العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

36
اطع طريقل.. ق العق نقد الحريةة، فيفسلسف في صداقة الوطيب رشيد ب1 1

description

العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

Transcript of العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

Page 1: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

العقل.. قاطع طريقفي صداقة الفسلسفة، في نقد الحرية

رشيد بوطيب

1

1

Page 2: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

مرتد فقط أكون وفيا""أنا أنت حين أكون أنا

باول تسيلن

مهنة الفيلسوف

إنه ل يريد كفيلسوف أن يكون شيئا آخر غير رجل علم، لكنه رجل علم حقيقي وراديكالي، ول يحركه سوى حب" الحكمة...". في المحاضرة التاسعة والعشرين من كتابه "فلسفة أولى" يرسم إدموند هوسرل بورتريه لما يسميه

بالفيلسوف الراديكالي. يجد القارئ نفسه أمام خطاب وثوقي أشبه بوصايا النبي لقمان لبنه. محاضرة نفسها ديني ونغمتها أنوية، وإن اكتست لبوس الفلسفة. لكن من وما الفيلسوف بالنسبة لهوسرل؟ إنه أول ذلك الذي يجرؤ على

اجتراح بداية جديدة. وبلغة أخرى، ذاك الذي ل يستسلم لما هو كائن وينشد ما يجب أن يكون. وحتى العلوم الحقة في نظر هوسرل، ورغم منهجيتها النقدية، إل أنها كثيرا ما تتجاهل قراءة مقدماتها أو معطياتها قراءة نقدية. إن

الفيلسوف وفقا لرؤية هوسرل هو العالم الكثر راديكالية. لكن هذه الراديكالية هي من ستدفع هوسرل وكل التجاه الفينومينولوجي إلى طريق مسدود، ولنتذكر في هذا السياق مشكل البيذاتية. فالخطر كل الخطر على الحياة يأتي من الراديكاليين، أولئك الذين ل يحسنون العيش في عوالم مختلفة، والذين ل يجرؤون على قول نعم للواقع. لكن لنصغ قليل لما يقوله هوسرل عن الفيلسوف. إنه يبحث في نظره عن بداية جديدة وحياة علمية جديدة وراديكالية فعل. إن

الفيلسوف ل يمكنه إل أن يكون مطلقا، إنه البن الشرعي للمطلق "وهذه الراديكالية المطلقة تعني لمن يبغي أن يصبح فيلسوفا بهذا المعنىـ اتخاذ قرار حياتي مطلق وراديكالي، بحيث أن حياته سترتبط من هنا فصاعدا برسالته

"كفيلسوف" وبها فقط"، إلى درجة أن الفلسفة ستغدو الهدف السمى لحياته. هدف يسكن دواخل الفيلسوف ول يفارق أحشاءه "وكل ابتعاد له عن هذا الهدف، ابتعاد عن ذاته، نوع من الخيانة للذات". إن كل مهنة اختيرت بحرية تتضمن بداخلها هدفا أسمى، يقول هوسرل، وهو ما يعني بالنسبة للذات التي تمارس هذه المهنة تماه مطلقا مع هذا الهدف. لكن مع ذلك فإن هوسرل يفرق بين المهنة كما نعرفها في حياتنا اليومية وبين أن يكون المرء فيلسوفا، لن

الفيلسوف يعمل على الفكار المطلقة والمحضة، وبيت الفيلسوف وفقا لهذه النظرة ذاته ل العالم. إنها النظرية أو حب النظرية. "حب ل نهاية له"، "حب للنهائية الحب"، "حنين لنهائي.." لكنهما حب وحنين خالصين"ـ ل لحم

.ول دم لهما تحويل هذا الحب إلى واقع، قضية الفيلسوف وما يجعله يصل في نهاية المطاف حسب هوسرل إلى إسعاد نفسه

بنفسه. إنها "سعادة خالصة"، سعادة ل جسد لها وقد تكون لها روح، أو كما يقول هوسرل:"تحقيق للذات في الروح:والحقيقة". إن هوسرل يستعمل الفعل اللماني

Sich (selbst) befriedigen

2

2

Page 3: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

إسعاد الذات لذاتها عبر ذاتها، تلك نتيجة القرار الراديكالي، قرار اجتراح بداية جديدة، قرار رفض العالم في "اليبوخي" (الختزال الترنسنذنتالي). إنها سعادة روحية، أو القدرة على أن أسعد نفسي بنفسي. وقبل أن أشير إلى

العراض المصاحبة لهذا التطور من "العالم" إلى "النا" أو بالحرى إلى "النوية"، أشير بدءا إلى أن هذا الفعل اللماني مرادف في اللمانية لفعل الستمناء والمستمني مكتف بجسده، ل يحتاج إلى جسد آخر (الخر) لتحقيق

.الشباع الجنسي إن الرؤية النظرية إلى العالم رؤية راديكالية، لكنها راديكالية ل تحتمل أكثر من رفض العالم، ولذلك فهي رؤية استمنائية ل تحتاج إلى الخرين بل ل تحتاج إلى جسد. إن هوسرل يغفل عن الحقيقة البديهة التي رافقت تاريخ

الفلسفة والتي تقول بأنها ابنة المدينة، وأن الفلسفة تفكير في المدينة وليست ابنة للنظرية. لقد كان سيوران على حق حين حذرنا من عزلة الفيلسوف وانطوائيته. أما راديكالية الرادة التي يتحدث عنها هوسرل فهي في النهاية

راديكالية إرادتي أنا (النا) ضد الخر / العالم. كل "أنا خالدة"، أنا مريضة بالغربة عن الواقع، إنها مريضة بنفسها،.وعي مجتث كما يسمي ذلك ليفيناس

إن راديكالية الفيلسوف اليوم، الذي يعتبر نفسه ابنا للمدينة، لمالها وألمها، تكمن في غيريته وقدرته على تجاوز جدران الذات /النظرية وتنشق رائحة العالم حتى وإن كانت تزكم النوف أحيانا. إنها القدرة على استبدال الفلسفة

بالغيرية، ففي خروجنا الراديكالي إلى العالم، نتجاوز الفلسفة ونتحقق كأخلق، أو بلغة هابرماس في "الفكر ما بعد.الميتافيزيقي": كوعي من لحم ودم

سؤال الصداقة

أو بكل بساطة: لماذا يرفض الدين الصداقة ويؤسس للخوة أو الخواتية كما لماذا ل يمكننا أ ن نكون أصدقاء؟ يسميها دريدا؟

ل يمكن الحديث عن الخر في الفلسفة دون الحديث عن الصداقة، أو عن فلسفات الصداقة. فالصداقة، كسؤال عن الخر، من اللحظات المؤسسة للفلسفة اليونانية القديمة. ُكثر هم الفلسفة الذين تركوا مؤلفات حول الصداقة، لكن أغلبها يحتفي بالشبيه والمماثل، و"المماثل ليس متنوعا" يكتب هايدغر في "الهوية والختلف". ذلك أنهم جميعا أو يتكلمون نفس اللغة. بل حتى عند الماقبل ـ سقراطيين، الذين فهموا ،Alter عند الخر Ego يبحثون عن النا

الصداقة كمبدأ كوسمولوجي، لم تكن سوى تعبيرا عن التكامل والنسجام بين الكائنات والشياء. فزيوس، الذي خلق ويخلق كل شيء، إذا استعملنا لغة غوته في "الواحد والكل" النطو ـ لهوتية، لما خلق الكون من عناصر

متعارضة، عمل على تنظيمها وجمعها في كل واحد، يحكمه النسجام وتسود الصداقة بين مكوناته. إن الصداقة في.هذا المعنى تجب الختلف

ل غرو أن سؤال الخر من أسئلة الفلسفة المعاصرة، وهو سؤال لم تلتفت إليه ل الفلسفة الوسيطة ول الميتافيزيقا Philia الكلسية، بعكس الفلسفة اليونانية التي فهمت هذا السؤال كسؤال عن شروط الصداقة الحقة. لكن الصداقة

في هذه الفلسفة مشروطة، فل يمكن أن نفصلها عن الميتافيزيقا والخلق، وغالبا ما تتماهى الصداقة مع فكرة.الخير

إن التفكير بالصداقة هو تفكير بالعلقات النسانية، والفلسفة ذاتها ل تقوم في غنى عنها. لكن الصداقة ل تتحقق إل في عالم تحكمه الحرية. ففي مجتمعات أبوية أو دينية ل تسود الصداقة ـ هذا إذا أمكن أصل اعتبارها صداقة ـ إل

:بين أعضاء السرة الواحدة أو الدين الواحد. لكن الفلسفة اليونان وعلى رأسهم ثيوجنيس كان لهم رأي آخر."الخ، مهما كان قريبا، يجب أن يصبح صديقا، ول يمكن أن يحدث هذا إذا لم يرغب فيه بكامل حريته"

ل صداقة بل حرية، حرية الخرين في أن يحتفظوا بغيريتهم. أما المجتمعات الدينية أو الذكورية فإنها ل تسمح بالصداقة لنها ل تؤمن بغير الخوة، وبلغة ليفيناس بغير علقة الكتف ـ كتف، وليس علقة وجه ـ وجه. وإذا

3

3

Page 4: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

إن الديكتاتورية ل .Fraternocratie استعملنا لغة دريدا في كتابه "مارقون" نقول بأنها ل تسمح بغير الخواتية تسمح بالصداقة، والدين يؤسس لديكتاتورية الحقيقة الواحدة، وبلغة أخرى للطغيان. وصدق كسينوفون حين وصف

.الطاغية بأنه رجل بل أصدقاء

*

يرى دافيد كونستان، أحد أبرز المهتمين بدراسة موضوعة الصداقة في الثقافة اليونانية واللتينية أن أهم وأغزر ما كتب حول الصداقة هو ما كتبه أرسطو في كتب الخلق الثلثة. لم يفهم أرسطو الصداقة كمفهوم كوسمولوجي أو ميتافيزيقي ولكن كمفهوم أخلقي. أخلق تتكون من ثلث محددات أساسية: الشبه، المساواة والحرية. إن الصداقة

، يميز أرسطو بين الصداقاتأخلق نيكومافي نظر أرسطو فضيلة، وهي تنتمي لهم الشياء في الحياة. في كتابه :"كاملة هي صداقة الفضلء، الذين يشبهون الفضيلة.العابرة التي تقوم على المصلحة أو اللذة وصداقة الفضلء

."فهم ل يتمنون لبعضهم البعض سوى الخير، وهم خيرون بطبعهم إنها صداقة مشروطة. الصداقة الحقة ترتبط صميميا بالفضيلة. أرسطو يغفل بأن الفضيلة نفسها ليست بالمفهوم

الثابت والمفارق للزمن. إن صداقة أرسطو يحكمها "منطق الشبيه"، حيث تمتلك الفضيلة معنى أحاديا ومطلقا وحيث حين تعرض Fraisse الصدقاء يملكون نفس التصور عن الفضيلة ونفس الفهم للصداقة. لقد أوضح ذلك

فالصديق أنا أخرى، ،homonoia للفيثاغوريين، الذيم كانوا يرون أن الصداقة تقوم على تماثل أو تشابه في الفكار."أنا مشابهة، أو بلغة التوحيدي في رسالة الصداقة والصديق:"صديق هو أنت، لكنه بالشخص غيرك

والمحدد الثاني للصداقة هو المساواة. فالصداقات العابرة تقوم في مجتمع تحكمه اللمساواة والطبقية. ومثل هذه الصداقات تظل بالنسبة لرسطو صداقات من درجة ثانية. وحتى المحدد الثالث للصداقة وهو الحرية يظل مفرغا من

كل معنى في مجتمع ل تسوده المساواة، وأفلطون نفسه يرى أنه ل تحقيق للصداقة بدون حرية ومساواة. إن الصداقة عند أفلطون ومعاصريه ل تقوم إل في مجتمع توزع فيه الثروات بشكل عادل، في مجتمع حر ل يسوده

الخوف. وهي نفس الفكرة التي يدافع عنها دافيد كونستان، حيث يرى أن فكرة الصداقة عند اليونان ل يمكن أن نفهمها بدون أن نأخذ بعين العتبار فكرة الحرية والعدالة. ففي عالم يحكمه التفاوت الطبقي ل يصادف المرء سوى صداقات عابرة تقوم على المصلحة. إن الصداقة ترتبط صميميا في هذا السياق بالديمقراطية، والديمقراطية، يقول

أرسطو في أخلق نيكوما، ل تقوم إل في مجتمعات ل سيد فيها أو مجتمعات حكوماتها ضعيفة، وحيث لكل مواطن الحق في أن يفعل ما يريد. لقد دافع أرسطو عن ديمقراطية بل سيادة أو سلطة، عن ديمقراطية "ضعيفة"، فهي

وحدها من تسمح بتحقق الصداقة، وبلغة أخرى، من تعترف بحق الخر، وهي نفس الفكرة التي سيستلهمها دريدا.في كتابه الخير "مارقون" وهو يوجه سهام نقده لفكر السيادة الغربي

إن تركيب ومعجم الخطاب الرسطي حول الصداقة يحتوي لحظتين متناقضتين: لحظة الهوية ولحظة الخر. فربط أرسطو للصداقة بالفضيلة هو تأكيد لمنطق الشبيه والمماثل كما أشار إلى ذلك دريدا في "سياسات الصداقة:"، لكن نفس الخطاب يتحدث عن ديمقراطية "ضعيفة" خارج فكرة الهوية والسيادة والخوف، أو عن صداقة ل تحتاج إلى عدالة، ليس لنها أكثر عدالة من العدالة كما ذهب وفسر ذلك دريدا، ولكن لنها ترفض السلطة والجبر. إن العدالة

تقوم على قوانين محددة يلزم احترامها وكل إخلل بها يتعرض للعقاب، أما الصداقة فإنها تقوم على الحرية، وحيث."ل يمكننا أن نجبر الناس على أن يصبحوا أصدقاء":Fraisse ل حرية ل تحقق للصداقة، إذ كما قال

*

لكن لنعد إلى سؤالنا الول، لماذا يخاف الدين الصداقة؟ لربما نجد الجواب عند فيلسوف متدين هو مالبرانش. إنه يعتبر الصداقة ميل طبيعيا للنا اتجاه الخرين. ولكي نفهم هذا الميل، ل بد أن نعرف بأن الرب يحب مخلوقاته، وأنه وحد بينها لما فيه خيرها وبما يسمح باستمرار النوع البشري. وبلغة أخرى: بدون هذه المعرفة، هذه المعرفة التي ل

تعني في هذا السياق شيئا آخر غير اليمان (معرفة مرتبطة بالرب) ل يمكن للمرء أن يقف على حقيقة الصداقة. ومنذ البداية نفهم أن رب مالبرانش ليس سوى المسيح بن مريم الذي اصطلحت عليه الدبيات المسيحية اسم "إله

4

4

Page 5: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

الحب"، أو إله اليثار. ويكتب دريدا، استنادا إلى نقد نيتشه لهذا النوع من الحب، بأن الحب المسيحي ليس سوى رغبة في تملك الخرين، "إنه ـ حسب نيتشه ـ الجشع نفسه"، وبلغة أخرى، فإن الصداقة ل تتحقق إل بين مؤمنين مسيحيين. إنه أمر ل يدعو للدهشة، فحتى في كتابات فلسفة النوار، ل نصادف سوى "الشبيه". فهذا فولتير في

.كتابه حول التسامح يرى أنه أمر عقلني وأخلقي أن ل نتعامل بتسامح مع اليهود والمسلمين لقد زرع الرب بداخلنا هذا الحب لمخلوقاته. إنه باعث هذا الحب وليس النسان. ويكتب مالبرانش:"لقد أمرنا الرب بحبهم كما نحب أنفسنا". تتضمن هذه الجملة فكرتين أساسيتين: فالصداقة من جهة أولى: أمر إلهي. ويتوجب علينا كمؤمنين طيعين أن نحب "الخرين". ولكن هل هناك صداقة بل حرية؟ لقد أجاب أرسطو على هذا السؤال بالنفي.

فقط في مجتمع يتكون من مواطنين أحرار تتحقق الصداقة، لكن مالبرانش يرى أن النسان ليس كائنا حرا. إنه.يحتاج دائما إلى الله

ومن جهة ثانية: يستخدم مالبرانش العبارة الرسطية "كما نحب أنفسنا" أو "كما لو أنهم نحن". وهي عبارة نصادفها في أغلب الكتابات حول الصداقة، عند سيسرو والتوحيدي ومونتين وكانط (...) "صديق هو أنت، أو أنا وقد

تقمصت شخصا آخرا" يكتب سيسرو. إنه يفضل الشبيه وليس الخر، يفضل صورته المثالية، نسخة طبق الصل لناه، يكتب دريدا في "سياسات الصداقة". إن هذه الرؤية إلى الصداقة هي حسب دريدا نوع من النرجسية، نرجسية

.تحكم تصور مالبرانش عن الصداقة إن المجتمع النساني، حسب مالبرانش، طبقي. ووظيفة الصداقة هي الحفاظ على التعايش بين طبقات المجتمع. وهو يتناقض في ذلك مع أرسطو الذي وجد في المساواة المبدأ المؤسس للصداقة. ومالبرانش ينتقد الطراء الكاذب دون

أن يربط ذلك بغياب المساواة بين البشر، الذين يظلون في رأيه جهلة وضعاف وعاجزين. وهي فكرة ل يمكن أن تقول في سياق الصداقة سوى شيئا واحدا: إن البشر لوحدهم عاجزون عن اجتراح الصداقة. إنهم يحتاجون إلى الرب

.لكي يصبحوا أصدقاء. إنهم أصدقاء، لن الرب أراد ذلك، ول مرد لرادته إن مجتمع مالبرانش ديني أو مجتمع مقدس يتكون من مؤمنين وليس من أصدقاء، وهو لذلك يختلف عن المجتمع

اليوناني، "مجتمع الصدقاء" حيث "الصديق شخصية مفهومية" شخصية تصنع مفاهيمها بنفسها، "فل سماء.للمفاهيم" يقول دولوز

إن العلقة مع الخر عند مالبرانش تتأسس على المبدأ اللهي، وأصدقاء السوء هم أولئك الذين ل يطمحون إلى لقاء الرب. وفي كتاب الخلق يعتقد مالبرانش بالصداقة مع الله. هذا الشطط الميتافيزيقي تعبير واضح عن الختلف

بين الرؤية الخلقية والرؤية الدينية لسؤال الخر. فالرؤية الولى، كما نجدها عند أرسطو، ترى أن الصداقة ل تقوم إل بين أشخاص متساوين، وثانيا، تقوم الصداقة حسب أرسطو على الحرية والختيار، في حين أنها تقوم على

.الجبر والمر اللهيين في الرؤية الدينية التمامية

المركزية الصوتيةـ دريدا قارءا لهوسرل ـ

يمكن أن نلخص نقد دريدا لهوسرل في جملة واحدة، نقتبسها من كتابه المركزي "الصوت والظاهرة":"المعنى محفوظ للذي يتكلم". المعنى مثال وعقلنية ولهذا ليس تناقضا أن يربطه هوسرل بالذات، بذات حاضرة ومتكلمة. إن

قدر الذات هو المعنى، إنه محكوم عليها أن تقوله أن تجترح معنى. والمعنى سابق على الكلم، ذاتوي أو مذوت، ثابت مرة وللبد بمكان ما قد نسميه الوعي وبإمكان الذات أن تستحضره كلما طلبت ذلك كما يستحضر العبد ربه

لحظة الصلة. (لم يخطئ ليفيناس حين أعلن في بدايات اكتشافه للفينومينولوجيا حين وصفها بالدين الجديد) وتحويل المعنى إلى كلم أو لغة يظل بنظر هوسرل عمل ثانويا، نوعا من التدنيس إذا استعملنا لغة دينية. اليبوخي هو

نقيض ذلك فافيبوخي أو الختزال الفينومينولوجي الذي يمثل خروجا من العالم والذي يضع المعرفة كما الوجود كما

5

5

Page 6: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

الخرين بين قوسين. إذ يتم إلغاء وجود العالم من أجل المساك بجوهره. نفقد العالم لكي نعثر عليه من جديد، لكنا ل نعثر عليه "معيشا" بل كوعي فقط. تبدو الفينومينولوجيا إذن كعلم قبلي، فقبل الوجود، قبل كل قوانين الواقع، يمثل

الجوهر وقوانينه. إنها نوع من الكتفاء الداخلي، وعي مطلق، حذف للعالم الخارجي، في كلمة، وكما قال دريدا، أفلطونية. إن الوعي في هذه الفلسفة ليس نتاجا للطبيعة، بل هو حر من كل طبيعة، في حين ل يمكن للطبيعة أن

توجد حال غيابه. إن هوسرل قد عبر عن ذلك بوضوح:"إذا محونا كل العقول من العالم، ل يبقى هناك وجود للطبيعة، ولكن إذا محونا الطبيعة فإن شيئا ما يظل على قيد الحياة: العقل كعقل فردي" وهذه النظرة إلى الطبيعة

كشيء ثانوي وتابع للعقل توضح أيضا اختلف الفينومينولوجيا عن علم الدللة التقليدي الذي يقبل فقط بالكلمات التي تحيل على موضوع واقعي. إن المفهوم المركزي لفلسفة اللغة الهوسرليانية هو العبارة والعبارة تنقسم إلى علمة سواء كانت مادية أم صوتية أم كتابية وإلى معنى. ويميز هوسرل بين نوعين من العلمات: العبارة والعلمة أو

الشارة. فالعلمة الولى لها معنى، في حين أن الثانية هي علمة إشارية. ودريدا سيفهم هذا التمييز كنظام ميتافيزيقي ل يقبل التواصل. إنه يقول :"فقط حين يتم حذف الوظيفة التواصلية تظهر للوجود الوظيفة التعبيرية

الخالصة (...) وحتى يتم اختزال الشارة وإقامة العبارة الخالصة داخل اللغة، يجب إذن حدف كل علقة بالخر". دريدا يعالج في "الصوت والظاهرة" مشكلة العبارة كما فهمها هوسرل في البحث المنطقي الول, وسيكشف دريدا كما سنرى عن البنية الميتافيزيقية لنظرية المعنى الهوسرليانية. هوسرل نفسه يميز في "التأملت الديكارتية" بين

ميتافيزيقا أصيلة أو فلسفة أولى والميتافيزيقا التقليدية التي خانت العقل، لكن دريدا يرى أن الفينومينولوجيا لم تضع موضع سؤال ل العقل الترنسندنتالي ول اللغة التقليدية لهذا العقل. هوسرل يفهم اللغة ككائن عقلني فهو لم يفهم

الختلف بين اللغة والمنطق أو بلغة دريدا هو ل يميز بين الغراماتيكا والمنطق. إنها غراماتيكا منطقية تتأسس على الوعي، فهو أصلها ومآلها. غراماتيكا ميتافيزيقية، وعي ل يعبر إل عن شيء واحد وهو الحضور وبلغة أخرى:

الصوت. الصوت الفينومينولوجي الذي ل يجب خلطه بالصوت الفيزيقي، لنه صوت ترنسندنتالي وشعوري، صوت يمتلك روحا ل تنتمي إلى العالم. في الفصل الول من من كتابه النف الذكر يبدأ دريدا بالحديث عن مفهوم العلمة أو الدليل عند هوسرل. هوسرل يعتقد بأن بعض العلمات ل تمتلك معنى. وهي تلك العلمات التي يسميها

المرء بالعلمات الشارية أو باختصار الشارة في مقابل العبارة. الشارة تنتمي إلى العالم، إلى عالم بل وعي وبلأنا وبل ذات متكلمة. في المقابل فإن العبارة معنى، حدث شعوري: "إرادة قول".

ويوضح هوسرل بأن العبارة ليست إشارة إلى شيء ما. إنها ليست علمة وجود، وحتى لو كانت مرتبطة بخطاب تواصلي. فهذا التواصل يظل دائما بالنسبة لهوسرل سطحيا. إن العبارة تجد أصلها خارج التواصل وبنية الشارات،

خارج العالم، في عالم المثال والمونولوغ. إن الفينومينولوجيا الترنسندنتالية ل تسمح بتبادل الكلم، لنها تفهم التواصل كفعل سطحي، إن أصالتها تتحقق دائما في غياب الخرين، في غياب الختلف، في الحياة المنعزلة

للروح. العبارة في نظر هوسرل "تجسيد" . إنها تعبر عن معنى موجود قبل بالوعي. وقد نفهم العبارة كمظهر أو تجسيد

لمعنى داخلي. التجسيد أو المظهر أو الخارج ليس طبيعة ولكنه معنى، إنه صوت الذات المتكلمة. إن بنية الخطاب لدى هوسرل مثالية. دال مثالي ل يقبل التغير ومدلول مثالي. مثالية ل تعني أكثر من إمكانية دائمة لنتاج الذات

كحضور. والوجود في نظر هوسرل تكرار أو عملية استحضار. وهذا التصور يفسر هرمية ونهائية النظام الهوسرلياني. إذ أنه نظام ل يكتفي فقط برفض التواصل، بل يدفن الوجود في أصل معين ويختزله بمكان محدد.

يقول دريدا:"للتطور التاريخي حسب هوسرل دائما شكل أساسيا وهو تكوين المثالية، بحيث أن تكرارها وإذن التقليد يتم الحفاظ عليه إلى البد: التكرار والتقليد بعني النقل وتجديد الصلة وهذا التجديد للوجود كمثالية تقدير أو فعل

أخلقي ـ نظري يؤيد الحكم الصلي لفلسفة في شكلها الفلطوني". والصوت تعبير عن هذا الحضور أو هذا الشكل الفلطوني. ويتساءل دريدا: لماذا يعتبر الصوت الكثر مثالية من بين العلمات؟ من أين يأتي هذا التواطؤ بين

الصوت والمثالية؟ إنه السؤال ـ النواة لكتاب دريدا. وعبر طرح هذا السؤال يحاول دريدا تفكيك العلقة بين المركزية الصوتية والمركزية العقلية. إن دريدا يحاول توضيح أن العلقة بين الصوت والوعي هي علقة داخلية.

إن الصوت يظل سجين النا. لمكان للخر ول مكان للعالم. فنفس الدال ومعنى المدلول هو هو. في الوقت الذي أتكلم، أسمع ما أقول، أحقق نفسي كحضور، كنفس وروح، أحصن حياتي. دريدا أشار في كتابه "الغراماتولجيا" إلى

أن تاريخ الميتافيزيقا ليس فقط من أفلطون وحتى هيغل ولكن أيضا من ما قبل السقراطيين وحتى هايدغر اعتبر

6

6

Page 7: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

دائما العقل كأصل للحقيقة. وهي نظرة رأت إلى الكتابة دائما كشيء ثانوي وتقني، يقع خارج الحقيقة. الصوت عكس الكتابة مكون من مكونات هذاالقتصاد الميتافيزيقي، إنه دال ل ينتمي إلى عالم التجربة، إنه الوعي ذاته. إن الكتابة ل تملك معنى ول تأثيرا حتى أنه يمكن الستغناء عنها، فالميتافيزيقا ل تحتاج إلى جسد، ولطالما احتقرته كما فعل

أفلطون في الجمهورية، إنها إصغاء للذات. الصوت والوجود يدخلن في علقة تقارب. إن الصوت كما قال هيغل ينحدر من الروح. والختزال الفينومينولوجي ليس أكثر من مونولوغ. والعلمة أو اللغة مجرد انعكاس للحقيقة

المثالية التي تتاسس خارج العالم وهذا الفهم للعلمة يقود هوسرل إلى تحقير التواصل، فالخر يمثل خطرا بالنسبة له، لنه تنسيب للمعنى الصلي. الخر كعلمة أو كتابة أو انسان أو طبيعة يظل في فلسفة هوسرل ثانويا. ويمكن

تلخيص تفكيك فلسفة الحضور كما قام به دريدا في أربع نقاط: أول: إنه يعتبر بأن العلمة ليست فقط انعكاسا لمعنى أصلي ولكنها شرط إمكانية هذا المعنى، وهي ليست فعل استحضار لمعنى مصنوع من قبل. ثانيا: في البدء كانت

العلمة وليس الذات، فليست الذات هي التي تكون العلمة ولكن نظام العلمة يكون الذات. ثالثا: يتجاوز دريدا اختزال الزمن في الن. الن أو الحاضر كتحديد أنطو ـ لهوتي للوجود، كأصل للحقيقة وخالق للمعنى هو بالنسبة

لدريدا شكل من أشكال الفلطونية ونسيان الخر. رابعا: تجاوز دريدا الهيرمينوطيقا التقليدية التي زعمت دائما إعادة امتلك المعنى الصلي، هذه الهيرمينوطيقا المبنية على الفهم وليس على الختلف. إن الغياب لعب دورا

.أساسيا في تكوين المعنى

حوار الدين والعقل ــ هابرماس وراتسينغر

الليبرالية السياسية يقول هابرماس، "تفهم نفسها كشرعنة غير دينية ومابعد ميتافيزيقية للساس المعياري للدولة الديمقراطية. صحيح أن تاريخ اللهوت المسيحي في القرون الوسطى وخصوصا السكولئية السبانية المتأخرة

ينتمي الى جينالوجيا حقوق النسان. لكن الساس الشرعي للدولة المحايدة يتولد في النهاية عن مصادر دنيوية هي فلسفة القرنين السابع والثامن عشر". إن الدستور حسب هابرماس هو المرجعية الخيرة في الدولة الليبرالية. لكنه

دستور اختاره المواطنون ولم يفرض عليهم من فوق. وفي الدولة الدستورية ل وجود لذات متسلطة تقتات على جوهر ماقبل قانوني كما هو الحال زمن حكم النبلء. هابرماس يدافع عن مفهموم للدولة أداتي وغير جوهراني يضرب بجذوره في فلسفة كانط الخلقية ويتأسس على عقل يشترك فيه كل المواطنون. عقل متعدد الصوات

عود فيما بعد لمناقشتهاأوالرؤى لكنه عقل ينزع دائما إلى الجماع، وهنا المشكلة التي س . وبهذا المعنى، فإن دستور الدولة الليبرالية ينتج شرعيته بنفسه دون اللجوء إلى مصادر دينية أو ميتافيزيقية. لكن

كيف ينتج نفسه التضامن داخل مجتمع المواطنة؟ أن يضحي المواطنون من أجل الخرين، أن يتضامنوا مع الخرين؟ يرى هابرماس ضرورة وجود فضائل سياسية بالنسبة للدولة الديمقراطية، وهو أمر يرتبط بالتربية

والتعود على ممارسات الثقافة الليبرالية. والمجتمع المدني يعيش على ينابيع عفوية أو حتى قبل سياسية. لكن ذلك ل يعني كما يقول هابرماس، أن الدولة الليبرالية عاجزة عن إنتاج أسسها الخلقية من داخلها. ويرى رغم أن مشاركة المواطن في السياسة تقوم على نظرة إلى الحياة أخلقية وعلى أشكال ثقافية، لكن ل يجب نسيان أن العملية السياسية

تنتج عن دينامية سياسية خاصة بها. كما يؤكد أنه رغم أن اللغة والدين والشعور الوطني لعبا دورا في ظهور.تضامن مواطني إل أن الدولة الليبرالية تحررت ومنذ زمن من هذه السس

لكن هابرماس يدافع عن فلسفة غير مكتفية بذاتها، عن فلسفة مدركة لبنيتها ولموقعها غير المستقر في البناء المتعدد للمجتمع الحديث. إنها فلسفة ل تسير على خطى كانط وهيجل محاولة أن تحدد ماذا تبقى من الخطاب الديني، أو ما الخطاب الديني وهل صحيح هذا الخطاب أم خاطئ. إنها فلسفة تقوم على احترام الخطابات الخرى وأشكال الحياة

الخرى. ليس فقط ذلك، بل مستعدة للتعلم من الخطاب الديني. لكن أل يتناقض هابرماس هنا مع مفهومه عن.التواصل الذي يقوم على الستدلل ول شيء غير الستدلل؟

7

7

Page 8: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

على مجموععلمانيةإن الدولة المحايدة تضمن الحريات الخلقية لكل مواطنيها، وهذا يتعارض مع فرض لنظرة المواطنين، ول يحق وفقا لهذه النظرة للدنيويين أن يحجبوا حق الكلم عن المتدينين، بل إن دولة ليبرالية من حقها

.أن تنتظر من العلمانيين ما هو أكثر من ذلك، كتابة الخطاب الديني بحروف الدنيا، يقول هابرماس لكن ماذا يتبقى من "الخطاب الديني" إذا حرمناه حروفه؟! وأليست العلمانية أساس هذا الحياد الذي تتمتع به الدولة؟

، يبعثأليست الدولة المعاصرة ابنة ثقافة دنيوية؟ إن المجتمع ما بعد العلماني، هو مجتمع يعطي الكلمة للخلق في حين يحافظ على فهمه للدين كعلقة شخصية بالله. إن جرعة من الدينالروح فيها لكي تواكب تحديات العصر،

ولو كانت محسوبة بإتقان ومكتوبة بلغة طبيب،ل يمكنها أن تقدم حل لمشاكل الحداثة وقد تغطي عليها أو تعطي.النطباع بأنها قادرة على تقديم حلول

يحذر هابرماس في خطابه الذي ألقاه بمناسبة تلقيه جائزة السلم من تحويل المجتمعي أو الحياة الجتماعية إلى سوق، وأن تتحول لغة العلقات الجتماعية إلى لغة السوق القائمة على الربح والخسارة. لكنه يتناسى بأن السوق هي

الفضاء الممكن للحوار، بل إن السوق هو النبع المتجدد للديمقراطية والتنوع والتعدد، ولغة الربح والخسارة ليست شرا في حد ذاتها، بل حين تفرض عليك الخسارة ويسرق منك الربح كما هو الحال في الثيوقراطيات العربية، التي

ل يحكمها السوق ولكن طغمة من اللصوص، آنذاك فقط يحق لنا أن نعترض، ولكنا سنعترض على الخلل بقوانين .السوق القائمة على المنافسة الحرة

أما راتسينغر فيبدأ بالتأكيد على ضرورة طرح سؤال السلطة؟ وكيف يمكن تحديدها قانونيا وأخلقيا، في وقت يمكن فيه لسلطة النسان على الرض أن تكون مدمرة. ول يمكن للعلم أن يمنحنا هذا الساس الخلقي أو هذا الوعي

الخلقي الجديد، بل من واجب الفلسفة اليوم أن تنظر إلى هذا العلم نظرة نقدية والى مسلماته حول النسان وأصله والهدف من وجوده بنوع من الشك، عليها أن تنفتح على أبعاد الحياة الخرى، والتي ل يمثل العلم إل جزءا منها. إنه

الشك طريق اليقين! والدعوة إلى إحياء الشك من طرف رجل دين كبير، تحمل أكثر من دللة، لعل أبرزها أن مجتمعا يسوده الشك هو مجتمع ل بد أن يسمح بتعدد وجهات النظر، ومنها ل ريب وجهة النظر الدينية. إن الدين

.هبة الشك ومن واجب السياسة أن تحدد السلطة قانونيا وتنظم دورها. وليس قانون القوى من يجب أن يسود، يقول راتسينغر ولكن قوة القانون. ويتابع بأن الحرية التي ل يحكمها القانون فوضى، وبالتالي فهي مدمرة للحرية نفسها. نقد الحرية

كان دائما جزءا ل يتجزأ من المشروع الديني التوحيدي، فأغسطينونس يعتبرها أصل كل الخطايا، والخطاب الحمدلي الذي رفض الشعر والشاعر، هو رفض لحرية المخيلة وانطلقها. بحيث أن استعمار الخطاب الحمدلي

للخيال خطوة ل مندوحة عنها من أجل فرض سيطرته على الحياة الواقعية للبشر. إن معركة القواعد تتم دائما على مستوى الخيال وليس التاريخ إل انعكاسا رديئا لها. لكن التأسيس الفلسفي لنقد الحرية الذي يتجاوز سوء نية الخطاب

.الديني ورغبته في السيطرة هو ما يجب أن نلتفت إليه في وقت لحق والشك بالقانون، يؤكد راتسنغر، ل يولد إل في اللحظة التي يتوقف فيها القانون عن خدمة العدالة. لكن الديمقراطية القائمة على فكرة الغلبية كما يقول راتسينغر وكما هو واقع الحال فعل، قد تضحي بحقوق القلية من أجل الغلبية. فحتى الغلبية يمكن أن تكون عمياء وغير عادلة، والتاريخ يثبت ذلك. فكم من القليات الدينية أو العرقية قمعت من

طرف الغلبية. وهذا يدفع الى طرح السؤال حول ما اذا كان هناك شيء سابق على كل قانون، أساس أخلقي أو دين. وطبعا هذا ما تحقق في إعلن حقوق النسان والذي حد من سطوة الغلبية على القلية. ومع ذلك فمازالت

حقوق النسان كما تفهم في الغرب بعيدة عن التطبيق في أرجاء واسعة من العالم كما هو الحال في الصين أو في العالم السلمي. ويرى راتسينغر بأن العالم يقف أمام خطرين، أحدهما يتغذى من الدين والخر من العلم. الول هو

الرهاب، والذي قد يجعلنا نفهم بأن الدين خطر على البشرية وأنه ل مناص من تجاوزه. والثاني هو الستنساخ الجيني والذي ينظر إلى النسان كأي شيء يمكن صناعته والتخلص منه برميه في القمامة أيضا على حد تعبير

راتسينغر. وما يخفي ذلك من قبر للساس الخلقي للنسان. ويرى راتسينغر ضرورة الشك بالعقل، ووضع حدود لسلطته، أليس هو في نهاية المطاف من صنع القنبلة والمسؤول عن عملية استنساخ البشر؟ لكن أل يجب أيضا الشك بالدين وهو الذي يسوق، شأنه شأن العلم، لحقيقة مطلقة ويدعي امتلكه لها، ويحرمنا بذلك حقنا في التفكير وحقنا في

الشك ـ وأول التفكير شك كما علمنا ديكارت ومن بعده هوسرل ـ وحقنا في الخيال؟

8

8

Page 9: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

أو تنسيب القيم، وهو أمر نقبله من رجل دين، ول يمكن أن ننتظرديكتاتورية النسبيةراتسينغر يحذر مما يسميه شيئا آخر منه، لكن ل يمكن لغيرية حقة أن تقوم إل في ظل تنسيب القيم هذا، والذي ل يقول شيئا آخر غير حقي وحقك في الكلم على اختلف أراءنا ولغاتنا. إنني أتوجس دائما من رجل الدين، لكن راتسينغه ليس برجل الدين

!العادي، ويا ليتنا نملك مثيل له في ثقافتنا

فضيلة التواضع

أليس هذا ما نحتاجه اليوم؟ أن نتحلى بقليل من التواضع، فل نجرم الحرية كما يفعل الدين ول نفهم التعلم من الخر. كانفتاح واعتراف بالخر ويد ممدودة إليه؟ ففضيلةالتواضعالواقع البشري كصراع من أجل العتراف. أل يأتي

التواضع هي شرط التعلم من الخر وهي فضيلة ل يمكن إل أن تتأسس على الشك و تؤسس له. ذاتية ضعيفة أو حرية ضعيفة، ل تبغي ابتلع الخر ول تبشيره ول الهيمنة على خياله. هابرماس وراتسينغر يلتقيان في أمر

أساسي، ضرورة التعلم من الخر. وبلغة أخرى ضرورة إقامة حوار مستمر بين العقل والدين، وبين الثقافات على تعددها واختلفها. لكن شرط خطابهما ولغته والفضاء الذي يتحركان بداخله ل يمكن أن يؤدي إلى الخر وقد يؤدي

إلى الجماع. ومع ذلك فلنصغ قليل إلى راتسينغر. إنه يرى أن ل العلم الغربي ول الدين المسيحي يملكان تلك العالمية، فكلهما نتاج تجربة وسياق تاريخيين ولهذا ل بد من الدخول في حوار مع الثقافات الخرى. ويلتقي

راتسينغر مع المفكر اليراني الذي سأل هابرماس، إن لم يكن الطريق الغربي طريق خاص بالغرب، طريق يحتاج .الى تصحيح. ويعني بالطريق الغربي، صيرورة الدنيوة التي عرفتها المجتمعات الغربية

يلتقي راتسينغر مع مفهوم هابرماس عن المجتمع ما بعد الدنيوي ومناداة هابرماس بضرورة التعلم من المعسكر الخر. ويرى بأن هناك أمراضا دينية ل بد من معالجتها وطريق علجها كما رأى ذلك آباء الكنيسة عرضها على

العقل، كما أن هناك أمراضا للعقل خطيرة، وهنا يلعب الدين دورا في تحريرنا منها، ول يتحقق ذلك إل إذا كان العقل مستعدا لسماع الخرين والتعلم منهم. راتسينغر يدافع عن نوع من التوفيق بين العقل والدين، فكل واحد منهما في حاجة الى الخر. والعقل هنا ل ريب هو المدنية الغربية والدين: المسيحية، ولكن ل يجب مع ذلك تهميش رؤى العالم الخرى، يقول راتسينغر، بل يجب الدخول في حوار مع تلك الرؤى، حوار يقبل تعدد الصوات كما الرؤى. وهو حوار في نظري ل يتحقق إذا قام على التبشير ول يتحقق متى قام على الستدلل، بل على فضيلة التعلم من

.الخر/ التواضع

الخاسر الراديكالي

يرى سلوتردايك، شأنه شأن هابرماس، بأن أكبر خطر ناتج عن الرهاب، يتمثل في الجهاز على الحقوق المدنية داخل المجتمعات الغربية. ويرى أنه إذا ساهم الخطر الشيوعي زمن الحرب الباردة في مضاعفة النفقات

الجتماعية، فإن خطر الرهاب سيساهم ل ريب في مضاعفة النفقات المنية من جهة، وسيصبح لعملية الحفاظ على المن الولوية على مشروع تحقيق عدالة اجتماعية. كما يرى أن الرهاب ساهم في خلق شعور قومي في الدول الغربية، يهدد كل معارضة داخلية بالشلل. ولم يقف الرهاب وحده وراء ذلك، بل يضيف سلوتردايك بأن "مللي

المحافظين الجدد الذين يتحدثون عن حرب عالمية رابعة"، ساهموا هم أيضا وبشكل كبير في إقناع الرأي العام بأولوية محاربة الرهاب، وما يتضمنه ذلك من رفض لكل معارضة، وتوجيه للنظار بعيدا عن المشاكل

الجتماعية. ويرى سلوتردايك بأن هناك ثلثة عناصر قد تسمح بمقارنة الحركة السلموية الجديدة بالشيوعية البائدة، وقد تعطي النطباع بان السلموية ستلعب نفس الدور الذي لعبته الشيوعية في القرن الماضي. العنصر

9

9

Page 10: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

الول يتمثل في الدينامية التبشيرية لهذا التجاه وقدرته على بناء حركة تتوجه إلى كل الناس بغض النظر عن عرقهم أو ثقافتهم. ثانيا، إن السلموية تعد أتباعها بالنصر النهائي، وتحقيق حلم إمارة اسلمية عالمية كما وعدت الشيوعية أتباعها بالنصر النهائي للبروليتاريا. العنصر الثالث يتمثل في العامل الديمغرافي، أو القنبلة الديمغرافية

التي يشهدها العالم السلمي، وظهور جيل شاب جديد ساخط على الواقع الذي يحرمه من كل شيء، ويجد في الدين الطريق الوحيد لتغييره. لكن سلوتردياك يرى بأن قدرة السلموية على الحلول محل الشيوعية تظل مجرد وهم.

لن الشيوعية كانت نتاجا للحداثة الغربية، أو وجهها الخر، في حين تعادي السلموية كل أشكال الحداثة، عاجزة عن تقديم حداثة بديلة. وعمليات الحادي عشر من سبتمبر لم تكن دليل على القوة، بل دليل على الضعف الذي تعيشه

اليديولوجيا السلموية. ايديولوجيا قد تكون قادرة على النتقام، ولكنها عاجزة عن تقديم أي بديل لمجتمعنا المعاصر. النتقام. أجل، فذاك هو النجاز الوحيد للرهاب ولما يسميه انسنسبرغه بالخاسر الرايكالي. لقد أثار هذا

الكتاب امتعاض العديد من العرب، لكنه لم يقل غير ما نعرفه جميعنا، فنحن أبناء تربية تقوم على الثأر والنتقام والقتل والدموية ول بد من أن نعرض أنفسنا على طبيب نفسي قبل فوات الوان. والطبيب النفسي ليس سوى

.العصر، علينا أن نتوقف عن الكلم ونصغي في خشوع لحكم العصر علينا، لعلنا نفيق من غيبوبتنا الخاسر الراديكالي هو السم الذي يطلقه إنسنسبرغه على الرهابي الذي يتحول إلى خطر كبير حين يجد مجتمعا أو

حركة أو ايديولوجيا تتماهي معه، وتعترف به وتحتفي بقدرته على اجتراح الموت. ويضرب انسنسبرغه مثل باليديولوجيا النازية والشيوعية وبكل اليديولوجيات العرقية التي بإمكانها أن تشحذ الخاسر الراديكالي وتشرعن

أعماله، بل وتسمو بها الى مصاف العمال المقدسة. ول يهدف الخاسر الراديكالي في نظر انسنسبرغه إلى تحقيق"إنه يقتل فقط لكيالنصر بالضرورة، بل هدفه الساس هو التدمير الذاتي وتدمير الخرين معه. وكما يقول سينيكا،

ويضرب انسنسبرغه مثل في هذا السياق بالقومية الشتراكية وزعيمها هتلر، ويرىيتفرج على موت الخرين". بأن الخاسر الراديكالي ل يؤمن بالحلول الوسطى ول بالمفاوضات ول يطلب الجماع، بل إن هدف النازية كان هو النتحار الجتماعي. كلمات تحمل أكثر من دللة إذا ما قرأناها في سياق الحرب الدائرة اليوم في العراق، والتي قد

تدور رحاها غدا في دول عربية أخرى تفرخ لذهنية الخاسر الراديكالي. وعن حق يربط انسنسبرغه بين السلموية والتوتاليتاريات التي عرفها القرن الماضي من نازية وشيوعية، فالسلمويون الجدد لم يتأثروا فقط

بالتفكير النازي والشيوعي المعادي للغرب ولليهود وللحداثة عموما، بل تأثروا أيضا بالوسائل العملية والتنظيمية لهذه التوتاليتاريات القائمة على الرهاب والغتيال والتخويف. ويرى انسنسبرغه بأن الخطر السلموي يتمثل بالخصوص في تقوية الجهاز المني في المجتمعات الغربية وشركات التسلح وسن قوانين تضيق على الحريات

العامة باسم حماية المن القومي، لكنه يرى الخطر الكبر للرهاب في إمكانية التأثر بلغة الخصم وخطابه، وهو.خطاب يجب كل اختلف

10

10

Page 11: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

نقد الحرية

ليفيناس، فيلسوف الغيرية بامتياز، إذا تركنا نقد إريغاري النسوي جانبا، صوت الخر في الفلسفة الغربية، صوت مختلف ومغاير. جاءت كتاباته لتندد بالعقل كسياسة توسعية وبالحرية كنزعة ارهابية ترفض غيرية الخر المطلقة، تختزله في معنى، تشكله حسب نموذجها، تسيطر عليه. من منا يذكر كلمات ليفيناس عقب مذبحة

صبرا وشتيل: "النسان أكثر قداسة من كل أرض مقدسة"؟. جاءت فلسفة ليفيناس أو أخلقه كفلسفة أولى ـ أخلق الخلق كما يسميها دريدا لنها ل تبغي بناء قواعد أخلقية ـ تفكيكا للتقليد النوي للفلسفة الظاهراتية

من جهة، ولنطلوجيا هايدغر وعماءها الخلقي من جهة ثانية. كتابه الرئيسي "الكلية واللنهائي" تفكيك لمنطق الشبيه، للشبيه كبنية للكلية أو للكلية كسيطرة وإدماج للخر بداخل نظام العقل الحادي البعد

والمبريالي المعنى. إن الكلية هي التحقيق الدينامي للواحد. لكن الكتاب يؤسس أيضا لخلق "ضعيفة" ل كما هو الحال عند هوسرل وحال كل فلسفة تقوم alter ego تريد أن تصنع من الخر أنا أخرى على وعي لاجتماعي. ل يملك العقل أصواتا متعددة كما يدعي هابرماس في "الفكر مابعد الميتافيزيقي".

للعقل صوت واحد. وكل حديث عن وحدة العقل هو إخراس للصوت الخر. "النوية أو المونولوغ هي بنية.العقل" يقول ليفيناس

إن تجاوز هذا التمركز حول الذات ل يتحقق إل عبر الحفاظ على الفرقة أو النفصال بين النا والخر. انفصال هو أكثر قربا من القرب، لنه ل يطلب الهيمنة على الخر ول يبغي دمجه بنظام النا. انفصال هو ميتافيزيقا وليس

أنطولوجيا. النطولوجيا معنى، سيطرة، علقة حيادية بالموجود، في كلمة: حرب. لذلك يدعو ليفيناس إلى اكتشاف علقة أخرى مع الموجود، بعيدا عن الكلية، تتأسس على الميتافيزيقا. فالميتافيزيقا كلنهائية أو كوجه هي من يكون

الوعي أو من يمنحه معنى، هي شرط إمكان الوعي وتحققه. و"تحديد" الغيرية ليس سوى رفض لكل تحديد لهذه الغيرية. فالخر ليس موضوعا لمعرفة موضوعية ومموضعة، تربط الخر بالنا، بأنا متأملة على طريقة ديكارت

.وهوسرل، أنا تحمل العالم ومعناه بداخلها ليس الخر نتيجة تأمل ترنسندنتالي أو تمثل أو تكوين كما هو الحال في التأمل الخامس من "التأملت الديكارتية"

لهوسرل. إن الحديث مع الخر وليس التكوين الحادي الذي ينطلق من النا من يجعل الخر آخرا. والعلقة "ذات ـ موضوع" تتعارض مع الخلق كمطلق ميتافيزيقي. إن الخر أصل المعنى ومآله. فهو الوجه الذي يكشف عن نفسه

في مخاطبته لي، في تعبيره عن ذاته، في فقره وضعفه، وفي صرخته بوجه الجلد:" لن تقتلني". لذلك ل يمكن إدراك الخر بنفس الطريقة التي يتم بها إدراك موضوع ما. بل ل يمكن إدراكه البتة. وفي هذا السياق يلتقي ليفيناس

.بأقطاب الفلسفة الحوارية في المانيا في احتفاءهم بفيورباخ وتأسيسه للغيرية على اللغة قراءة ليفيناس لهوسرل وتجاوزه للظاهراتية يتلخص في رأيي في مرحلتين: المرحلة الولى نسميها "الحرية"

والثانية "الخلق". النتقال من "الوعي" إلى "الوجه" ل يختلف في شيء عن النتقال من الحرية إلى الخلق. وبلغة أخرى فإن الشاب ليفيناس الذي عرف الثقافة الفرنسية بظاهراتية هوسرل، يرى في كتابه عن هذا الفيلسوف

بأن الظاهراتية فلسفة للحرية وتحقيق لذاتية حرة. حرية تتحقق كوعي. وعي يوجد قبل العالم1940الذي صدر سنة ول يتحدد العالم إل به ومنه. بل إن قراءته للختزال الفينومينولوجي تفضح نظرته المثالية إلى الظاهراتية. إنه

حسب فهمه نوعا من الحفاظ على الوعي خارج العالم. فليس الوعي لحظة في العالم بل اللحظة المؤسسة بامتياز. لكن ليفيناس بعد نقلته الخلقية سيجد في الحرية أصل كل عنف. حتى أن أخلقه ليست في نهاية المر سوى نقد

ونقض للحرية وللوعي المكون. وهو يلتقي في نقده للوعي الترنسندنتالي بموريس ميرلو ـ بونتي الذي رأى من جانبه أن الوعي ابن العالم ومرهون به. إن ليفيناس يفهم فعل التكوين كعنف، وتعبير عن فكر مونولوغي

ومونادولوغي. ذلك أن الكوجيطو وفق هذه النظرة المثالية يظل حرا من الخرين، ذاتية مكتفية بنفسها، تنظر إلى الخر كشيء أو تكونه كـ "هو". صحيح أن الذات تحتاج إلى الخرين من أجل تكوين العالم موضوعيا وأن الموضوعية هي ما تشترك فيه الذوات كما يرى هوسرل، لكنها ذوات يجمع بينها موضوع واحد. إنها تتمثل

المواضيع بطريقة واحدة. إن البيذاتية تشترط هذه الواحدية. وبلغة أخرى فإن النا المكونة ل يمكنها أن تفهم فهم الخر لموضوع إل بنفس الطريقة التي تفهم بها هذا الموضوع. ولذا يرى ليفيناس بحق أنها بيذاتية ذاتية. إنه يدافع

11

11

Page 12: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

عن التواصل ضد فعل التكوين وعنفه. ذلك أن شرط الموضوعية في نظره هو التواصل. تواصل ل يتحقق داخل منطق التكوين الذاتوي بل يفجره من الداخل، لنه يشترط النفصال بين النا والخر, الخر كوجه وكلنهائي منفلت

.من كل معنى إن نقد الوعي هو أيضا نقد لغربة التمثل عن العالم أو لهذا التمثل "المجثت" كما يسميه. فضدا على بنية "وعي شيء

ما..." الهوسرلياني يدافع ليفيناس عن فكرة "الحياة من...". إن الوعي يحيا من العالم ويتنفس بداخله، إنه مرهون بالخرين. و"موضوع" الوعي هو أصل شرط تحققه. وكل تمثل ينكر ذلك هو تمثل مجثت ل يأخذ بعين العتبار

.تاريخية الوعي ونقد الوعي هو في النهاية نقد لقصدية مكبوتة. لقصدية ل تستضيف الخر ول تفتح أبوابها أمامه، بل تعمل على

تحويله إلى موضوع للمعرفة. إنها نوع من المطابقة بين الذات والموضوع. من أجل ذلك يدافع ليفيناس عن قصدية مغايرة تتحقق خارج فعل التمثل، جذورها ضاربة في الواقع وليست حبيسة نظام النا. قصدية هي جسد وليست

."وعيا."إن الوجه معنى في ذاته" يقول ليفيناس في "الخلق واللنهائي أما نقد ليفيناس لهايدغر أو للنطولوجيا كسبات أخلقي فيمكن تلخيصه في نقطتين. أول نقد المعية. ل غرو أن

هايدغر قد طور في كتابه "الوجود والزمان" بيذاتية يومية وليس بيذاتية خالصة كما هو الحال عند هوسرل. فالذات ليست البتة مستقلة عن العالم. ففي الدوات التي نستعملها مثل نكتشف وجود الخرين، المطرقة التي نستعملها

صنعها فلن والبيت الذي نسكنه بناه علن... إن الخر مكون للذاتية. لذلك يرفض هايدغر كل تصور نظري للعالم ويفهم الفلسفة كهيرمينوطيقا لليومي والنطولوجيا الساسية كتدمير لفلسفة الذات. المعرفة تظل في نظره مرهونة

بسياقها التاريخي. بل إن حديث هايدغر عن "الرعاية" قد دفع بعض مؤوليه إلى العتقاد بوجود أسس أخلق للختلف في كتابه الوجود والزمان. لكن ليفيناس يرى في هذا الكتاب تأسيسا لولوية الوجود على الموجود. وفي

المعية منطقا للشبيه. أولوية علقة الوجود مع الموجود التي هي علقة لشخصية ومحايدة على العلقة بين الموجودات، العلقة الخلقية. إنه وجود مكتف بذاته. وفهم الوجود هو شرط فهم الموجود. ولهذا السبب ل يمكن

الحديث عن الغيرية في هذا المنطق اللشخصي وفي ظل وجود ل يتكلم. أما فكرة المعية فهي وإن كانت فكرة بيذاتية، إل أنها بيذاتية ل تسمح بتحقق المختلف المطلق إذا استعملنا لغة دريدا في كتابه "مارقون". المعية هنا

تتأسس على النالوجيا أو المماثلة، في كلمة: أخواتية. ضدا على علقة "كتف ـ كتف" الكليانية يدافع ليفيناس عن علقة جديدة، ما يسميه بـ "وجها لوجه"، لنها علقة ل تهدف إلى المعية كتماه مع الجماعة بل إلى الحفاظ على

النفصال بين النا والخر شرط الختلف. نفهم موقف هايدغر بوضوح حين قراءتنا لتفكيك دريدا لخطاب الجامعة الشهير الذي جاء مبشرا بجوهر الذات اللمانية وبالعقل كحرب (بوليموس) وبمبدأ الزعيم الموحد للجماعة والضامن

لستمرارها. يؤسس ليفيناس في احتفاءه بالنفصال والختلف والوجه لذاتية تتحقق كمسؤولية اتجاه الخرين، بذاتية تتأسس كأخلق ول تطلب ابتلع الخر وتحويله إلى شبيه، بذاتية تفتح أمامنا أبواب الميتافزيقا كلنهائية ضدا

على حرية مكتفية بذاتها تنظر إلى الخر كتهديد لوجودها كما هو الحال عند سارتر. ذاتية تلخصها كلمات بول."سيلن: " أنا أنت حين أكون أنا

مارقونـ دريدا مفككا للسياسي ـ

منطق القوى هو دائما المنطق الفضل". من هذه الجملة يبدأ الفيلسوف جاك دريدا في كتابه "مارقون" تفكيكه" لمفهوم السيادة، وللعلقة بين السيادة والديمقراطية أو جناية السيادة على الديمقراطية في الفكر السياسي الغربي. إن كتابه عبارة عن باروديا ساخرة ـ والتفكيكية ليست شيئا آخرا غير الباروديا ـ للديمقراطية الغربية التي ل تؤبد ول

12

12

Page 13: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

تعترف بغير منطق الشبيه؛ تفكيك لمعجم المبريالية الجديدة، ولخطاب أصولية السوق الحادي البعد والمعنى.وسننيته الكراهية

لقد صرح دريدا في محاضرته التي ألقاها بمناسبة تلقيه لجائزة أدورنو (نشرت بلوموند ديبلوماتيك) بأنه ل يعتقد من سبتمبر. وتابع قائل:"وإذا كان تعاطفي مع كل الضحايا11البتة في البراءة السياسية لحد فيما يتعلق بجريمة

من سبتمبر في الوليات المتحدة. إن11هو بل حدود، فذلك لنه ل يتوقف فقط عند أولئك الذين قضوا نحبهم في هذا هو تأويلي لما نسميه منذ أمس، حسب تعبير للبيت البيض، عدالة ل نهائية: أن ل يتبرأ المرء من أخطائه

وأخطاء سياساته حتى في اللحظة التي يتوجب عليه أن يدفع ثمنا رهيبا يتجاوز كل المقاييس". ودريدا يلتقي في ذلك مع عالم الجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو الذي لم يتوان في "مشاعل" وكتب أخرى، عن فضح امبريالية العقل، أو العالمية الغربية الخاطئة التي تحتكر لنفسها شرعية استعمال العنف والتي ليست في النهاية سوى تعبير عن قومية

.أو مصالح ضيقة إن الدولة المارقة حسب دريدا هي الدولة التي ل تحترم المواثيق الدولية. وخصوصا الدولة التي تخوض حروبا باسم الديمقراطية والحرية. والوليات المتحدة المريكية (وحلفاءها، ول يستثني منهم اسرائيل)، يقول دريدا، في تلعبها

وهو أحد ايديولوجيي ،Litwak بالقانون الدولي ومواثيق المم المتحدة تحولت بدورها إلى أكبر دولة مارقة. إن المبريالية الجديدة، لم يتورع عن الجواب عن سؤال أحد الصحفيين: ماالدولة المارقة؟ قائل:"الدولة المارقة هي كل

."دولة تقول عنها الوليات المتحدة المريكية ذلك إن منطق البيت البيض:"إما معنا أو ضدنا"، هو في نظر دريدا منطق فاشي. إنه منطق السيادة الذي ل يقبل القسمة والتجزؤ. إن السيادة لتاريخانية. إنها ل تتفق مع قيم الديمقراطية العالمية. فل وجود لسيادة بدون عنف وفي استقلل

.عن منطق القوة أو القوى. واستغلل السلطة هو مكون من مكونات السيادة أو المروقية ومنذ عهد كلينتون، وباسم السيادة والمصالح الوطنية، خرقت الوليات المتحدة المريكية القانون الدولي مرات

كثيرة، وفرضت عقوبات على الدول المعارضة لسياساتها، معلنة بأنها ستأخذ بيدها زمام الدفاع عن مصالحها إذا عجزت المم المتحدة عن القيام بذلك. ويرى دريدا في ذلك ضربا للديمقراطية ولمؤسسة المم المتحدة. فباسم الحرية

تحارب الحرية وتتماهى الديمقراطية بالسيادة الوطنية غير المشروطة، أو بلغة الفقيه النازي كارل شميت، الذي يعتبر كتاب دريدا ردا مباشرا عليه، :"إن السد يملك من الحقوق أكثر مما يملكه الخروف". وقديما قال أفلطون

بأن الحق والقانون هما دائما بصف القوى. وإذا كان الفيلسوف المريكي توكفيل في "الديمقراطية في أمريكا" يرى أن الشعب يحكم السياسة المريكية كما يحكم ال العالم، فإن دريدا يرى في هذا الحكم المطلق أو هذه السيادة مصدرا للعنف. ذلك أن مثل هذا المنطق ل يأخذ بعين العتبار حقوق الشعوب الخرى. إن تصنيف دول أخرى كدول مارقة فقط لنها تختلف مع هذا المنطق المبريالي يرجع إلى مفهوم السيادة المطلق، وإله توكفيل ل يختلف كثيرا عن العلة

.الولى أو المحرك الول عند أرسطو إن دريدا يتحدث عن "ديمقراطية قادمة" ضدا على عولمة ليست أكثر من سوق، ديمقراطية تضع سياستها نفسها

ضدا على ديمقراطية القوى السائدة وعلى فكر السيادةديمقراطية ضعيفةموضع سؤال، رافضة التماهي مع ذاتها. المطلق. إنها ديمقراطية تقوم على الختلف، وعلى العتراف بالخر وخصوصيته، ولهذا يكرر دريدا دعوته إلى

.نبذ منطق الشبيه أو الخواتية يقول دريدا:"ل خطر على الديمقراطية القادمة إل حيث يوجد الخوة، ليس بالضبط الخوة (...) ولكن حيث تصنع

) وهي نفس الفكرة التي عمل76الخوة القانون، هناك حيث تسود ديكتاتورية سياسية للخواتية"(مارقون،ص. دريدا على تفكيكها في "سياسات الصداقة" سواء في قراءته لخلق نيكوما لرسطو أو لـ "صداقة" سيسرو أو في

نقده لكتاب "مفهوم السياسة" للفيلسوف النازي كارل شميت أو للمقال الفتتاحي لهايدغر إبان تسلمه عمادة جامعة فرايبورغ، وهي فكرة أو تقليد ل يسود فقط الفلسفة اليونانية القديمة والفلسفة الوروبية الحديثة، ولكن أيضا كل

الديانات البراهيمية التي تمجد الخ وتعلي من شأن الخوة على حساب الغيرية والحق في الختلف. ويرى دريدا أنه إذا ما كانت هناك من أخلق خالصة، فهي تلك الخلق التي ل تبغي معرفة الخر، لن كل معرفة هي سيطرة. وهي نفس الفكرة التي دافع عنها امانويل ليفيناس، حين تحدث عن ضرورة الحفاظ على مسافة أو قطيعة بين النا

والخر ضدا على معرفة الخر، فكل معرفة سلطة، وكل سلطة عنف. لقد طرح ليفيناس بدوره في نقده لمفهوم البيذاتية الهوسرلياني ولحيادية الوجود الهايدغري بناء أخلق تتأسس على الخر وعلى المسؤولية اتجاه الخر،

13

13

Page 14: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

وبلغة ليفيناس على علقة "وجه ـ وجه" وليس "كتف ـ كتف" التي تسود المجتمعات الخواتية. كما أن فكرة الديمقراطية القادمة هي من جهة ثانية تأكيد لتاريخانية المفهوم الديمقراطي. ويستشهد دريدا بمفهوم أرسطو عن

.الديمقراطية، الذي يرى أن الديمقراطية تقوم على اقتسام الحرية، وهذا ما يتناقض كليا مع منطق السيادة الناني في عالم اليوم الذي ترتبط فيه الديمقراطية بالسياسة، والديمقراطية بالعلمانية، يبدو أن الدول الوحيدة في العالم التي ل تمارس الديمقراطية كنظام للحكم، أو أغلب هذه الدول تنتمي إلى العالم السلمي، وأيضا اسرائيل، وإن لم يكن

في نظام حكمها فعلى القل في ثقافتها المرتبطة صميميا بالديانة اليهودية وبعض الدول المسيحية. وهكذا يبدي السلم أو اتجاها معينا من السلم حسب دريدا نوعا من المقاومة ضد الديمقراطية، وهو يستشهد بالتجربة

. التي كانت ستضع حدا للمسار الديمقراطي في هذا البلد1992الجزائرية سنة يدعو دريدا فيما يتعلق بالعالم السلمي أول إلى بناء هيرمينوطيقا جديدة للقرآن، تكشف عن المضمون الديمقراطي

للسلم. وقد ل حظ أن الفلسفة السلمية لم تعرف قط كتاب السياسة لرسطو الذي عالج فكرة الديمقراطية والحرية. فابن رشد لم يهتم في خطابه السياسي السلمي بغير كتاب أخلق نيكوما، والفارابي اهتم فقط بجمهورية

افلطون، وبفكرة الملك ـ الفيلسوف أو الملك المطلق. وثانيا إلى دنيوة للسياسة في العالم السلمي، أو إلى بناء ذاتية علمانية. لكن أل يخطئ دريدا حين يحمل النص الديني ما ل يتحمل ويطالبه بما ل يستطيع إليه سبيل؟ وهل

!المضمون الديمقراطي حبيس النص الديني، ل نحتاج إل إلى تحريره؟

تشخيصات الزمن ـ قراءة في هابرماس ـ

يصيب كارل كراوس حين يقول في أحد شذراته:"من المراض الكثر انتشارا التشخيص". فكثيرا ما يجانب المشخص الصواب، ويحتكم إلى أحكامه المسبقة أو إلى ذوقه أو إلى ثقافته أو مدرسته الفلسفية للحكم على نصوص معينة. وهذا حال هابرماس في كتابه "تشخيصات الزمن". الذي يضم العديد من البحاث والمداخلت الفلسفية تبدأ بقراءته "الحداثة: مشروع غير مكتمل". فهابرماس يعتبر من أكبر المنتقدين لفلسفة ما بعد الحداثة، نظرا لعتقاده بأن الحداثة ليست أمرا منتهيا، وأن الثورة على فكر الحداثة التي بدأت بالحركة السوريالية ليست أكثر من "نقض خاطئ للثقافة". فهابرماس يرى أن الفعال الرهابية التي ارتكبت باسم العقل ل يجب أن تفقدنا الثقة بالعقل وبقيم

النوار، ويخلص إلى القول بأن مشروع فلسفة ما بعد الحداثة أحادي البعد، ل يعترف بالجوانب اليجابية للعقل. إن هابرماس يظل في نقده رهينا لمنطق الصواب والخطأ. إن تفكيكية دريدا مثل، ل تريد أن تقول شيئا، إنها ترفض

إرادة القول التي تتضمن دائما اقصاء للخر. والسوريالية في ثورتها على العقل أطلقت عنان القوى الروحية والجسدية التي قمعها العقل كالخيال والحلم والجنون. ومثل السورياليين ينتقد فوكو في تاريخ الجنون في العصر الكلسي عقل النوار الذي همش وقمع كل أشكال العلم والحياة الخرى، أو بلغة ليفيناس كل إمكانية للخر. إن الحداثة في مجموعها هي عقيدة العقل، وككل عقيدة تكتفي بذاتها ومسلماتها ول تقبل بالخر إل في اللحظة التي

يقتسم فيها العتقاد بنفس المسلمات، أي في اللحظة التي يتخلى فيها عن غيريته. واصطلح هابرماس على تيار ما بعد الحداثة اسم المحافظين الشباب، أكبر دليل على اقصاء العقل للخر ومحاولة تحييده في اللحظة التي يعجز فيها

عن استيعابه كآخر. وقد بين ذلك عالم الجتماع اللماني نيكلس لوهمان بوضوح في نقده لمفهوم التواصل عند هابرماس. حيث يشير في كتابه "النظمة الجتماعية" إلى أن التواصل ل يجب أن ينبني على مبادئ انطلوجية

وعلى أن التواصل ل يهدف إلى الجماع كما يذهب إلى ذلك هابرماس (والعقل ل يقبل بغير الجماع ولو كان عقل. (اجرائيا كما هو الحال عند هابرماس

*

14

14

Page 15: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

يدافع هابرماس عن نموذج المثقف المتمثل في هاينريش هاينه الذي تجاوز من جهة أولى التجاه الذي يطالب بالحرية الكاملة للفن والعلم في علقتهما بالسياسة، مدعيا بأن عكس ذلك قد يعني ذوبانهما في السياسة، ومن جهة

.ثانية التجاه الذي ينادي باللتزام السياسي للفن، الذي يخلط بين التأثير على الرأي العام السياسي واللتزام الحزبي إن التجاه الول يرى في تسييس العقل ضربا من الخيانة لستقللية البنى العقلية، فهذا هرمان هسه يكتب مثل سنة

بأن أمثال هؤلء الشعراء ـ ويقصد بذلك الشعراء المسيسين ـ ليسوا أكثر من خطباء وصحفيين، وأنهم قد1918 أغفلوا دور الشاعر الحقيقي الذي يتمثل في نظره في خدمة العالم وليس في خدمة الواقع، فالعالم أكبر من من كل

واقع في نظره، إن العالم أبدي. إن هسه يلتقي مع ماكس فيبر الذي ينتقد في كتابه "السياسة كمهنة" النفعال العقيم للمثقف ويحتفي بعقلنية وموضوعية رجل السياسة. إنه يرى في اشتغال المثقف بالسياسة ضربا من الشطط الذي

يخلط بين الثنين وهو قمين بالخلل باستقللية كل مجال. إنه يضحي بالثنين معا: حرية الفن وعقلنية العمل.السياسي

وحسب هابرماس، فإن التجاهين معا يقومان على دعامة خاطئة، تتمثل في تقديس الفكر والنظر إلى السلطة نظرة وظيفية. والثنان معا يحولن دون قيام رأي عام سياسي. لقد كان هذا، حسب هابرماس، موقف هاينه أيضا، فهو لم

"الفعل طفل الكلمة،يتورع عن الدفاع عن استقللية الفن والدب ولكن دون تصنيمهما. وهو الذي ظل يردد: ."وكلمات غوته الجميلة ل أطفال لها

* ضد مفهوم الحداثة كما حدده هيغل وطورته النظرية الجتماعية عند ماركس وفيبر ولوكاتش ومدرسة فرانكفورت،

برز تيار فلسفي جديد يقوم على عقل لغوي واجرائي، وينقسم إلى اتجاهين: اتجاه ما بعد الحداثة الذي يعلن تجاوزه.للعقل، مؤسس الحداثة، واتجاه ثان ينتقد الحداثة دون أن يعتبرها منتهية

إن الحداثة بالمعنى الهيغلي للكلمة، محكومة بالعقل. فباسم العقل والنوار تجاوزت التقليد. والفلسفة حامية هذا العقل على حد تعبير هيغل. فلسفة تأسست منذ ديكارت على الوعي الذاتي أو مبدأ الذاتية، لكن الستلب والتشيؤ الذي

يحكم المؤسسات والعلقات الجتماعية، يفضح مبدأ الذاتية كمبدأ للقمع يختفي خلف قناع العقل. إن الطبيعة القمعية للعقل ترتبط ببنية التفكير الذاتي نفسه، يقول هابرماس، أي بالمرجعية الذاتية لذات عارفة تحول نفسها إلى موضوع.

فهذه الذات نفسها التي تم الحتفاء بها كينبوع للحرية، تبدو في النهاية مصدرا لموضوعية متوحشة. إذ كما يرى هوركهايمر وآدورنو، فإن العقلنية الذاتية التي تستغل الطبيعة الخارجية والداخلية كليا، قد احتلت مكان العقل، حتى

.أن العقل تحول إلى مجرد عقل أداتي لقد قدم كل من هايدغر وفتغنشتاين مفهوما بديل للعقل ومنهجا جديدا لنقد العقل. لقد قدما كل بطريقته نقدا للعقل القائم على مركزية الذات، نقدا تحرر من القوة الكليانية للعقل الهيغلي وجدله. والثنان معا ينتقدان الميتافيزيقا التي غيبت

البعد التكويني للغة، ويرفضان الخطاء الفلطونية، المتمثلة حسب هايدغر في نسيان الوجود وحسب فتغنشتاين في تغييب اللغة، السياق الواقعي لكل السئلة الفلسفية. وتستند مدرسة ما بعد الحداثة إلى هذا النقد، وتخلط بين العقل من

جهة وبين عمليات ملكة الفهم من جهة أخرى، ول تبقي على شيء من الميتافيزيقا الكلسية، التي عبر آدورنو في "الجدل السلبي"، رغم نقده لها، عن تضامنه معها لحظة سقوطها الخير. فهذه المدرسة ل تنتقد فقط عقل محضا ل

.مشروطا ولكن العقل في ذاته وكل أفكار الوعي الذاتي والتحديد الذاتي والتحقيق الذاتي إن هابرماس ل يعترض على احتفاء ما بعد الحداثة بالغيرية والختلف والمميزات المحلية للجماعات والفراد،

لكن هذه المدرسة تخطئ في نظره في أمرين: أول، إنها تمثل نوعا من المثالية اللغوية، فهي تقوم على الفيلولوجيا وعلم الجمال وليس على النقد الجتماعي، وثانيا، ل تأخد بعين العتبار انجازات الحداثة، وتصف كل نظرية عامة

.بالمبريالية

15

15

Page 16: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

جذور ما بعد الحداثة

هيغل مشروع الوحدة بامتياز. يعبر روجيه غارودي عن ذلك بوضوح حين يقول عنه: "إنه يعتبر أن مهمة الفلسفة وقبل ذلك عبر الفيلسوف هي إعادة تحقيق الوحدة والكلية الصلية للعالم الممزق بسبب من الخطيئة والسقوط"،

اللماني روزتنسفايغ عن نفس الفكرة حين أعلن أن"مهمة الزمنة القادمة هي إعادة تحقيق الوحدة الضائعة للنسان اليوناني." لكن مشروع ما بعد الحداثة يرى في هذه الوحدة أو في هذا البحث المحموم عن الوحدة أصل التوتاليتارية.

.وهو بذلك قد فقد كل مشروعيته، سواء كان مشروعا فكريا أو تشاركيا كما أعلن ذلك ليوتار و لعل كتاب المفكر اللماني بيتر برغر، "جذور فكر ما بعد الحداثة" خير تعبير عن هذه الثورة ضد هيغل وضد

فلسفة السرديات الكبرى. ورغم أن صاحب الكتاب يرى أن أول متمرد على المشروع المثالي للحداثة كان هو نيتشه إل أنه يرى في تأويل كوجيف لفينمنولوجيا الروح لهيغل وخصوصا لفصله عن السيد والعبد، القشة التي قصمت

ظهر البعير. فباالنسبة لفلسفة مثل بطاي وبلنشو ولكان الذين تأثروا كلهم بتأويل كوجيف، كان ل يمكنهم تأسيس مشروعهم دون الدخول في صراع نقدي مع هيغل. أو بالحرى مع فلسفة الذات الهيغلية. ول عجب أن يصف

بلنشو الدب كوعي بدون ذات. إن هيغل فهم فلسفته كمشروع توفيقي بين المسيحية وفلسفة النوار. ولكن كوجيف فهمها كفلسفة دنيوية جاءت لتحل محل المسيحية. كفلسفة للموت. فحياة العقل ل تخاف الموت. بل إن القدرة على

التضحية بالحياة هي التي تجعل من ذات معينة، ذاتا حرة. وهذا ما يجعله يفرق بين السيد والعبد. إنه يرى أن على النسان أن يمتلك شيئا آخر أهم من الحياة حتى يتميز عن الحيوان. وهذا الشيء في نظره هو الستعداد أو القدرة

على اجتراح الموت في معركة العتراف. ولعل ذلك ما يميز السيد عن العبد. فالعبد ل يرقى إلى مستوى المغامرة بحياته، إن السيد هو وعي خالص. أما العبد فمازال سجين جسديته، يرفل في تراب الحياة. لذلك فالسيد وحده من

.يحقق اعتراف الخرين به إن كوجيف ل يرى في فصل "السيد والعبد" مجرد تعبير عن بنية الوعي ولكن الفصل - الم الذي تتمركز حوله كل

فينومنولوجيا الروح. إن كوجيف يصل في نهاية تأويله إلى القول بأن السيادة تعيش مأزقا تاريخيا، في حين أن العبودية هي حاملة لواء التقدم التاريخي. لسبب بسيط وهو أن العبد ينسج علقة مباشرة مع العالم، لنه يعمل. أما السيد فإنه يستهلك فقط ما ينتجه العبد ول يتصل بالعالم إل عن طريق العبد. إن كوجيف يرى أنه إذا كان الصراع

الول بين السيد والسيد قد فتح أبواب التاريخ فإن الصراع الثاني بين السيد والعبد سوف ينهي التاريخ. إن العبد سيعي حريته وسيطالب السيد بالعتراف بها. إن كوجيف يرى في نهاية التاريخ، نهاية مفهوم النسان نفسه. ويرى بيتر برغر أن احتكاك وتفاعل السورياليين بتأويل كوجيف لكتاب هيجل"فينومنولوجيا الروح" هو الذي تولدت عنه

كل أفكارهم المتمردة عن النتحار والعنف، والتي تمثل في النهاية احتجاجا على مشروع الحداثة العقلني، الذي السيد- العبد الهيغلية، يبرز الفعل السوريالي كفعل أقصى الحياة واختزل النسان في الوعي. فضدا على سردية

يرفض الصراع والعمل. إنه سلبية خالصة. والحرية المجردة ل يمكن أن تتحقق إل عن طريق نفي الخر أو نفي الذات. إن النا السوريالية أنا ممزقة والعقل والخلق يعيشان الل إستقرار. أزمة للوعي عميقة وانهيار للبناء

الديكارتي. وهكذا سيثور جورج بطاي في التجربة الداخلية " على هيغل، فيحتفل بالضحك والمكان والستعارة وتعددية اللغة والل معرفة . إنه يعلن"

بوضوح:"أنا أسخر من المعرفة، أنا أريد أن أعيش" وهو يقول أيضا "هذه الكتابة ل يجب أن تعدنا بشيء، إنها ل تمنحنا يقينا معينا أو نتيجة، أو ربحا" وهو يحرر الحقيقة من علقتها وتبعيتها للواقع ويفهمها كظاهرة لغوية، تماما

.كما أعلن ذلك لكان حين اعتبر أن الكلم هو الذي يصنع الحقيقة أما بخصوص بلنشو فإنه بخلف بطاي الذي خاض حربا نقدية ضد المشروع الهيغلي، استفاد كثيرا من كتاب

فينمنولوجيا الروح لهيغل ويظهر ذلك بجلء في كتابه النقدي "الدب والحق في الموت"، حيث سيعيد إنتاج فكرة هيغل عن الوعي التجريبي، عن هذا العدم الذي يشتغل على العدم . ليصف الكاتب أيضا بالعدم الذي يشتغل على

العدم، وليفهم الكتابة كصيرورة تجريبية ، حيث الكاتب والكتاب معا في تغير مستمر . هذا التغير الذي يرفض فكرة الكاتب عن كتابه ، أو فهم الكاتب لكتابه. ولكن إذا كان هيجل يهدف إلى المصالحة والتوليف بين الفرد والواقع ،

ليصل بالوعي إلى سلمه، فإن بلنشو يحتفظ بفعل الكتابة في مرحلة النفي، التي تعني عدمية الكاتب واختفاء المكتوب. وهو بذلك يقترب من تأويل كوجيف لفينمنولوجيا الروح، حيت الموت يلعب دورا مركزيا، وخصوصا

16

16

Page 17: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

لتأويل كوجيف للفصل المعنون بـ "الحرية المطلقة والرعب"، هذا الفصل الذي يمثل نقدا لما أفرزته فلسفة النوار من نتائج ، وخاصة للثورة الفرنسية التي انتهى بها المطاف إلى العنف من أجل العنف، إلى موت بل معنى ، يقول

هيغل . لكن بلنشو يختلف عن قراءة هيجل للثورة ، ويرى في الكاتب ثوريا جديدا، يمارس الحياة في الموت، " فالكلم هو حياة هذا الموت "، كما يقول، والدب تجربة بدون ذات .ثم ينتقل بيتر برغر لمعالجة فكر ميشيل فوكو ويبدأ بكتابه المهم " تاريخ الجنون في العصر الكلسي". إن السوريالية التي جاءت كرد فعل على إمبريالية العقل وسلطته المطلقة والتي احتفت بالخيال والحلم والجنون ، ستجد طريقها أيضا إلى فكر ميشيل فوكو. فل أحد ينكر

يحتفل فوكو بكتاب ل سيد له ول1972علقة هذا الفكر بنيتشه وبطاي. ففي التصدير الذي كتبه فوكو لكتابه سنة خالق ، ذي لغة حرة ، متشظية ، مزدوجة . إن كتاب فوكو هذا، ل يمثل تاريخا للفكار ول تاريخا للمؤسسات التي عالجت ظاهرة الجنون، إنه ل يسجن كتابه بهدف معرفي أحادي البعد، فالمعرفة في حد ذاتها فقدت كل قدسية . إن

بيتر برغر يرى أن فوكو يدافع عن الجنون في كتابه ويحتفي به كفعل تحرير. وفوكو يدافع أيضا عن لغة "ل- جدلية " ضدا على اللغة الجدلية التي سيطرت على الفلسفة من أفلطون وحتى سارتر. إن اللغة بالنسبة له كالدب بالنسبة

.لبلنشو، وعي بدون ذات، فهي ليست أبدا ذلك المسكن المن للفكر أما لكان الذي تابع هو الخر بباريس دروس كوجيف عن هيغل، فإنه سيتمرد هو الخر على هيغل، معتبرا أن النا ليست أبدا تلك الذات الظاهرة. وهو يعود لسطورة نرجس اليونانية ليشرح تمزق النا. فنرجس الذي أحب صورته

المنعكسة على الماء، لم يستطع قط تملك ما يحب، تملك نفسه، أناه. إن النا تقع في مكان آخر، ل تطوله يد. ولكي نصل إلى فهم الذات، يجب أن نحرر النا من براثن الوعي التجريبي، فقط كما علمنا فرويد، في اللوعي، هذا

.المرفوض من طرف نظام النا، تتكلم الذات وإذا كان بيتر برغر قد حصر جذور ما بعد الحداثة في تأويل كوجيف لهيغل، فإنه بإمكان المرء أن يعود بتلك

الجذور إلى الدب وخصوصا إلى دوستويفسكي، و روايته " البله ". كما يمكن أن نجد تأسيسها الحقيقي لدى نيتشه. دوستويفسكي ونيتشه إحدى الجينالوجيات الممكنة، رغم أن ما بعد الحداثة ضد كل جينالوجيا، لن هذا يعني دائما

أن هناك خالق ما في أول السللة، ذات فوق الذوات، ذات مفارقة. وإذا كان لنا أن نتحدث عن شجرة ما بعد.الحداثة ، فيمكن أن نقول بأنها شجرة بل جذور ولكن أغصانها ممتدة ومتشابكة

نيتشه ودوستويفسكي

نسان) يقول نيتشه:" إنني مثل، وبل شك، لست بعبعا، لست غوللفي مقدمة كتابه " إتسو هومو" ( قف، إنه ا أخلقيا، حتى أنني من طبيعة مناقضة لهذا النسان الذي تم تقديسه حتى الن كرجل فضيلة. بيننا، يظهر لي، أن ذلك

جزء من كبريائي. أنا تلميذ للفيلسوف ديونيسوس. وأفضل أكثر أن أكون شبقا على أن أكون قديسا. ولكن فليقرأ المرء فقط هذا الكتاب. ربما أكون قد نجحت، ربما ل يكون لهذا الكتاب أي معنى آخر، غير التعبير وبطريقة صافية وإنسانية عن هذه المفارقة. آخر ما يمكن أن أعد به هو "إصلح" البشرية. لن أشيد أصناما جديدة. فليتعلم القدمون

إذن، ماذا يعني أن يكون للمرء أقدام من طين. الطاحة بكل الصنام ( الصنام، هكذا أسمي "المبادئ المثالية") تلك هي مهمتي. ذلك أنه لما اختلق المرء العالم المثالي، نزع بنفس الدرجة عن الواقع قيمته ومعناه وصدقيته. "العالم الحقيقي" و"العالم الكاذب" بلغة أوضح: العالم المختلق والواقع ... المبادئ المثالية الكاذبة كانت لحد الن، اللعنة

المسيطرة على الواقع. النسانية نفسها، من فرط ما توغلت فيها هذه الكاذيب، أصبحت مزيفة وخاطئة، حتى في."غرائزها الكثر عمقا

ل يعد نيتشه البشرية بسردية كبرى ول يدعي امتلك الحقيقة أو حتى الرغبة في امتلكها، وكذلك كان دوستويفسكي. ويؤكد النقاد أن الرواية الروسية قد خرجت من معطف غوغول ولكن ل أحد انتبه إلى أن ما بعد

الحداثة كنظرة إلى العالم تضرب بجذروها في أدب دوستويوفسكي، خصوصا بروايته "البله "، علقة وطيدة ل ريب بين فلسفة ما بعد الحداثة والدب. ربما لن كلهما يحتفل باللغة وتعدد الصوات. إن نبوءة دوستويوفسكي

17

17

Page 18: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

رتباط اللهوتيلتتمثل في فكرة واحدة، إن حق لنا أن نسميها فكرة وهي أن الحقيقة لم تعد مرتبطة ذاك ا والنطلوجي بالعقل. إن آغليا يبانتشينا تقول للبله ميشكين:" ما تقولونه ليس سوى الحقيقة، وهو لذلك غير عادل"

إنه بإمكان ميشكين أن يتحمل الحقيقة. كأبله عاش أربع سنوات بالغربة، يظل دائما غريبا ليس فقط عن طبقتهنسان اليجابي والجميل يظل في المجتمع الواقعي غريبا. محاربة الوهم،لن اإالجتماعية بل عن المجتمع ككل.

أليست تلك بمهمة الرواية ؟ ألم يكن ذاك بمشروع سرفانتس ورابليه ومن بعدهما دوستويوفسكي؟ الفلسفة التي كانت في بدئها سخرية من كليانية المعرفة السوفسطائية تتحول مع مرور الوقت إلى نظرة إلى العالم كليانية، تستسلم

لنتائجها، تعيد هي الخرى إنتاج أوهامها، من عالم المثل الفلطوني وحتى الفينمنولوجيا الترنسندنتالية لهوسرل. إن تاريخ الفلسفة، هو تاريخ أوهام هذه الفلسفة. ضدا على الوهم تأسست الرواية، ضدا على فروسية العقل، تأسست

الرواية كلغة وليس كوعي، ككتابة وليس كفكرة، كتعبير عن العراء الترنسندنتالي. إن حواريتها إذا استعملنا لغة العقل يتكلم لغة وحيدة. في ديوانه الشرق والغرب يقول غوته باختينن هي نضال ضد بطليموسية اللغة وأحاديتها.

بأن الدب الفارسي لم يعرف المسرح لن الستبداد ل يسمح بالحوار، وكذلك الشأن مع العقل، هذا الكائن الذي سيطر على الحداثة، أو الذي صنع مشروعها، إنه ل يقبل بغير الخضوع:" العقل، إنه الجلد " قال فوكو. تقنية

تقنية السارد رواية البله عند دوستويوفسكي تقوم على تعدد اللغات وتعدد وجهات النظر إلى العالم، وليس على العليم. وذاك ما سمح بتنسيب هذه النظرات إلى العالم، بل ما أدى إلى ذاك التناقض بين المعرفة والممارسة لدى

. الكاتب نفسه كما بين فرويد

"الستغراب أو الحقد على الغرب"

يفهم صاحبا البحث مارغليت وبوروما الستغراب كنزعة معادية للغرب، ولكل ما له علقة بالديمقراطية والليبرالية. ويقدمان العديد من المثلة على هذه النزعات "الحاقدة" و"الفاشية"، بدءا باجتماع الفلسفة اليابانيين

في كيوتو لمناقشة دور اليابان في العالم، تحت1942مباشرة بعد هجوم اليابان على قاعدة بيرل هيربور سنة شعار:"من أجل تجاوز الحضارة الغربية"، وبلغة أخرى من أجل تحرير آسيا وتطهيرها من الروح الغربية. لقد كان هؤلء الفلسفة يشتقون أفكارهم من اثنية قومية متأثرة الى حد كبير بالنموذح البروسي وبالتقاليد والمعتقدات اليابانية إنهم يعتبرون أن العرق الياباني ينحدر من اللهة، وأن مهة اليابانيين توحيد آسيا روحيا وسياسيا. هذه .Zen القديمة

الروح السيوية التي تتمثل في الستعداد للتضحية بالنفس، الصرامة في السلوك، القوة، خضوع الفرد للجماعة، تأليه القائد، والعتقاد بأولوية الروح على العقل. وقد تلخص كل ذلك في الوثيقة التي أصدرتها وزارة التربية

تحت عنوان:"المبادئ الساسية للسياسة القومية"، والتي أكدت تميز اليابانيين عن المواطنين1937اليابانية سنة الغربيين، أول بسبب قيصرهم الذي ل يحوم شك حول انحداره من اللهة، وثانيا بسبب روحهم النقية والخالصة،

.والتي يتوجب حمايتها من التأثيرات المدمرة للحضارة الغربية ولم تختلف ألمانيا الهتلرية عن اليابان كثيرا، إذ أنها رأت أن مسؤوليتها تتمثل في الكفاح ضد مظاهر الحياة

"اللروحية" للمجتمعات الغربية، كما تمتلث في الجمهورية الفرنسية والرأسمالية المريكية والليبرالية النجليزية وفي اليهود الكوسموبوليتيين. إن الباحثين يلخصان خصائص الحضارة الغربية في المدينة والمواطنة والعقل

والمساواة بين الرجل والمرأة، ويذهبان الى أن الحقد على الليبرالية مرتبط بحقد دفين على المدينة، وعلى كل ما يتعلق بالحياة المدنية كالتجارة والفن والحرية الجنسية والتعدد العرقي... فالمدينة مشروع دنيوي ولهذا فهي تتعارض

مع النزعات المتطرفة للليديولوجيات الفاشية والعرقية والصوليات الدينية. إن فرديناند تونيس يفرق بين المجتمع والجماعة. فالمجتمع يقوم على عقد اجتماعي بين المواطنين، أما الجماعة فتتأسس على عقيدة أو عرق. إنه صراع

بين المجتمع والجماعة، وبلغة اللماني ادغار يونغ: صراع بين العقل والروح، بين بطولة الروح واستعدادها للتضحية وبين برودة العقل ورداءته. فالليبرالية ليست أكثر من "حرية النسان في أن يكون رديئا" على حد تعبير

المنظر النازي آرثور مولر. ويرى الباحثان أن الستغراب هو لسان حال الصولية السلمية أيضا. فهدف هذا التيار تحقيق عالم اسلمي طهراني تحكمه الشريعة السلمية، عالم في منأى عن كل التأثيرات الوثنية التي تمثل

.أمريكا نموذحها الصارخ

18

18

Page 19: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

وإذا كان المرء ل يشك برفض الحركات السلمية للخر وللحضارة الغربية عموما، هذا الرفض الذي تمثل بوضوح في تكفير الغرب وتكفير كل من ينفتح على ثقافته أو يستفيد منها، فإنه ل يحق للمرء أن يجمع كل

المستغربين المسلمين تحت مظلة واحدة. إذ أن المرء لم يصادف كلمة الستغراب في أي من كتابات الصوليين العرب، ول يمكن لنا أن نحكم إن كانت لهم دراية بهذا المصطلح وبأبعاده الحضارية والعلمية كما أوضح ذلك حسن حنفي في كتابه المركزي "علم الستغراب"، والذي يمكن اعتباره رد على المركزية الغربية من جهة، التي ل ترى في الستغراب علما ولكن خطابا حاقدا ومتقوقعا على الذات وعلى الصوليات الطهرانية من جهة أخرى، التي تكفر

.كل انفتاح على الخر، وتسجن النا بنظرية حديدية وتأويل قروسطي إن علم الستغراب كما يفهمه حسن حنفي: تحليل علمي رصين لثقافة الخر، يقوم على تأكيد تاريخيتها

وخصوصيتها ونقض أسطورة عالميتها ومركزيتها ووصايتها على قدر النسانية. وهو يستعمل كلمة الستغراب فالتغريب استلب وذوبان للنا في الخر. إن مهمة علم الستغراب، على .Westernization في مواجهة التغريب

حد تعبير حسن حنفي هي:"فك عقدة النقص التاريخية في علقة النا بالخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الخر بتحويله من ذات دارس الى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى النا بتحويله من موضوع

). وهو يرى أن دراسة الخر ل بد أن تكون29مدروس إلى ذات دارس..."(علم الستغراب، دار التنوير، ص: دراسة محايدة ل تبغي الهيمنة ول تطلب السيطرة، بل تهدف فقط الى التحرر من سلطة الخر وبناء علقة بين

الحضارات قائمة على الندية والمساواة. إن الستغراب إذن ليس حقدا أو رفضا للخر بقدر ما هو ابداع للنا وخروج بها من مرحلة التقليد الى مرحلة البداع، من سلبية الموضوع الى حركية الذات. والستغراب كما يفهمه

حسن حنفي ل يريد أن يكون ترجمة للستشراق، الذي طالما اختفى وراء شرط الموضوعية والحياد من أجل تبرير سيطرته على مقدرات الشعوب السلمية. إنه يهدف فحسب الى انهاء علقة المركز بالطراف، هذه العلقة التي ظلت تنظر الى الثقافة الوروبية على أنها الثقافة الوحيدة، الممكنة والعلمية، وهو تفكير بلغ مداه في هرطقة نهاية التاريخ للفيلذوق المريكي فوكوياما حين حديثه عن المم التي تحررت من إسار التاريخ (الغرب عموما) والمم

.التي مازلت سجينة التاريخ وموقف علم الستغراب من الثقافة الغربية يختلف جذريا عن الموقف الصولي أو القومي من هذه الثقافة، الذي يصفه حسن حنفي بالرجعية، معتبرا سياسة الرفض المطلق للخر وللوافد سياسة تجهيلية تهدف الى محاصرة الشعوب والحيلولة دون تنوير الذهان. إنه يقول:"ل تعني الدعوة الى تحجيم الغرب ورده الى حدوده الطبيعية

والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية وبيان محلية ثقافته مثل أية ثقافة أخرى أي دعوة إلى النغلق أو العودة إلى جنون الذات أو رفض التعرف على الغير بل تعني أن فترة التعلم قد طالت وأن فترة البداع قد تأخرت، وأنه قد آن

92الوان للنتقال من النقل إلى البداع"(علم الستغراب، ص: ). إن حسن حنفي ينظر إلى التيارين التغريبي والسلفي كعملية نقل وتقليد واستسلم لجتهادات الخرين. ويرى في

اللحظة النقدية المخرج الوحيد للنا من عبادة الخر والتقديس المرضي للتراث. إنه ينادي بما يمكن أن نطلق عليه. والمتقوقعة على نفسها للتيار الصوليالمركزية المقلدة في مقابل مركزية مبدعة

لكن ما يمكن أن نأخذه على حسن حنفي ومفهومه عن الستغراب هو رغبته الملحة في تحويل الخر إلى موضوع، وبلغة أخرى في رفض التعامل مع الخر كذات ولكن فقط كموضوع. فهذا الفهم للخر شبيه بفهم المستشرقين

للشرق، القائم على نزعة التفوق والسيطرة. كما أن حديثه عن النا والخر يظل حديثا ملتبسا وشبه ايديولوجي رغم النطباع الموضوعي الذي يمكن أن يوحيا به لول مرة. فل وجود لنا خالصة وواحدة ومنتهية ومطلقة، كما أنه

لوجود لخر واحد وخالص. إضافة إلى أن النا تظل دائما متأثرة بالخر ونفس الشيء يقال عن الخر. "فا لنا هبة الخرين" على حد تعبير الفيلسوف الشخصاني محمد عزيز لحبابي، و"المعية قاعدة التشخصن". والغرب ليس كله

ذلك المستعمر الذي يحاول فرض ثقافته ووصايته على النا. إن "أنا" حسن حنفي تظل أنا جوهرانية، ماهوية ومطلقة، وهذا ما يمكن أن يقربه من التيار الصولي. إضافة الى موقفه السلبي من المثاقفة. فهو يتجاهل بأنه ل

وجود لحضارة أو ثقافة أو نصوص عذرية، وأنه ل وجود لخصوصية مستقلة عن الخصوصيات الخرى. إن الثقافة الحديثة كالثقافة العربية القديمة هي نتاج تلقح وحوار ثقافات مختلفة، كما أنه يتناسى بأنه ل وجود لشيء اسمه

.النا، لنه ل وجود إل للخر، والمركزية النقدية هي التي تحسن التعلم من الخر، ول ترى في التعلم ذلة أو ضعة

19

19

Page 20: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

أصولية السوق وسوق الصولية

ذا استعملنا لغة عالم الجتماع الفرنسي بيير بورديو، الذي لم يتوان مرارا عنإمبريالة العقل، إأو أصولية السوق توجيه سهام نقده لكلب الحراسة الجدد، والذي كان من الوائل الذين أشاروا إلى همجية العقل الغربي في تعامله مع

خراسه للخر المختلف، متخفيا خلف ستار العلمية والعالميةإالطراف، أو بالحرى إلى إنتاج العقل للعقل، و : بمعرض الكتاب بفرانكفورت1995نسان. يقول بورديو في محاضرة ألقاها سنة لوالحرية وحقوق ا

" مبريالية العالمي. كانتإسلمية سؤال أساسي، يتعلق بالعالمية الغربية الخاطئة، ما أسميه لينبع من أعماق البلدان ا لمانيا)، ترتبط بالنسبةأمبريالية، تجسيدا تسبب في ظهور شعبوية قومية في هذا البلد (لفرنسا تجسيدا بامتياز لهذه ا

نسان، الخ)لذا كان صحيحا بأن بعض أشكال العالمية ليست سوى قومية تدعي العالمية (حقوق اإلي باسم هردر. و نه يصبح من الصعب أن نتهم بالرجعية كل رّد فعل أصولي ضدها. العقلنية العلموية، عقلنيةفإلكي تفرض نفسها،

النماذج الرياضية التي تلهم سياسة صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، عقلنية الشركات القانونية، شركاتمريكي على الكوكب بأكمله، عقلنية نظريات الفعل العقلي، الخ،لتشريعية متعددة الجنسيات تفرض تقاليد القانون ا

هذه العقلنية هي في نفس الن، التعبير والضامن لستكبار غربي، يدفع للتصرف كما لو أن بعض البشر يحتكرون العقل لنفسهم، وينصبون أنفسهم، كما يقال عادة، شرطيي العالم، يعني كمالكين لحتكار العنف الشرعي، قادرين

رهابي، عبر ل عقلنية اليأس، الذي يتجذر بها أغلبلعلى استعمال السلح في خدمة العدالة العالمية. العنف ا مبرياليةلالحيان، يعود إلى العنف الداخلي للسلط التي تتذرع بالعقل. القهر القتصادي يختفي دائما خلف القانون. ا

تحتمي بشرعية مؤسسات دولية. وعبر نفاق هذه العقلنيات نفسها المخصصة للتعتيم على سياستها في الكيلفريقية، تمردالبمكيالين، تنحو إلى بذر أو شرعنة داخل الشعوب العربية، وشعوب أمريكا اللتينية، والشعوب ا

عميقا ضد العقل، ل يمكن فصله عن تجاوزات السلطة التي تتسلح أو تستعمل العقل (القتصادي، العلمي أو أيمبريالية، الغازية، الجذابة أو الرديئة، البليدة،لنيات" هي في جزء منها نتاج عقلنيتنا، اعقلشكل آخر). هذه "الل

لنكفائية والمتسلطة حسب المكنة والزمنة. وإنه لمن قبيل الدفاع عن العقل، توجيه سهام النقد لهؤلءاالدفاعية، الذين تتخفى خلف مظاهر العقل الخارجية، تجاوزاتهم، أو الذين يستعملون أسلحة العقل من أجل تنصيب أو شرعنة

".سلطة اعتباطيةنسانية الذي ل بد منه ول مفّر، هيلقناعنا بأنها قدر اإن العولمة التي يحاول بعض مثقفي المقاعد المريحة إ نسانيته إلى مستهلك خاضع وعقل تقبليإنسان أو ما تبقى من ليديولوجية دوغمائية مغلقة، تهدف إلى تحويل اأ رادة طّيعة. إذ أنه في عالم العولمة ل مكان للخر الذي يفكر وينتقد، لن من شأن ذلك أن يثير القلقل ويقف ضدإو

مبريالي المعنى، يطالعنا "الواحد" من جديد، هذه النظرة إلى العالملحادي البعد، العجلة التاريخ. في عالم العولمة ا التي سيطرت على الفكر الغربي منذ العصر اليوناني. إن هايدغر قد بين بوضوح في "الهوية والختلف" بأن

ن فلسفةإالفلسفة الوروبية منذ أفلطون تأسست على الواحد، على الهوية وأقصت الخر، المختلف والمتعدد. الواحد، التي تعتبر العولمة المتداد الطبيعي لها، هي بل شك فلسفة كليانية. والمجتمع المعولم هو مجتمع تختفي فيه

ن هربرت ماركوزه، أحدفإذا كان نقد هايدغر يظل نقدا مدرسيا، إالمعارضة، مجتمع سجين ثنائية الخير والشر. و ن النظرة النقدية عند ماركوزه هيإأبرز وجوه النقد الجتماعي، قد قدم نقدا تاريخيا وملومسا للمجتمع الرأسمالي.

تفكيك لصناعة الوعي وصناعة الثقافة في المجتمع الغربي. نقد لمجتمع الستلب والعقل التقبلي، عقل أشبه ما يكون."بذلك الذي عبر عنه هيغل في أصول فلسفة الحق قائل: "ما هو عقلني هو واقعي، وما هو واقعي هو عقلني

نسان ذو البعد الواحد" كمجتمع لعقلني. وهذهلن ماركوزه يصف المجتمع الرأسمالي في كتابه المركزي "اإ اللعقلنية ترجع إلى سوء استغلل وتنظيم الثروات. سوء الستغلل هذا، هو الذي يقف وراء التدمير المستمر

ن تحّصن نفسها ضد حقائق ومؤسساتأن وظيفة كل نظرية نقدية في نظره، هي إللتطور الحّر للحاجيات البشرية. ن عليها أن تفهم المجتمع الرأسمالي كمجتمع تاريخي، كمرحلة من تاريخ البشرية، وليس كما يدعيإهذا المجتمع.

نها حرية الرأسمالإحادي البعد، مجرد وهم. لن الحرية في هذا المجتمع اإأنبياء الليبرالية الجديدة، كنهاية للتاريخ. الكاملة في التصرف بالحياة البشرية بما يتوافق مع مصالحه المادية. ليس فقط الحرية ، لكن التقنية والتقدم

والتعددية، هي كلها أوهام ، ووظيفة النقد الجتماعي هي التأكيد على أنها مجرد أوهام، وفضح هذا الوعي الخاطئ

20

20

Page 21: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

ن المجتمع التقني قد اكتسح في نظر ماركوزه الحريةإرادته. لنسان وهذا الستلب المستمر لتشيئ للوهذا ا نه يريده مقلدا، مستهلكا، متماهياإنسانا على مقاسه، بل وعي وبل ميزات خاصة به. إنسان، لقد صنع للالداخلية

ل عبر صناعة لوعي استهلكي،إن ذلك ل يتم أمعه. فعنف التقدم يستعبد العقل، ويخرس كل صوت معارض و نسان شبيه بذلك الذي تحدث عنهإنسان، من شأنها أن تؤبد انسجامه مع القيم السائدة. لوزرع حاجيات جديدة بعقل ا

فرانسوا بيرو في "التعايش السلمي"، أشبه بآلة هو أو بشيء. فليس المجتمع مهتم بطاعته أو بتحمله للعمل الشاق،نها ل تجرؤإولكنه مهتم بتحويله إلى مجرد وسيلة، إلى مجرد شيء. حتى الثقافة تحولت في هذا المجتمع إلى سلعة.

على النقد، بل تحاربه. أضحت سجينة لقيم السوق المبتذلة. لذلك أصبح من المستحيل الحديث عن ثقافة مستقلة ونقدية وخلقة داخل المجتمع الرأسمالي. فمنطق هذه الثقافة كمنطق هذا المجتمع يقوم على التقليد والطاعة. وأهم

ن اللغة كما عبر بارتإوهام وصناعة العقول. لتمظهرات هذه الثقافة، اللغة، التي يعتبرها ماركوزه سياسة لنشر ا ن اللغة في هذا المعنى تعبير عن سلطة. لذلكإرغام على الكلم إفاشية، ذلك أن الفاشية ليست منعا للكلم ولكن

صبح من المستحيل الحديث عن حياد اللغة، تماما كما هو مستحيل الحديث عن حياد التقنية، وليس عجبا في ظلأ هذا الستغلل السياسي للغة، أن تتسمى أحزاب رأسمالية بالشتراكية أو حكومات مستبدة بالديمقراطية، وانتخابات أشبه بالمهزلة بالنتخابات الحرة على حد تعبير ماركوزة، أو أن تعلن أمريكا حربها الستعمارية على العراق باسم

الديمقراطية والعدالة اللنهائية. لغة وثوقية هي أقرب إلى الشطط الميتافيزيقي منها إلى العقل، مطلقة النبرة.والمعنى

مبريالية العقل وعنفه حسب تعبير بورديو، فإن هذا ل يمثل صكلذا كانت اللعقلنيات القومية والدينية نتيجة وإ براءة بحقها، ذلك أن هذه اللعقلنيات تتماهى في وفاء مع دورها الذي اختاره لها المركز، نوع من التماهي مع

يديولوجيات دوغمائية، مغلقة، لتاريخانيةلالمتسلط. إنها الوجه الخر لدوغمائية السوق، أو هي التسويق المستمر نسان في عرق أو عقيدة أو ملحم بائدة. ول ريب أن الفكر العربي المعاصر فيلتعتقل أنفاس التاريخ وتسجن فكر ا

خطه القومي والصولي خير تعبير عن هذه السوق الكاسدة تاريخيا: سوق الصولية. فهذا محمد عابد الجابري، يرتدي بزة عرافة شرقية ويطلع علينا في أطروحاته العشر حول العولمة المحسوب على التيار النقدي بهذا الفكر،

والهوية الثقافية بخطاب ل يختلف عن عقلية "جاهلية القرن العشرين" في لغته وتفكيره. لم يفهم الجابري وهو يكتب أطروحاته تلك، أن التاريخ يطرح أسئلة ول يقدم أجوبة. فليست هناك حلول نهائية تعتقل أنفاس التاريخ، لن التاريخ

بل هوية، والتجاه نحو المستقبل يمر دائما بالقطع مع كل مفهوم مفارق للهوية. لكن "العقل" العربي يتمادى في .لعقلنيته، عقل تقبلي، يقدس الهوية، ويعتبر الوفاء للموات أهم من الوفاء للواقع

في أطروحته الولى المعنونة كالتي: "ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، بل ثقافات"، يعتبر الجابري أن الثقافة هي المعبر الصيل عن الخصوصية التاريخية لمة من المم. لم يفهم الجابري أن الثقافة ل تحقق نفسها إل ضد الصالة

والخصوصية، وأن التاريخ ل خصوصية له خارج أسئلته، والثقافة ليست دائما ذلك التعبير الصيل. هناك فقط توجه يدعي الصالة لنفسه، لنه يتشبت بحقائق الماضي. لكن الصالة قد تفهم أيضا كوفاء للحاضر، كوفاء للحياء

نسان وأسئلته الملحة. ومزج الجابري بين الثقافة والصالة، أو اختزال الثقافة في الصالةلل للموات، لحاجات ا رفض للتعدد وحجب لدور الخر وتأثيره، وتناس لحركية الواقع وأسئلته. إن الثقافة الصيلة هي أشبه بنعامة تدفن

رأسها بالرمل، والرمل قد يعني الذكريات إذا استعملنا لغة الجابري الرومانسية، وقد يعني نصوصا تغتصب التاريخنسان. والقول بأنه ليست هناك ثقافة عالمية بل ثقافات، قول فيه الكثير من التفاؤللوعمائم تبتلع الحاضر وا

المجاني، ذلك أن الثقافة اليوم تنحو نحو العالمية، إبداع من الخر وقراءة وتقليد من النا، تختفي النا خارج التاريخ، إنها أشبه بالمصريين القدامى الذين ظلوا دائما أطفال لنهم لم يتجاوزوا جدران المعبد. إن الخر يفرض

نسانية، متحضرة أو عقلنية، ولكن لنها ثقافة القوى، أما الضعيف فل ثقافة له، وقد تكون لهإثقافته، ليس لنها ذكريات! أمس منحتنا الثقافة اليونانية فكرة "العقل"، واليوم تمنحنا الثقافة الوروبية فكرة "التاريخ"، وكما ضيعنا

العقل، ها نحن نواصل اليوم وبإصرار أعمى نفي التاريخ، أو نفي أنفسنا خارجه. أما أطروحة الجابري الثانية، ذات النغمة الدينية المطلقة، فتؤكد أن الهوية مستويات ثلث: فردية وجمعوية ووطنية قومية. إضافة إلى أن هذا التقسيم

اعتباطي، وخصوصا في ظل مجتمعات قومية أو أصولية تعادي الفرد وتقمع حريته وتسجن حاضره بماضيه، فإننا نؤكد مرة أخرى أن ل هوية للثقافة، وأن الثقافة المتنورة تقف ضد كل هوية، فالهوية منطق انكفائي وعقل

جوهراني، والثقافة التاريخية نقد وجدل مستمران، وهذا ما يميزها اليوم عن المس. أمس كانت الثقافة تتمركز حول

21

21

Page 22: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

هوية أو نص أو عقل محدد، أما الثقافة التاريخية فهي صيرورة ل هوية، وربط النا بالهوية هو فرض للماضي على الحاضر واستسلم لجتهاد السلف. وتقول الطروحة الثالثة أن الهوية الثقافية ل تكتمل إل إذا كانت مرجعيتها جماع الوطن والمة والدولة. ويقول الجابري معرفا الوطن:"الرض والموات، أو الجغرافية والتاريخ وقد أصبحا

كيانا روحيا واحدا يعمر قلب كل مواطن". أي معنى للوطن يقدمه الجابري؟ وأية لغة طلسمية يستعملها؟ الوطن،ليس مثل هذا التفكير هو من حول هذا الوطن إلى أرض موات؟! ومن قال بأن الموات همَالرض، الموات؟!. أو

التاريخ؟ الموات هم الماضي، هم الماضي الذي مازال يرخي سدوله المدلهمة على الحاضر. والمة ليست نسبا روحيا، المة ليست نصا نهائيا، ومتى أرادت أن تخرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فعليها أن تنجز نسبا جديدا، نسبا مع التاريخ، أن تخون نفسها. فليست المة ما أنجزناه، ولكن ما يجب أن ننجزه، بل ما يتحتم علينا

تجاوزه. إن مفهوم المة لم يخلق إل ليجهز على كل أشكال الختلف والتنوع، وهو مفهوم فاشي يقوم على أقانيم .ثابتة كالعرق واللغة والدين

الجماعـ هابرماس ونظريات الحقيقة ـ

يربط هابرماس الحقيقة بالعقل ، رافضا الطرح الميتافيزيقي وطرح العلوم الحقة أيضا . فالحقيقة في نظره ، ل تتأسس انطلوجيا ، وليست هبة التجربة ، وانما تتأسس على العقل ، وتهدف إلى الجماع . "العقل هو المرجعية الخيرة للمفكرين والممارسين والمتكلمين من البشر في الواقع اليومي كما في العلم" عقل ليس بمفهوم المثالية

اللمانية . عقل ل يعيش خارج التاريخ ، بل كما بين ذلك هابرماس في كتابه "الفكر ما بعد الميتافيزيقي" : "الوعين يتحول إلى كائن تاريخي من لحم ودم" مع هابرماس ستعيشأن يحقق نفسه في الواقع ، عليه أالترنسندنتالي يجب

ن تحصن مفهومهاأالفلسفة كنظرية للعقلنية ، عليها . Paradigmenwechsel الفلسفة تحول براديغميا ل بالتحول من فلسفة للوعي إلى فلسفة للغة . بذلك فقط تتحول إلى عقلإالمركزي ، الذي هو العقل . ولن يتم ذلك

بيذاتي يعيش داخل مجتمع ، متحررا من كل شطط انطلوجي . وقبل أن يشرع هابرماس بشرح هذا العقل العبر- ذاتي ، يبدأ أول في بحثه المهم "نظريات الحقيقة" بنقد وتشريح الفلسفة التحليلية أو بنقد نظريات الحقيقة لدى المدرسة التحليلية ، هذه المدرسة التي هدفت تجاوز الميتافيزيقا . ففي نظرها ، وكما صاغ ذلك بيتر يانيش :

"الحقيقة هي جملة - حقيقة وليست وجود- حقيقة"ولهذا سمي هذا التجاه بالنقلة اللغوية. نظرية هابرماس في المقابل نقلة براغماتية، نظرية للتواصل أو نظرية بيذاتية للحقيقة ، تجد أصلها في سيميائية بيرس. وحسب هذه النظرية ، الحقيقة ترتبط صميميا بالقناع والجماع والتواصل . يبدأ هابرماس نقده للفلسفة التحليلية بطرح السؤال التالي: ما

الذي يمكن أن نقول عنه بأنه صحيح أم خاطئ؟وستن ، حيثأوستن فيرى بأنها المزاعم وليست الجمل ، ويشرح هابرماس رأي أجواب تارسكي : الجمل . أما

مكان المرء أن يستعمل الجملة الواحدة للتعبير عن مزاعم مختلفة ، كما يمكنه أن يعبر عن مزعم واحدبإيوضح أنه ذ أنهاإبجمل كثيرة . ولكن هابرماس يوضح كيف أن المزاعم ل تحقق شرط الثابتية ، لنها ترتبط بزمن محدد .

يمكن أن تصدق في زمن معين ول تصدق في زمن آخر . الحقيقة في نظر هابرماس ذات طبيعة ل زمنية . هابرماس شأنه في ذلك شأن ستراوسن يرى أن المقولت هي التي تقبل الخطأ أو الصواب . ثم ينتقل بعدها لنقد

ن الوصف أو الكلمةفإنظرية الحشو . رامسي منظر هذا التجاه ، يرى أنه حين نزعم مثل أن ب صحيحة ، نها صحيحة" منطقيا زائدة . وينتقدإن العبارة : "إ"صحيحة" مجرد حشو ، لنها ل تعني شيئا آخر سوى ب نفسها .

: هابرماس هذا الرأي في نقطتينعلن بأن ب صحيحة ، تعني أن ادعاء-صحةلن نظرية الحشو تهمل أن اإأول : Geltungsanspruch . قد أعلن

. فحين نقول : ب فقط ، ول نقول شيئا بحقها ، ل نزعم شيئا فالفعال تتضمن ادعاءات الصحة في المقولت . Diskurs والخطاب Handlung ثانيا : هابرماس يميز بين الفعل وتعترف بها . بعد تناول وجبة طعام جيدة ، نقول : "الحمد ل" . كلمة "ال" هنا تخبر بأن الطعام كان جيدا أو مشبعا

، أما حقيقة "ال" في هذا السياق ، فهي ليست موضع سؤال . في الخطابات بعكس ذلك ، تصبح ادعاءات الصحةخبار أو المعلومات ، بل سنبرهن اذا ما كانت كلمة "ال" حقيقة أم خطأ . معنى هذا الكلملاشكالية . هنا لن نتبادل ا

علن بعد وجبة طعام دسمة : "الحمد ل الحقيقي" ، كلمةلفعال ، القول أو الأو هذا المثال بالذات ، أنه في مجال ا

22

22

Page 23: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

"الحقيقي" في هذا السياق مجرد حشو . لكن في مجال الخطاب تصبح هذه الكلمة أو هذا الزعم ضروريا وليس: حشوا . ويلخص هابرماس نقده لنظريات الحقيقة في أربع نقط

ول : ان نظرية الحقيقة كاجماع (نظرية هابرماس) ، ترى أن الحقيقة والصحة ادعاءات صحة تنتمي إلىأ الخطاب ، من دون أن تنكر الختلفات المنطقية بين الخطابات النظرية والتطبيقية . ولكن نظرية الحقيقة

الميتافزيقية توضح صحة القضايا التطبيقية بالطريقة نفسها التي توضح بها القضايا النظرية . في المقابل ينكر التيارمكانية الحديث عن الحقيقة في المجال التطبيقيإالوضعي .

نظمة التي تتكون من تجارب ومعلومات وأفعال وبين الخطابات التي ل بد منلثانيا : ان نظرية الجماع تفرق بين ا البرهنة على صحة ادعاءاتها ، في حين تخلط نظرية الحقيقة الترنسندنتالية بين شروط التجربة وشروط الخطاب أو

. الستدلل ثالثا: تفرق نظرية الجماع بين ادعاءات الصحة العبر- ذاتية واليقينيات الذاتية . في حين تقوم بعض نظريات

. الحقيقة ، نظرية التوافق مثل ، على يقين ذاتي رابعا : نظرية الجماع تفرق بين ادعاءات الصحة التي تنتمي إلى الخطاب الستدللي وتلك التي ل تنتمي إلى هذا

. الخطاب . في حين تخلط بعض نظريات الحقيقة بين الثنيننه يرى أنإان هابرماس ينتقد بالخصوص الخلط بين الموضوعية والحقيقة ، وبين ادعاء الصحة واليقين الذاتي .

دراك الحسي . في حين أن كلتا النظريتين ، الترنسندنتاليةلفكار وليس إلى عالم الالحقيقة تنتمي إلى عالم ا فعال والتجارب ،لن الموضوعية تنتمي حسب هابرماس إلى مجال اإدراك حسي . كإمبريقية تنظر إلى الحقيقة لوا

في حين تنتمي الحقيقة إلى مجال الخطاب الستدللي . وضدا على الخلط بين ادعاءات الصحة واليقينيات الذاتية ،نها عقل واستدلل . لكن ما هي العلقةإيعلن هابرماس بأن الحقيقة ليست علقة تطابقية ، ليست منطقا توافقيا .

التيتنسجها الحقائق التي نزعمها مع مواضيع تجربتنا؟ الحقائق هي ادعاءاتنا التي نزعم أنها صحيحة ، أما المواضيعنها تقول بأن ادعاءات الصحةإفهي تنتمي إلى العالم ، ونظرية التوافق أو التطابق خلطت بين الحقائق والمواضيع .

نإيجب أن تتوافق مع الحقائق . تبدو الحقائق في مثل هذه النظرة ، شيئا واقعيا ، جزءا من العالم ، مواضيع . ن نظرية التوافق تحاول بل جدوى الخروج من المجال المنطقي- اللغوي الذيإهابرماس ينتقد هذه النظرة قائل : "

ن الحقيقة كما يفهمها هابرماس ، قول ل واقع ، استدلل وليستإبداخله فقط يمكن أن نوضح حقيقة فعل لغوي". تجربة .ونتيجة للتفاعل النقدي مع النظريات اللغوية والبرجماتية ، وصل هابرماس إلى اكتشاف ادعاءات الصحة ،

فعال التواصلية . إنه يدافع عن فكرة وجود أربع ادعاءات للصحة ، وهيلالتي بحسب نظرته تقوم عليها كل ا . كالتالي : المفهومية ، الحقيقة ، الصحة ، الصدقية

الحقيقة والصحة هي ادعاءات صحة تنتمي إلى الخطاب الستدللي ، في حين ل تملك المفهومية والصدقية طابعا استدلليا ، ولكن طابع الفعل . ثم ينتقل هابرماس للتمييز بين اليقينيات المبنية على التجارب الذاتية (اليقينيات الذاتية) وادعاءات الصحة ، حيث يرى أن هذه الخيرة عبر- ذاتية ، يمكن التحقق منها ، في حين أن اليقينيات الذاتية فردية

وذاتية . وهذه اليقينيات المرتبطة بالتجربة الشخصية تنقسم إلى ثلثة : فهناك اليقين العتقادي المرتبط بالتجارب التواصلية والذي يرتكز على ادعاء الصدقية ، واليقين غير المحسوس الذي يرتبط بفعل الفهم والذي يرتكز على

. ادعاء المفهومية ، ثم اليقين المحسوس الذي ل يتضمن أي ادعاء- صحةن الثنين معا ادعاءات صحة استدللية ، لكن هل يعني هذاإبعد ذلك ينتقل هابرماس للتمييز بين الصحة والحقيقة .

بأن البرهنة على صحة معيار تشبه طريقة البرهنة على حقيقة قول معين؟ول قدمه القانون الطبيعي الكلسي، الذيلويسرد هابرماس جوابين من تاريخ الفلسفة على هذا السؤال : الجواب ا

مبريقية والتي ترى أنلرأى بأن المعايير الصحيحة هي أيضا مقولت حقيقية. والجواب الثاني قدمته السمانية وا ن هابرماس يفرق بين الحقيقة و الصحة قائل: "ادعاء صحة فعل لغوي تقريريإالمقولت المعيارية غير حقيقية.

."يرتبط بمواضيع التجربة والحقائق. أما ادعاء صحة معيار معروف، فهو في حّد ذاته موضوع تجربة أو حقيقةنه يعبر فقط عن حكمإن المعايير متضمنة في الفعل اللغوي. فحين يقول المرء: "الكذب خطيئة"، ل يزعم شيئا. إ ن تفعل.."أخلقية جملة:"يجب أخلقي معروف. ولهذا يوضح هابرماس لماذا نستعمل حين الحديث عن معايير أ

.وليس جمل تقريرية

23

23

Page 24: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

ول يمسلوسيدافع هابرماس - دائما في بحثه "نظريات الحقيقة" عن نظرية الجماع ضد اعتراضين . العتراض ا . نظريات الحقيقة البرجماتية، والذي يرى أنه ل يجب الخلط بين الحقيقة وبين مناهج تحصيل المقولت الحقيقية

ن نظريات الحقيقة البرجماتية تقوم على مبدأ المفهومية أو التفاهم بين المتكلمين الفاعلين. وأن الفلسفةأل غرو الرجماتية ترتكز على مبدأ النفعية. إن هابرماس وكما رأينا، ل ينكر حضور مبدأ المفهومية بادعاءات الصحة

العامة. ولكن يرى أن فلسفته ل تقوم على مبدأ النفعية. ولهذا يفرق بين تحصيل حقيقة، وهو اجراء ينتمي إلى مجالو الستدللأفعال، وبين الحقيقة التي تنتمي إلى مجال الخطاب لا .

أما العتراض الثاني فإنه يرى أن الجماع ، الذي ل يعني شيئا آخر سوى التفاق على رأي معين، ل يمكن أنن هابرماس ل ينكر فكرة التفاق ولكنه ل يرى في التفاق أو التوافق على رأي معين ،إيكون مقياسا للحقيقة .

ن الحقيقة في هذه النظرة تهدف إلى الجماع ولكنها تقومإمقياسا للحقيقة ولكن هدفا لدعاءات - الصحة الستدللي . .على الستدلل أو هي الستدلل نفسه

ن منطق الخطاب هو منطق برجماتي يبحث في المميزاتإبعد ذلك يقدم هابرماس تعريفا لمنطق الخطاب، ويقول:" ."الصورية للسياقات الستدللية

:يتضمن هذا التعريف نقطتين اساسيتينننا أمام منطق برجماتي. وهذا المنطق يتكون من اجرائين: الستدلل والجماعأول : أ .

ننا نقف أمام ابستمي بيذاتي، حيث الجماع لهإثانيا : هذا المنطق البرجماتي يمثل قطيعة مع الفلسفة التحليلية . خيرةلالكلمة ا .

ثم ينتقل هابرماس للحديث عن ظروف الكلم المثالية والتي يمكن أن نلخصها في كلمتين: المساواة في الفرص. أن يكون للمتكلمين الفاعلين نفس الحرية في التواصل والستدلل وفي وضع كل شيء موضع سؤال، وفي التعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم، بحيث أن حرمان بعضهم من امتياز معين، من شأنه أن يضع عقبات أمام التواصل، وبالتالي،

.أمام الحقيقة. لن الحقيقة تبنى على الستدلل وليس على القهر، لنها ضد صناعة الوعي واستعمار الواقع ولكن أل ترتكز نظرية الجماع على مقاييس للحقيقة ثابتة وقبلية؟ أليست هذه النظرية احتفاء بسلطة العقل؟ أل تشيد

ميتافيزيقا جديدة أو أمرا حمليا على الطريقة الكانطية؟ ولماذا يتوجب على الحقيقة أن تهدف إلى الجماع؟ن الخطاب في نظر هابرماس، استدلل. وعن طريق الستدلل فقط نحقق الجماع. استدلل يقوم على مبدأ سواسيةإ

مامأذا تأملنا لغة هابرماس: الجماع، الستدلل، الصدقية، سواسية الفرص .. سنكتشف بسهولة أننا إالفرص. و ننا أمام فلسفة بيذاتية،إنظرية غيرية، متحركة ومفتوحة. نظرية يمكن أن نلخصها في كلمة واحدة: الديمقراطية.

جرائيا فقطإيلعب فيها العقل دورا .

الصراعـ مفهوم التواصل عند نيكلس لوهمان ـ

يرى نيكلس لوهمان في كتابه المركزي "النظمة الجتماعية" أن التواصل ل يجب أن ينبني على مبادئ نما لعبةإن التواصل حسب هذه الرؤية ليس لعبة ذاتية وإانطلوجية، كما يرى أن التواصل ل يهدف إلى الجماع.

ن لها هدفا واحدا، وهو التواصل نفسه، الذي ينتج الجماع كما ينتجإتقوم على الختلف بين المعلومة والتوصيل. الختلف. فالجماع حسب لوهمان ل يمكنه تجاوز عوامل الزعاج والضطراب. في حين أنه بمساعدة التواصل

قد نصل إلى فهم ما هو غير منتظر وغير مرغوب فيه . لوهمان يرفض أن يقوم التواصل على العقل . بدل ذلك أو ما يسميه بالستقرار الدينامي , فالصراعات في نظره تحافظ على مرونة يرى أن عليه أن يقوم على الصراع

.النظام وقابليته المستمرة للتعلمويتساءل لوهمان في كتابه عن العنصر المؤسس لهذه النظم، هل هو الفعل؟ أم التواصل؟

إن التواصل لدى نيكلس لوهمان ليس فعل، وصيرورة التواصل ليست سلسلة من الفعال. إن التواصل ليس مجرد فعل إخبار، بل هو حاصل تفاعل العناصر الثلثة: الخبار والخبر أو المعلومة والفهم. إنه اختلف وليس بفعل.

24

24

Page 25: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

ورغم ذلك فإن الفعل يظل عنصرا أساسيا في تكوين التواصل، إنه فعل إعادة إنتاج للنظام . لذلك فلوهمان يعتبر أنه ليس خطأ أن نفهم التواصل كفعل ولكنه فهم مع ذلك، أحادي البعد. إن التواصل في تصوره هو الوحدة الولية للتأمل

.الذاتي والوصف الذاتي للنظمة الجتماعية إن السياق التواصلي هو بذلك عنصر ضروري للفعل الجتماعي. هذا الجواب يمثل في حد ذاته، من جهة تجاوزا

لنطلوجيا ماكس فيبر الجتماعية، والتي ترى أن وحدة العناصر معطاة مسبقا، فيبر الذي يرى أن وحدة الفعل تجد مصدرها في الشعور الجتماعي للفاعل. ومن جهة أخرى يمثل هذا الجواب تجاوزا لتالكوت بارسنز الذي فهم

.. النظام الجتماعي كبناء تحليلي يقوم على الفعل، وعن طريق الفعل تدلف الذات إلى النظام إن نظرية لوهمان عن البناء الذاتي هي أيضا نظرية المرجعية الذاتية بامتياز. فوحدة النظام ل تتأسس أنطلوجيا. إنها هبة التواصل، نتاج عمليات النظام نفسه. فهي ل تقوم على شعور الفاعلين وليست نتاج أبنية ومعايير معطاة مسبقا،

بإمكانها أن تحكم النظام وتتحكم بمساره. نظرية تنتقل من الوحدة إلى الختلف، تتجاوز مفهوم الهوية، إنها موتنسان في هذه النظرية ل ينتمي إلى النظام ولكن إلى البيئة المحيطة. النظام مستقل عن كل ذات. فيلللذات. إن ا

إلى عالم التواصل، يتعذر عليه نهائيا العودة إلى جنة الرواح البدء كان الختلف وليس الهوية و"حين يدخل المرء البسيطة" إن فرضية لوهمان ترفض كل شكل من أشكال الثنائية الميتافيزيقية. فبدل الحديث عن التمييز:

الذات/الموضوع، يتحدث لوهمان عن نظرية النظام/المحيط. نظرية هي نتاج للعلوم الحقة، التي تفهم المرجعية الذاتية للعالم كوصف للوجود وليس تذويتا أو أمثلة للموضوع. إنها نظرية تهدف إلى تأسيس فهم ل ـ أنطولوجي

.للواقع ويستند لوهمان، من أجل شرح مفهوم التواصل، إلى قراءة دريدا لفلسفة اللغة الهوسرليانية. إن الختلف بين

الخبار والخبر يقابله عند هوسرل الختلف بين الدليل والعبارة. وقد استحوذت على اهتمام هوسرل العبارة وليس الدليل، لن العبارة وعي وليست لغة، أو لنها تنتمي إلى مجال الوعي. ويرى لوهمان أن أولوية العبارة على الدليل

لدى هوسرل تقوم على فهم ناقص لواقع التواصل. وقد عبر بيير تروتينيون على نفس الفكرة ، بلغة أخرى ، حين اعتبر فينمينولوجيا هوسرل ميتافيزيقا أو "ميتا منطق"، لنها تعتقد بأن المنطق وليس الطبيعة هي التي تؤسس

الحقيقة العلمية. إن النا الترنسندنتالية في فلسفة هوسرل ، هي مصدر كل الدللت. ويرى لوهمان أن دريدا سيعمد إلى استبدال المركزية الذاتية والبناء الترنسندنتالي لفلسفة هوسرل، بسيميولوجيا قائمة على الختلف، ويرى بأن

ذلك يساعد على فهم الختلف بين الخبار والخبر في العملية التواصلية. إن دريدا يدافع عن الدال ويرفض النطو- ثيولوجيا الفنيمينولوجية، التي تحط من قدر الدال إن الدال في نظره، هو لمركزة للنا وللمعنى وأيضا للوجود. إنه

يقول بكتابه "الصوت والظاهرة" بأن العبارة لدى هوسرل تجسيد شعوري. إنها تعبر عن معنى يسكن الوعينساني ، إن العبارة في غياب الذات ، غير ممكنة التحقق ، وكل ما ل ينتمي للوعي، ل مكان له في العبارة. إنلا

. الدال بالنسبة لدريدا، مثل المرجعية الذاتية لدى لوهمان، تجاوز للذات وتأصيل للختلف هو علقة عمودية. وكل ما هو عمودي ، هو انطلوجي. لنه يتضمن سلطة معينة، لنهإرسالن التواصل كعملية إ

نإليه. إيتناقض والختلف. وغالبا ما يفهم التواصل كعملية إرسال، إرسال لمعلومة من طرف المرسل إلى المرسل رسال هذا، لنه ذا بنية انطلوجية، ذلك انه "يوحي بأن المرسل يبعث بشيء ل يملكهللومان سيتخلى عن مفهوم ا

ن سلبيات هذا الفهم، يلخصها لوهمان في ثلثةإليه". إالمرسل :ول: إن التواصل هو في هذا المعنى: إخبارأ .

ليهإحشائه ذلك أن المرء يعتقد أن المعلومة التي يبعث بها المرسل إلى المرسل أثانيا : إنه يخفي فكرة الهوية بين . هي واحدة بالنسبة للثنين

ليه بشيء ماإ: إن التواصل في هذا المعنى عملية مزدوجة . ذلك أن المرسل يخبر المرسل ثالثا .نظمة .لنه العملية التي تنتج عناصر هذه اإن التواصل حسب لوهمان هو العنصر الخير للنظمة الجتماعية . إ

نه مركبإرسال والستقبال . لوهي ليست بعملية مزدوجة . فالتواصل ل يقوم على او اختياراتأمن ثلثة عناصر Selektion : ، الخبار ، المعلومة ، الفهم . ويفرق لوهمان بين المعلومة والخبار

رسال . فالنا ل تمتلك المعلومة ، والخر ل يتوّصل بها .إنها ليست إفالمعلومة هي معالجة اختيارية للختلفات . نها نتاج للعملية التواصلية . والخبار ، كما رأينا أحد المكونات الثلثة للتواصل ، ولكن ليس أهمها . ولكن فقطإ

25

25

Page 26: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

ن المرء يتحدث عن التواصل ، حين تفهمإحين يكون هناك اخبار تصبح للمعلومة قيمة داخل العملية التواصلية . . النا أن الخر قد أخبرها بمعلومة

نه ل يعني أكثر من تحقق للخبار والمعلومة . وحتى لو كان هناك سوءإويعتبر الفهم المكون الثالث للتواصل . ذ ليس من الضروري أن يكون هناك توافق بين المعلومة والخبار ، بل اختلف.إن الفهم ل يتأثر بذلك، فإتفاهم ،

والنا والخر هما أيضا جزءان من هذا العالم المعنى ، انهما لم يخلقا ، Sinnwelt والمعلومة تنتمي إلى عالم معنىذا كان منإل إن الفهم في هذه الرؤية يتأسس على التواصل وليس على الوعي . والتواصل ل يتحقق إالمعلومة .

ن الفهم في النهاية ، ل يحقق فقط تواصل معينا ، بلإالممكن ملحظة وفهم الختلف بين المعلومة والخبار بها . . يفتح الباب لعمليات تواصلية أخرى

في الفصل الرابع من كتابه السابق الذكر، ينتقد لوهمان نظرية الجماع، ويرى بأن على التواصل أن يكون قادرانسجام أيضا. فالتواصل ليس انطلوجيا، ول يقوم على أسس انطلوجية، وهو ل يريد أن يؤسس إنتاج اللإعلى

مكان الجماعبإن له هدفا واحدا وهو التواصل نفسه، الذي يتضمن، وينتج الجماع والشقاق معا. فليس إللجماع. ن التواصل لدى هابرماس يقوم على العقل .إأن يتجاوز عوامل القلق، ول أن يفهم ما هو طارئ ، بعكس التواصل.

نه يدافع عن نوع من الستقرار الدينامي، عن الصراع؛ لنفإفالعقل هو أساس التفكير والفعل والكلم . أما لوهمان ن التواصل هو دعوة إلى الحتجاج، وليس إلى القبول والتسليم . إنهإالصراع يسمح للنظام بأن يظل مرنا ومفتوحا.

نه يتواصلإن المرء ل يفكر، إتجاوز لمنطق الهوية، وتأكيد للختلف. !

!العقل.. قاطع طريق؟

هذا الذي أجد فيه عزاء ل أجده في كل الناجيل!هذا "المفكر الخصوصي" والشكاك والناقد الثقافي، والذيسيوران. اعتبره الشاعر س.ج.بيرس من أهم الكتاب الفرنسيين منذ بول فاليري، اختار في أغلب كتبه الشذرة وسيلة للتعبير

ضدا على "العلمية الزائفة" للخطاب الفلسفي. فالشذرة تضع كل شيء موضع سؤال، تأتي لتهدد قناعاتنا الثقافية. يقول سيوران مبررا اختياره:" ايجابية الشذرة تتمثل في أننا ل نحتاج إلى تقديم أدلة. إننا نطلق شذرة كما نطلق

صفعة". لكن الشذرة ل تمثل بالنسبة إليه طريقة في الكتابة والتعبير فقط، بل هي في حد ذاتها نظرة إلى الحياة، أو بالحرى عشق. "نحن عبدة الشذرة والندبة" يقول سيوران، عشق ممهور بالقلق والتمرد. إنها وحدها القادرة على

التعبير عن النا وتمزقاتها، أما الفلسفة فهي تقوم بالنسبة إليه على نبوءات ومغالطات ومواعظ. لم يعبأ سيوران بالجمهور، بل كان يجاهر دائما باحتقاره، ولم تعتقل فكره ايديولوجيا معينة، هو الذي حذرنا دائما من عماء الفكار

النهائية. إنه يقول مثل في "ملخص التحّلل":"التجاوزات الناتجة عن الله ـ عقل، عن فكرة المة، الطبقة أو العرق، هي مماثلة لمحكمة التفتيش أو الصلح. الحقب المشتعلة حماسا تبرع في اقتراف العمال الدموية. (...) المشانق،

السجون، الشغال الشاقة ل تتكاثر إل في ظل عقيدة ما، من هذه الحاجة إلى العتقاد التي غزت الروح وإلى البد.". لم تكن لسيوران أفكار يبشر بها، لم تكن له إل وساوس كما ظل يردد، وهو ظل بذلك وفيا لفن الشذرة، تعبيرا عن

.العراء الترنسندنتالي، عن زمن المابين والعشاب الضارة لكن سيوران وإن كان يرى بأن الحياة مجردة من كل معنى، إل أنه ل يدعو إلى التواطئ معها، والقبول بها، بل هو

يحذرنا أيضا من كل "سلبية مجرمة"، الوجه الخر للتوتاليتارية والخنوع. إل أنه يقف مع ذلك على النقيض من معاصره سارتر مثل وفكرته عن اللتزام، وعلى النقيض من كامو ودعوته إلى القبول المطلق بعبثية الحياة. لقد

سمى سيوران وجودية سارتر بالوجودية الموضوعية، مقابل وجوديته الذاتية. ويمكن أن نفهم موقف سيوران أكثر، والذي يعتبر نقدا للدور التاريخي لليوتوبيا. ففي نص يحمل1960من خلل كتابه "تاريخ ويوتوبيا" الصادر سنة

عنوان:"شكلن مجتمعيان"، وعنوانا فرعيا:"رسالة إلى صديق بعيد"، ويعني به سيوران الفيلسوف الروماني)، يأخذ سيوران على صديقه انتصاره للغرب، وعدم انتباهه لخطاءه1987 ـ 1909المعروف كونستانتين نويكا (

ومظالمه. ويرى أن النظامين الشتراكي والرأسمالي ل يستطيع المرء تحملهما، وأن الختلف اليديولوجي بين النظامين ل يغير شيئا من حقيقتهما القمعية. إذ كما يتساءل سيوران:"هل من فارق كبير بين الجحيم وبين جنة ل

."عزاء فيها؟

26

26

Page 27: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

كان سيوران من الوائل الذين اكتشفوا عقم العقل وكليانيته، بل إنه لم يتوان في إحدى شذراته عن اتهامه باللصوصية وتسميته بقاطع طريق. ألم يعبر ليفيناس عن نفس الفكرة، وإن نطلقا من مصادر مختلفة، مؤكدا

ضرورة أن ل نطلق العنان لحكم العقل، فحتى النازية كانت عقلنية؟ يدعو سيوران إلى الصغاء إلى الصمت ومحاكاته في زمن الخطابات الكبرى واللغو اليديولوجي، كما أنه يمجد

قيم النقصان والشك والقلق، قيم ثلثة، ل يجرؤ عبدة الجوبة النهائية على اجتراحها، وهي قيم، لو تأملناها في.عمق، لكتشفنا أنها أقرب إلى طبيعة النسان والحياة من كل القيم الخرى

إغراءات محمدية

من ل يبتهج حين يقرأ كتبا في لغة أخرى، ليقرأها بعد ذلك مترجمة إلى لغته الم؟ أل يشعر هذا القارئ بنفسه أقرب إلى هذا الكتاب من غيره؟ وأل تفتح القراءة الثانية، القراءة في اللغة الم، آفاقا أخرى للمتعة وأبوابا أخر للتساؤل

وتبيُن عن قضايا نستها القراءة الولى ومرت عليها، ولم تأبه لها؟ قارئنا يصطدم بدءا حين يمسك الكتاب المترجم بين يديه، بعنوان الكتاب، الذي كثيرا ما يقدم المترجم أو بالحرى

الناشر على تغييره. ليس في المر عيبا، إذا كان التغيير ضرورة لغوية أو بلغية، لكن يصبح التغيير عسفا وعصفا بأقدس ما في الكتاب، إذا كان خاضعا لسباب سياسية أو دينية، وبلغة أخرى إذا كانت وراء هذا التغيير سلطة

الرقابة، وهذا ما حدث فعل مع كتاب فايدنر "إغراءات محمدية"، ليتحول عنوان الكتاب في الترجمة العربية إلى "السئلة المخفية: محاولة للقتراب من السلم"، وأقل ما يمكن أن يقال بشأن هذا العنوان إنه عنوان فضفاض،

وإننا قد نسمي أي كتاب من الكتب الرخيصة الصادرة خلل السنوات الخيرة بمثل هذا العنوان، ليس لنه عنوان عام ويصلح لكل كتاب عن السلم، وليس أيضا لنه عنوان طويل، ولكن خصوصا لنه يعبث ببنية الكتاب

المتشظية، العابرة للجناس، والتي يعبر عنها العنوان اللماني خير تعبير، فأصل كتاب فايدنر إغراء، والغراء...رغبة والرغبة سفر

تكررت العملية مع كتب أخرى، حتى أنه يمكن الحديث عن نوع من رهاب العناوين داخل الثقافة العربية، فهذه دار توبقال مثل تترجم كتاب عبد الوهاب المؤدب "مرض السلم" بعنوان آخر:"أوهام السلم السياسي"، رغم أن

الكاتب يرى أن لب المشكلة يكمن في السلم نفسه، وأن السلم السياسي هو أحد عوارض المرض فقط. وهو ما يراه فايدنر أيضا، الذي ل يتوقف عند الحديث عن جرائم السلم السياسي فقط، بل يغور بعيدا في البحث عن ما أسماه بتشوهات السلم، وما ينعته المؤدب بالمرض. وهو يعرج بدءا على الحرب الهلية الجزائرية، ويعرض

لبعض الشهادات حولها، تلك الشهادات التي تؤكد أنها كانت حربا بين استئصاليين على الجبهتين، حربا لم تنج من أوارها حتى الحيوانات :" كانت رغبة مرضية في القتل، لم يتركوا شيئا قط، أي شيء في هذه القرية على قيد الحياة. لم يأخذوا العنز بل قتلوها وتركوها مرمية كما فعلوا مع البشر. شاهدت أربع قطط مذبوحة. لماذا القطط؟ كانت هناك دجاجة وحيدة مجروحة تتقافز، قطعوا رأس الخرى وألقوها. كانوا يستطيعون أن يأخذوها معهم، يأكلوها، لكن ل،

إنه الغضب المدمر، مطلق الحتقار للحياة والقيم". احتقار الحياة، تلك هي الكلمة الفصل، فنحن نعيش في ظل ثقافة، رسمية كانت أم شعبية تحتقر الحياة، وأبسط ما يمكن أن يقال عنها، أن ل علقة لها بالسلم، الذي حسب ما بلغني،

.لم يأمر يوما بقتل العنز ول القطط ول بذبح الدجاج لمجرد التسلية أو للتفريج عن عنف المكبوت ومحق كاتبنا حين يقول بأن الدين ل يطالب بالموت، بل اليدولوجيا وحدها من تطالب بذلك، وأن الشهادة إحدى

.إمكانات الدين وليست شريعته، وأن النتحاري يهزأ أول ما يهزأ بالدين، الذي يرفض قتل البرياء

27

27

Page 28: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

لكن كاتبنا يخطئ حين يبحث عن جذور التخلف الحالي الذي تعيشه المجتمعات السلمية في الدين، وهو يشير إلى أن السلم، كما الديان الخرى يحمل تشوهات ولدية. إن نظرته الثقافوية تتناسى أن السلم ابن سياقه التاريخي،

إنها تنظر إليه كدين مشوه أو مليء بالعيوب، لنها نظرة سجينة ثقافتها الغربية التي أنتجتها، والتي درجت على سجن المختلف والمغاير في باب اللمعقول. إن إعمال المبضع العقلني بالسلم، مبضع العقل التنويري المكتفي

بذاته والمستسلم إلى يقينياته، ليس أكثر من ممارسة للعنف وبسط للسيطرة على الخر ومحاولة لتدجينه وتحويله إلى شبيه. فالعقل، هذا العقل، هو الجلد يقول فوكو، أما العقل التنويري فلم يقتل الله إل ليصنع صنما شبيها به: "لماذا

استبدال الجثث هذا؟ يتساءل سيوران. وإحالة الدين على محكمة العقل غير شرعية، لنها تبخس الدين، أي دين حقه، إنها تزعم "الرقي" به إلى مستوى العقل، وإخضاعه لدولة العقل، في حين أنها ل تهدف غير تحويله إلى نمر من

ورق. الدولة الليبرالية في مقابل دولة العقل، تريدنا مواطنين في عوالم ووجهات نظر مختلفة، والدين أحدها، يقول أودو ماركفارد. فما يصطلح عليه فايدنر بالتشوهات، لربما هو ما صنع ويصنع هذا الدين، لكن ل يعني ذلك البتة أن

نستسلم للدين كما هو، ل، إن التأويل ضروري، والتأويل ابن التاريخ، وهو الذي يحافظ على علقتنا مع الواقع ويحفظ صلتنا بالماضي، إن التأويل هو ما يصنع منا مواطنين في عوالم متعددة وبأبعاد وأسئلة مختلفة، وليس العقل

والتأويل نفسه من يمنح الدين القدرة على الستمرار والتأقلم والتعايش، ومن ينفخ بداخله روح التاريخ وليس التقديس.المرضي لقراءة ضد قراءة

كما يخطئ فايدنر، الذي ظل سجين عقله التنويري ول شعوره الكولونيالي، حين ينتقد القرآن لنه في نظره "يضج بالمتخالفات"، فغنى القرآن يكمن في تناقضاته، تلك التناقضات التي ل يفهمها عقل النوار والتي يرفض الصوليون المتزمتون العتراف بوجودها، فتلك التناقضات من تسمح للمسلم بأن يصوم ويفطر، ويتيه ويؤوب، ويذنب ويعف،

ويجد تبريرا للتدخين، واختيار امرأة أو رجل آخر، وليحيا في النهاية كما يريد، وهي من تجعل النص أكثر حياة ومضاء، من تصنع وحدته، فوحدة الدين في تعدد أصواته، في تناقضاته، في لبسه ووضوحه، ركاكته وبلغته، غناه

...وفقره ولم ل في محاسنه وتشوهاته يبدأ الكتاب برحلة فايدنر إلى تونس وينتهي بعودته منها على متن باخرة إلى جنوا، شاب نهم باكتشاف الجديد،

الكتاب يصف لقاء هذا الشاب بمجتمع ودين مختلفين، دين سيشغل باله ويؤرق فكره، اعتنقه أو أوشك على اعتناقه.. ويشمئز القارئ حين يقف على بعض ما جاء في الصفحات الولى للكتاب والتي تتحدث عن سخرية الشاب من

عنوان أول سورة في القرآن، سورة البقرة، الذي اعتبره عنوانا سخيفا، وقد يقدم أي قارئ على إغلق هذا الكتاب حين قراءة هذه الصفحات، لكنه سيفقد متعة مواصلة الرحلة، رحلة هذا الشاب اللماني عبر عالم عربي سقيم طيلة سنوات طويلة وعبر أفكار وقضايا هذا العالم، وليتذكر القارئ بأن كاتبنا كان يومها، وهو يشمئز من البقرة ويفضل

!الخنزير عليها، صبيا في السادسة أو السابعة عشرة من العمر وليتذكر أيضا أن ليس على الصبي حرج

ميزوجينيا

كان السبان يبررون حقهم في فرض سيطرتهم على أمريكا اللتينية باسم الدين. مدعين بأن السكان الصليين يمارسون اللواط الذي يعتبره السبان ضد الطبيعة. وطبعا فإن السبان لم يكونوا ليعاملوا من يتصرف ضد الطبيعة

على أنه انسان. ويذكر ميشائيل روس في "الحرب والرقص" رأي رجل الدين الفرنسي جوزيف فرانسوا لفيتان بسبب سلوكهم النثوي. روس يرى بأن1724الذي انتقد "البرداخ" وهم هنود حمر مخنثون في كتابه الصادر سنة

رجل الدين الفرنسي انطلق من وجهة نظر أوروبية حول النثوية، نظرة ترى النثوية كشيء منحط وتحتفي بالرجولة التي تجترح البطولت أو بلغة روس التي تجترح الحرب في مقابل النوثة التي ل تستطيع أن تحارب والتي يتوجب طبقا لذلك السيطرة عليها. لكن الهنود الحمر نظروا إلى ابناء جلدتهم المخنثين كأشخاص مقدسين

يحظون باحترام كبير ويشاركون في كل الطقوس الدينية. إن الخر يظل وفق النظرة الوروبية المركزية موضوعا للسيطرة ويستحق التنقيص من قيمته، لنه مختلف ولنه يخلخل نظام النا وأنوية النظام. وطبعا، يقول روس، في

28

28

Page 29: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

ثقافة ل تعرف أكثر من جنسين: المؤنث والمذكر، ل يمكن النظر إلى الجنس الثالث كأمر طبيعي، بل ل يمكن لهذه الثقافة إل أن تكبته وتقمعه وتدينه وتعاقبه. إن "البرداخة" يقول روس، ليس بامرأة ول رجل، بل هو يعني داخل

أو هو آدم قبل أن تظهر حواء إذاثقافته الخاصة "المتحول"، لربما هو المتحول داخل الجناس أو المسافر عبرها، . لكن لنعد إلى روس الذيرغبنا في قلب القواعد وتوجيه سهام النقد على طريقة فوكو إلى نحور من فرضوها

يرى أن الثقافة الصلية للهنود الحمر كانت تعرف مساواة بين الجناس ولم يكن معيبا داخل هذه الثقافة أن يضيف الرجل إلى خصاله بعضا من الخصال النثوية أو العكس. إن حفريات روس تقودنا في النهاية إلى حقيقة بديهة. إن

عجز الوروبيين عن فهم هذا البناء الجنساني يعود إلى مرض متأصل في الثقافة الغربية ويتمثل في الميزوجينيا أو بغض النساء. إن الختلف بين "السيطرة الرجولية" و"الدونية النثوية" الذي يؤسس لنظام القيم الغربي، حاضر

وبقوة في التاريخ السياسي للغرب وكل المجالت الثقافية من دين وعلم وفن. فكيفما كان العدو في أحد هذه المجالت تجري محاولة نفي صفة الرجولة عنه، بل وحتى القتلى ينتقم منهم عبر خصيهم أو اغتصابهم. إن الحرب نزع لصفة

الذكورة عن الخصم وهذا ما شهدناه في الصور التي وصلتنا عن تعذيب السجناء في سجن أبو غريب، وحتى اليتيمولجيا تفضح هذه المركزية الذكورية، فكلمة "أنثوية" تعني في اللمانية القديمة "الضعف" في حين أن كلمة

!""باد" (سيء) تعني في النجليزية القديمة "المؤنث

الوحدانية

ينضم أدونيس بأطروحاته "النقدية" حول الوحدانية التي عرضها في برلين، إلى كوكبة من المفكرين القدامى والمعاصرين، عرفوا بانتقاداتهم الصارمة والجارحة أحيانا للديانات التوحيدية. ونكتفي في هذا السياق بالتنويه

بشخصيتين فكريتين داخل المجال الثقافي اللماني المعاصر، عالم المصريات يان آسمان والفيلسوف أودو.ماركفارد

يان آسمان الذي يطرح في محاضرته الشهيرة :"الوحدانية ولغة العنف" سؤال مشروعا وفاضحا في آن:"لماذا تصف النصوص النجيلية تأسيس وفرض الديانات التوحيدية في تلك الصور العنيفة؟ وهل ترتبط فكرة الوحدانية،

والتي تؤكد على عبادة إله واحد بدل من آلهة متعددة أو التي تفرق بين الدين الصحيح والدين الخاطئ، إله حقيقي وآلهة خاطئة، هل ترتبط بالعنف؟". ليجيب على سؤاله بأن الوحدانية دين، تلعب فيه موضوعات العنف والحق

.والذنب دورا كبيرا، مقارنة بالديان الوثنية فكرة أكدها أدونيس في محاضرته، حين أشار إلى أن البعد اليديولوجي كان ضعيفا في الوثنية، وأن الديان

.التوحيدية تخطت عتبة اليمان وتحولت إلى إيديولوجيا ولم تنتج الوحدانية في نظر أدونيس سوى الحروب والدمار، بل ويرى أن مقارنة بين الوحدانية والوثنية، ستظهر

بأن العصر الوثني كان أكثر إبداعا من عصر التوحيد سواء في الفن أو الفلسفة أو الدب. إن الوحدانية، يقول أدونيس:"اختزلت العالم في رؤية محددة، وكانت إيذانا بانحطاط البشرية، فما يهيمن اليوم هو لغة العنف والتكفير

."باسم الدين إن الرؤية الوحدانية، يقول أدونيس:" تقول إن نبيها هو النبي الخير. ثانيا إن الحقيقة التي ينقلها هذا النبي الخير

هي الحقيقة الخيرة، ومعنى ذلك أن النسان ليس له ما يضيفه، وما عليه سوى أن يطيع وينفذ وأقسى ما يمكنه فعله هو تفسير النص. إن الوحدانية تضع العالم أمام باب مغلق. وليس النسان وحده من ل يستطيع أن يضيف شيئا ولكن

."الله نفسه لم يعد له ما يقوله وسبق ودافع عن هذه الفكرة الفيلسوف اللماني أودو ماركفارد، الذي ما برح يتساءل: ماذا تنفعنا الحقيقة إذا صنعت

منا عبيدا؟ فالوحدانية في نظره تتعارض مع الحرية، لنها ل تسمح سوى بحقيقة واحدة وتاريخ وحيد، في حين أن تعدد الديان هو من يحترم فردية النسان، ويؤسس لها. إذ كما يقول في "سول ديفيزيوني":" إن فصل السلط داخل

."المطلق، هو من يمنح النسان حريته، ومن يسمح له بالتحقق كفرد و ل يرى أدونيس بأن مشكلة الدين تكمن في التطبيق، بل إنه يؤكد على أن المشكلة تكمن في الدين نفسه، مؤكدا بأن الحقيقة تاريخية وليس سجينة نص أو معتقد. لكنه أشار إلى أنه ل ينتقد سوى الدين الذي يتخطى الفرد ليفرض نفسه

29

29

Page 30: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

على الجماعة، وليحتكر الحقيقة لنفسه. ففي رأيه:"حين يتحول الدين إلى مؤسسة أو سلطة، حين يحشر الله نفسه في."العالم يتحول إلى مشكلة

ويرى أدونيس بأن الديان الوحدانية شاخت، ول يمكن حل مشكلت العالم إل بإعادة النظر جذريا في الرؤية الوحدانية للنسان والعالم، معرجا على واقع المجتمع العربي المعاصر، المحكوم بالرؤية الوحدانية، شاهدا حيا،

.على عبث المطلق بالحياة، الديني بالدنيوي، والماضي بالحاضر، ونتيجة طبيعية لثقافة الستسلم لجتهاد السلف كان أدونيس منسجما مع أطروحاته السابقة في أطروحاته حول الوحدانية، ولم يتوقف عن ممارسة سياسة "المحو"،

"أمحو وجهي، أكتشف وجهي". فالبن ل يتحرر إل إذا قتل أباه، على حد تعبير فرويد. لكن قد ننظر اليوم إلى أطروحات أدونيس، كنوع من التفكير المتقادم، المسكون في اللوعي بالدين، أو الوجه الخر للحقيقة الدينية. فنبرة

الخطاب الوثوقية، ونظرته الثقافوية، التي تختزل مشاكل العالم في الدين، ورفضها المطلق لكل ما هو ديني، ل!يمكنها أن تؤسس للتعدد وقد تؤسس لتطرف آخر نحن في غنى عنه

كونديرا والرواية

واصل كونديرا في كتاب "الستار" تأملته بفن الرواية. تلك التأملت التي بدأها بكتابه فن الرواية والوصايا المغدورة. يقف القارئ أمام كتاب من نوع خاص. روائي يفكر في فنه، ويجرؤ على التساؤل أو اعادة اكتشاف تاريخ هذا الفن وميكانيزماته المتغيرة باستمرار، بحثا عن جينالوجيا مفتوحة يعجز أمامها كل فعل تأريخ. الرواية ابنة زمن

بل هوية. زمن يتيم. ولكن رغم أن كتابة كونديرا حول الكتابة ل تدخل في باب الكتابة الكاديمية التي نست الحياة فابتلعتها النظرية، ورغم أن كونديرا يعطي الكلمة للرواية نفسها دون أن يأخذ بعين العتبار الشطط الكاديمي

.لموظفي الدب، لكنه يجازف غالبا بالسقوط في فخ ارادة القول الرواية لدى كونديرا فن تمزيق الستار، وليس الستار سوى التأويلت الموروثة والجاهزة والحكام المسبقة

المترسخة بالوعي الجمعي. الرواية تجرؤ على الحقيقة، حقيقتها أو بالحرى حقائقها التي تتناقض والحقائق المنتشرة والمطلقات المستحكمة بل وتتناقض مع نفسها في أغلب الحيان. ففي عالم الرواية المفتوح والنسبي، نعيش تعددا في

الصوات والحقائق، وباروديا للشبيه والحادي، ولربما في هذا السياق يتوجب علينا فهم نقد كونديرا لكل اكتفاء قومي أو انغلق ثقافي. ولكن أليست كل كتابة حول الرواية ارادة قول، بما أنها ل تهدف ال الى رسم حدود هذا الفن

وتحديد منطقه؟ كونديرا يترك الكلمة للرواية. الرواية تبني كنيستها الخاصة بها يقول باختين وتمتلك افكارها. وفق هذا المنطق

تستقل الرواية بنفسها عن الفلسفة وبرفضها واخراسها لصوت الشاعر تنأى بنفسها عن الشعر. يمكن أن نأخذ على كونديرا وهم أن الرواية تتحقق في استقلل عن المواقف والشكال الفلسفية والشعرية. فخصوصية الرواية تتمثل في

أنها شكل يضم بداخله كل الفنون، ويظل مفتوحا على كل المواقف، وعبر حواريته وتعدده يمكنه أن يظهر عماء الموقف الفلسفي أو سذاجة الرؤية الشعرية كما يمكنه تأكيد عكس ذلك. ولذلك فالرواية ل تملك تاريخا خاصا بها ول تدعي امكانية امتلكه، فهي المسرح الذي تلتقي فيه وتتنسب فيه كل التواريخ، والروائي ليس مفروضا عليه دائما أن

يبتعد عن ذاته حتى يكتشف العالم، بما أنه هو نفسه وذاته نفسها جزء ل يتجزأ من هذا العالم، وعبر فنه يمكن أن.يخرس صوته أو يطلق له العنان

كونديرا يدافع في كتابه عن تصور موضوعي للرواية، وعن روائي يظل سجين دهاليز الواقع، مستقل عن واقعه الشخصي، لكن الواقع شيء والحياة شيء آخر. والزعم بأن وظيفة الرواية، أو بأن للرواية وظيفة تتمثل في اكتشاف التجربة البشرية، وظيفة حسب كونديرا ل يمكن أن تقوم بها أشكال التأويل الخرى، زعم متطرف. فليس القول من

يصنع الرواية ول فعل الكشف الذي هو فعل فلسفي وشعري وعلمي ايضا، أو طريقة القول. فالرواية حتى في شكلها تظل مرتبطة ارتباطا وثيقا بفنون القول الخرى. الحوارية، تعدد الصوات والضحك، هذه العلمات المميزة للرواية

.حسب كونديرا نصادفها ايضا في الفلسفة والمسرح والشعر

30

30

Page 31: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

تظل الرواية اذن مجرد فصل في كتاب النثر الكبير، والذي يضم فصول متعددة، ومثل كل فصل في كتاب ليست .مستقلة بذاتها ول هي مجرد تكرار أو اجترار للفصول الخرى

آفاق الرداءة

يعلن بلنشو في "الفضاء الدبي" بأن الجوبة ل تتمتع بالحياة إل في الحقب السعيدة. وقبله بعقود دافع لوكاتش في كتابه الشهير "نظرية الرواية" عن نفس الفكرة، التي ترى أنه لم يعد بالمكان أن يحذو المرء حذو هوميروس في الكتابة. ذلك لن هوميروس "وجد الجواب، قبل أن يسمح النمو التاريخي للفكر بطرح السؤال". إن لوكاتش يكتب

أيضا، مؤكدا الفكرة نفسها "الغريقي يعرف أجوبة، ولكنه ل يعرف أسئلة، يعرف حلول(وإن كانت ملغزة)، ولكنه ل يعرف ألغازا، يعرف أشكال ولكنه ل يعرف فوضى". لقد أكد لونغينوس، الكتاب الغريقي القديم في كتابه "عن الرائع" بأن الرائع حنين إلى اللوهية، إنه يعود بنا إلى ذاتيتنا الخالصة، إلى عمقنا، إلى حقيقتنا اللهية، فهو يرفعنا

إلى مصاف اللهة. والكتاب الكبار هم في نظر لونغينوس، آلهة. وداخل مفهوم الرائع ل مكان للطفل أو الحمق، ولمكان لكل من ل يعرف قيمة العقل والخلق، ولكل من ل يتمتع بحريته كاملة، كالعبيد وأمثالهم. إن الرائع في اليونان القديمة: صوت الله. وفي الستيتيقا الترانسندنتالية لكانط، يرتبط الرائع صميميا بالعقل والخلق. ولدى

هيغل في "الستيتيقا" هو تعبير عن الروح المطلقة، عن توافق الفكرة والشكل، عن تماهي العقل بالتاريخ. إن الرائع في هذه الرؤية، مغلق ومنسجم، مقدس ومفارق. وأهم تعبير في تاريخ الدب عن الرائع هو الملحمة". في المقابل

يمكن اعتبار الرواية شكل من أشكال الرائع المتمردة على كل حقيقة، المدنسة والممزقة، وبلغة أخرى، يمكن اعتبارها التعبير المثل عن الرديء. فالرواية شكل ل نهائي وغير مغلق، لنها ل تسعى إلى التعبير عن مثال

أخلقي معين، مغلق ومطلق. فداخل عالم الرواية لمكان للنسجام والقواعد. إنها تملك شكل هجينا ومفتوحا، وإذا ما استعملنا لغة امبرتو إيكو، لنها تتمتع بتسييمية لمحدودة. فالرواية تعبير عن عالم ممزق. لكن التمزق شرط تحقيق

الحوار. إذ مع الرواية سيغادر المرء عالم الهوية والحقيقة. إنها، حسب لوكاتش، تعبير عن العراء الترنسندنتالي. وقد ذكر بعض النقاد أن دوستويفسكي ظل دائما يردد بأن روحه مريضة، ويمكننا قول الشيء نفسه عن الفن

الروائي، فهو تعبير عن هذا المرض وعن هذا التمزق الذي ألم بالعالم، إنه تعبير مبهم، متعدد، مفتوح ومقلق. ومع الرواية يغادر المرء "البساطة السعيدة" على حد تعبير بلنشو. إنه أمام فن ل يمكن العودة به إلى شكل أحادي

البعد، إمبريالي المعنى. فالرواية صوت من ل صوت لهم، من نساهم أو تناساهم الكرونيكور الرسمي، وهي تاريخ من عاشوا وقضوا خارج التاريخ، إنها تاريخ أولئك الذين عاشوا حياة ل تستحق التأريخ من وجهة نظر التاريخ

الرسمي. وإذا طلبنا الحديث عن مميزات "موضوعية" للرواية، فيمكن أن نلخصها في ثلث، دون أن نزعم أننا بذلك نكون قد أمسكنا بجوهرها وحقيقتها: إنها الواقعية والحوارية والضحك. إن الرواية عودة إلى الوجود. لقد عبر

إدموند هوسرل في آخر ما كتب "أزمة النسانية الوروبية والفلسفة" قائل بأن أزمة الفكر الوروبي تضرب بجذورها حتى فلسفة ديكارت وغاليلي. إنها تعود إلى العلم الذي اختزل العالم في موضوع للكشف التقني والمادي،

. واستنادا إلى رأي هوسرل، يرى ميلن كونديرا في "فن الرواية" بأن ثربانتسوالذي نسى الحياة الواقعية للبشر يؤسس إلى جانب ديكارت للزمنة الحديثة. ويرى أنه في اللحظة التي تناست فيها الفلسفة والعلوم الوجود البشري، لم يكن للرواية لدى ثربانتس من هدف آخر سوى اكتشاف هذا الوجود المنسي والمكبوت. وهو يسرد رأي هرمان

بروخ، الذي يرى بأن مهمة الرواية هي الكشف. فالرواية التي ل تكتشف شيئا، هي في نظره رواية لأخلقية. غادر ثربانتس بيته وقريته ليكتشف بأن العالم صار بل مأوى. منذ البداية كانت الرواية تعبيرا عن هذا العراء

الميتافيزيقي، عن هذا الرحيل الفجائي لللهة، عن هذا الضياع الذي يتربص بالنسان وأوهامه واعتقاداته، عن هذا التضاد الحاد بين شعرية الداخل ونثرية الحياة ورداءتها. تعبير عن عالم تمزقه الفكار والحقائق المتناقضة. إن

كونديرا يسمي ذلك "حكمة الليقين"، ولربما ذلك ما دفع كونديرا للقول أيضا في كتابه السابق الذكر، بأن الرواية ل علقة لها بالتوتاليتارية، ذلك أن التوتاليتارية ل تسمح بتعدد الصوات وطرح السئلة، ولنها تنشد الروعة. وهذا

غوته يكتب في "الديوان الغربي والشرقي" بأن الفرس لم يعرفوا المسرح لن الستبداد ل يسمح بالحوار، وهو ما يمكن أن نقوله أيضا عن النظمة التوتاليتارية التي لم تتوقف حتى اليوم عن مصادرة الدب وحرية التعبير. ففي ظل هذه النظمة ل يمكن للرواية أن تنضج وتتطور، ذلك أن أجوبة حديدية تحكم الواقع والبداع وتلجم كل صوت نشاز

31

31

Page 32: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

وتقف ضد صيرورة الكشف، والفن، في ظل هذه النظمة، ليس أكثر من تأكيد لتلك الجوبة واحتفاء بها. "الواجب.يقتل الحياة" كتب لوكاتش في "نظرية الرواية"، لكن المبدع الروائي اختار الحياة ل الواجب

ل الفلسفة اليونانية في محاوراتها ول المسرح اليوناني يمكن أن نقول عنها بأنها أشكال حوارية. لقد أكد لوكاش ذلك وهو يتحدث عن شخصيات التراجيديا اليونانية قائل:"كلهم يفهمون بعضهم البعض، ذلك أنهم جميعهم يتكلمون نفس

اللغة، وكلهم يثقون ببعضهم البعض حتى لو كانوا أعداء ألداء، ذلك لنهم جميعهم يتجهون بنفس الطريقة نحو نفس المركز ويتحركون على نفس المستوى، هو مستوى وجود مزود من الداخل بماهية متطابقة مع جوهرها". إن

شخصيات المسرح اليوناني شبيهة ببعضها البعض، فالتراجيدا بناء منسجم ومحكم ورؤية إلى العالم أحادية. وذاك شأن الفلسفة حتى فيما يتعلق بالمحاورات، يؤكد ذلك كل من دولوز وغاتاري، فسقراط الشخصية الرئيسية في كتاب الجمهورية لم يتوقف البتة عن جعل الحوار مستحيل. لقد طرح أسئلة على أصدقائه، لكنه كان يعرف الجواب مسبقا. لقد حول الصديق، إلى صديق لمفهوم واحد. إن الحقيقة سابقة على الوجود وليس هناك من جديد يكتشفه الحوار. لكن

الحوار في الرواية تعبير عن الحيرة والقلق، لذلك أصاب دريدا حين بين في "الصوت والظاهرة" بأن الفلسفة منذ أفلطون وحتى هوسرل محكومة بالمركزية الصوتية. إن صوت الفلسفة هو صوت الوعي ل صوت الحياة، صوت الوعي الترنسندنتالي الذي يشكل العالم ويكونه كما يريد كما يقول التأمل الخامس لهوسرل. دريدا يعيد قول ما سبق

لهايدغر قوله في "الهوية والختلف" من أن الفلسفة الووربية منذ أفلطون محكومة بالواحد والهوية، فرغم أن تاريخ الفلسفة يحدثنا عن فلسفات ثنائية وأخرى تعددية وأخرى ضد كل نظام، لكن الطابع الغالب هو طابع الوحدة ل

.الختلف فقط مع ظهور الرواية، هذا الفن المديني بامتياز نكتشف الحوار. إن الحوار ابن الزمنة الحديثة ونتيجة البتعاد المستمر عن الدين وعن الحقيقة. لقد أصبح الفن مع الرواية صوتا للحياة النسانية اليومية وللذات الممزقة، لما

أو العجز عن اتخاذ قرار، أو كما كتب فرويد عن دوستويفسكي:"لقد قضى حياته حتى آخربالدوستويفسكيةأسميه أيامها، حائرا بين اليمان واللحاد"، وقد عبر كل من دولوز وغاتاري عن نفس الفكرة حين فرقا بين أبلهين، الول

مفكر خاص، ضدا على المفكر العام (السكولئي). الول اكتشف النا، اجترح فعل التفكير وطور مفاهيمه بنفسه. إنه ديكارت. أما الثاني فهو أبله دوستويفسكي، الذي كان هو الخر مفكرا خاصا، لكنه لم يبحث عن حقيقة، بل عن العبث. فالعبث عنده أعلى تجليات الفكر والحرية. ولذلك كان لوكاش على صواب حين أوضح بأن الحمق لم يجد

مكانا في الشكال الدبية القديمة، بل فقط ابتداء برواية دون كيخوته. البله الول حاول فهم العالم، ووجد ملذه في اللنهائي أما الثاني فيطلب اللفهم وينشد الضياع والعبث. يقول لوكاش:"لقد وجد الروائي جوهره الحقيقي في عدم

الرغبة في المعرفة وعدم القدرة على المعرفة". دون كيخوته رواية حوارية والحوار داخلها ل يقوم فقط بين شخصين ولكن بين ثقافتين، الثقافة الرستقراطية والثقافة الشعبية وهو نفس ما يمكن أن نقوله عن "أبله"

دوستويفسكي، حيث الحوار حوار بين نظرتين غلى العالم، بين الحقيقة أو ميشكين، الجنبي والبله الذي يمكنه أن يقول الحقيقة، فليس على البله حرج وبين آجليا يبيتشينا، رمز النظام الرستقراطي السائد. في رواية دوستويفسكي

المتعددة الصوات، لوجود لسارد عليم يمسك خيوط السرد، ويخرس أصواته متى شاء، بل إنا نصطدم بعوالم وآراء ولغات متعددة ومتناقضة فما كان بالمس مهمة الروائي، أصبح اليوم مهمة الشخصية الروائية يقول باختين.

لقد حقق دوستويفسكي الذي ألقى أحد أبطال روايته البله بكتاب قواعد اليونانية القديمة تحت الطاولة، حقق ثورة كوبرنيكية داخل الفن الروائي، حين أعطى لبطال رواياته حرية رسم مصائرهم بأنفسهم، حين أعطاهم الحق في

الكلم. إن الحوارية تجعل من الرواية فنا مفتوحا، فنا ل يعرف الطمأنينة الساذجة ول ينشد الحقيقة وقد ينشد التناقض، أو ينشد الضحك. وليس من قبيل الصدفة أن يصف كونديرا في كتابه "فن الرواية" الفن الروائي بضحك الله. فالضحك تعبير عن "الرديء". لدى لونغينوس كما لدى كانط ليس للضحك أية علقة بإحساس الروعة، لن الضحك ل يمكن أن يكون تعبيرا عن الحقيقة ولنه ل يحتاج إلى عقل. فهذا كانط يقول مثل، مفرقا بين التراجيديا

والكوميديا بأن الولى إحساس بالروعة والثانية إحساس بالجمال. ل يمكن وصف الكوميديا بالروعة لنها فن ضاحك وقد نصفها بالجميلة. ففي عالم الكوميديا ل نعثر على آلهة أو أنصاف آلهة ول على حقائق كبرى وملغزة

بعكس التراجيديا، هذا العالم المحكوم بالقدر واللم والشقاء. في عالم التراجيديا كان ممنوعا على اللهة أن تضحك، كان عليها فقط أن تأمر وتعاقب وترسم مصائر البشر. لكن مع الرواية سوف تتعلم اللهة الضحك، والضحك حتى من نفسها وسوف تنزل من علياءها إلى حارات المدينة الشعبية وضجيجها ورداءتها. في "اسم الوردة" كتب إيكو

32

32

Page 33: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

بأن الكنيسة في القرون الوسطى كانت تحرم الضحك لن الضحك يحرر النسان من الخوف ومتى تحرر النسان من الخوف لم تعد به حاجة إلى إله". لربما كان الفضل أن يصف كونديرا الرواية بضحك البشر، لن التراجيديا

والفلسفات والديان علمتنا بأن اللهة تملك دائما مزاجا سيئا وأنها غيورة كما يقول العهد القديم وأنها ل تضحك ول تشبعها سوى الدماء. تحدث باختين في "الدب والكرنفال: حول نظرية الرواية وثقافة الضحك" عن الضحك الذي بنى كنيسته الخاصة به ضد الكنيسة الرسمية في القرون الوسطى، إن ثقافة الضحك كانت تعبيرا عن الحياة اليومية

والجسدية للبشر، عن الحرية وعن الحقائق الشعبية البديهة والرديئة. في حين أن ثقافة الجد لم تعترف يوما بالضحك:لنها ل تحسن سوى فرض الوصايا وإعطاء الوامر ولهذا اصاب باختين ل غرو حين كتب

الحكم، العنف، السلطة ل يتكلمون قط لغة الضحك". كان الضحك تعبيرا عن وعي تاريخي جديد وأحد أكبر ممثلي" هذا الوعي في القرون الوسطى المتأخرة رابليه. لقد شحذ أسلحة السخرية والباروديا ضد الثقافة الكنسية السائدة

!وعلمنا أن نعيش الحياة كما هي، ل كما يجب عليها أن تكون

سحر البارودياوفاًء لنجيب محفوظ

ل تملك قصص القرآن إطارا حكائيا محددا فهي مبعثرة على طول النص القرآني فالقرآن كماباروديا/ القصة. ذكر محمد أحمد خلف ال يجري في قصصه على أساس القصوصة ل القصة الطويلة، وطبعا فإن توزع قصص

القرآن وتكرارها لم يكن بدون غاية، إذ أن القرآن ارتبط صميميا بالذاكرة، إعادة إنتاج لعالم المثل الفلطوني حيث المعرفة تذكر والجهل نسيان. ول نغالي إذا قلنا إن تلك القصص ل تملك إطارا حكائيا محددا، على العكس من ذلك

قدمت"أولد حارتنا" لتلك القصص إطارا حكائيا محددا ومنظما ومنسجما بنيويا، رتبتها في الزمن بعدما كانت تائهة، مسافرة عبر النص، سجينة دهاليز الذاكرة وفعل التذكر. وهذا يعني أن الرواية ستهتم بالبعد التاريخي لتلك

القصص، هذا البعد الذي تجاهله "تاريخ ما فوق التاريخ" لن هدف القرآن لم يكن نقل الحداث وإنما عبرة الحداث كما أشار إلى ذلك أحمد خلف ال. القرآن تفاعل "ايديولوجيا" مع قصص القدمين، عاد إليها ل ليعيد كتابتها فحسب

وإنما ليبث فيها شيئا من لوعيه وحقيقته وعصره وذاكرة هذا العصر. ولكي نفهم ذلك ل بد كما قال أركون من القيام "بنقد تاريخي من أجل تحديد أشكال الخلط والحذف والضافات والمغالطات التاريخية للروايات القرآنية في علقتها

بمعطيات الواقع التاريخي. وبعد ذلك القيام بتحليل بنيوي من أجل توضيح كيف أن القرآن أنجز ـ بطريقة الفكر السطوري الذي يشتغل على أساطير قديمة، مبعثرة: شكل/معنى جديدين يتميزان بوظيفة خاصة في اللغة العربية".

إن المغالطة التاريخية تتجاوز الباروديا فهي أكثر تدميرية وتتجاوز المحاكاة الساخرة إلى اقتراف الخطأ. والخطأ ابداع لحقيقة مناهضة، أو لحقيقة جديدة تقوم على أنقاض حقيقة قديمة. إن القرآن الذي وصفته الثقافة السنية

الورثدكسية بالكتاب غير المخلوق، الذي ظهر قبل العالم، يبدو هنا نتاج حواره وتفاعله النقدي والبارودي (كلمة حمالة أوجه) مع حقائق العالم القائمة. إن هذا يؤكد ما ذهب إليه لورانت جيني من أنه ل وجود لنص عذري، لنه ل

وجود لنص خارج شروطه الثقافية والتاريخية، وهي الفكرة التي يقول بها أركون ونصر حامد أبو زيد. أول عمل ستقوم بها أولد حارتنا بناء الطار الحكائي المتشظي لقصص القرآن، لتقدم لها إطارا حكائيا جديدا. العلقة بين

الرواية والقرآن أشبه بما أسماه جيني بتحريف الطار الحكائي عبر التناص: "التناص مستعمل كآلة حرب، تسمح ببعثرة نظام الحكي.." وفي هذا السياق بتنظيمه ، التنظيم الذي ل يعني أكثر من بعثرة للبعثرة وتحريف للتحريف.

لكن كيف تم هذا التفاعل مع المادة الحكائية؟ إن هذا التفاعل ل يمكن أن يظهر إل عبر مساءلتنا للحداث والشخصيات. فعلى صعيد الحداث هناك حضور لمحاكاة واضحة لقصص القرآن. وهذا النوع من المحاكاة بينه

جيرار جينيت، أو حصره في ثلثة أنواع: الول يتمثل في تحويل نص سام إلى مضمون منحط، أو بالخروج به من نفق الرائع إلى أفق الرديء، إنه تحويل وتحول داخل المضمون، اما النوع الثاني فيمس السلوب، إذ يحرف السامي

عن طريق إعادة كتابته في أسلوب منحط دون المساس بمضمونه أما النوع الثالث فيستعمل أسلوبا ساميا لمعالجة مضمون منحط. وعمل أولد حارتنا يدخل في الشكل الثاني حيث تم الحتفاظ بالموضوع كما هو، اي المادة الحكائية

33

33

Page 34: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

و"الحقيقة التاريخية" في حين اختلف طريق عرضها وأسلوب ذلك العرض. وكما أن القرآن لم يذكر كل أحداث القصة التاريخية كما بين خلف ال، كذلك لم تذكر الروية كل أحداث القصة القرآنية، ولربما هذا ما يرقى بها هي

الخرى إلى مستوى المغالطة التاريخية، لكن هذا ل يغير شيئا في طبيعة العلقة التي أسستها مع النص السابق في.هذا السياق والتي يمكن أن نسميها بالماضوية

على صعيد الشخصيات ل بد أن نشير إلى أن نجيب محفوظ حرف أسماء النبياء كما بين ذلك جورج طرابيشي، وليمكن أن نخطئ الشبه الكبير على القل على المستوى الصرفي بين أدهم وآدم وقدري وقابيل وهمام وهابيل....

فالرواية انتزعت شخصياتها من النص وبيئتهم في حارة مصرية وصورتهم على شكل فتوات، في قالب انساني وضعتهم في أحشاء التاريخ، في صراع معه، بشر هم ل أنصاف آلهة. وحين أكدت بأن علقة الرواية بأحداث

القصة القرآنية محاكاة واضحة، فإن هذا ل يخل بنظرتها "النقدية" ونبرتها "الساخرة" في قولها للماضي والنص. كان محفوظ ينهي كل فصل من فصوله الماضوية بقوله "ولكن آفة حارتنا النسيان". عبارة تذكرنا بالية القرآنية

المنخرطة في التقليد الفلطوني:" وتذكروا يا أولي اللباب". كما أن محفوظ يظهر في فصوله الماضوية تعاطفا مع شخصيات الرواية التي عكست حياة النبياء، لنه يثق بداخله في عظمة لحظة النبوة وأهمية ما قدمته للنسان. ولن

هدفه الساس لم يكن السخرية منهم، وإنما رسم الوجه الحقيقي للنبوة والدين باعتباره نضال في التاريخ ومن أجل النسان وفضحا لستغلل السلطة لهذا الدين وتحويلها المستمر له في نوع من "الباروديا السياسية" للحظة النبوة

."المتوهجة، إلى مصحف أو إلى وصايا. فالكتاب، كما يقول أدونيس: "كان دائما سيف الخليفة

◄ يعرض جاك بيرك لتفسير ماسينيون للزمن في صورة الكهف ويقول:" إن الزمن في هذهباروديا/ الزمن. السورة تحد لزمن البشر، وخاصة لتصور النسان الغربي عن الزمن. اللهوت أو بالحرى التصوف السلمي، في ارتباطه بفيزياء ذرية يجهل أو ينكر الزمن الستمراري، إنه يحوله إلى لحظات محددة، مملوءة بكثافة نوعية، باختصار، الزمن السلمي لن يكون متسلسل، سيكون حسب صيغة متوهجة لماسينيون "مجرة من اللحظات"".

إن اللجوء إلى الكهف يملك دللة عميقة في هذا السياق، فهو أول لجوء خارج الزمن، وهو شبيه باللجوء إلى النص في ثقافتنا العربية المعاصرة وإلى الجبلوي وحكاياته في الرواية. ولربما هذا ما حذا بشبنغلر إلى وصف الحضارة

العربية بحضارة "الكهف" في مقابل حضارة "السهم" الوروبية. وسنرى كيف أن الباروديا كما تمارسها أولد حارتنا ستنتقل على مستوى الماهية والزمن من الكهف إلى السهم. إن اللجوء إلى الكهف يهدف حماية القيم اللهية

التي ل يمكن أن تستمر في الحياة إل خارج الحياة. ويتحدث أركون في "قراءة القرآن" عن الزمن القرآني قائل:"الخطاب القرآني يرجع إلى ثلثة أزمنة مترتبة: زمن الحياة العاجلة أو الزمن القصير الذي يمتحن فيه

النسان من طرف ال، وزمن الموت ومدته الزمنية غير محددة وزمن الحياة الخالدة". إذن فرغم التعدد الزمني الذي نلحظه على مستوى السرد القرآني، حيث يتداخل الماضي بالحاضر والمستقبل ويغيب تسلسل الحداث كما بين جاك بيرك، إل أن هذا التعدد يفقد قيمته أمام امبريالية النظرة إلى الزمن، بل أمام إغلق الجتهاد في الزمن. من هنا يجب التفريق بين زمن الحقيقة وزمن السرد، فقد يكون السرد أكثر انفتاحا وتعددا ولكن زمن الحقيقة واحد ومعطى

وسابق على الزمن. هذا التقسيم سيسيطر على الرواية أيضا، رغم أنها في نهاية المطاف ستتحرر منه، وإن على صعيد الرؤية أو الحقيقة، في حين لن يختلف تعالمها مع الزمن على مستوى السرد عن تعامل الرواية الكلسية، حيث يسيطر تسلسل الحداث على تشظيها. ويقسم جاك بيرك هو الخر الزمن القرآني إلى ثلثة أزمنة:"الزمن

المعيش، الزمن المرجعي أو الماضوي والزمن المستقبلي". وفي الزمن المرجعي تتموقع قصص القرآن، في الماضي إذن. والقرآن الكريم يعود إليها دائما ليستخلص العبرة. ولن الزمن القرآني ليس بالزمن الخطي المحايث

للزمن كما بين ماسينيون، فإن جاك بيرك يرسم هذا الزمن على شكل دائرة يتوزع عليها الزمن المعيش والمرجعي والمستقبلي، دائرة يقطعها خط أسود، لون الرؤية التمامية التي تكره اللوان، يبدأ من لحظة الخلق أو بداية العالم

ويقطع الدائرة إلى نهاية العالم ولحظة الجزاء أو العقاب. ويا لهول العقاب! كما لو أن السهم يريد أن يؤكد أنه رغم تعدد الزمنة في القرآن على مستوى السرد، فهي مسجونة الفق، محدودة الرؤية على مستوى الحقيقة. إذ ل بد من

.القول هنا بأن المستقبل، كل المستقبل، عرف في الماضي

34

34

Page 35: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

◄ رغم تأكيد القرآن الكريم المحكم والقاطع أن ل علقة له بالنص السابق عليه وهو الشعر، إلباروديا/ السلوب. أن الفقهاء اضطروا من أجل فهمه للعودة إلى الشعر، كما بين ذلك نصر حامد أبو زيد في "مفهوم النص". إن هذا

دليل مادي على العلقة البنيوية التي تجمع القرآن بالشعر، هذه العلقة التي قد تتحكم بفهم القرآن. لكن سؤال السياق حول طبيعة السلوب القرآني. فالسلوب القرآني تمتزج فيه الشاعرية بالنثرية كما بين ذلك جاك بيرك. وأحيانا قد تستقل الشاعرية بسور بأكملها كما هو الحال في القرآن المكي وقصص القرآن خصوصا، فمن منا ل يقرأ الكهف

وتغرورق عيناه بالدموع؟! وقد تستقل النثرية بكل آيات الحكام، كما هو الحال في اليات التي تعرض للرث. كان طه حسين على صواب حين بين بأن القرآن ليس شعرا ول نثرا ولكن قرآن. ولذلك، وكما بين أبو زيد، حرص المسلمون على التفريق بين الشعر والقرآن. حاول نصر حامد أبو زيد أن يظهر عمق العلقة التي تربط ديوان

العرب القديم: الشعر بديوانهم الجديد: القرآن. علقة أكدتها أيضا الكتابات العجازية القديمة، دون أن تؤكد شأن أبو زيد أنها علقة تتجاوز السلوب إلى ماهية الوحي نفسه. ويؤكد أركون نفس الفكرة في دراسته للعجيب في

القرآن:"اللغة الدينية مرتبطة بالمنطق الشعري أكثر من ارتباطها بالمنطق العقلني، إنها تغذي الخيال والعاطفة أكثر."مما تسجننا في مقولت وتحديدات وقواعد

لكن ما الذي يميز أسلوب الرواية عن السلوب القرآني؟ قبل الجواب على هذا السؤال ل بد من طرح سؤال آخر كان باختين قد طرحه في "الخطاب الروائي": ما الذي يميز لغة الرواية عن لغة الشعر؟ إن الحوار يرى باختين، ل

يدخل في "الموضوع الستيتقي" للعمل الشعري بل يخمد داخل الشعر في حين يصبح في الرواية أحد مظاهر السلوب النثري. في عالم الرواية المفتوح واللنهائي، ل وجود للغة واحدة، لغة الداخل كما هو الحال في الشعر،

فداخل الرواية هو الواقع بلغاته المتعددة والمتنافسة فيما بينها. داخل القرآن ل يتحقق الحوار على مستوى السلوب، لن السلوب واحد ل متعدد داخل السلوبية الوحدانية، فالحوار، إذا ما كان هناك حوار يقوده السارد العليم ويخرسه

متى شاء، بعكس الرواية التي تقف الشخصيات خلف موقفها، حتى أنه قد تتفق شخصيتان روائيتان في موقف دون أن تتفقا في أسلوب التعبير عنه. إن الرواية تختلف عن الشعرية الدينية أو السلوبية الطهرانية ورغم أن جاك بيرك

في كتابه عن القرآن ذكر نقل عن النقاد الفيلولوجيين بأن السلوب القرآني متعدد، إل أنه تعدد داخل الوحدة، أو تعدد يتكلم لغة واحدة، تعدد مصدره النص ل الواقع بلغاته ورؤاه. وبعد أن انتقلت الرواية عموديا من السماء إلى الرض أريدها فلسفة ترابية يقول زرادشت نيتشه، وبعد أن بيئت المادة الحكائية في المجتمع المصري المغلوب على أمره،

تنتقل أفقيا من السلوب الحمدلي المنغلق على أصواته وأقانيمه إلى السلوب الروائي المتعدد والمتناقض، إذ صارت اللغة معطاة من الخارج ل من الداخل. تحقيقا لما قاله باختين من أن الرواية نضال ضد بطليموسية اللغة وامبرياليتها ونرجسيتها وإيمان بغاليليتها ونسبيتها وموضوعيتها لقد عملت الرواية على أنسة السلوب اللهي، ورغم تردد لفظة

ال وسياقاتها داخل الرواية كما ذهب وأحصاها حسن حنفي في قراءته، إل أن ذلك لم يكن ليطبع أسلوب الرواية.بطابع ديني

◄ أجمعت الديان التوحيدية على أن التاريخ البشري إن هو إل تاريخ النحطاط البشري وعلىباروديا/ الحقيقة . أن العصر الذهبي هو الماضي،أو لحظة النبوة. إن هذه النظرة المغلقة إلى الزمن ترفض كل اختلف. لكن العصور الحديثة ستؤسس لفكرة التقدم التي سيفجرها العلم، فالعلم ل هوية له وهو ل يقدس نتائجه بل ل يتوقف عن مساءلتها وإلى هذه النظرة العلمية ينتمي "عرفة" صانع المتفجرات في أولد حارتنا وصانع العالم الجديد: النسان، في مقابل

العالم القديم: الوصايا. سيقتل عرفة الجبلوي أو يتسبب في موته، سيقتل العالم القديم، عالم الذاكرة كما قتل قابيل المزارع هابيل الراعي. نقرأ في الرواية:"إن كلمة من جدنا كانت تدفع بالطيبين من أحفاده إلى العمل حتى الموت،

موته أقوى من كلماته، إنه يوجب على البن الطيب أن يفعل كل شيء، أن يحل محله، أن يكونه، أفهمت؟!". إن تجاوز الحقيقة يستدعي نوعا من الكاريكاتورية أو شحذ سلح الكاريكاتور. يقول أمبرتو إيكو:"ل أقدر من

الكاريكاتور على الكشف والبانة، لكونه يبدي الموضوع ممسوخا مع عدم كونه كذلك". فحين ترسم لنا الرواية الجبلوي كشخص فوق الدميين، طوله فوق طول البشر، وحين ترسم تناقضه مع نفسه، اعتزاله الناس، وحين تجعل للبيت الكبير سورا كبيرا ل يستطيع أحد تسلقه ـ إل بسلطان ـ وحين ترسم عرفة وهو يحفر تحت السور،

يحفر مثل ديكارت أو هيوم، يحفر لنه لم يكتف كالخرين بالتحديق بالسور، حين ترسم كل ذلك فإنها ل تفعل أكثر

35

35

Page 36: العقل قاطع الطريق رشيد بوطيب

من شحذ أسلحة الكاريكاتور التي تراود الحقيقة عن نفسها، وتسقط القناع عن قداستها الواهية، تنسبها حتى تصبح.الحقيقة جزءا من العالم، ل العالم جزءا من الحقيقة

لماذا لم تتطرق الفلسفة للشكر؟ إن خطاب الشكر ل يمكن أن يتضمن حقيقة أخرى غيرآَخُر الخطاب وآِخره شكر. أني مدين للخر، مفتقر إليه، مقبل عليه. أو هو يتحقق خارج الحقيقة، في الخلق. ابن رشد كان أول من ساق كلمة الشكر في خطاب فلسفي، حين تحدث عن عرفانه بجميل الفلسفة اليونان. العرفان بالجميل في مقابل العتراف، أو

الخلق مقابل السياسة أو الصداقة مقابل السلطة. ليكن التاريخ عرفانا بالجميل ل صراعا من أجل العتراف!

36

36