعي بين فالمسيحي .العنصرية من جهة وبين المسيحي والمسلم من جهة أخرى

والمسلم ينظر إلى غيره بمن فيهم اليهود، وفي أسوأ االحتماالت، كفئة ) التوراتي(أما اليهودي . ضالة يتوجب عليه إرشادها إلى الطريق القويم

فهو ينظر إلى العرب مسيحيين أو مسلمين ككائنات قذرة ينبغي التخلص . منها بكل أنواع القتل متى أمكنه ذلك

نظرة سريعة على الشريعة اليهودية لوجدناها عامرة ولو ألقينا فهي تميز بين اليهودي وغير اليهودي . بهذه الروح العنصرية البغيضة

... من خالل احترام حياة اليهودي مقابل االستخفاف بحياة غير اليهوديووفق أحكام الديانة اليهودية يعد قتل اليهودي جريمة كبرى عقوبتها

يقتل اليهودي شخصا غير يهودي يكون اليهودي مذنبا اإلعدام أما عندماأما في حال . بارتكاب خطيئة ضد قانون السماء ال تعاقب عليه المحكمة

. التسبب بموت غير اليهودي فال يعد األمر خطيئة على اإلطالق) أي التمييز بين اليهودي وغير اليهودي (»الهاالخاه«ووفق أحكام أما بالنسبة لغير اليهود فليس . ودي ذو قيمة ساميةفإن واجب إنقاذ اليه

ألن الفرق شاسع، . ويطال هذا التمييز معظم مناحي الحياة. واجبا إنقاذهم . وفق العقيدة التوراتية، ما بين اليهود وغيرهم

وعندما ظهرت الصهيونية وقامت إسرائيل وجدت هذه المفاهيم يث أصبح الكيان الصهيوني تحققها السياسي واالجتماعي والقانوني، بح

نموذجا للدولة والمجتمع العنصري بل إنها تكاد تكون النموذج األكثر

-٣٥-

بعد سقوط النازية ونظام التمييز ( في هذا المجال فرادة ووضوحا ). العنصري في جنوب أفريقيا

وقد أدان المجتمع الدولي هذه العنصرية في كثير من قراراته التي الذي اعتبر ١٠/١٠/١٩٧٥ بتاريخ ٣٣٧٩م كان أهمها القرار رق

من أشكال العنصرية، ومازال هذا القرار، رغم تراجع الصهيونية شكالاألمم المتحدة عنه ألسباب ال يتسع المجال هنا لذكرها، ذا داللة بالغة

. ومعبرة عن حقيقة هذه الدولةولقد تجسدت العنصرية الصهيونية في أبشع الممارسات التي

ا االحتالل ضد الفلسطينيين والعرب عموما، وتشكل هذه مارسهالممارسات تاريخا مرعبا من أعمال القمع والقتل والتدمير والتشريد والتجويع والحصار والمجازر واإلبادة، وجرائم الحرب والجرائم ضد

وكل ما يمكن للمخيلة البشرية أن تتصوره من عدوان وإجرام . اإلنسانية . و حدودبال ضوابط أ

كل ذلك أثبت ويثبت مصداقية رؤية الفكر القومي لحقيقة الصراع وكان في هذا اإلطار وريثا شرعيا لفكر المفكر العربي . مع الصهيونية

نجيب عازوري الذي ذهب مبكرا، إلى أن في المنطقة مشروعين متصادمين صهيوني وقومي عربي وأنهما مستمران في الصراع إلى أن

. هما اآلخريهزم أحدعلى أن المشروع الصهيوني في حقيقته وكما يراه الفكر القومي العربي هو وريث االستعمار الغربي وحليف الهيمنة الغربية على الوطن العربي، بما يمنعه من تحقيق أهدافه التحررية والوحدوية ويبقيه في

. دائرة الخضوع السياسي واالقتصادي للغرب األمريكي واألوروبي

-٣٦-

من هنا فإن الصراع ضد الصهيونية هو صراع من أجل تحرر واألمة ووحدتها ونهضتها وتقدمها، وهو صراع من أجل انعتاقها وخروجها من طور السبات الحضاري إلى طور المبادرة الحضارية الخالقة والفعل التاريخي المؤثر، وهو صراع وجود بكل ما تعنيه هذه

رض العربية والثروة العربية والشخصية الكلمة من معان تتعلق باألوبكل ما يتطلبه ذلك من قومية هذا الصراع . العربية والثقافة العربية

الذي ال يمكن أن يكون بصفته هذه إال صراعا تقف فيه األمة العربية سدجد من أجل أن يجمعاء صفا واحدا في مواجهة المشروع الذي و

ولذلك ارتبط هذا الصراع ارتباطا وثيقا . لأمامها الطريق إلى المستقب فتحرر فلسطين ضرورة -بالوحدة العربية مثلما ارتبطت بها فلسطين

وما زالت . للوحدة العربية مثلما أن الوحدة ضرورة لتحرير فلسطينفلسطين والوحدة، رغم التطور الذي طرأ على الفكر القومي، هما

. الركيزتان األساسيتان لهذا الفكرلعل أهم وأخطر ما يواجه الفكر القومي من تحديات، في هذه المرحلة، هو محاولة نشر ثقافة االستسالم والتطبيع التي تكرس التجزئة والقطرية خيارا نهائيا للعرب، وتكرس التنازل لمصلحة إسرائيل

. ومشاريعها التوسعية حال وحيدا للقضية الفلسطينيةها هذا الفكر القومي قضية مركزية، كما وفلسطين، التي رأى في

رأى في الصراع العربي الصهيوني صراع وجود، أصبحت في هذه الثقافة البائسة نزاعا حدوديا يحاول تكريس القبول بإسرائيل والتنازل لها عن كل ما احتلته من فلسطين التاريخية بكل وسائل القتل والتشريد

إلى استبدال العدو الذي حدده الفكر بل وتسعى هذا الثقافة . والدمار . القومي بالصهيونية وكيانها الغاصب بعدو مصطنع هو إيران

-٣٧-

وقد ال يكون لهذا الفكر االنهزامي التدميري الذي يستهدف إرادة ة صدى قوية فإنها تنبع . في نفوس جماهيرهااألموإذا كان له من قو

كثير من األنظمة العربية، وهو من أنه يكاد يكون فكرا سلطويا تعتنقه لذلك يجد له أنصارا بين مثقفي ومؤدلجي هذه األنظمة إال أنه يتغذى بالدرجة األولى من الحالة االنهيارية العامة التي يعيشها الوضع العربي، ومن االنقسامات العربية، بل الخالفات العربية الحادة، ومن التناحر

ا وذاك من غياب اإلرادة العربية وقبل هذ. الفلسطيني الفلسطيني .. المستقلة، واالنخراط في الفلك األمريكي واإلسرائيلي

ولعل من المفيد هنا اإلشارة، ولو في عجالة، إلى ان الفكر حزيران /االستسالمي العربي لم يظهر حتى عندما حدثت هزيمة جوان

دثته من وعلى العكس يمكن القول إن هذه الهزيمة رغم ما أح. ١٩٦٧صدمة وإحباط قد شحذت النفوس مجددا إلى حد أن العرب أشهروا

إال ). ال صلح، ال تفاوض، ال اعتراف(الءاتهم الثالث في وجه إسرائيل أن الخطة المنهجية االمبريالية الصهيونية لتصفية النهج القومي النضالي

ها بعد وهكذا أمكن. كانت تعمل وبنفس بعيد المدى على تحقيق أهدافهاأن تأخذ . ، التي كان يفترض أن تحرر األرض العربية١٩٧٣حرب

وكانت هذه االتفاقية هي حجر الزاوية في تغيير . مصر إلى كامب ديفيدثوابت الصراع العسكرية والنفسية والثقافية وتعديل ميزان القوى تعديال خطيرا لصالح إسرائيل، وسلب العرب القدرة على تحرير أرضهم

. دة حقوقهمواستعاوكرت المسبحة بعد كامب ديفيد لتعترف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل وتقيم بعض الدول العربية عالقات سرية مع كيان

ثم أبرمت اتفاقية وادي عربة بين إسرائيل واألردن ثم كانت . العدو

-٣٨-

اتفاقيات أوسلو التي أعطت الفلسطينيين سلطة مزعومة، ولكنها سلبتهم وكلها " وأنا بوليس"ثم كانت خريطة الطريق . ع حقوقهم التاريخيةجمي

محطات كان الفلسطينيون والعرب يخسرون فيها المزيد، وإسرائيل تربح المزيد إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من حالة استجداء مزرية لسالم كانت إسرائيل قد دمرت مسبقا كل مقوماته ومع ذلك مازال هناك من

.ه أمل في إمكانية حصولهيخامروعلى الرغم من فداحة الخسارة التي مني بها العرب في صراعهم مع العدو الصهيوني، واتجاههم أكثر فأكثر نحو الطريق الخطأ الذي زادهم ضعفا في مواجهة إسرائيل وزادها قوة في العدوان على أرضهم،

مفكري األنظمة فإن فكر االستسالم والهزيمة والتطبيع مازال يجد من العربية من يبرر السياسة العربية الرسمية في هذا المجال ويبشر األمة بقرب الحل وإمكانية السالم العادل، بل وال يتورع عن تحميل المقاومة

إن إسرائيل هي التي - طبعا –العربية مسؤولية عرقلة السالم متجاهال رة كانت تنازال مجانيا رفضت بازدراء مبادرة السالم مع أن هذه المباد

من أرض فلسطين التاريخية، وأنها هي التي مضت في % ٨٠عن قرابة توسيع االستيطان إلى نقطة الالعودة وفي بناء الجدار العنصري إلى حد تقطيع أوصال فلسطين، وأنها هي التي رفضت حق العودة رفضا قاطعا،

هودية الدولة تمهيدا وأعلنت القدس عاصمتها األبدية، كما رفعت شعار ي . لترحيل من بقي من عرب فلسطين

العربي " االعتدال"إن الحجة الجاهزة التي يسوقها معسكر ما يسمى وهو في الحقيقة معسكر االنهزاميين الذين يعادون المقاومة ويصرون على نهج التفاوض العقيم الذي لم يسفر بعد عقود من الزمن إال عن

إن .. تتالية تكاد تضيع البقية الباقية من أرض فلسطينتنازالت عربية م

-٣٩-

هذه الحجة الواهية هي أن الكيان الصهيوني مدعوم من قبل أمريكا وأنه قوة عسكرية ال تقهر، وعليه فال بد من التفاوض معه . وأوروبا

للحصول على ما يمكن الحصول عليه من الحقوق الفلسطينية التي فقط من أرض فلسطين التاريخية، ولكنها عمليا %٢٢تقلصت نظريا إلى

أقل بكثير ألن االستيطان الصهيوني وجدار الفصل العنصري قد التهما ما أمكن من هذه النسبة ومازال االستيطان ممعنا في التهامها حتى آخر

وكل ذلك على مرأى من السلطة الفلسطينية التي جعل منها اتفاق . شبرإسرائيل، ومن النظام الرسمي العربي المنشغل أوسلو حارسا ألمن

بأزماته وخالفاته الداخلية، والمعني قبل كل شيء بتقديم فروض الوالء . والطاعة للسيد األمريكي

وإذا كان ال بد من االعتراف بأن الصراع بين المشروعين العربي والصهيوني صراع غير متكافئ، وإن موازين القوى مازالت تميل

لصهيونية، فإن هذا الوضع ليس قدرا حتميا ويمكن تغييره إذا لصالح ا ... توفرت اإلرادة السياسية العربية بالدرجة األولى

إنه صراع بين مشروعين أحدهما، المشروع العربي، وهو مشروع عادل ويدعمه القانون الدولي في قضية الصراع العربي

هو مشروع )المشروع الصهيوني(الصهيوني بشكل خاص، واآلخر متسلط بقوة االحتالل ومستمر في انتهاك القانون الدولي، ومخالفة

.... المواثيق واألعراف اإلنسانية واألخالقية وتكمن أسباب اختالل ميزان القوة لصالح المشروع الصهيوني بالدرجة األولى في أن الكيان اإلسرائيلي العدو يلقى الدعم األمريكي

ا يضعه فوق المساءلة الدولية ويشجعه على واألوروبي المطلق مفي حين يصطدم المشروع . االستمرار في تحقيق مخططه العدواني

-٤٠-

القومي العربي برفض القوى الدولية الفاعلة والسيما األمريكية واألوروبية التي ترى فيه خطرا كبيرا على مصالحها الحيوية في

: لية تبرز في مقدمتهاكما تعترضه مصاعب ذاتية وحواجز داخ. المنطقةتغليب المصلحة القطرية الضيقة أو غياب إرادة المواجهة، والتبعية

واالنقسام العربي الذي بلغ حد . المذلة ألمريكا والخضوع لهيمنتهاوهي العوامل التي شكلت حالة الضعف العربي الخطير الذي ال . التناحر

فكيف . الصهيونييمكن معه التجرؤ على التصدي لمواجهة المشروعوعلى ذلك فإن النظرة الموضوعية لهذا الصراع . بإيقافه واالنتصار عليه

يجب أال تتوقف عند هذه المرحلة التي يتعرض فيها المشروع القومي فواقع . العربي للتراجع وال عند المراحل التي تلقى فيها الخيبات والهزائم

قد ومتعدد األطراف مما الصراع يشير إلى أنه صراع تاريخي طويل ومع . يجعل من الخطأ اختصار نتيجته النهائية بعيدة المدى بهزيمة أو عدة هزائم

في اعتقادي الراسخ أن تلك النتيجة البعيدة يصعب أن تكون إال في صالح المشروع القومي العربي نظرا إلى أنه مشروع أصيل ينبت في

مق تاريخها وثقافتها كما أرضه، ويجسد طموحات جماهيرها، ويختزن عأنه يستند في صراعه مع المشروع الصهيوني إلى حقوق ثابتة

على أن هذا ال . ومشروعة تعترف بها جميع القوانين بما فيها الدوليةيعفي العرب من تحمل مسؤوليتهم األولى في تحقيق انتصار وغلبة

لتي ينبغي أن مشروعهم حيث تبرز المقاومة األداة األساسية للمواجهة، وايتفق عليها العرب جميعا كبديل فعال عن المعادلة العقيمة التي حكمت

أو التسوية ) المستحيلة(إما الحرب : طويال نظرتهم للمواجهة وهيخيار المقاومة وحده قادر، في حال . المذلة، وهي تعني عمليا االستسالم

-٤١-

االنتصار على المشروع تبنته اإلرادة السياسية العربية، أن يحقق معجزة »السياسي« و»العسكري«الصهيوني والسيما إذا كان خيارا شامال يشمل

. »األخالقي«وقبلهما االنتصار في معركة األمة العربية ضد الكيان الصهيوني يستوجب

ومن هنا تبرز الضرورة القصوى لإلرادة والفعل . تدخال ذاتيا فاعالجة الملحة إلى إعادة الصراع العربي الصهيوني العربيين كما تبرز الحا

إلى طبيعته القومية، أي إلى حقيقته التي ال يمكن، في غيابها أو تجاهلها، " الحل القطري"تصور حله لمصلحة العرب ومشروعهم القومي ذلك أن

هو الذي نقل الصراع العربي الصهيوني من كونه صراعا عدائيا وني واإلمبريالية األمريكية إلى صراع محدود تناحريا مع الكيان الصهيوهو الذي أقر بقبول الواليات المتحدة كقوة . معهما يجري حله سلميا

عظمى، واإلقرار بوجود الكيان الصهيوني مما سهل عملية تزايد الهيمنة . االمبريالية في الوطن العربي، وتزايد عدوانية الكيان الصهيوني

التي قادت وتقود إلى التصالح مع العدو وإذا كانت السياسات القومي تتذرع بالواقعية وترمي معارضيها بالرومانسية والطوباوية والمثالية، فثمة فارق بين الواقعية الراديكالية واالستسالم لقوى األمر الواقع، فالواقع ليس الوضع القائم فحسب، بل هو كل االحتماالت والممكنات

لسطح السياسي، والتي تعبر عن اتجاهات فكرية التي تقبع تحت هذا ا . وسياسية وقوى اجتماعية وأحزاب، ومنظمات، وحركات شعبية

وفي المنظور االستراتيجي ليس من الممكن مواجهة االنهيارات مواجهة جدية إال بعمل سياسي راديكالي ينطلق من مقولة أن قضية األمة

ع العربي الصهيوني، ويضع فلسطين والصرا: العربية المركزية هي

-٤٢-

الوحدة العربية في أساس توجهاته، ويجعل من الديمقراطية نسيج تلك . التوجهات، ومضمونها أو محتواها

: العربي»الربيع«التحدي الصهيوني و

ال بد قبل الخوض في هذا الموضوع من إبداء التحفظ على عبارة جماهير العربية ودورها ألسباب ال شأن لها مطلقا بال" الربيع العربي"

الحاسم في التغيرات العميقة التي شهدتها منطقتنا العربية، فهذه الجماهير كما نعتقد كانت دائما تواقة إلى التحرر من االستبداد والفساد مثلما كانت تواقة إلى التحرر من التبعية وتحرير فلسطين وتحقيق الوحدة العربية،

ى اختالف مشاربها واتجاهاتها، في سبيل وناضلت عبر قواها الحية، علوعندما . هذه المطالب الديمقراطية والوطنية والقومية نضاال مشهودا

هبت هذه الجماهير في تونس ومصر إلنهاء الديكتاتورية الفاسدة والعميلة لالمبريالية والصهيونية فقد كانت تتوج تاريخا طويال من النضال الوطني

عرفه البلدان، وتعبر عن إرادة الحياة الكريمة التي أخفقت الديمقراطي الذي . عقود القمع والتجويع في تدجينها والنيل من تصميمها وصالبتها

تحفظنا إذا ال ينال من مصداقية الجماهير المنتفضة والثائرة، وال يشكك في جدارتها، ولكنه ينصب على دور القوى الخارجية والسيما

في قلبه بطبيعة " إسرائيل"ي التركي الرجعي العربي والتحالف الغربالحال، في إجهاض األهداف الحقيقية الوطنية والقومية والديمقراطية للثورات، وحرفها عن مسارها الطبيعي، كما ينصب على دور القوى الداخلية التي ركبت موجة الحراك الثوري الشعبي ووصلت إلى سدة

. خارجية مقابل التزامها بشروط هذه األخيرةالحكم باالتفاق مع القوى ال

-٤٣-

من " الربيع العربي"نأتي بعد هذا إلى ما يهمنا وهو موقف دول القضية الفلسطينية كما تجلى في مواقف السلط الجديدة السياسية المتعلقة بالقضية الفلسطينية عموما ومواقفها من العدوان الصهيوني األخير على

د على المواقف السياسية ألن ثمة محاولة وأؤك. غزة بشكل خاصواضحة من السياسيين وااليديولوجيين الرسميين في هذه السلط للتغطية على حقيقة هذه المواقف المنحرفة والمتناقضة مع ثوابت اإلخوان المسلمين التاريخية في التعامل مع القضية الفلسطينية والسيما اعتبارها

وقد عمد . جوب تحرير كامل أرضها التاريخيةقضية األمة اإلسالمية وواإلسالميون في مصر وتونس إلى استذكار هذه الثوابت في محاولة فاشلة للتخفيف من األثر الصادم الذي سببته المواقف السياسية الرسمية، ذلك أن المشكلة ال تتعلق بهذه الثوابت التي ال يشكك أحد في صحة أن

»اإلسالميين«تبنونها نظريا، فالمهم هو موقف اإلخوان المسلمين كانوا يالذين وصلوا إلى السلطة من القضية الفلسطينية كما مارسوه عمليا وهم في موقع القرار الرسمي، وليس بعض ثوابتهم االيديولوجية التي لم تعد

. اآلن أكثر من حبر على ورقيصعب على المهتم بهذا الموضوع أن ال يأخذ في الحسبان ما

خوان المسلمين تعهد أشيع عن صفقة بين اإلدارة األمريكية واإلاألخيرون بموجبها من جملة ما تعهدوا به بعدم معاداة الكيان الصهيوني

وحتى ... والمحافظة على أمنه وحماية المصالح األمريكية في المنطقةإذا لم تكن هذه الصفقة قد تمت، فإن ما صدر منذ بداية استالم

موقفهم العملي من قضية فلسطين قد ضرب نأين السلطة يؤكد اإلسالمي . عرض الحائط بثوابتهم التاريخية المعروفة

-٤٤-

زعيم حزب النهضة التونسي إلى أمريكا الغنوشي فقد ذهب أن الربيع العربي ال ليحاضر في معهد واشنطن للشرق األدنى معلنا

يجرم التطبيع في يعني عداء محكما إلسرائيل وعارض حزبه إدراج بند خوان مصر التزامهم بمعاهدة إوأكد . مشروع الدستور التونسي الجديد

فيد وأصدروا ما يلزم من الفتاوي الشرعية لتبرير ذلك، وعين يكامب د، كما وجه رسالته المشهورة »إسرائيل«مرسي سفيرا جديدا لمصر في

فان ودخل الطر. »شيمون بيريز«إلى صديقة العزيز الصهيوني اإلسالميان المصري والتونسي في تحالف عضوي مع الرجعية النفطية العربية التي عرفت تاريخيا بعدائها الشديد للقضية الفلسطينية والمقاومة،

التي ) سيما السعودية وقطر وال( بيد هذه الرجعية بل تحوال إلى ألعوبةة لتوظيفهما في عرفت كيف تستغل حاجتهما الماسة إلى المساعدات المالي

خدمة أهدافها وأهداف سيدها األمريكي وخصوصا هدف القضاء على المقاومة العربية من خالل إسقاط حاضنته السورية تمهيدا لضرب حزب اهللا واالنقضاض على إيران في محاولة محمومة لطمس الصراع العربي

ي هو الصهيوني واستبدال العدو القومي التاريخي للعرب بعدو افتراض .العدو الفارسي

وإذا استثينا بعض التصريحات الرسمية حول حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وحل الدولتين، وضرورة إنهاء معاناة

فإن السياسة . جديدة-الفلسطينيين، وهي تصريحات شكلية قديمة الخارجية الجديدة لكل من مصر وتونس لم تشهد تغيرا حقيقيا ملموسا

إجراءات عملية تقطع مع السياسات القديمة، والسيما في مصر حيث والاستمر التعامل الدبلوماسي والسياسي مع العدو الصهيوني كما كان أيام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، ولم تعلن حكومة اإلخوان عن

-٤٥-

ثم جاء العدوان . أي استراتيجية جديدة محالفة لما كان في العهد البائد وأنظمة يوني الغاشم على غزة ليضع األنظمة العربية عموماالصه

فقد كان المطلوب . بشكل خاص أمام امتحان عسير" الربيع العربي"شعبيا وثوريا من هذه األنظمة األخيرة التي تتمتع بالشرعية الثورية والديمقراطية كما تزعم أن تقف إلى جانب المقاومة في غزة وقفة دعم

كامل، مثلما كان على داعميها من دول النفط والغاز سياسي وعسكري أن تفعل الشيء نفسه حتى ال تنكشف حقيقة أن تأييدها للربيع العربي المزعوم كان تنفيذا لغايات خاصة وأهداف جيواستراتيجية خارجية، ولم يكن أبدا ترجمة اللتزام إنساني وأخالقي وشرعي بالحقوق اإلنسانية

وتطلعاتها الديمقراطية كما تدعي وتروج في إعالمها للجماهير العربيةلكن اإلخوان المعنيين بتثبيت دعائم سلطتهم الجديدة قبل أي . المهمين

حاولوا )١(شيء آخر، وحليفهم الرجعي العربي المعادي أصال للمقاومةايهام الجميع بوقوفهم وتضامنهم مع غزة والمقاومة من خالل الزيارات

التي قاموا بها إلى القطاع، والتي كان أكثرها استفزازا الفولكلوريةالزيارة الفضيحة التي قام بها وفد القوات اللبنانية آلد أعداء المقاومة في لبنان، بينما كانوا يعملون سياسيا مع سيدهم األمريكي على تطويق حريق

طفائه وإ" تل أبيب"غزة الذي طال الكيان الصهيوني وهدده في عقر داره فقد كان المطلوب أمريكيا هو إنقاذ إسرائيل ... بالسرعة الممكنة

نستذكر هنا الموقف المخزي الذي اتخذته دول ما يسمى االعتدال العربي وفي )١(

مقدمتها دول الخليج العربي ومصر ضد المقاومة اللبنانية في الحرب المجرمة التي ، والموقف المماثل الذي اتخذته أيضا ٢٠٠٦شنها الكيان الصهيوني على لبنان عام

٢٠٠٨/٢٠٠٩ثناء العدوان الصهيوني الغاشم على غزة عام ضد المقاومة الفلسطينية أوتاريخنا العربي المعاصر يزخر بالوقائع الدالة . وهذا مثالن من الماضي القريب فقط

.على التآمر الرجعي العربي ضد القضية الفلسطينية والقضية القومية العربية عموما

-٤٦-

وإخراجها من المأزق العسكري والسياسي واإلعالمي الخطير الذي وقعت فيه، وتجنبيها كارثة محققة كانت ستحدث لو استمرت الحرب ودخل فيها العرب على خط دعم المقاومة دعما فعليا سياسيا وعسكريا،

مع ظهور بوادر تحرك الشارع العربي عموما وفي الضفة والسيما . الغربية بشكل خاص

في هذا السياق وحده يمكن تفسير سرعة إنجاز الهدنة من جانب فاالتفاق لم يكن رغم كل . ومضمون هذا االتفاق من جانب آخر

محاوالت اإلعالم الرجعي العربي واالخواني تلميعه وإظهاره في صورة لغزة ومصر، سوى خشبة الخالص التي مدت للكيان انتصار كبير

واألخطر من ذلك هو أن اتفاق الهدنة لم . الصهيوني إلنقاذه من الغرقيكتف بإخراج الكيان الصهيوني من عنق الزجاجة التي أدخلته فيها

بل قيد حق الفلسطينيين في المقاومة باختزال هذه »نتنياهو«حماقة فقط، فضال عن مساواته بين الضحية األخيرة في بعدها الدفاعي

الفلسطينية والجالد الصهيوني بنصه على إيقاف األعمال العدائية بين مما يعني أن الطرف الفلسطيني ألزم نفسه بهدنة طويلة هي . الطرفين

وهذه سابقة غريبة كانت المقاومة . أقرب ما تكون إلى إيقاف المقاومةد رفضتها جذريا في الماضي أيام المرحوم ، ق)حماس(الفلسطينية، والسيما

المجاهد الشيخ أحمد ياسين، رغم عدم امتالكها في ذلك الوقت ما أصبحت . تمتلكه اليوم من صواريخ رادعة في مواجهة الوحشية الصهيونية

على هذا، وسواء كان اإلخوان متورطين حقا في صفقة مع ء واشنطن وإثبات حسن الواليات المتحدة أو أنهم يمارسون تكتيك إرضا

النية لها كي يتمكنوا من تركيز دعائم سلطتهم الجديدة وإحكام قبضتهم

-٤٧-

الذي يتبنونه، فإنهم ينفذون مخططا " التمكين"السياسية في إطار مفهوم أمريكيا يقضي بإعادة إنتاج البيئة الجيوسياسية التي تضمن أمن

يا ومذهبيا واثنيا بعد أن من خالل تفتيت الدول العربية طائف" إسرائيل"ن هذا الكيان اإلرهابي لم يعد في مأمن وأن مستقبله لم يعد أتبين

: مضمونا وذلك بفعل جملة من العوامل من أبرزها الهزائم المتالحقة التي لحقت بالعدو الصهيوني وحليفته أمريكا على -

ت حرب فقد أنه. يد المقاومة العربية في لبنان وفلسطين والعراق أسطورة التفوق ٢٠٠٨/٢٠٠٩ وحرب غزة ٢٠٠٦تموز

العسكري اإلسرائيلي وعدم قابلية الكيان الصهيوني للهزيمة، وشكل انسحاب أمريكا منهزمة من العراق فراغا استراتيجيا تسعى

. واشنطن جاهدة لمنع منظومة المقاومة من ملئهمة االمبريالية استطاعت إيران الشريك اإلقليمي في منظومة مقاو–

والصهيونية في المنطقة الصمود في وجه الغرب وتمكنت من امتالك التكونولوجيا النووية رغم أنفه، كما حققت إنجازات عسكرية متطورة

. على صعيد السالح الصاروخي وااللكتروني بشكل خاص إصرار سورية على التمسك بثوابت الصراع العربي الصهيوني -

محاوالت صرفها عن نهجها الوطني وصمودها في وجه كلوالقومي، وإخراجها من منظومة المقاومة في المنطقة وإلحاقها

. المهادن إلسرائيل والمعادي إليران"العربي " االعتدال"بمعسكر وانهيار بعض األنظمة »الثورات العربية« اندالع ما يسمى بـ-

ارك في مصر العربية التابعة للواليات المتحدة والسيما نظام مب . ونظام بن علي في تونس

-٤٨-

وإضعاف العرب من " إسرائيل"والحقيقة إن السعي لحماية أمن خالل إحكام قبضة السيطرة السياسية واالقتصادية عليهم هو استراتيجية

ولكن جوهرها يتمظهر بأساليب مختلفة وفق متطلبات كل . أمريكية دائمة والذي اعتقدت ٢٠٠٦ عام خالل العدوان الصهيوني على لبنان. مرحلة

واشنطن أنه سيقضي على المقاومة، أعلنت كوندليزا رايس وزيرة الخارجية األمريكية وقتها عن والدة شرق أوسط جديد من رحم الدمار الذي خلفته همجية العدو الصهيوني، شرق أوسط بال مقاومة وخاضع

لفشل العسكري وتمكنت رغم ا. بالكامل للهيمنة االمبريالية الصهيونيةالذريع الذي لحق بجيشها الصهيوني على يد المقاومة اللبنانية البطلة من زرع بذرة الصراع الطائفي على الصعيد العربي العام بعد أن اختبرت

ووجدت في الرجعية العربية خير أداة لتنفيذ مخططها . فائدته في العراقصهيوني، وإضعاف الجديد القاضي بإنهاء المقاومة العربية للكيان ال

الداعم اإلقليمي لهذه المقاومة ولجم قوته المتصاعدة من خالل استبدال الصراع العربي الصهيوني بصراع طائفي عنوانه المذهبي الصراع

. الشيعي السني وعنوانه السياسي الصراع العربي الفارسيوفي الوقت الذي كانت المقاومة العربية تثبت قدرتها على التصدي

وغزة ٢٠٠٦لكيان الصهيوني وإلحاق الهزيمة به كما حدث في لبنان ل، كانت الرجعية العربية المصدومة بإنجازات هذه ٢٠٠٨/٢٠٠٩

المقاومة تحاصرها وتهاجمها وتؤلب عليها الرأي العام العربي طائفيا نها تخدم أهدافا إيرانية وبما فيها حركة حماس التي لم تكن وقت أوبحجة

وعندما بدأ الشارع العربي . خلت إلى بيت الطاعة الرجعيذاك قد دباالنتفاض ضد االستبداد والفساد والتبعية في تونس ومصر، وهبت رياح التغيير العاتية عليهما سارعت الواليات المتحدة إلى التعامل مع المتغير

-٤٩-

الجديد بما يخدم استراتيجيتها ومخططها واضعة له األهداف الملحة : يةالتالمنع وصول أي نظام جديد وطني النهج وقومي التوجه إلى الحكم بعد -

نظام يطرح أولوية استقالل (األنظمة التابعة في الدول العربية سقوطالقرار الوطني وإنهاء التبعية االقتصادية والسياسية وتحرير فلسطين بالمقاومة وتحقيق الوحدة العربية جنبا إلى جنب مع الديمقراطية

وقد وجدت اإلدارة األمريكية ). التنمية المستقلة والعدالة االجتماعيةوخوان المسلمين البديل المثالي الجاهز لتحقيق ذلك فوجود في اإل

: خوان في السلطة يعنياإل

ü االعتدال العربي الذي أخرج العرب والسيما " ثوابت" الحفاظ علىوسيط في هذا مصر من الصراع العربي الصهيوني، وحولهم إلى

الصراع المصيري، وسيط تابع ألمريكا وتكمن مهمته األولى في . ضمان سالمة الكيان الصهيوني من خطر المقاومة

ü إثارة سخط الطوائف وإشعال نار الصراعات الطائفية بسبب الممارسة اإلسالمية المتشددة واالقصائية، وهو ما ترى فيه

تقسيم الدول العربية في إطار الواليات المتحدة الطريق األمثل إلىمشروعها التفتيتي للمنطقة العربية والسيما بعد ما ثبت من قبول اإلسالم السياسي الحاكم بتقسيم البالد التي يحكمها كما حدث في

. السودانü إسقاط الدولة الوطنية السورية وتقسيمها بما ينهي دورها الوطني

نية والحاضن للمقاومة، والقومي المناهض لالمبريالية والصهيووالحيلولة دون أن تتمكن هذه الدولة من إنجاز اإلصالح

-٥٠-

ذلك أنه إذا تمكنت سورية من إنجاز اإلصالح . الديمقراطي سلمياالسياسي واالقتصادي االجتماعي العميق فإنها ستجمع بين المقاومة والديمقراطية وستصبح نظاما عربيا مثاليا ما سيزيد من

ية مواقفها العروبية المتمسكة بالحقوق العربية وفي مقدمتها راديكال . الحقوق الفلسطينية

ü خواني الرجعي العربي في تأجيج اإل/توظيف التحالف األردوغانيالصراع الطائفي وإشعال نار الفتنة السنية الشيعية، وفي تنفيذ مخطط تدمير الدولة السورية، وإنجاز تسوية مذلة للصراع

الصهيوني على حساب الحقوق التاريخية للشعب العربيوال بد من التأكيد هنا على أن األزمة . الفلسطيني واألمة العربية

السورية هي في أحد عناوينها الكبرى صراع على مستقبل فلسطين، ذلك أن الدولة السورية هي آخر معاقل الفكرة القومية

عربية المركزية العربية التي تعتبر أن فلسطين هي القضية الوترى في المقاومة طريقا ضروريا لتحريرها، وعليه فإنها تواجه اليوم المفاعيل اإلرهابية للتوافق االستراتيجي بين المعسكر الغربي بقيادة الواليات المتحدة واإلسالم السياسي المتأمرك على تصفية

. هذه الفكرةوأن الكيان نخلص من هذا إلى أن التحدي الصهيوني مستمر،

الصهيوني يسترد اليوم أنفاسه التي نجحت المقاومة في السنوات األخيرة جديد كالدعم -أما عوامل استمراره فمنها ما هو قديم . في قطعها

األمريكي واألوروبي الالمحدود، والتواطؤ الرجعي العربي، والتخاذل م واالنقسا) مواقف سلطة أوسلو االنهزامية(الفلسطيني الرسمي

-٥١-

خوان إلى الحكم في الفلسطيني، ومنها ما هو جديد يتعلق بوصول اإلبعض الدول العربية وانخراطهم في المشروع األمريكي الصهيوني، وما

) المدنية والعسكرية(يتعلق بالوضع السوري والخسائر المادية والبشرية الهائلة التي لحقت بسورية، والتي من شأنها إضعاف قدراتها على

هة الكيان الصهيوني في المستقبل المنظور على األقل، على أن مواجعوامل استمرار التحدي الصهيوني ال تعني أبدا أن الكيان الغاصب قد

أمن، وأن مستقبله لم يعد مهددا فثمة من العوامل المقابلة ما بات في ميشير إلى أن هذا الكيان مازال في دائرة الخطر وأنه لم يعد قادرا بنيويا

: ومن هذه العوامل. على الخروج من هذه الدائرة مهما استرجع أنفاسه

قد فقدت تفوقها العسكري الساحق وأصبحت تحت »إسرائيل« نإ -ير وفاعلية صواريخ المقاومة التي تمكنت بنجاح باهر من تأث

. تحقيق توازن الرعب مع العدو الصهيوني

) إيران(سيما في مركزها اإلقليمي منظومة المقاومة ككل والنإ -تنظيمات وقوى شعبية (وحتى الفلسطيني ) حزب اهللا(واللبناني

ات على أن وثمة مؤشر. تزداد قوة يوما بعد يوم) وفصائل مقاومةسورية تتجه نحو الخروج من أزمتها واالنتصار على العدوان

. اإلرهابي

خوان في المشروع قد كشف حقيقة انخراط اإل»الربيع العربي«إن -وقد . األمريكي الصهيوني مما يفسر تزايد المعارضة الشعبية لهم

د ال نبالغ إذا قلنا إن موقفهم المتخاذل من قضية فلسطين سيكون أح . األسباب الرئيسية لسقوطهم المرتقب

-٥٢-

-٥٣-

-٥٤-

-٥٥-

في مرحلة الصراع ضد االستعمار الغربي ومن أجل االستقالل وتكريس سيادة الدول، تحولت الحركة القومية العربية إلى حركة انقالبية

م مصالح وثورية إلحداث التحوالت السياسية واالجتماعية التي تخدالطبقات والفئات الشعبية، ومن أجل استكمال مهام التحرر القومي،

وراهنت هذه . واالستقالل، والسيادة في العديد من األقطار العربيةالحركة على التعبئة الشعبية إلسقاط الطبقات اإلقطاعية والبرجوازية

ربية المسيطرة على الدولة والمرتبطة مصالحها بالمراكز الرأسمالية الغفي هذه الحقبة التاريخية، . صاحبة القرار الحقيقي في السياسة واالقتصاد

أهملت الحركة القومية العربية المسألة الديمقراطية بكل منطوياتها الفكرية والسياسية والثقافية، وركزت على المسألة االجتماعية والسياسية،

لحة الطبقة أي على تغيير توازنات السلطة وإعادة توزيع الثروة لمصالوسطى، والفئات الشعبية من العمال والفالحين، عبر انتهاجها سياسات اإلصالح االجتماعي التي أطلق عليها اسم االشتراكية، والتي أثارت بالفعل حساسية الدول الغربية وعدائها بسبب ما كانت تنطوي عليه من

ركة القومية حتمية التحالف بين األقطار العربية المنضوية تحت لواء الح . التقدمية االشتراكية والمعسكر السوفييتي السابق المنافس للغرب

وتركز خطابها األيديولوجي والسياسي على مقوالت العداء لالستعمار واالمبريالية، ويعود إهمال الحركة القومية العربية للمسألة الديمقراطية إلى أن الحركة القومية العربية تأثرت بالتيار الفكري والثقافي السائد في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، المتأثر

-٥٦-

باأليديولوجيا االشتراكية العالمية، وأن فكرة الديمقراطية الغربية، لم تشكل مطلبا شعبيا، ولم تكن لها حوامل اجتماعية منظمة ومؤثرة ومعبأة

. لليبراليةنفسيا وأيديولوجيا، لكي تدافع من أجل تطبيق المفاهيم افي منظور األيديولوجيا القومية واليسارية، ارتبطت الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية وتشكل النظام الدولي ثنائي القطبية بين الواليات المتحدة األمريكية زعيمة المعسكر الرأسمالي الغربي، واالتحاد

تصادية الغربية، التي السوفياتي زعيم المعسكر االشتراكي، بالليبرالية االقوكانت الحركة القومية . خلقت تفاوتات كبيرة بين الطبقات االجتماعية

العربية الصاعدة التي اعتمدت على الطبقات الوسطى والشعبية، وأسقطت سلطة اإلقطاع والبرجوازية الليبرالية المرتبطة بالغرب،

روة، وتغيير البنى في حاجة إلى تحقيق العدالة االجتماعية وإعادة توزيع الث . االجتماعية، تلبية ألهداف المطالب الشعبية، أكثر منها إلى الديمقراطية

وفي منظور الطبقة الوسطى الصاعدة، وكذلك حركات التحرر الوطني والقومي التي كانت تحظى بشعبية كبيرة، ارتبطت الديمقراطية

ت والنخب بالهيمنة االستعمارية واإلمبريالية الغربية، ألن الطبقاالبرجوازية التي حكمت في العديد من البلدان العربية، والسيما في بلدان

.المشرق العربي، كانت متغربة ومرتبطة بالقوى االستعمارية الغربيةعقب انهيار االتحاد السوفياتي، وكساد الفكر الشيوعي، ومحاولة

دة األمريكية النظام الدولي الجديد أحادي القطبية بزعامة الواليات المتحنشر قيم الليبرالية والديمقراطية في بقية أنحاء العالم، شهد العالم إقباال متزايدا على الديمقراطية التعددية يمكن اعتباره واحدا من األحداث الكبرى في التاريخ العالمي، السيما في بلدان العالم الثالث، حتى إن

-٥٧-

اقتداء » تقالل الثانياالس«بعض المحللين، أطلق على هذه المرحلة . بمرحلة التحرر الوطني في بداية عقد الستينيات

وبالرغم من تزايد الضغط المحلي والدولي المسلط على الدول العربية، من أجل التنفيس السياسي وإفساح مجال أكبر أمام القوى السياسية واالجتماعية للنشاط العلني والحر، فإن السلطات العربية تؤكد،

بعد يوم، أنها ليس لها االستعداد لتحقيق مطالب المعارضة يوما . الديمقراطية وتطلعات الهيئات غير الحكومية

فعلى عكس الخطاب الرسمي العربي الخشبي الذي يعد دوما ، »ترفع العالم العربي إلى مصاف الدول المتقدمة«بإصالحات ديمقراطية

شأن السياسي، والذين راهنوا وخالفا النتظارات المراقبين والمهتمين بالعلى اإلصالح المدعوم أمريكيا، فإن السلطات العربية، هدمت تلك األحالم وأسقطت تلك الحسابات في الماء، ووضعت الناشطين والفاعلين في الحقل السياسي أمام واقع متأزم، وفي موقف معقد، وأحرجت العديد

. لى اإلصالح الديمقراطيالذي ما يزال ينتظر إقدام الحكومات العربية عوصار الشعب العربي بعد أن أعيته كل دعايات الحكومات العربية واألمريكية حول الديمقراطية والمجتمع المدني والحداثة قانعا بما تيسر من أمن اقتصادي محدود جدا، فاختصر الحرية السياسية وحرية التعبير،

تطلعاته وطموحاته، وحرية إنشاء األحزاب السياسية المعبرة عن والحال . حتى باتت الحرية بالنسبة إليه مجرد اتقاء لشر التسلط والتعسف

هذه، ناصبت السلطات العداء لكل دعوة إلى احترام حقوق اإلنسان، ونصبت نفسها ممثلة للحقيقة المطلقة بصفة احتكارية تعلو على السيادة

. الشعبية

-٥٨-

باآلخر كما قال شارل الديمقراطية هي سياسة االعتراف نإتايلور، بينما استغلتها السلطات العربية لخدمة الدولة األمنية التعسفية والقمعية التي قضت على المجال السياسي، وعلى انبعاث القناعات

الديمقراطية مسألة مستجدة على . الديمقراطية لدى فئات الشعبالنخب الفكرية فقد اعتقدت . المجتمعات العربية، بل هي وافدة برانية

انتصرت بعد نهاية الحرب الباردة الديمقراطيةوالسياسية العربية أن هي الديمقراطيةوفضال عن ذلك، فإن . وانهيار األنظمة الشمولية

المظهر السياسي الذي تتجلى من خالله حداثة قائمة على اقتصاد السوق . الثقافيمن حيث شكلها االقتصادي، وعلى العلمانية من حيث تعبيرها

وفي السياق التاريخي، علينا أن نعترف أن تاريخ الديمقراطية كما فتحقيق . تبرزه خبرة أعرق الدول الديمقراطية الغربية مليء بالصراعات

المكاسب الديمقراطية للجماهير ال يمكن أن يتم بقرار فوقي بين عشية بريطانيا فقد مرت عدة قرون بين بدء المسيرة الديمقراطية في . وضحاها

واكتمال عملية المشاركة ١٢١٥عام » الماجنا كارتا«منذ أعلنت عام السياسية بحصول المرأة على حقوق المواطنة والتصويت الحر

١(١٩٢٠( . ال يعني هذا أن الشعوب العربية ال تناضل من أجل تحقيق

يقتضي كفاحا مستمرا الديمقراطية، وإنما يعني أن تحقيق الديمقراطية التعددية في العالم الديمقراطيةفعملية االنتقال نحو . زيمة ال تكلوع

العربي ال يمكن النظر إليها باعتبارها انعكاسا لمتغيرات دولية خارجية،

في الوطن العربي بين القلق واليأس يةالديمقراطسعد الدين إبراهيم، . انظر وراجع د )١(: في الوطن العربي، القاهرةالديمقراطيواألمل، نشرة المجتمع المدني والتحول

. ١٩٩٢، مارس ٣مركز ابن خلدون، رقم

-٥٩-

كما يشير إلى ذلك بعض أنصار نظام الحزب الواحد أو الدارسين ذوي . النظرة األحادية في التفسير

ل الديمقراطية في الشرق ولم يكن الخطاب األمريكي السابق حو يجب الديمقراطيةاألوسط نابعا من إيمان الواليات المتحدة األمريكية بأن

أن تكون في خدمة الشعوب العربية بما هي ذوات فاعلة، وبما هي صانعة لنفسها ولحياتها الفردية والجماعية، ولتاريخها السياسي

حرية الفردية واالجتماعي، وعلى اعتراف المؤسسات المجتمعية بالوالجماعية التي ال قبل لها بالوجود ما لم يكن المحكومون قادرين على اختيار حكامهم بملء إرادتهم، وما لم يكن القسم األعظم من هذه الشعوب

. قادرا على المشاركة في إيجاد المؤسسات المجتمعية وغيرهاعلى عكس ذلك تماما، لم يكن للواليات المتحدة من مشروع

تغيير في الوطن العربي سوى مشروع الهيمنة االمبريالية األمريكية، للفرصة التحول إلى » إلسرائيل«التي في سياق توسيعها وتعزيزها تتهيأ

. »إسرائيل العظمى«وكيف يمكن للواليات المتحدة األمريكية أن تركز إيديولوجيتها

ع يشهد على الديمقراطية في الشرق األوسط، في حين أن العالم أجمازدواجية السياسة األمريكية من خالل التحالف العضوي االستراتيجي

»إسرائيل«القائم بين أمريكا والكيان الصهيوني، حيث تعتبر أمريكا بالمواصفات األمريكية البحتة، ما يسمح بمباركة » دولة ديمقراطية«

بحجة رفضها للقوانين الدولية وتبرير إرهابها وإبادتها للشعب الفلسطيني، وبتفهم بناء الجدار العازل وجرف األراضي »الدفاع عن النفس«

المزروعة وقطع أشجار الزيتون وضم األراضي وسكانها عدا خطاب . االغتياالت لقيادات فصائل المقاومة وتهديم المنازل واألبنية

-٦٠-

الديمقراطية مهم بكل تأكيد، لكنه يتناقض جذريا مع االستراتيجية تمارس على األرض، والتي قوامها إعطاء األولوية األمريكية التي

للعالقة مع الكيان الصهيوني الذي يحتل األراضي العربية وفي القلب إضافة إلى . منها فلسطين ويمارس الظلم ضد الشعب الفلسطيني كل يوموهذا بحد . عالقة معادية شاملة من جانب الواليات المتحدة للعالم العربي

. لمساواة الذي هو أساس الديمقراطيةذاته نفي لمبدأ امجرد التبشير بالديمقراطية ال يكفي لتحقيقها، ألن حجر الزاوية إن

في البناء الديمقراطي في البالد العربية هو القضاء على أسباب االستبداد، واالحتالل الصهيوني لفلسطين وباقي األراضي العربية

راضي العربية ال يساعد في فاستمرار االحتالل الصهيوني لأل. األخرىومن هنا فإن الدعوة األمريكية إلى الديمقراطية تفتقر . إحالل الديمقراطية

إلى الصدقية بسبب تقلباتها، وانحيازها، وأكاذيبها، ووقوفها ضد إرادة . الشعوب وتطلعاتها في الحرية والسيادة

هجوم وترمي االمبريالية األمريكية المندرجة في اإلطار العام لليبرالي كوني، إلى توحيد قسري لكل الشعوب واألمم تحت هيمنتها،

كتلة : يكون الهدف األخير منه حصر البشرية في كتلتين متواجهتينشرائية قوامها زبائن محتملون، شراة ومستهلكون للسلع األمريكية وتسهم

ة وكتلة أقلوية، قوامها باع. األمريكيةةأفعالهم في إغناء اإلمبراطوريوسماسرة ووسطاء تجاريون، ينظمون الدورات التجارية التي تغنيهم،

مبراطورية األمريكية فهل هذه هي رسالة الليبرالية التي تنادي اإل بتطبيقها على صعيد كوني؟

تعد الواليات المتحدة األمريكية نفسها الوكيل الرئيس آللية ثورية ية والرأسمالية كونية تنشر، في طول العالم وعرضه، الديمقراط

-٦١-

ويبدو واضحا أن القيم والسلوكات االجتماعية التي تعمل . الليبراليتينساكسونية التي -النيوليبرالية على نشرها وثيقة الصلة بالفردية األنكلو

نسبة إلى الرأسمالية التي طورها الصناعي (حاولت النزعة الفوردية تهميشها ) ١٩٢٩ة األمريكي هنري فورد بعد أزمة الرأسمالية في سن

. وقمعهاالذي » الفوضى البناءة«ما هو مفهوم : وهنا يطرح السؤال التالي

انتشر بين ظهرانينا نحن العرب في اآلونة األخيرة؟ مصطلح أطلقه اليمين المحافظ األمريكي تجاه » الفوضى البناءة«

في الشرق األوسط، ومفاده أن هذه المجتمعات » مسارات التغيير«من محاذاة األطلسي في .. ية، وتلك القريبة منها في المنطقةالعرب

» راكدة«الغرب، حتى حدود أفغانستان في الشرق، هي مجتمعات شيء من «ولكي يتحرك ركودها هذا، ال بد من إحداث . سياسيا

. والخلخلة حتى يحصل التغيير في ظنهم» الفوضىلية التغيير، مع في عم» اإلصالح«وفيما تعتمد السياسة البريطانية

إبقاء الوضع في جملته على ما هو عليه، تميل الواليات المتحدة ويوطد هذه . ثم البناء من جديد»الهدم الكامل«األمريكية إلى تبنى فكرة

الرؤية ما كتب وال يزال يكتب في الدوريات األمريكية الرصينة يتشارد وممن كتبوا في هذا المجال ر. الصادرة في الواليات المتحدة

هس، مدير التخطيط السابق في وزارة الخارجية األمريكية، ويترأس مجلس العالقات «اليوم إحدى أكبر مؤسسات الفكر االستراتيجي، وهي

: الذي يصدر إحدى أهم المطبوعات تأثيرا في الشؤون الدولية»الخارجيةذائعة الصيت، التي تضع ) فورين أفيرز (»الشؤون الخارجية«مجلة . فة األفكار األولى للسياسات األمريكية المركزية الالحقةفلس

-٦٢-

»الفورين أفيرز«، كتب ريتشارد هس في ٢٠٠٥في عدد سبتمبر ، يقترح فيه طريقتين »تغيير األنظمة«: مقاال مطوال تحت عنوان

األولى : ضد المصالح األمريكية»التهديد«مجربتين وناجحتين لمجابهة خارج بالقوة، والثانية هي االحتواء أو التغيير هي تغيير األنظمة من ال

. المتدرج من الداخل، ويحتاج إلى قناعة ينبغي سياسة تغيير األنظمة بالقوة أصبح مكلفا

أن تصل إلى درجة مئة في المئة بأن المصالح األمريكية مهددة، وأن ال لة أما سياسة االحتواء ومحاو. بديل من استخدام القوة أو الضغط الشديد

التغيير من الداخل، فهي ما يسميه زلماي زاده سفير الواليات المتحدة ، وهو بناء ليس سهال وال يسيرا، »بناء األوطان«السابق في العراق

فالتجربة األلمانية واليابانية وأخيرا العراقية واألفغانية، تبين أنها مكلفة نظر الواليات في المال والرجال، ولكنه ضرورة ال بد منها، من وجهة

. المتحدة األمريكيةلقد تجددت مشاعر العداء للواليات المتحدة األمريكية حين أصر الرئيس األمريكي السابق جورج بوش على نشر الديمقراطية في العالم العربي، وجعل من هذا األمر نقطة مركزية في سياسته تجاه الشرق

إن الديمقراطية : قائالاألوسط، ومحورا مهما في الحرب على اإلرهاب في الشرق األوسط حيوية ومهمة للمساعدة على تغيير الظروف التي

ففي مقابلة مع . تؤدي إلى ظهور التشدد والتطرف وزيادة اإلرهابقضية «، اعترف الرئيس بوش أن كتاب »واشنطن تايمز«صحيفة

ناتان للمنشق السوفييتي المهاجر إلى الكيان الصهيوني )١(»الديموقراطية

(1) Nathan Sharansky, The Case for Democracy. The Power of Freedom to Overcome Tyranny & Terror, Public Affairs, New York, 2004.

-٦٣-

شارانسكي، الذي شغل لبعض الوقت منصبا وزاريا في حكومة آرييل . )١(»الخريطة الجينية لرئاسته«شارون، مثل

والكتاب يعبر عن الحاجة الملحة لنشر الديموقراطية في العالم العربي، وكشرط ال غنى عنه من أجل توقيع اتفاق للسالم الشامل في

وفي سبيل تحقيق هذا . السلم العالميالشرق األوسط، ومن أجل ترسيخ الهدف، لن تتردد الواليات المتحدة في إعادة النظر باألوضاع القائمة في

، »مهما كانت المخاطر الناجمة عن ذلك«الشرق األوسط منذ عقود، . بحسب قول وزيرة الخارجية األمريكية السابقة كوندليزا رايس

التي تصف العالم شارنسكي يستعيد األطروحات االستشراقيةالعربي بكونه تجمعا ألقليات دينية وعرقية عاجزة عن العيش سوية في

وترتكز الحلول المقترحة من أجل خدمة . كيانات دولتية وطنيةالديمقراطية ومصالح أمريكا معا، والمفترض أنهما مترابطان، على

فوضى«استخدام صريح للطائفية في إطار استراتيجية تعرف بالـ . »البناءة

رجل القرن «عندما يطلق من يستوحي منهم الرئيس بوش اسم على العالم العربي، فإنهم بالكاد يخفون » الحادي والعشرين المريض

أملهم في رؤية هذا العالم يلقى المصير الذي لقيه رجل القرن التاسع عشر . األولىمبراطورية العثمانية، من تقسيم غداة الحرب العالمية المريض، اإل

ويشير منظر المحافظين الجدد، االختصاصي في العراق والشيعة للدراسات، روول مارك » أمريكان انتربرايز«والباحث في مؤسسة

. ٦/٢/٢٠٠٥، لندن، »االندبندنت«ورد في صحيفة ) ١(

-٦٤-

الشرق األوسط «إدارة بوش بلورت مشروعها حول إلى أن غيريشتمؤرخين من أصحاب النفوذ، « باالرتكاز جزئيا على أبحاث )١(»الكبير

لويس من جامعة برنستون وفؤاد عجمي من جامعة جونز أمثال برنارد وقد اشتهر برنارد لويس، المناصر الراديكالي لدولة . )٢(»هوبكنز

إسرائيل، باعتباره أول اختصاصي أمريكي أعلن، بعد حرب الكويت، لقد حاربت دول عربية : ، موت العالم العربي ككيان سياسي١٩٩١عام

جانب التحالف الغربي، وتهمشت ، إلى)العراق(دولة عربية أخرى . )٣(منظمة التحرير الفلسطينية بسبب موقفها المناهض لهذه الحرب

العالم «بدل » الشرق األوسط«وقد اقترحت، منذ ذلك الحين، عبارة وفي ما يشبه رجع الصدى لتوجيهات برنارد لويس، ينصح . »العربي

واشنطن «روبرت ساتلوف المدير التنفيذي المعروف في مؤسسة ، وفي مقالة على شكل رسالة موجهة إلى السيدة »لسياسات الشرق األدنى

كارن هيوجز، مساعدة وزير الخارجية األمريكية لشؤون السياسة إقصاء تعابير العالم العربي والعالم اإلسالمي من القاموس «العامة،

لد دافعوا قدر اإلمكان عن مقاربة خاصة بكل ب. الديبلوماسي األمريكييريد اإلسالميون المتطرفون محو الحدود، وخلق . على حدة، قوال وفعال

ال . عالم فوق األوطان، حيث تنفصل دار اإلسالم عن دار الحرب . )٤(»تتراجعوا أمامهم حتى قبل خوض المعركة

)١( Gilbert Achcar, «Le nouveau masque de la politique américaine au Proche-

Orient» Le Monde diplomatique, avril 2004. (2) Gerecht, «The struggle for the Middle East», The Weekly Ruel Marc, Standart,

Washington, janvier 2005. (3) Lewis, «Rethinking the Middle East», Foreign Affairs, New Bernard automne,

1992York.

(4) Satloff, «Memo to Karen P. Hughes», Washington Institute Robert for Near East Policy, 28 mars 2005 .

-٦٥-

أما فؤاد عجمي، الذي يشكل الضمانة العربية ألنصار الليكود ه الناطق الرئيس باسم الرؤية والمحافظين الجدد في واشنطن، فإن

ففي مقالته . الطوائفية للواقع االجتماعي السياسي في العالم العربيأن بالد األرز كانت على «المخصصة للتطورات في لبنان، يعتبر العديد من «ويضيف أن . »الدوام، في جوهرها، وطنا للمسيحيين

مع لبنان ناشئ من اللبنانيين مقتنعون أن الضعف في التماهي العربي كون هذا البلد هو مسيحي بشكل رئيس، إضافة إلى طوائف منشقة تعيش

. )١(»هناك الكثير من الحقيقة في هذا الهجوم. فيهال تمثل االستراتيجية األمريكية، بالطبع، ترجمة آلية لهذه

لكن هذه . الطروحات، فالعديد من العوامل تتداخل في بلورة هذه السياسةيسمي السيد روبرت . م توفر رؤية شاملة وخطوطا توجيهيةالمفاهي

، ويالحظ أن البحث عن »فوضى البناءة«ساتلوف هذه السياسة بالـ صفة مميزة لسياسة الواليات المتحدة في » تاريخيا«االستقرار كان يناقش واضعو االستراتيجية األمريكية مالءمة مسألة «. الشرق األوسط

ق أخرى من العمل، لكن جورج بوش كان أول االستقرار في مناطرئيس يعتبر أن االستقرار بحد ذاته يشكل عائقا أمام تقدم المصالح

فالواليات المتحدة استخدمت في (...) األمريكية في الشرق األوسط عملها مروحة من التدابير القسرية وغير القسرية، من استخدام القوة

غانستان والعراق، مرورا بسياسة الجزرة العسكرية لتغيير األنظمة في أفوالعصا، أوال لعزل ياسر عرفات وتشجيع قيام قيادة فلسطينية جديدة (1) «The Autumn of the autocrats», Foreign Affairs, New, Fouad Ajami, York, mai-

juin 2005 .

-٦٦-

ومسالمة، ووصوال إلى التشجيع المهذب لمصر والسعودية على االلتزام . )١(»بطريق اإلصالحات

البحث عن «: في كتابة القيم، الذي يحمل العنوان التاليالذي ترجمه مركز » الخطاب والخطاب المقابل: يةديموقراطية عرب

دراسات الوحدة العربية من اإلنكليزية إلى العربية، يوضح الباحث التونسي واألستاذ في جامعة إكستر ببريطانيا الدكتور العربي صديقي، رؤية نقدية متميزة للديمقراطية، توخى فيها خريطة ترسم الخطاب

خطاب غربي : اور متفاعلة ومتشابكةوالخطاب المقابل على ثالثة مح . )٢( عربي-وخطاب عربي غربي، خطاب غربي عربي، -

العربي، والتي » الوعي السلطوي«إن الفكرة الديمقراطية التي يتبناها سبقتها صراعات اجتماعية وسياسية وحتى عسكرية، ومخاضات عسيرة

للبيئة العربية، حول مفهوم الديمقراطية وآليات تطبيقها، ومدى مالءمتها ظلت عرضة لألخطار واالنتكاسة والتراجع بسبب عدم احترام السلطات للحريات األساسية، وعدم اتجاهها نحو الحد من سلطة الدولة على األفراد، وبقائها أسيرة المصالح الخاصة، والحزبية الحاكمة ذات المنشأ غير

نظم عالقات ديمقراطية والحقيقة، أن الديمقراطية تبدأ بإرساء . الديمقراطيوممارستها مؤسساتيا، كما تتطلب التغيير في العقليات والتكوين النفسي، ال

ومن األفضل للسلطة السياسية . في الشكل فحسب ولكن أيضا في المضمونالتي ترفع لواء الحداثة والديمقراطية وحقوق اإلنسان أن تبدأ بممارسة هذه

(1) Satloff, Assessing the Bush administrations policy of Robert constructive

instability.

العربي صديقي، البحث عن ديمقراطية عربية الخطاب والخطاب المقابل، ترجمة . د )٢(أليوبي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة األولى، بيروت، محمد الخولي عمر ا

). ١١ص(، ٢٠٠٧مايو /أيار

-٦٧-

وهذا ما . فاقد الشيء ال يمكن أن يعطيهالقيم داخل أطرها المؤسساتية، ألن . ليس حاصال، وربما لن يحصل في العالم العربي

بحث الديمقراطية في إطار العولمة، يوجب النظر مليا في إن معنى الديمقراطية اإلقليمية في عصر : نوعين من االختالف على األقل

جاح المعايير الدولة، وقابلية ن–انتشار القوى التي تعمل فوق األمة وتخضع . واإلجراءات والمؤسسات الديمقراطية في العالقات بين الدول

الصلة الجهازية التقليدية بين وضع الخرائط اإلقليمية والمجتمع السياسي وثمة أسئلة تطرح عن معنى السيادة في عالم يزداد فيه . للتهديد باإلكراه

كات المتعددة الجنسيات عمل الشركات العابرة للحدود القومية والشروتمارس المجالس اإلدارية . خارج نطاق الواليات القانونية الوطنية

والتنفيذية غير المنتخبة شعبيا التي تدير الشركات المتعددة الجنسيات سلطة كبيرة تصل في الغالب إلى حد التأثير في صنع القرار وفي

ويمكن الشعور بنفوذها .الخيارات السياسية للقادة السياسيين المنتخبينعلى حد سواء في دول قوية ودول ضعيفة وكذلك في دول ديمقراطية

لقد أنتج التحدي الذي تواجهه الديمقراطية .. ودول غير ديمقراطيةالقطرية من القوى العابرة للحدود القومية وتركز العولمة حركات من

ويتخذ . لعالميدعاة اإلصالح الراديكالي العالمي ودعاة التضامن ااألخيرون شكل هويات هجينة عابرة للحدود القومية ونضاالت تسعى . إلى التعبئة تحت الدولة، بأسلوب محلي، وفوق الدولة، بأسلوب معولم

إن هذا النموذج الحديث النشأة للمقاومة التي تخوضها هويات وجماعات لدولة القطرية كانت مهمشة سابقا وانعتاقها يؤدي حاليا إلى تهميش ا

. )١(بصورة نسبية وعن غير قصد

. ٤٢- ٤١العربي صديقي، مرجع سابق، ص )١(

-٦٨-

لقد دخلت الديمقراطية، بوصفها كلمة دالة، دخلت الشرق األوسط العربي عندما فقد حريته أمام القوى االستعمارية وما تال ذلك من خالل

لكن بانتقال الكلمة الدالة من مسرحها الغربي . الدولة–نشوء نظام األمة لعربي تحررت من جسدها وتضعضعت بالتالي إلى الشرق األوسط ا

وينطبق ذلك على األقل على الروايات السلفية والتوفيقية التي . أهميتهاتدقق في الدالالت األصلية أو تزعزعها وفقا لتصوراتها للمجتمع

وبرفض الديمقراطية، على سبيل المثال، قد تصف الرواية . والهويةية باعتبارها غريبة تماما، ويحيلها إلى عالم الداعية إلى السلفية الديمقراط

بالمقابل، قد تسعى الرواية التوفيقية إلى تسوية وتفاوض مع . »اآلخرية« . الحديث والتقليدي على السواء

واألزمات الحالية التي يعيشها العالم العربي هي ذات طبيعة بت مختلفة عن تلك التي عصفت بالدول العربية في السنوات التي أعق

فنضاالت الحرب الباردة االيديولوجية أعقبتها حالة من . االستقالالتالالاستقرار المزدوج وذلك بفعل االلتحاق بحماسة بالعولمة االقتصادية

ارتجال الديمقراطية في دول تفتقر إلى ببمن جهة، ومن جهة أخرى بسوقد أفضت هاتان الظاهرتان إلى نزع الشرعية عن حركات . الوسائل

. بناء الوطني الناشئة وإلى تحويل سيادة هذه الدول مجرد وهمالوقد تضافرت ظواهر عديدة ذات طبيعة مختلفة لتولد االنعكاسات

» الشرق والغرب«التي زعزعت األوضاع ومنها انتهاء المواجهة بين التي كانت تحدد البنية الجيوسياسية العربية، وارتجال الدول المانحة

طيا لم يحسن التحكم به، واإلطار االقتصادي الجماعي إيعازا ديمقراالليبيرالي المتفلت الجديد، وأعمال الخصخصة المتوحشة وبرامج اإلصالح البنيوي المتفككة المتسارعة، والتدخالت الوحشية من الشركات

-٦٩-

الغربية المتعددة الجنسية ومن المصارف الشرقية النافذة، انفجار أزمة ثقافة العامة بشكل مخيب لدى العديد من الزعماء الدين، وانعدام ال

حتى على (السياسيين في القارة السوداء وما ينتج عنه من عدم الرؤية وفساد الموظفين، صغارا وكبارا، وتهريب األسلحة ، )المدى المنظور

والكثير من العيوب التي أفضت إلى انهيار قارة هي أساسا في حالة من .الضعف الشديد

المؤشرات االقتصادية العامة منها واالجتماعية والصحية فكل تراجعت فجأة ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي قاضية على الطبقة

فقد غرقت معظم . الوسطى ومثيرة حاالت عميقة من التوتر االجتماعي في الفقر، إذ إن كل ناتج – باستثناء البلدان الخليجية –البلدان العربية فيها قد ضرب والنمو الذي وعدت به الدول المانحة لم محلي إجمالي

يشير إلى ) PNUD(ن برنامج األمم المتحدة للتنمية إيتحقق، ال بل . )١(في مؤشرات التنمية البشرية» تقهقر ال سابق له«

إذا كانت اآلليات الديمقراطية المؤسسة على مبدأ الغالبية قد وجدت وبا، في مجتمعات كانت مسيرة طريقها إلى التطبيق تماما في أور

التصنيع والتمدين فيها تنعى أشكال التضامن الجماعاتي لتخلي الساحة مكانها لعملية فرز مهنية اجتماعية قوية قائمة على وعي المصالح

فالتناقض بين مصالح . المتناقضة، أي نشوء الطبقات االجتماعيةبادرات البعض، حرية حركة السوق، ومصالح البعض اآلخر، الم

الجماعية الساعية إلى الحد من المظالم التي ولدتها هذه اآلليات، شكل على مدى قرن محرك الحياة الديمقراطية مشرعا بذلك المؤسسات العامة

. كما القوانين التي أصدرتها

. hdr/org.undp.WWW 2003 راجع ٢٠٠٣من تقرير حول التنمية البشرية، عام )١(

-٧٠-

أما المجتمعات العربية فلم تشهد أي وضع مماثل، ذاك أن أشكال ل تجمع أفرادا من مستويات مهنية التضامن من النمط العمودي ال تزا

اجتماعية بالغة التباين أحيانا داخل مجموعات قائمة على صلة القربى وإن تكن بعيدة وحتى متخيلة، وهذا من ثمار ثقافة ثانوية إقليمية

لزامية العرفية التي ينهض عليها تبادل مشتركة، وتبعا للواجبات اإل» الصفة السياسية« آن واحد إذن إلى فالحياة السياسية تفتقر في. الخدمات

إذ إن الرهان لم يعد أبدا اختيار مستقبل للفعل السياسي من بين مجموعة من المقترحات المختلفة، وتتميز باحتدام الصراعات بسبب المواجهة الدائمة بين الجماعات التي ترغب في االستيالء على مقدرات السلطة

. لفقر والتخلفالمغرية في نظر مجتمعات تتميز باولم يكن لإلصالحات الديمقراطية التي نفذت عبر مؤتمرات وطنية في تسعينيات القرن الماضي في بعض البلدان العربية إال تأثيرات شكلية، ذاك أن نظام الغالبية يمنح السلطة إلى الحزب الذي يتمتع بغالبية

حية العملية فمن النا. المقاعد في البرلمان مفضيا إلى حرمان اآلخرينإذن فإن هذا النظام، وعلى خلفية المواجهة بين األحزاب السياسية المزيفة التي تعيش في عالم السلطات الحاكمة، ينظم عملية نقل موارد الدولة المادية والرمزية إلى هذه أو تلك من الجماعات السياسية مبعدا

. ة الحاكمةعنها اآلخرين، ومحافظا على االمتيازات للطبقة السياسيحيث تبدو » لحظة تاريخية«رغم أن المجتمعات العربية تعيش

على درجة كبيرة من الثقة في االنخراط في مسار الديمقراطية والمشاركة في مثلها األعلى وتجربتها، فإن الديمقراطية الحقة هي تلك التي تقوم على اعتراف السلطة العربية بضرورة إعادة النظر في بنية

السائدة حاليا، لجهة بناء دولة المؤسسات، دولة كل المواطنين، ال الدولة

-٧١-

ويتطلب . دولة حزب واحد، أو دولة أفراد مهما كبرت أدوارهم التاريخيةبناء الدولة الحديثة أن تطلق السلطة حوارا وطنيا واسعا طال انتظاره

الجمعيات حول قوانين الدولة الوطنية الحديثة، بدءا من قانون األحزاب و عن بناء إلى قانون المطبوعات إلى قانون األسرة وغيره، فضال

المؤسسات المجتمعية المقتنعة بالحريات الفردية والعامة، وضمان والحريات الفردية والعامة ال يمكن . ممارستها في المجتمع، وعدم كبحها

أن يكون لها وجود عياني ملموس ما لم يكن المحكومون قادرين على يار حكامهم بملء إرادتهم، وما لم يكن الشعب قادرا على المشاركة اخت

السياسية في إيجاد المؤسسات السياسية والقانونية والمجتمعية، وفي . تغييرها

إن إحدى ركائز دولة الحق والقانون هي وجود تعددية سياسية . حقيقية مؤسسة على قيم الحوار، والتنافس الشريف، واالعتراف المتبادل

ففي البلدان التي توجد فيها ديمقراطية تعددية، تجري انتخابات حرة ولهذا نرى في هذه . ونزيهة بشكل دوري ومنتظم بواسطة االقتراع العام

البلدان تداوال سلميا على السلطة، جراء تحقق توافق بين الفاعلين السياسيين حول سير المؤسسات وطريقة عملها، بما في ذلك السياسة

لية والخارجية، وضمان ديمومة استمرار دولة القانون، أوال، الداخ. ووجود حياة حزبية مستقرة، منتظمة، ومؤسسة على ثقافة المشاركة

فهناك تالزم بين الحياة الحزبية السليمة والعملية الديمقراطية، باعتبار وفضال غن ذلك، فإن . ذلك تعبيرا عن التداول السلمي على السلطة، ثانيا

كرة الديمقراطية ال تترسخ في النظام السياسي المعاصر، السيما في فالبلدان المتخلفة، إال من خالل تفعيل العمل الحزبي وتقويته وتطويره،

ذلك . في أوساط الشعب، الذي من المفترض أن تنتج السياسة في صلبه

-٧٢-

أن األداء الحزبي، المنتظم، والمستقر، والمؤسس على روح المنافسة، . الديمقراطية ويعمق الوعي بها، ثالثايصقل

نخلص إلى القول، أننا مع إعادة تشكيل الديمقراطية في العالم العربي بوصفها سمة تراثية، أي غير مستندة إلى مرجعية غربية

وإزاء خلفية المناقشات والخالفات الثقافية والحضارية المتعالية، . فحسبستنبط فهما للديمقراطية يكون فيه للثقافة الغربية والعربية اإلسالمية، ن

والديمقراطية فرصة ألن تعزز إحداهما األخرى ال أن تستبعد إحداهما أي العمل من أجل تطبيق نموذج من الديمقراطية في أماكن . األخرى

. غير غربيةيكاد النزوع إلى استعادة اللحظة الليبرالية والديمقراطية التمثيلية

مختلف القوى االجتماعية واألحزاب السياسية في العالم يشمل اليوم العربي، حيث جعلت هذه األخيرة من الديمقراطية أدلوجة وشعارا، ومعيارا أخالقيا قيميا تقوم في ضوئه أنظمة الحكم، وبنى األحزاب،

التي وحتى األحزاب. وأنماط السلوك والعالقات االجتماعية السياسيةبحت هي ذاتها تتحدث عن الديمقراطية وحقوق انفردت بالسلطة أص

تزال، الاإلنسان حين تتضارب المصالح، على الرغم من أنها حكمت ووأعادت مؤسسات الدولة وفق رؤيتها الحزبية الواحدية الضيقة، أي

فطبعت . مركزة السلطة، ونفي مبدأ المؤسسات، ومبدأ التداول والمشاركةمولي، وباتت أيديولوجيتها بمنزلة دين الدولة بطابعها األيديولوجي الش

.جديد للدولة يستبعد سائر األيديولوجيات األخرى، ويقمعهاوقد تحول المجتمع العربي بعد اختراقه وتكييف أو تنسيق بناه االجتماعية، انطالقا من ارتباط أنظمة الحكم العربية بمراكز الرأسمالية

الكية المشوهة التابع في إطار الغربية، واختيارها طريق التنمية االسته

-٧٣-

البقاء كجزء تابع لالقتصاد الرأسمالي العالمي، حيث أدى ذلك في ظل العالقات االقتصادية غير المتكافئة إلى وقوع الدول العربية في أزمات

السلبية والمدمرة، في آثارهااقتصادية خانقة تحملت الطبقات الشعبية واإلنفاق المتزايد على التسلح، ظل توزيع غير عادل للدخل القومي،

وانخفاض شديد في معدالت اإلنتاج، وعدم اهتمام أنظمة الحكم العربية بالمشاركة السياسية، وتدهور الديمقراطية وانتهاك حقوق اإلنسان حين تركزت السلطة في أيدي األقلية المستغلة التي تستخدم أسلوب القمع

اللها للحفاظ على مصالحها والقهر للحفاظ على سلطتها وتكريس استغالخاصة، تحول هذا المجتمع إلى جمع أو حشد غير منتج من أفراد استلبت فعاليتهم السياسية، وصاروا مربوطين بالدولة والسلطة، رباط األمن أوال، وبالصفة التوزيعية غير العادلة للدولة التي احتكرت مصادر

.الثروة والقوة والسلطة في المجتمع ثانياوكان من الطبيعي أن يقود ذلك كله إلى سيادة حالة االستالب السياسي التي يعيشها المجتمع العربي، الذي تهشمت قواه االجتماعية، وفقد فعاليته السياسية، وانخرط في نمط االستهالك الذي عممته الرأسمالية الحديثة المتوحشة، وبات أقرب إلى المجتمع الجماهيري منه

.لمدني المنتجإلى المجتمع اوأمام إخفاق األحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة في صنع

باعتبار أن الديمقراطية قضية مجتمعية، وبسبب من ،العملية الديمقراطيةبنية هذه األحزاب التي تجعل النفوذ فيها يبدأ من القمة متجها إلى

ن شأنه أن القاعدة، وهذا وضع مقلوب من الناحية السياسية والدستورية م الزعماء في الحزب على الكتلة الشعبية مطلقا أو شبه سيطرةيجعل

مطلق، وال يسمح للجماهير هنا بمناقشة الزعماء والحساب، وأصبحت

-٧٤-

هذه األحزاب موسومة بالسلبية السياسية، سواء من حيث ذوبانها في من حيث معارضتها لها على أساس مالسلطة واندماجها في عالمها، أ

.مجها ذاته، ورؤيتها ذاتهابرنالذلك تجدنا أمام مشكلة نظرية وعملية قوامها خروج القوى السياسية ذات األيديولوجيا العصرية والمناهج الحديثة من عالم المجتمع، وذوبانها أو إلغاء نفسها إيجابيا أو سلبيا في عالم السلطات الحاكمة،

ي المجتمع تطرح في فحركة الشارع العربي العميقة الجذور وبزوغ ثورية كالصراع ضد اإلمبريالية األمريكية والوجود االغالب أهداف

العسكري األمريكي، ومقاومة العدو الصهيوني، وتحرير فلسطين، وفي المنظور الوطني والقومي بضرورة الديمقراطية لتحقيق نهضة األمة

: قراطيةتبرز الحاجة الملحة إلى معارضة اتجاهين شائعين حول الديم اتجاه الليبرالية الجديدة األمريكية القادمة إلينا مع :االتجاه األول

نمط االستهالك األمريكي، ومع االنتهاك اإلمبريالي، والذي يتجلى في خطاب السلطات العربية الحاكمة، باعتباره خطابا يعبر عن حالة

دائرة االستالب السياسي للمجتمع العربي، ويقوم على حصر السياسة في، ويتبنى ا أو معارضتههااألقليات الحاكمة، ويخفض السياسة إلى تأييد

،اليةليبرأيديولوجية الليبرالية الجديدة األمريكية، متجاهال مسألة الوالمسألة القومية في عصر اإلمبريالية، ومتجاهال حقيقة أن اإلمبريالية

على مقدرات األمة األمريكية ال تسعى إلى الديمقراطية بل إلى السيطرة العربية، ويتبنى بالكامل خطاب الليبرالية الجديدة األمريكية القائمة على مبدأ الفرد ال على مبدأ المجتمع، وعلى مبدأ االستهالك ال على مبدأ

. اإلنتاج وعلى مبدأ النفعية اآلنية ال على مبدأ التاريخ وفكرة التقدم

-٧٥-

قراطي للحركة السياسية اتجاه الخطاب الديم و ه:االتجاه الثانيتطالب بإحالل الديمقراطية محل القومية أو االشتراكية، أي ي تالعربية ال

تحويل الديمقراطية إلى أيديولوجية بديلة، ذهبت عنها التحديثات الموضوعية والتاريخية للمجتمع واألمة، وذهبت عنها الرؤية المستقلة

ة هذين االتجاهين، تجدنا في معارض. للمسألة االجتماعية في الوقت عينهمعنيين بالكشف عن الروابط الضرورية المنطقية والتاريخية بين

والمجتمع المدني، من أجل وضع الديمقراطية في سياقها الديمقراطيةالمنطقي، أي في سياق المشروع النهضوي العربي، وأهدافه القومية

القومية من واالجتماعية، أي كشف الروابط بين الديمقراطية والمسألة .من جهة أخرىواالشتراكية وبين الديمقراطية ،جهة

نقطة االنطالق األساسية الفارقة بين الخطاب الديمقراطي النهضوي، والخطاب الشائع حول الديمقراطية بشقيه الليبرالية الجديدة األمريكية، وخطاب الحركة السياسية العربية المأزومة، هو خطاب الفكر

يكالي الذي يربط أو يضع الديمقراطية تحت مقولة السياسة السياسي الرادبوصفها فاعلية اجتماعية، وإنتاجا لحياة المجتمع السياسية، أي حياته

، أي على الديالكتيك )البراكسيس(القومية، ويقوم على منطق الممارسة . منطق الصيرورة وعقل الواقع

الفكر والسياسة ه الزاوية هي عملية تحديث هذمن الديمقراطية إن وعقلنتهما، في مزاولة تحديث المجتمع والدولة، وشرط هذا التحديث، وهي سيرورة نمو المجتمع المدني والدولة القومية أي سيرورة نمو األمة وتجديد بنيانها، وتعزيز حضورها في التاريخ وفي العالم، وسيرورة نمو

العام لألمة وتشكل القومية بوصفها المجال السياسي أو الفضاء السياسي . وجودها السياسي إزاء الخارج وإزاء اآلخر

-٧٦-

هناك شبه إجماع في العالم على أن الديمقراطية تمثل مطلبا ومع كل . ضروريا وملحا لكل الشعوب واألمم المحبة للحرية والسالم

ذلك يسود السخط والحنق العالم أيضا من خطاب الرئيس األمريكي الحرب ضد الطغاة والتقدم نحو «ا إلى شن السابق بوش عندما دع

فهذا الخطاب اإليديولوجي عن الديمقراطية يتسم . »ديمقراطية عالمية . بالسطحية والمغاالة

ويتساءل المفكرون في العالم الغربي، كيف يمكن لواشنطن، نشر قيم الحرية والديمقراطية، ودعم منظمات المجتمع المدني ألي دولة، دون

اشر في شؤون هذه الدولة أو تلك؟ أال يعتبر هذا التدخل في التدخل المبهذه الحالة، قمة االعتداء على الحرية والديمقراطية، ومنتهى االستبداد

والطغيان بحق الشعوب التي يراد تحريرها بوساطة الحرب األمريكية؟ فالديمقراطيات الناضجة ال تميل إلى شن الحروب لفرض

. شعوب ودولالديمقراطية بالقوة علىومن الواضح تماما أن الغرب ال يحاول رؤية المشكلة في سياقها الصحيح والبحث عن المعوقات التاريخية والسياسية التي حالت دون

أول هذه المعوقات هي أن الدول في هذه المنطقة . المنطقة والديمقراطيةفي قد جرى تشكيلها في القرن الماضي وفقا لمصالح القوى العظمى

وثانيهما، وجود أنظمة ليست بحاجة لجباية الضرائب من مواطنيها . حينهوثالثها، . لذا لم تكن بحاجة إلى محاسبتهم لها عبر صناديق االقتراع

واألهم هو الصراع مع الكيان الصهيوني، والدعم الالمحدود الذي تقدمه . الواليات المتحدة األمريكية له

االقتصادي ايكية على فرض نموذجهتعمل الواليات المتحدة األمرعلى الشرق األوسط، ويضاف إلى ذلك أنها تتجاهل المشكالت الرئيسة

-٧٧-

في المجموعة اإلقليمية » إسرائيل«في العالم العربي، إذ تطالب باندماج . حتى من دون اإلشارة إلى حقوق الفلسطينيين

وتركز الواليات المتحدة األمريكية على غياب الشرعية قراطية لدى أغلبية األنظمة العربية، التي تشوه اآلليات االنتخابية الديم

فنادرا ما تكون . ةوالمؤسسات التمثيلية من خالل تزوير قواعد اللعبالمؤسسات القضائية مستقلة عن الحكومات، في حال لم يقتصر األمر

وأن األحزاب السياسية المعارضة، . فقط على سلطات قضائية استثنائية . لو تم قبولها، مهمشة بمختلف أشكال العوائقحتى

وتعتبر الواليات المتحدة الدولة العربية التي ترفض االنصياع على غرار الظاهرة » ثقبا أسودا«لسياستها في منطقة الشرق األوسط

–الفضائية التي تحمل التسمية نفسها، تجذب ضمن حقل دورانها كل . القوى الحية في المجتمع– المتمركز حول سلطة تنفيذية مهيمنة

ذلك يؤدي، مع اجتراف الشرعيات التقليدية أو التي تمتع بهيبة كبيرة، الدينية أو القومية، إلى افتقار للحياة السياسية التي لم تكن منظمات

. المجتمع المدني قادرة حتى على تجاوزهان من هنا جاءت مبادرة اإلصالح الديمقراطي للعالم العربي م

واعتمدت مبادرة الشرق األوسط الكبير . الواليات المتحدة األمريكيةاألمريكية على ما وصفه األوروبيون بنموذج واحد لإلصالح، وافترضت أنه يصلح لكل الدول الواقعة في إطار الشرق األوسط الكبير الذي عرفته المبادرة األمريكية بأنه العالم العربي، مضافا إليه باكستان

. انستان وتركيا وإيران والكيان الصهيونيوأفغاألمة العربية ترفض المشروع األمريكي هذا، إال أن هذا الرفض ال معنى له إذا لم يترافق مع جهد أصيل من جانب الدول العربية إلجراء

-٧٨-

إصالح ديمقراطي حقيقي نابع من مجتمعاتها، ويسعى إلى النهوض لقاطع للمشروع األمريكي من وينبع هذا الرفض ا. بالعالم العربي : األسباب التالية

من دون » مفروض من الخارج«ألن مشروع إقرار الديمقراطية : أوال . استشارة مسبقة للمعنيين الرئيسيين به

كونه صادرا عن الواليات المتحدة » المصداقية«ألنه يفتقر إلى : ثانيا . دد مصالحهاألمريكية التي تزرع الفساد في العالم العربي وته

وهناك تحديا آخر يتمثل في أن المشاعر المعادية للواليات المتحدة وصلت إلى ذروتها في عموم العالم العربي، وتلونت بقدر عال من القتامة

: والكراهية الشرسة للواليات المتحدة األمريكية، وذلك لألسباب التاليةا تكشفت عنه احتالل الواليات المتحدة األمريكية للعراق، وم -١

. السياسة األمريكية من أكاذيب وأسباب واهنة لهذا االحتاللعملية التدخل العسكري لحلف شمال األطلسي في ليبيا، وإسقاط -٢

نظامها، وهي سابقة تاريخية تجعل العرب ينظرون إلى الواليات المتحدة كامتداد لمرحلة االستعمار البريطاني والفرنسي

. ألراضيهمديد بين الواليات المتحدة األمريكية واإلسالم السياسي التحالف الج -٣

في عموم البلدان العربية، التي وصلت فيها الحركات اإلسالمية . إلى السلطة

التطابق االستراتيجي في الرؤى والمواقف بين الواليات المتحدة -٤األمريكية والكيان الصهيوني إزاء كيفية التعامل مع الصراع

-٧٩-

ني، وإعطاء الرئيس باراك أوباما الضوء الصهيو–الفلسطيني األخضر لحكومة نتنياهو بتصفية المقاومة الفلسطينية، وبالتالي القضية الفلسطينية، تجلى ذلك في التحول الرئيس في الموقف األمريكي من المستوطنات وحق العودة وبناء السور والسماح

أدت بتجزئة المرحلة األولى من خريطة الطريق إلى عدة مراحلإلى تأجيل احتماالت تنفيذها من المستقبل المتوسط إلى المستقبل

.البعيدتصاعد التهديدات األمريكية لسورية وإيران يعمق الشعور بأن -٥

الواليات المتحدة تسعى للهيمنة اإلقليمية وتنفيذ خطة القرن . األمريكي الجديد التي رسمها المحافظون الجدد

كي المطلوب بحيث لم تعد الواليات تبدل آليات التغيير األمري -٦المتحدة تستبعد اللجوء إلى استخدام القوة لتغيير النظم السياسية في

. العالم العربي

-٨٠-

-٨١-

الفكر القومي املتجدد والعودة إىل املسألة الدميقراطية

منذ عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كان التركيز

ع الكيان الصهيوني واإلمبريالية الغربية العربي على خوض الصراع مالداعمة بصورة أساسية له، بما تعنيه من سياسات الهيمنة الدولية عبر التكتل السياسي الغربي الليبرالي، كما ركز على تحقيق العدالة االجتماعية، والعمل من أجل إنجاز الوحدة العربية، وتصفية مرتكزات

الليبرالية المتحالفة مع الغرب، وتعميق الطبقة اإلقطاعية والبرجوازية الخيارات االقتصادية واالجتماعية التقدمية واليسارية، والتحرر الديني، هذه هي قيم المشروع القومي الثوري لحقبة ما بعد االستعمار، لكنه لم يكن يولي االهتمام الكافي للمسألة الديمقراطية، بما تعنيه من بناء دولة

التعددية السياسية، وتعميم قيم الديمقراطية والتمثيلية القانون، وتحقيق . القانونية والدستورية

مع مطلع الخمسينيات، ستنتهي هذه الحقبة في مصر والمشرق، حال التراجع العام الذي أصاب الفكرة – تبعا لذلك –وستعمم

وليس . الديمقراطية في الفكر والممارسة منذ انصرام اللحظة النهضوية في أن نهاية الحياة الليبرالية كان بتأثير عملية الثورة التي قادتها من شك

ضد نظم – في مصر ثم في سورية والعراق –الطبقة الوسطى

-٨٢-

ومع ذلك، فإن أحدا ال يملك أن يتجاهل . الباشوات وكبار مالك األراضيأن جراثيم تلك النهاية كانت تعمل عملها في نسيج التجربة الليبرالية تلك،

ذ كان لفساد الحياة السياسية في ذلك العهد، وحرمان القوى االجتماعية إغير المالكة من حق المشاركة في الحياة السياسية، أثره الكبير في

ولذلك لم يدافع عنها أحد حين . إضعاف تلك الليبرالية أمام خصومها انعقد الوالء لهذه األخيرة، وباتت– بالعكس –انقضت عليها الثورة، بل

!.. خشبة الخالص من الغرق في أوحال الفساد– في أعين الشعب –ولعب الواقع دورا ضاغطا في اتجاه تغيير أولويات الفكر السياسي

لفكرة – في ظل الحقبة االستعمارية –لم تعد األولوية : العربينستطيع . ألفكار سياسية أخرى غيرهاةالديمقراطية، بل صارت األولوي

فكرة الوطن، وفكرة األمة، : ثالث أفكار على األقلأن نحصي منهاوفكرة الطبقة، وهي التي عبر عنها كل من التيار القومي، والتيار

الوحدة : اإلسالمي، والتيار الماركسي، واتخذت صورة أهداف ثالثةالقومية في مواجهة التجزئة، والدولة اإلسالمية في مقابل الدولة

وتكاد الفترة الفاصلة بين . ي مواجهة االستغاللالعلمانية، ثم االشتراكية فمطلع الخمسينيات وخواتيم السبعينيات تغطي مجمل تراث هذه الخطابات المنقلبة على الخطاب الديمقراطي، قبل أن يشهد هذا األخير بدايات

. )١(وسيادته في ساحة الوعي والممارسة... متجددة لصحوتهن جديد حول المسألة وهذا ما يفسر الصراع الذي احتدم م

الديمقراطية في العالم العربي وخياراتها، السيما بعد أن تراجعت الفكرة القومية العربية والحركة أو الحركات المرتبطة بها، سواء من حيث

، ةلعربي المعاصر، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريعبد اإلله بلقزيز، أسئلة الفكر ا )١(

). ١٥٧-١٥٦ص(، ٢٠٠١الطبعة األولى

-٨٣-

تراجع مواقعها السياسية والفكرية في وسط الرأي العام، أو بسبب تحولها . إلى غطاء أيديولوجي لبعض السلطات العربية

كان المشروع القومي العربي واعدا، بالنهضة العربية الثانية، واالستقالل، وبناء أمة كبيرة وقادرة، وتمكين الشعوب من المشاركة في حضارة العصر، كما كان واعدا بالحداثة أيضا، أو بدمج العرب في

غير أنه . الحداثة، والمواطنية، والحرية، والعدالة االجتماعية والمساواةعد إخفاق هذا المشروع في تحقيق أهدافه، فقدت العروبة القومية ب

وزاد في موازاة ذلك النزوع إلى التخلي عنها والتنكر لها . رصيدهاواستبدالها، بوعي أو من دون وعي، باختيارات أيديولوجية ومرجعيات

وتتنافس المحاوالت اليوم وتتضارب للبحث عن تربة تكون . أخرى . ن تنتج ما أخفقت في إنتاجه تربة الفكرة القوميةقادرة أكثر على أ

ومن التداعيات الخطيرة إلخفاق المشروع القومي العربي، ظهور سواء تمثلت في صعود االنقسامات المذهبية داخل الدين الواحد : الطائفية

أو تنامي العصبيات الجماعية على أساس ديني بين أصحاب العقائد ل حزازات وانقسامات ونزاعات جزئية، وال وهي تبدأ على شك. المختلفة

تلبث حتى تكتسب معاني ثقافية وسياسية، وتصبح مرجعية وهوية قائمة هكذا يعاد اكتشاف قيمة . بذاتها يعرف الفرد نفسه من خاللها وبها

االختالف المذهبي والديني وتحويله إلى قاعدة تضامن مستقل بين . جمعية سياسية أو شبه سياسيةاألفراد، إي إلى أساس رابطة مجتمعية،

كان يعاني من تأخر »المشروع القومي العربي«والواقع أن العربية التي رفعت لواء الحركة لبلدانالوعي اإليديولوجي السياسي ل

إذ إن هذا التأخر التاريخي . القومية العربية في مصر والمشرق العربيمتثالي والتقليدي الذي في استمرار الوعي المحافظ اال حاسماكان عامال

-٨٤-

يرفض تجسيد القطيعة المنهجية والمعرفية مع كل نزعة ماضوية وتقليدية في تطور مستقبل المسألة القومية العربية على أسس ديمقراطية،

علما. عقب الهزيمة العربية أمام اإلمبريالية الغربية والكيان الصهيوني إلىلعالم العربي من محيطه أنه من الناحية السياسية والتاريخية، كان ا

بحماسة عاطفية ألهداف الحركة القومية العربية في خليجه منجذباوكانت مصر الناصرية في مرحلة . التحرر واالستقالل والوحدة

من الناحيتين السياسية طليعيا إقليمياالستينيات من القرن الماضي مركزارة على تفعيل الحيوية بها وقاداوالتاريخية، ومرجعية قومية موثوق

لت هزيمة حرب حزيران التلقف الطوعي، الذي الشعبية الكامنة، إذ حو مع رغبة في المشاركة في التعدد دافئاارتآه الرئيس عبد الناصر تعاطفا

وتصحيح الثغر التي من خاللها حصل النزف ومهد لمراجعات تبلورت . في الصمود وحرب االستنزاف

كبير بقيت إلى حد١٩٦٧سية السائدة بعد حزيران لكن الثقافة السيامدمنة عدم المساءلة، وترفض عملية التحديث في البنية الفكرية والثقافية للدولة العربية المعاصرة، ذلك أن كل عملية تحررية ثورية حديثة

فالتأكيد على الحداثة الفكرية، هي بمنزلة . تقتضي بلورة فكرية حديثة البرنامج السياسي، وبالتالي راديكالية العملية الثورية التأكيد على جذرية

واستمر النقد للبنية الفكرية، وبالتالي . ذاتها في ظل عالم عربي متأخر بكونه معارضة يسارية أو تقدمية أو مشبوها»للمشروع القومي العربي«

وحتى يومنا هذا ال تزال عملية نقد الذات حتى من . وطنية راديكالية العربية إلى التشكيك وبالتالي السلطات لدى معظم لتزام مدخالموقع اال

من اعتبار النقد من موقع االلتزام بالمشروع القومي العربي نوعا .التربص

-٨٥-

لكن اإلخفاق الحقيقي للمشروع القومي، علينا أن نبحث عنه في جانب آخر مهم، يتمثل في عدم احتالل المسألة الديمقراطية الحيز الكبيرفي الخطاب السياسي للحركات القومية العاملة في العالم العربي، وفي رؤيتها ما ينبغي أن تكون عليه األمة العربية، إذ فصلت ما بين

فبدت . االستقالل والهوية القومية من جهة، والديمقراطية من جهة أخرى لها الديمقراطية جملة من اآلليات الشكلية كاالنتخابات، وشيئا من حرية

ولم تع الحركات القومية أن المسألة . الصحافة المحدودة والمثلومةالقومية، مسألة الهوية ووعي الذات أي الوعي القومي، في وضع األمة العربية التي تعاني من التأخر التاريخي، ومن التجزئة بوصفها محصلة ، هذا التأخر التاريخي للشعب العربي، واألوضاع اإلمبريالية الناجمة عنه

وتعبيرا عن القانون الموضوعي لعمل اإلمبريالية في العالم العربي، رتباط بإنجاز الثورة الديمقراطية، التي تختلف عن مرتبطة أشد اال

الثورات الديمقراطية األوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، . لخكما أنها تختلف عن ثورات االتحاد السوفيتي سابقا والصين وفيتنام ا

وهي تختلف عن الثورات األوروبية، ألن الثورات األوروبية قادتها البرجوازية الصاعدة، وارتبطت بظهور الرأسمالية وتطورها في مراكز

والبرجوازية في عالمنا العربي . النظام العالمي وأطرافه على حد سواءليست طبقة منتجة وبالتالي ليست طبقة قائدة، وجزء من عملية أو

ة العولمة الرأسمالية الجارية والمتسارعة، التي كانت تعني في سيرورالماضي أوروبة العالم، وتعني اليوم في ظل نظام القطب الواحد أمركته، . أي جعله أمريكيا من خالل عولمة االقتصاد والسياسية والثقافة واإلعالم

ومن هنا فإن تبني المسألة الديمقراطية يعني في التطبيق العملي : يلي ما

-٨٦-

إعادة االعتبار لبناء دولة الحق والقانون، والتأكيد عليها في :أوالمواجهة سلطة العائلة، والعشيرة األضيق أفقا، وهذا يتطلب من قوى التغيير أن تمتلك مشروعا على درجة عالية من الراديكالية من أجل

كام فيها ألجل إقامة الدولة الحديثة الملتزمة بحكم القانون، حيث يعمل الحوتكون هذه الدولة متمايزة عن . المصلحة العامة، ولصالح النظام العام

الدولة التسلطية العربية السائدة، بمستوى عال من المشاركة السياسية، وتماسك المؤسسات السياسية الجديدة في المجتمع القادر على التكيف مع

سياسية حديثة متطلبات السياسة العصرية، التي تقتضي وجود أحزابتقوم بعملية تسييس الشعب، وترسي بنيانا ديمقراطيا للممارسة السياسية، تحقق التواصل الديمقراطي الحقيقي بين المجتمع والدولة، تواصل يجد تجسيدا له في مؤسسات ديمقراطية فاعلة تضمن استمرار هذا التواصل

اسي، وتمنع تحول عبر ضمان المشاركة السياسية وتحقيق االستقرار السي . النظام السياسي إلى مجرد غطاء شكلي يقنع االستبداد

مقاومة جميع أشكال االمتيازات التي نجمت عن نظام الحكم :ثانياالتسلطي، وقسمت المجتمع إلى مجتمع السلطة صاحب االمتيازات

وهذا يعني العمل على . المتباينة، ومجتمع الناس المهمشين المحرومينلفرد من هيمنة السلطة الشمولية، وأدوات هذا التحرير هي تحرير ا

. فكرية، أوال، وسياسية ثانيا، بالتالزم–أدوات معرفية تحرير األفراد من أطر المتحدات االجتماعية التقليدية، :ثالثا

وإطالقها في الفضاء االجتماعي العام كخطوة أولية لدمجهم في الفضاء وهذا المسعى مرتبط أوثق االرتباط بعملية السياسي العام للمجتمع،

االندماج القومي التي هي عملية مزدوجة تعني تهديم األطر االجتماعية . ما قبل القومية وإعادة بنائها على أسس حديثة علمانية وديمقراطية

-٨٧-

استقاللية الفكر والثقافة عن السياسية بالمعنى الضيق للكلمة :رابعالجدلية، ذلك ألن عملية تحديث المجتمع تبدأ على الرغم من وحدتهما ا

وعبء هذه العملية . بتحديث الفكر والسياسة، وعقلنتهما، وديمقراطيتهمايقع بصورة أساسية على كاهل المثقفين وكتلة االنتلجنسيا، التي تتولى صياغة إيديولوجية تنسجم في آن معا مع بناء دولة الحق والقانون

م، ومع سيرورة تقدم المجتمع العربي نحو والمجتمع المدني بالتالز . التحديث الشامل والتحرر من إرث المجتمع التقليدي

استقاللية مؤسسة المجتمع المدني والسيما النقابات :خامساوالجمعيات، واالتحادات المهنية والوظيفية، واألحزاب السياسية،

عبادة، عن والصحافة، ولجان حقوق اإلنسان، وأجهزة اإلعالم، ودور ال . هيمنة السلطة فصل السلطات، ومركزية السلطة التشريعية، ورقابتها :سادسا

السلطة التشريعية التي تسن القوانين . على السلطتين التنفيذية والقضائيةوتعد لها وتطورها، هي التعبير المباشر عن الكلية االجتماعية، وهي من

لسلطتين التنفيذية والقضائية، هذه الزاوية هي الدولة السياسية ومرجعية اوالمشاركة فيها هي مشاركة في الدولة، وبها يحقق الفرد وجوده

. السياسي بصفته عضوا في الدولةال توجد الديمقراطية وال تتطور إال في مناخ ثقافي يحترم عقل

يالء موضوع الثقافة إومن ضرورة . اإلنسان وحريته وكرامتهولنا في التاريخ وتجارب األمم ما يؤكد . صوىالديمقراطية األهمية الق

ففي أوروبا . على أن الثقافة الديمقراطية شرط أساسي لتحقق الديمقراطيةمهدت الحركة الثقافية التنويرية الشاملة الطريق إلى ظهور األنظمة

أما في بلداننا العربية فقد . الديمقراطية التي حققت لبلدانها التقدم والرقي

-٨٨-

مقراطية ومؤسساتها الهشة الثقافة الديمقراطية التنويرية في سبقت الديالمجتمع فأصبحت ديمقراطية نخبوية، ولم تحدث نقلة نوعية في المجتمع وفي الحياة السياسية والمؤسسات، ومن هنا تأتي أهمية الثقافة الديمقراطية الفاعلة التي تحشد الكتل االجتماعية للمشاركة في العملية

وقد . ة بوعي ودفع عملية التغيير االجتماعي إلى األمامالديمقراطيالحظنا في العقود األخيرة ازدياد األطروحات التي تركز على ضرورة

وفي مقابل الديمقراطية التي نمت . توفير المستلزمات الثقافية للديمقراطيةوتطورت في أوروبا وأمريكا من تفاعالت نخبوية وباالرتباط مع تراث

عوب والبلدان، جاء تطبيق الديمقراطية في البالد العربية هذه الشاإلسالمية فوقيا ومقطوعا عن الجذور الثقافية في هذه البلدان، ويالحظ

المحاوالت اإلصالحية التي بدأت في أواخر نإ«أحد الباحثين بحق القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في العالمين العربي

تمكن العرب من استلهام كتاب عبد الرحمن الكواكبي ولو . واإلسالميطبائع االستبداد مثلما استلهم الفرنسيون كتاب روح الشرائع لمونتسكيو أو العقد االجتماعي لروسو، ألمكن تهيئة مستلزمات ثقافية للتحول

بما يستجيب لخصوصيتنا القومية والثقافية والدينية، . الديمقراطيجمال الدين األفغاني ورفاعة الطهطاوي ومحمد وخصوصا لمفكرين مثل

. )١(»نطون وغيرهمأعبده وشبلي الشميل وفرح اإلسالمية وتعاليم الدين –ومما ال شك فيه ان حضارتنا العربية

اإلسالمي الحنيف زودتنا بمبادئ ترتبط في محتواها بالمبادئ عينها التي مة ومرجعيتها والرقابة وأهمها سلطة األقام عليها النظام الديمقراطي،

وهي التي عبر عنها مفهوم الشورى اإلسالمي في داللته . على الحاكم

مداخل االنتقال إلى الديمقراطية في البلدان العربية، مركز : مجموعة من الباحثين )١( . ٢٤٤، ص١/٢٠٠٣ط. بيروت/ دراسات الوحدة العربية

-٨٩-

. القرآنية وفي بعض التطبيق التاريخي، وخاصة في عهد الخالفة الراشدةأهل الحل "ن نظام الشورى قد انحصر في إوقد يطعن في هذا بالقول

ي يوفر حق االختيار وهو ما يخالف النظام الديمقراطي الذ" والعقدللعموم من خالل االنتخاب واالقتراع، وهذا صحيح نسبيا ألن الشورى شكل من النظام السياسي يختلف عن الديمقراطية، لكنه يشترك معها في مبادئ سلطة األمة على نفسها واختياره من يحكمها وحقها في محاسبة

والذي يؤكد أن الشورى وما يهمنا هو ما يجمع بين االثنتين. ولي أمرهاتشترك مع الديمقراطية في هدف السعي إلقامة دولة العدالة والحرية

فإنها ليست مقطوعة «كما أن الديمقراطية تمثل الحداثة . والمساواة. فقطع الصلة عن التراث يؤدي إلى التغريب. الجذور عن التراث

. )١(»ثقافيوالحداثة ال تعني قبول الوصاية واالستتباع الفكري وال

. ال تستقيم الديمقراطية إذا إال في إطار الجمع بين التراث والحداثةأما األخذ بأحد هذين الركنين فقط ورفض اآلخر فال يحقق الديمقراطية،

ن رفض الحداثة ومنجزها العالمي في مجال الفكر الديمقراطي أذلك ي هذا الحد أو ذاك، يعني عمليا اإلبقاء على ما يحكم مجتمعاتنا العربية، أ

أما . من شرور االستبداد والتعصب والعشائرية والمذهبية والتخلفرفض التراث ونفي الخصوصية فيعنيان االستالب والتغريب والتبعية

وتتخذ مسألة . ويؤديان إلى التفريط بسيادة األوطان واستقاللهااني في الخصوصية هذه بعدا أشد خطورة ألن الوطن العربي مازال يع

بعض أجزائه من االحتالل الخارجي، وما زال جله خاضعا للهيمنة

. ٢٤٥المصدر السابق، ص )١(

-٩٠-

السياسية واالقتصادية الغربية وهو فوق ذلك يتعرض في بعض أقطاره للعدوان اإلرهابي المدعوم من الغرب، ما يؤكد أن مسألة الديمقراطية عند العرب ال يمكن أن تنفصل عن مسألة التحرر الوطني، وان النضال

. لديمقراطي يرتبط ارتباطا وثيقا بالنضال الوطني والقومياومن هنا فإن الديمقراطية التي ننشدها يجب أن تكون صناعة وطنية يتداخل فيها البعدان االجتماعي والثقافي ممثال بنشأتها ونموها في بيئتها العربية اإلسالمية واالستقاللي التحرري الذي ال يمكن للديمقراطية

كون وطنية إال في سياقه، وفي مواجهة مؤكدة مع االستعمار أن ت . واالمبريالية والصهيونية

وقد أصبح واضحا اليوم من التجربة العربية ذاتها أن إهمال هذين البدين أو إهمال أحدهما ال يحقق الديمقراطية بل يعيد إنتاج االستبداد،

وقد بينت حالة العراق . انويفاقم التبعية واالرتهان للخارج ويضيع األوطبما ال يقبل الشك ان الديمقراطية التي تبشر بها قوى االستعمار وتسوقها على ظهور الدبابات ومن خالل التدمير والفوضى واإلرهاب والفتنة ليست في حقيقتها البشعة أكثر من ذريعة لالحتالل وتفتيت المجتمعات

طني، وهذا هو أيضا جوهر ما وإعادتها إلى ما قبل مرحلة االنصهار الويحدث اليوم في سورية التي يريد الغرب تفكيك دولتها الوطنية وجيشها العقائدي بحجة الديمقراطية وحقوق اإلنسان وغيرها من الشعارات

. البراقة التي يوظفها الغرب في خدمة مخططاته الخبيثةويمكن تلخيص نموذج اإلصالح السياسي الذي يراد فرضه على الدول العربية بعبارة واحدة هي إفراغ الديمقراطية من كل مضمون

" إسرائيل"وطني، ففي فلسطين أيضا انكشف الهدف الحقيقي لما إرادته من إصالح سياسي للسلطة الفلسطينية وتم برعاية أمريكية، فإذا به هدف

-٩١-

ينسف حق الشعب الفلسطيني في مقاومة االحتالل الصهيوني الغاصب . فلسطينيين إلى هوة التنازل عن الحقوق والتفريط بالثوابتويجر ال

وال بد لنا من االعتراف بأن الغرب قد أحدث خرقا فكريا خطيرا ترافق مع الغزو األمريكي للعراق، إذ تم التركيز على تلميع ديمقراطية االحتالل األمريكي وشيطنة الديكتاتورية الصدامية، ووظفت النخب

سياسية والثقافية واإلعالمية المرتبطة بالمشروع االمبريالي العربية الالصهيوني في خدمة المعادلة الجديدة التي أرادت االمبريالية األمريكية أن تغزو بها العقول للقبول باالحتالل القادم، كما زعمت، لتخليص العرب من براثن الطغيان وإدخالهم بالجملة إلى نعيم الحرية

حتى بتنا نسمع ونقرأ مقاالت ونسمع تصريحات في مدح . والديمقراطيةإما ديمقراطية "لكن معادلة . االحتالل األمريكي وتفضيله على االستبداد

التي أرادت لها الواليات المتحدة " االحتالل أو ديكتاتورية الحكام العربأن تحكم الفكر السياسي العربي لم تتمكن من العيش طويال، فقد أدت

المقاومة العراقية الباسلة التي تصدت ببطولة لالحتالل األمريكي مفاعيل ها، فكان أن وجد الغرب بعد ذلك ضالته نإلى كشف تهافتها وزيفها وبهتا

في الربيع العربي المزعوم الذي وظف في خدمة األهداف االمبريالية والصهيونية دون المغامرة بالتدخل العسكري المباشر كما حدث في

خواني ذ يكفي اليوم أن يتولى اإلسالم السياسي بشقيه اإلالعراق، إوالسلفي الجهادي بما فيه القاعدة مهمة تأمين مصالح الغرب وربيبته

. في المنطقة العربية حتى ينال الموافقة والدعم الغربيين" إسرائيل"ويكفي لتوصيف هذه الديمقراطية الجديدة التي جاء بها الربيع

شارة إلى ما آلت إليه األمور في مصر حيث لم تعد العربي غربيا، اإلالديمقراطية هي فن احتكار السلطة والتعسف في استخدامها من جهة،

-٩٢-

وفن السير في ركاب أمريكا وحليفتها الصهيونية كما كانت أيام حسني خوان المسلمين تتمثل في كل هذا وفوقه مبارك، بل أصبحت على أيام اإل

ولنا . المعارضة وتغذية التعصب وإثارة الفتناضطهاد األقباط وتكفيرفي ما تتعرض له سورية اليوم من حرب إرهابية شرسة ما ينهي أي شك في طبيعة هذا النوع من الديمقراطية وإال فكيف يمكن أن يصدق

" إسرائيل"عاقل أن ما تقوم به أمريكا وبريطانيا وفرنسا وتركيا وسكري وسياسي ومالي للمجموعات والسعودية وقطر وغيرهم من دعم ع

اإلرهابية التي تقاتل الجيش العربي السوري في سبيل إسقاط النظام الديكتاتوري وتحقيق تطلعات الشعب السوري إلى الديمقراطية والعدالة

!!.. االجتماعية كما تزعموالخالصة هي أن بناء الديمقراطية في الدول العربية اليوم هو

فصل عن االلتزام الوطني والقومي عموما، وهذا عملية ال يمكن أن تنالتيار األخير ال يكون قويا وراسخا، بل ال يكون ممكنا ما لم يتم على أساس متين من األمن الوطني والقومي واالستقالل السياسي واالقتصادي

مما يحتاج تحقيقه إلى نضال وطني وقومي وديمقراطي شاق، . الكاملديمقراطية أيضا من مستلزمات ثقافية وتربوية فضال عما تحتاجه ال

. واجتماعية خاصة واحدة من أهم المشكالت التي تعيق تحقيق الديمقراطية في لعل

بالدنا العربية هي النظرة االختزالية التي تختزل الديمقراطية في جانبها السياسي فقط، وهي نظرة تبسيطية قد يكون وراءها الكثير من الجهل

جة، ولكنها في الغالب نظرة مقصودة تحملها الكثير من النخب والسذاالحاكمة التي تعمل على إفراغ الديمقراطية من كل مضمون اقتصادي واجتماعي وتقصرها على الجانب السياسي الذي تجتهد في تفصيله على

-٩٣-

. مقاسها حتى ال يبقى من الديمقراطية في المحصلة األخيرة سوى االسمن التأكيد على أن الديمقراطية ليست نظاما سياسيا فحسب وعليه ال بد م

وإنما هي أيضا نظام اجتماعي، بل يمكن القول إنه ما لم تتحقق الديمقراطية على الصعيد االجتماعي يصعب تحقيقها على الصعيد السياسي، إال إذا كان هذا التحقيق مشوها وبعيدا عن معاني الديمقراطية

. يةووظائفها الحقيقويتمثل أهم أركان الديمقراطية االجتماعية في تحقيق االندماج االجتماعي، ففي المجتمعات العربية التي تعاني من هشاشة النسيج االجتماعي وثقل الموروث العصبوي والتفاوت في مستوى مشاركة الجماعات االجتماعية في السلطة ال بد من إعادة صوغ هذا النسيج على

يه االنقسامات العمودية الموروثة وتتسع وشائج الترابط نحو تتضاءل فواالندماج االجتماعيين، وكلما اتسع نطاق االندماج االجتماعي توطدت

. )١(أركان الديمقراطية ورسخت عالقاتها في الدولة والنظام السياسيعلى ان هذه العملية ال تعني كما يمكن أن يتوهم البعض القضاء على

عية التقليدية للمجتمع المدني في الدول العربية ألن العملية البنية االجتماتصبح في هذه الحالة غير ديمقراطية طالما أن الديمقراطية تعني فيما تعنيه التعدد االجتماعي والثقافي والسياسي واالقتصادي والمدني، وإنما تعني ضرورة العمل على دمج أفراد المجتمع والعمل على مزيد من

ر االجتماعي والوطني وتعزيز مبدأ المواطنة المتساوية بحيث االنصها في الحقوق والواجبات هي البارزة في سياق الحياة ةتكون المساوا

. اليومية تحت مظلة القانون ودولة المؤسسات

. ٧٨ مركز دراسات الوحدة العربية، صالمشروع النهضوي العربي،: انظر )١(

-٩٤-

وفي سياق العمل على ترسيخ العالقات الديمقراطية داخل المجتمع كة فعلية في الحياة السياسية مما تبرز الحاجة الماسة إلى جعل المرأة شري

وما لم تقم . يستوجب تحقيق المساواة بينها وبين الرجل دون أي تمييزالعالقة بين الجنسين على أساس ديمقراطي، فإن الديمقراطية ستتعثر

ويرتبط بهذا دور . على صعيد المجتمع ككل وعلى صعيد الدولة أيضا تحويلها إلى مؤسستين لتعليم القيم األسرة والمدرسة أيضا إذ ال بد من

. الديمقراطية بما يساهم في تكوين الفرد والمجتمع الديمقراطيينن ترسيخ العالقات الديمقراطية في المجتمع إ القول ةومن نافل

تتطلب أيضا أن تكون المؤسسات المدنية من حزبية ونقابية ومنظمات وق والواجبات المتساوية شعبية وجمعيات مؤسسات ديمقراطية تطبق الحق

داخلها، وترسخ القيم المؤسسية فيها، وإال فلن تنجح في النضال من أجل بناء الدولة الديمقراطية بل ستتحول على العكس، وكما هو أغلبها اليوم،

. إلى عامل من العوامل التي تعيق تحقيق هذه الدولة

-٩٥-

الصفحة

٥ .......................................................... كلمة -

٧ ................................بي ومالمح االنهيار الواقع العر-

٣١ ............................................. التحدي الصهيوني -

٥٣ ........................... سؤال الديمقراطية في الوطن العربي -

٨١ ...........الفكر القومي المتجدد والعودة إلى المسألة الديمقراطية -

-٩٦-

صدر للمؤلف .الحركة العمالية في نظام التبعية والحزب الواحد : تونس -

.يقين االنتماء أم وهم االغتراب -

.المغرب العربي المعاصر.. مقاربة في إشكالية الهوية - ٢٠٠٤ترجم إلى الفرنسية ونشر في باريس

. العبور إلى المستقبل في إعادة بناء الفكر القومي-

. رسالة مفتوحة إلى مثقفي أوروبا - . ٢٠١٣ترجم ونشر بطهران

م٢٠١٤/ الطبعة األوىل نسخة١٠٠٠عدد الطبع