تحقيق خلافـة الإنسان على الأرض

تحقيق خالفـةاإلنسان على األرض

تأليـفجميل الرويلي

تحقيق خالفـةاإلنسان على األرض

تأليف جميل بن صبيح

الرويلي

إهـــداء

إلى اإلنسان حيثما كان ...

مقـدمـة

الحمد لله والصالة والسالم على رسول

الله وآله وصحبه, أما بعد:

فإن لكل شيءٍ أصل يرد إليه، وما ليس له أصل فليس له حقيقة، ولهذا تجد أن الله تعالى يرد كل

شيء مشكل في فهوم البشر إلى أصله الذي نشأ منه؛ بل إنه ليس في الكون شيء إال وقد اخبر الله عز وجل عن أصله األول ونشأته األولى إال نفسه المقدسة

تبارك وتعالى؛ وذلك أنه األول فليس قبله شيء، واآلخر فليس بعده شيء، أو كما قال اإلمام الطحاوي في عقيدته " األول بال ابتداء " . وهذا واضح لمن تتبع

الحجة اإللهية في القرآن .

قد يتصور الباحث عن الحقيقة المنجية أنه سوف يجدها ذات فتح من الله جمعاء ليس فيها من جدعاء في نص من نصوص الكتاب أو السنة، فيقول : هذه منجيتي، فهي حق ألنها في الكتاب أو السنة، وهي

النجاة ألنها من الله, وهذا غير صحيح, فما أكثر الحقائق الموجودة في نص من نصوص الكتاب العزيز أو السنة الصحيحة؛ ولكنها في ذاتها حقائق جدعاء، قد

يظنها اإلنسان " حقيقة مكتملة البناء " مع أنها جزء من حقيقة كلية كبيرة مركبة الصور والمعاني, فحتى

بمدةالشريعة لم تكتمل إال قبل وفاة رسول الله وجيزة، بل أنه في حجة الوداع تكلم عن صفة من

صفات الله الذاتية وهي صفة العين فقال: »إن ربكم ال

5

مقـدمـة

يخفى عليكم, إن الدجال أعور وإن ربكم ليس . فحتى الكالم عن صفات الله لم يكتمل إال(1)بأعور«

قبل وفاته عليه الصالة والسالم بعام واحد, فكيف تأتي الحقيقة بعد كل هذا في موطن واحد جمعاء ليس فيها

من جدعاء؟. إنما تأتي الحقيقة مفرقة مبثوثة في كتابk؛ لتكتمل الصورة الله وسنة رسوله يشد بعضها بعضا ويتضح المنهج، فال يقال حينها بتناقض وال بنقص وال

بتفاوت، وال يتعارض العقل والنقل، وال يتشابه الفهم علينا، وال نمارس " األثرية العضين " التي مارسها

الخوارج من قبل، وال " الجاهلية الرومانسية " التي يمارسها العصرانيون والعلمانيون اليوم المبنية على

مبدأ أن الحق في السعادة، وأن الطبيعة البشرية هي ملة إبراهيم التي ينبغي لكل البشر أن يجتمعوا عليها,

ويزعمون أن اإلسالم قائم على هذا, ولكي ال نمارس " اإلسالم النفعي " عند بعض الدعاة اإلسالميين في هذا العصر من أهل االجتهاد الرخيص المبني على" الدعوة

التجريبية إلى الله " والذين يسخرون اإلسالم لكل مشكلة تنوب أهل األرض, فمن مشكلة السمنة

وتصلب الشرايين التي قاموا بحلها بأحاديث فضل المشي إلى الصالة إلى مشكلة الثقوب الكونية

k من السوداء على أطراف المجرة التي سمعت شيخا كبراء هذا المنهج يقول إنها ذكرت في القرآن, أال تقرأ

؟!, ولكل قوم(2)قوله تعالى: )والسماء ذات الحبك( وارث!, فقد سبق هؤالء القوم إلى هذه النفعية المادية

رجل أعرابي كان يجلس على مائدة سليمان بن عبد الملك يلتهم الفالوذج فقال له سليمان: أتدري ما

تأكل؟ قال األعرابي: إن مذاقه لهني، وإن ازدراده لمري، وال أظنه إال الصراط المستقيم الذي ذكره الله

.(3 )في كتابه !. متفق عليه )(1.7 الذاريات : )(2 .3/341 جمهرة خطب العرب ، )(3

6

مقـدمـة

لمثل هذه المناهج وأهلها ولكل باحث عن الحقيقة الكلية في مسألة خالفة اإلنسان على األرض أجتهد في

نظم هذه الكتابة االستداللية التي أرجو من الله أن يكون أصلها ثابت وفرعها في السماء, على منهج رب

العالمين في حجته على خلقه بإعادة كل شيء إلىأصله األصيل, والله حسبي ونعم الوكيل .

كتبه /

أبو بكر جميل بن مون;س الصبيح الرويلي [email protected]

7

مقـدمـة

فصول الكتاب:

الفصل األول: الجاهلية الرومانسية. العقيدة الرومانسية.* الشريعة الرومانسية.* اإلرهاب الرومانسي. * نهاية اإلنسان الرومانسي.* اإلسالم الرومانسي.*

الفصل الثاني: المقدمات األوليةللتصور الصحيح:

مفهوم الحقيقة والمجد.* أصل العلم كله من الله.* حقيقة الكون والنظام.* قصة نشوء الكون وإثبات الخالق*

والمخلوق.

الفصل الثالث: معرفة مقومات العالموعناصره الفاعلة:

صفة آدم وحواء.* صفة الشيطان.* تكريم آدم ومعصية إبليس.* الواقع والواقعية.*

8

مقـدمـة

الفصل الرابع: تحقيق االستخالف فياألرض:

سكنى األرض وإعمارها ليس غاية*في خلق بني آدم.

معنى العبودية.* االستخالف ال يتحقق إال بإقامة*

الميزان الكوني والشرعي. الخالفة الشريفة لإلنسان في*

األرض.

خاتمة الكتاب.

9

10مقـدمـة

الجاهلية الرومانسية

12الفصل األول: الجاهلية الرومانسية

الفصل األول: الجاهلية الرومانسية

العقيدة الرومانسية الرومانسية مذهب أدبي ثم فلسفي في تعاطي

التصورات واالنفعاالت اإلنسانية ومناقشة الكون والحياة . نتج في أصل نشأته عن اضطراب المجتمع المدني في فرنسا ثم ألمانيا ثم بقية المجتمعات في

أوروبا التي فقدت الدين ثم فقدت روح المبدأ الجماعي ثم فقدت الحقيقة في معنى الحياة عندما

أيقن اإلنسان األوروبي أن ثورة فرنسا ليست إال صيحة رجل مجنون, جمعت الناس على أمر ال يعلمون لماذا

اجتمعوا عليه!.

لقد كان االتجاه الرومانسي هو أول النتاج النفسي للحضارة المدنية ولهذا تجد في سماته كل مؤثرات

المدنية الصلفة, فهو يميل إلى الالمعقول وينبذ القواعد واألصول ويطلق أجنحة العاطفة في سماء التصور بال

حدود؛ ألن المدنية تقيد اإلنسان في قفص من إسمنت مسلح وتحوله إلى مجرد آلة في ورشة عمل كبيرة,

شعوره هو آخر شيء يحق له أن يتكلم عنه حتى يعود إلى من زله من جديد. وألن اإلنسان الغربي مازال

يحمل في نفسه "عقدة االضطهاد النظامي" الموروثة عن سيطرة الكنيسة ولصوصها في الحقبة السابقة

فقد صار يمقت الشكلية المنظمة والترتيب السلوكي والحكم المسبق على المبادئ العامة, ولهذا يمتاز

المذهب الرومانسي بفرط األنانية الشعورية وتسلط الخيال الفردي دون أي اعتبار لكل مقومات التصور

،k والشعور المشترك, ولهذا تجد األب الغربي كاثوليكيا,k k وثنيا وزوجته بروتستانتيه، وابنته ملحدة، وابنه بوذيا

وستعلم كيف آل بهم الحال إلى هذا الوضع بعد نهاية هذا الفصل من الكتاب, وهذه ردة فعل طبيعية للشعور بالتهميش واالحتقار اآللي الذي ينتج عن طبيعة جريان

13


الحياة المدنية التي ينساب الناس في شعابها كماk سوى تتدافع الثيران من باب الحظيرة ال تعرف شيئا

أنها تريد أن تجتاز تلك المدنية التي تفتت أفراد المجتمع فيها في خاليا المصالح المدنية الكثيرة الناتجة عن تنوع المعامالت والتداخالت؛ حتى يشعر الفرد بأنه

في سجن انفرادي مع أنه يعيش بين ضجيج المصانعوالناس!.

ترتبط كلمة )رومانسية( في أذهان الناس بالجلسة ذات األنوار الخافتة، أو تحت ضوء القمر، أو الكالم

�ب؛ وهي في حقيقتها الغزلي، أو المنظر الطبيعي الخال أكبر وأشمل وأعمق من هذا الفهم التطبيقي الساذج؛

ألنها منهج حياة وتفاعل وتصور يسيطر على الداخل الشخصي والخارج االجتماعي، وهي مرحلة أصدق ما يطلق عليها بمرحلة التشويش ألجل التغيير وليست

كما يصورها أصحابها بأنها التنظير ألجل التغيير.

سنناقش تعريف الرومانسية على لسان القوم الذين ولد في أحضانهم هذا المذهب, حيث عرفها

. وعرفها ووتر(1)جوته بأنها: مرض وضاللة مهلكة! . وأصدق من(2)هاوس بأنها : جهد للهروب من الواقع

عرفها هو اشعيا األلماني حيث قال : طغيان الفن على . والفن هنا يقصد به الخيال الحر الذي يترتب(3)الحياة

على تصوراته السلوك النفسي واالجتماعي وليس هو الغناء والرقص فقط!, وإن كان يدخل فيه الغناء

والرقص ولكن بعقيدة وهدف كما يزعمون!!, ولهذاk ما نسمع من يقول: " الفن رسالة! ", أما الغناء كثيرا والرقص بال عقيدة وبال هدف فهذا ما يسمى بالجمالية

التي هي الفن من أجل الفن! .

.256 موسوعة المصطلح النقدي: )(1.164 موسوعة المصطلح النقدي: )(2.164 موسوعة المصطلح النقدي: )(3

14


وأهم أصول الرومانسية هو طغيان الخيال الشخصي على الذات، بحيث يبني كل فرد عقيدته

تجاه العالم بنفسه دون أي قيود، والخروج عن النسق والقاعدة، وأن يكون له الحق في التعبير عن كل ذلك

كيفما يشاء.

وقد ذكرت ليليان فورست في بحثها المتخصص في الرومانسية, مقاصد الرومانسية التي أعلنت في

نجد أن مرحلة مانهاية القرن الثامن عشر, فقالت : قبل الرومانسية تتحرك بفعل نفور حقيقي من كل ما

كانت تمثله الكالسيكية, التي هي تعظيم النظام واحترام الماضي, مثل: قواعد بليدة, أناقة سطحية, نمطية, ترتيب, آراء محددة, تكل�ف, أعراف, وعظية,

.(1)حضارة القصور, الحفاظ على الوضع الراهن وتقول : ففي كل مجال كان التوكيد على ما هو

طبيعي ضد ما هو عقالني، وعلى التلقائي؛ ليأخذ مكان المحسوب، وعلى الحرية لتكون بديال عن الخضوع

. ثم تتكلم عن الجماعات األولى التي تبنت(2 )لنسق الرومانسية فتذكر الرومانسيين األلمان : جوته ــ شيلر ــ هردر ــ كلينكر ــ لنتز ــ بركر, كانوا في ثورة ضد أي

مذهب منظم أدبي, اجتماعي, سياسي, أو ديني ففي اندفاعهم العام للتخلص من قيود الماضي, رفضوا جميع مظاهر الوضع الراهن وكل ما كان يهم في

الحياة كما في الفن هو النبوغ األصيل الخالق لدىk للتعبير عن خبرته الفرد الذي يجب أن يكون حرا

k ثم تتكلم عن جماعة الرومانسيين .(3)الشخصية تلقائيا األوائل : كانت فئة الرومانسيين األوائل بؤرتها األخوان

شليكل, فريدريك وقد شملت من الشعراء فكندور وتيك ونوقاليس, والمفكر الديني شاليرماخر،

.196 موسوعة المصطلح النقدي: )(1.197 ـــ196 موسوعة المصطلح النقدي: )(2.211 موسوعة المصطلح النقدي: )(3

15


والفيلسوفين الطبيعيين شيلنك وبآدر والفيزيائي ريتر!. ولم تكن هذه الشمولية محض تعبير عن هوس تقليدي

ألماني بالثقافة, فقد كانت نابعة من النظر إلى الرومانسية بوصفها إعادة تقويم وجودية شاملة كان

k لها أن تشع من الشعر لكي تقلب العالم مقدرا . وأنا هنا ألفت االنتباه إلى هذا النقل األخير فقد(1)أجمع

ذكرت أن الرومانسية يقوم عليها العالم والفيلسوف والمفكر الديني! والفيزيائي, بل والصحيح أن

الرومانسية يدخل فيها حتى البغايا والعاهرات؛ ألنها مبنية على تقديس المعتقد الشخصي، وحرية التعاطي مع الحياة، وفتح األبواب لإلنسان لكي يمارس الطبيعة

البشرية بال قيود، حتى أن أحد المنظرين األوائل م, وهو هيوم قال في كتابه )القول1739للرومانسية,

في الطبيعة البشرية(, الكتاب الثاني, القسم الثالث, » العقل هو اإلنسان, ويجب أن ال المقطع الثالث:

يكون العقل سوى العبد للعواطف! «. وفي نفس م,1757الحقبة الزمنية ألف منظر آخر هو ديديرو,

كتاب )اإلبن الطبيعي( أي ابن الزنا, يمهد فيه للرومانسية القادمة!, ونفس هذا االسم حمله فيلم سينمائي تم طرحه قبل سنوات قليلة وحصد الكثير

من الجوائز!, فنحن ال نتحدث عن مذهب منقرض أو غير فع�ال فالرومانسية تبث في بيوتنا, بين أطفالنا ونسائنا, بل إني رأيت لوحة دعائية على جسر في

مدينة خليجية وقد كتبت عليها إحدى القنوات الفضائية دعاية لفيلم سوف يبث عليها )تابعوا معنا األب

الطبيعي( على قناة كذا وكذا, واألب الطبيعي هو الزاني والد االبن الطبيعي!. وهذا الذي يحدث هو الذي يسمونه: )دعوة العودة إلى الطبيعة! ( وهو الذي على

أساسه تم في المغرب وتونس ولبنان تشريع قانون )الزواج المدني( أي الطبيعي!, بمعنى أن أي ذكر يحق

له أن يتزوج أي أنثى!, فهذا هو قانون الطبيعة بال.221 موسوعة المصطلح النقدي: )(1

16


تفاصيل رجعية زائدة!. ولو تكلمنا بواقعية لوجدنا أن القائم على األسرة ال يستطيع السيطرة على ثقافة من يربيهم على مستوى الفرد والفردين فكيف بمن يقوم على الماليين في فضاء مفتوح!. العصر القادم هو عصر الثقافات الشعبية وليس ثقافة الحكومات،

والذين سوف يخوضون صراع الهوية هم أفراد الشعوب وليست الحكومات في أغلب األحيان، ولهذا

فإن العصر القادم هو )عصر العقلية الفردية العصامية(، التي يجب أن تبني نفسها بنفسها؛ لتعرف

الحقيقة وتنجو من الضالل . كما أنه )عصر الرقابة الذاتية( الذي سوف يدوس بقدميه االستباحيتين كل

المنافقين والمرائين والمتذبذبين والهالميين، فإما أنتخلص لله بصدق، وإما أن تذهب إلى الجحيم!!.

لم تكن الرومانسية كمذهب هي مجرد أداة شعرية أو أدبية وحسب؛ بل كانت في أصل نشأتها حاجة

اجتماعية أملتها تطورات المجتمع المدني الذي لم يكن يتصور كيف تركب فتاة أوروبية تقليدية ذات ثوبه خلفها على دراجة هوائية متجهة إلى طويل تجر�

العمل!, وال كيف يخرج السيد البرجوازي المهيب من قصره بنصف مالبسه ليدور على قصره ويطبق نصائح الطبيب بكثرة الجري والحركة!, وتتابعت االحتياجات، وتتابعت الخروقات لألعراف والتقاليد على المستوى الفكري، ثم االجتماعي والسياسي، ثم بدأت مرحلة الدعوة إلى الطبيعة والتلقائية ونبذ القواعد والتقاليد

ورفض الوضع الراهن بكل تفاصيله، ثم بتطبيق ما قاله اشعيا األلماني في تعريف الرومانسية : » طغيان الفن

k k عالميا على الحياة «. وذلك بجعل الرومانسية مذهبا لمناقشة الوجود والحياة دون أي قيود. و قد تكلم كارل

ماركس في " البيان الشيوعي " الذي أصدره قرابة م عن العولمة االقتصادية و الفكرية فقال1845عام

بأن من تداعيات سيطرة رأس المال أن الدول العظمى ستتغلغل , و تعشش في كل مكان و

17


ستستخدم قوتها لفرض نفسها على بقية العالم , و أن الموروث المحلي بكل تقاليده سينهار نتيجة اقتحام الثقافة الخارجية له و سيتبع ذلك انهيار ثقافي يتبعه

نشوء أدب عالمي يحمل غالبا صفات الدول العظمى التي تمتلك رأس المال , و قد أبدع ماركس في هذا

البيان في تصور مصير العالم على يد الرأسمالية . فالذي نمر به اليوم طور(1)بشكل يشبه النبوءات

طبيعي كان متوقعا جدا و هو سمة عالمية , و ليس كما يصور البعض بأنه " مجرد مؤامرة " على اإلسالم ,

فمع وجود شيء من التآمر فهناك واقع مادي حتمييفرض نفسه اقتصاديا و ثقافيا و تقنيا .

عندما يسقط المبدأ العام، وتخلوا الشوارع من األعراف، ويصبح ليس من حقك وال حق أي أحد أن

ينكر أي شيء ألن الحرية المدنية تمنع ذلك, عندها لن يكون لإلنسان مكان يمارس فيه إنسانيته إال في بيته،

وال أمان إال في صمته، وال حرية شخصية إال في الرومانسية!, ولهذا تجد أن من طابع اإلنسان المدني

شدة الحذر من إبداء رأيه في التجمعات والمرافق العامة، وكثرة الصمت، والرغبة في االنطوائية على معتقداته الخاصة؛ حتى تجاه المجتمع؛ بل حتى تجاه

نفسه . وهذا ملحوظ في أي إنسان غربي !! والناس يعتقدون أن هذا من فرط لباقتهم و ذوقهم ؟!

والصحيح أنه من شدة شعورهم بالغربة خارج منازلهم،k لهم، وال فهم يوقنون حق اليقين أن الشارع ليس ملكا

ألي أحد من الناس؛ وإنما هو للمدنية الصلفة!.

ال تعترف الرومانسية بالثوابت، وال تعترف بالمعقول، وال باألعراف، وتثور على كل القيود

الكالسيكية كما يسمونها, وتقد�س الطبيعة البشريةk ناتج والكونية وتدعو إلى الرجوع إليها, وكل هذا أيضا

عن مؤثرات المدنية . فالثوابت إما أن تكون دينية، وال

البيان الشيوعي , كارل ماركس , فريدريك إنجلز .)(1

18


k من الفنون دين في المدنية التي تعتبر الجنون فنا المعلنة, وإما أخالقية، وال أخالق في المدنية الصلفة؛

k إال إذا رافقه إقدام أو إحجام، ألن الخلق ال يكون خلقا والمدنية ال أحد يستطيع أن يناقشها، فهي كتروس الساعة، واإلنسان عقربها الذي عليه أن يتناغم مع

حركة التروس الخفية تحته، فينضبط ويعبر عنها بدقة، وإال سوف يلقى في أقرب برميل زبالة!, ألنه ال ينضبط

وال يمثل المدنية التي ال تؤمن إال بنفسها!. وال تعترف الرومانسية بالمعقول!! ألنها ال يمكن أن تكون عاقلة،

k عن رغبة بالجنون . حتى قال أحد وهي ناتجة أصالk أكابر المذهب الرومانسي: ال يمكن أن تعطي تعريفا

k!. فعندما يختزل للرومانسية دون أن تكون مجنونا العالم إلى بيت صغير وغرفة صغيرة تمارس فيها

إنسانيتك, وعندما يختزل الكالم على كثرته في حفنة عبارات تقولها لرئيسك في العمل, وعندما يختزل

األمان والثقة على ذات اإلنسان فقط ويصير كل من سواها أغراب وانتهازيون، وعندما يختزل الشعور

واالنفعال النفسي إلى لحظات يقضيها اإلنسان في فسقة ليلية، أو رقصة هستيرية في السحر بين

صرخات الموتورين من أمثاله، فال بد أن يكون الحل في الهروب إلى عالم آخر ال يعترف بالمعقول وال

بالنظام!.

قد ال يتصور البعض أن الكفر أو الفسوق عن أمر المبدأ الموروث بما في ذلك الدين والعرف ربما يكون

رغبة ذاتية نتيجة اإللحاح النفسي بضرورة إثبات الذات . فالمجتمع الذي يعيش الفرد فيه وهو يعتقد أن

مجتمعه هذا يسلب اإلنسان كل القدرة على تمثيلk لتحقيق المعتقد نفسه يورث في النفس اندفاعا

الشخصي مهما كان انحرافه؛ ألن هذا اإلنسان المدني المفعم بالعقد االضطهادية تجاه بيئته يتحين أي فرصة

لكي يثبت ذاته المهمشة ــ بحسب ظنه ــ فإذا كان هذا ال يتحقق إال بمعزل عن مالحظة اآلخرين وسيطرة

19


المدنية الصلفة التي ال تعترف بقيم ثابتة يقايس اإلنسان عليها ذاته من حيث نفاسة ما عنده وتفاهته فإنه لن يكون إال في زوايا النزعة الرومانسية التي

وسع خيال المؤمنين بها اإليمان بشخصية الرجل السوبرمان الذي يشبه في قدراته الخرافية المهدي المنتظر عند الرافضة والذي بمجرد ما أن يرفع يديه في الهواء يطير فال ينزل إال على سطح الشمس أو

القمر, وهذا يدلك على ما بلغته العقلية األوروبية لإلنسان العادي من حيرة وضيق ورغبة جامحة في

نجدة تأتي من السماء لتنقذها من هذه الجاهلية الرومانسية, فكان ذلك سوبرمان, عج�ل الله فرجه

كما يقولون , ثم بعد أن سقط الممثل كريستوفر ريف الذي يمثل شخصية سوبرمان , فأصيب بشلل رباعي

م , لم يستطع الغرب البقاء بال "2004ثم مات عام نصف إله "جديد يجد فيه سلوته فاخترع شخصية "

الترمونيتور " و هو عبارة عن رجل نصفه آلي و نصفه اآلخر بشري يمارس نفس المهام النبيلة إلمام الزمان

الغائب المشلول سوبرمان , عجل الله فرجه !!.

الشريعة الرومانسية أشير هنا إلى أن سلب اإلنسان الحق في أن يمثل

نفسه في الحياة بشكل كامل بحيث ال يأمر بما يراهk لمثل وأخالقيات k تبعا k وال ينهى عما يراه منكرا معروفا عليا يجتمع عليها كل المجتمع, أمر خطير له عواقب

فصامية تورث نزعات اضطهادية تجاه المجتمع وقوى السيطرة فيه, وما التكفير ومثله العلمانية واإلباحية

في عصرنا إال أعراض لهذه العقد االضطهادية. وربما

20


نتج عن هذه العقد االضطهادية تصورات خاصة لدى الفرد يقابل فيها شعور التهميش واالحتقار الناتج عن

سوء تصرفه بنفسه وجهله بالحقيقة المتعلقة بذاته وبالكون وبحقوقه وحقوق الناس من حوله وبحق الله

عليه قبل كل شيء, لهذا يقول الله تعالى )ومن يرغب قال ابن كثير: »(1)عن ملة إبراهيم إال من سفه نفسه( . فهذه الركاكة(2 )ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره! «

في تصور العالم بشكل واضح هي سبب الجنوح األول في عقيدة اإلنسان المنضبط, وهي مصدر الفسوق

واإللحاد وربما الكفر وهي التي يسميها علماء السلف بالزندقة؛ أي أن ال يكون له عقيدة معلنة واضحة،

ويبطن عقيدة خاصة يقد�سها ويضفي عليها هالة منk للحياة بتجاهل تام التصورات الخرافية، ويجعلها منهجا لمجموع الناس وظروف البيئة من حوله, وال يلزم من

اإلنسان المتزندق أن يكون يضمر المكيدة لإلسالم فربما نتجت زندقته عن )دوافعه اإلنسانية الذاتية(, ولهذا كان ابن تيمية رحمه الله يقول لمناظريه من

الجهمية : بأن قولهم كفر؛ ولكنه ال يكفرهم ألنهم جهلة, مع أنه يكفر من يقول بقول الجهمية. فكم حفل

التاريخ بشخصيات كانت تنافح عن زندقتها والسيوف فوق رقابها حتى قتلت على ذلك . والشيء الذي أريد

أن أصل إليه هو أن المجتمع إذا أصبحت لديه قناعة بأن الدين أداة حكم مدنية وليس له طعم العبودية وال لونها, وأزيلت عنه )ص£بغة الله( التي ذكرها في كتابه,

وأن أكثر أحكامه هي رغبات تراثية قديمة مشكوك في صحة ثبوتها ال تمثل أهل األرض وال أهل السماء, وأنه

سياسة من السياسات ونظام إدارة سلوكي مع إغفال تام لمعنى الحسنة والسيئة, فحينها سيكون قبول

k k ونفسيا أحكامه وإمالءاته بال تعليل نفعي مقنع فكرياk من البالهة والخنوع المخجل, وعندها تجد أن ضربا

.130 البقرة: )(1 .256 /1 تفسير ابن كثير ،)(2

21


k من مناقشة ما يسمونه: )عجرفة الدين( ستكون أمرا باب المراجعة الفكرية والتنظيم السلوكي, ثم بعد ذلك ينشأ جدار الوحشة بين المكلفين وبين مفهوم المجتمع

المتدين, ذلك المجتمع الذي صار الناس ينظرون إليه أنه في تصوراته وعقوباته ال يختلف عن أي شرطي أمي منفعل يقدس النظام وال يعرفه، ولو أراد تنفيذ

عقوبة لما استطاع كتابة قسيمة مخالفة بها, فهو صورية ساذجة تقف حجر عثرة في طريق الناس

وتزعم أنها سفينة نوح, ثم بعد ذلك تنشأ الرغبة الذاتية بالفسوق والتمرد الشخصي، ثم العائلي، ثم

االجتماعي، ثم تتطور خطوات المدنية المسخية التيلن تنتهي إال بالكفر المقد�س المسمى الحرية!.

دعت الرومانسية إلى الطبيعة والعودة إليها وكانوا يريدونها )عودة جذرية وحشية( بحيث ينسفون كل

المبادئ المعرفية المكتسبة المتعلقة باألخالق والعقائد والسلوك . وسأضع هنا هذا النص المخيف المرعب ثم أعلق عليه, الذي كتبه أحد مؤسسي الرومانسية وهو

م, في كتابه : )أقوال في1759األمريكي يونك, الـتأليف األصيل( والذي يعد بحق الجذوة التي أشعلت

الرومانسية في أوروبا بعد ترجمته, يقول في صفحة : » فيمكن القول بأن األصيل ذو طبيعة خضرية,45

k من جذور النبوغ الحي, وهو ينمو وال فهو يرتفع تلقائياk نوع من الصناعة يخرجها أولئك يصنع, والتقليديات غالباk ليست اآلليون بالصنعة والجهد, من مواد موجودة سلفا

مما يعود لهم «, هكذا بكل هذه الجرأة الطاغية على ميراث البشرية بأسرها!. فهو يقول بأن اإلنسان

األصيل في تطوره هو الذي يبني مراحل التطور على قدراته الذاتية البحتة النابعة من طبيعة ذاته النفسية

والعضوية كما تنبت النبتة من أصل بذرتها تستمد منها مقومات الرقي ثم ترتفع وتنمو دون أن تدخل في ذاتها أي شيء ليس منها، وهذا ما يعنيه بقوله : » ال يصنع « . ثم يصف ما ينتج عن الناس الذين ليسوا أصيلين بأنه

22


صناعة آلية أي أنهم يأخذون المبادئ من بعضهم البعض التي حصلوا عليها من أسالفهم سواء كانت

سلوكية أو عقدية أو تصورية فكرية ويمزجونهاk الستفادتهم من ذلك المزيج . وكالمه ويتطورون تبعا واضح في أنه يدعو إلى نسف كل المعتقدات الدينية

والعرفية واإلنسانية وبناء )اإلنسان الشخصي( الذي الk على غرائزه يمت بخبرات اآلخرين بصلة معتمدا

وانفعاالته الذاتية، وهذا ما يسمى عندهم تارة اآللية الميكانيكية إلى اآلليةبالتلقائية، وتارة بترك

العضوية، وكلها تعني: )العودة إلى الطبيعة!(. الرومانسية هي األصل األول من حيث المبدأ لكل

ما نراه اليوم؛ ولكن عندما تعلقت بالدولة والشعب صارت علمانية، وعندما تعلقت باالقتصاد صارت

رأسمالية، وعندما تعلقت بالحقوق المدنية صارت ديمقراطية، وعندما تعلقت بالفكر النظري صارت

عقالنية، وعندما تعلقت بمعاني السعادة المجردة في النفس البشرية وبالمصير الشخصي صارت وجودية,

وعندما تعلقت باألخالق والسلوك اإلنساني صارت إباحية, وعندما تعلقت بالعبث الفني والفوضى التعبيرية

وبمعاني الجمال الالغائية صارت جمالية, وهكذا!, بل ان حتى الشيوعية هي تفريع عن الرومانسية؛ ألن

الشيوعية ببساطة عودة إلى الطبيعة التي تنفي حق التملك وتثبت الحقوق المشاعة للجميع حتى أن روسو

م, له كتاب اسمه : )القول في أصل عدم1755 المساواة بين البشر(, يقول فيه بأن االنحالل ينجم عنk حيازة الملكية التي أدت إلى عدم الحضارة، وخصوصا

المساواة، وكان عالجه المقترح مفهوم العودة إلى الطبيعة وإلى ما دعاه )الحالة االشتراكية األولى( وهي

. وقد(1 )تنظيم جماعي أولي يقوم على المشاركة! يظن البعض أن الرأسمالية نظام مادي محاسباتي

اقتصادي بحت ليس له عالقة بمبادئ الرومانسية, وهذا غير صحيح؛ ألن الرأسمالية تعتمد على )اإلغراق في

الشهوة(؛ ألن حب المادة ونفوذها وسيطرتها في

.206 موسوعة المصطلح النقدي: )(1

23


k بالمنسوب الكمي k أوليا المجتمع كل ذلك يتعلق تعلقا للشهوة، والحاجة في التصور الشخصي لكل فرد،

والرومانسية هي الكفيلة بأن تفتح مصاريع الشهوة واالحتياج على آخرها, لهذا تعلم لماذا نصبت أمريكا

القطات الفضائيات فوق بيوت الفقراء في أفغانستان والعراق؟! وفتحت لكل طائفة محطة فضائية قبل أن

تبني لهم خزانات الماء وأفران المخابز ؟!. أما عن كونها هي بذرة العلمانية فأنقل لك نص ما ذكرته ليليان

فورست في سردها تاريخ الرومانسية: » كان صراع الرومانسية في جوهره بين فئة عنيدة وطنية تقليدية,k ملكية في السياسة وكاثوليكية في الدين، وبين غالبا

فئة تقدمية عالمية النظرة تميل إلى التحرر في جميع جوانب نظرتها، وال يعني هذا أن التقسيم كان واضح

م كان ثمة1822المعالم في ذلك الحين فمثال في رومانسيون ملكيون ومتحررون رومانسيون إلى جانب

.(1 )الملكيين الكالسيكيين والمتحررين الكالسيكيين « يقولون بأن الرومانسية ليست بهيمية أنيقة وال

غوغائية ساحرة, خالية من أي تنظيم؛ ألن مؤسسي الرومانسية دعوا إلى التمسك بالطبيعة والعودة إليها، وهذا إطراء فارغ وتمل�ق أحمق لالنضباط الفطري في

نفوس البشر؛ بل حتى في نفوس البهائم, فحتى القطة تأخذ قطعة اللحم من أمامك وهي تتسلل في مشيتها وتخاتل في نظرتها ألنها تعلم بأنها تأخذ فضل

k لها, فحتى غيرها وأن هذه القطعة لم تصنع أصال الحيوانات ال تستطيع أن تنكر االنضباط واألخالق

k, واحترام الطبائع البشرية األصلية أمر سيكون مطلقاk عنهم؛ ألن اإلنسان ال يمكن أن يتنكر لطبيعته رغما

على وجه المنهجية واللزوم؛ وإنما يجنح عن ذلك ثم يعود ال محالة، فليس هذا من ترتيب حبكتهم الفكرية، وال من سابق ترشيدهم الفكري للرومانسية، ألنها في حقيقتها شيء كالمخدر الذي يتداوله الناس، فال يلبث

أن يكون قوت أهل المدينة وسلوتهم؛ ولكنه لن يغنيهم عن الماء والخبز، فكذلك ال غنى لإلنسان عن مقوماته

.231 موسوعة المصطلح النقدي: )(1

24


الطبيعية وإن أغرقته في اإلباحية, ويتضح فشل من يتنكر لهذه الطبائع في أتباع المذهب )الهيـبي(، الذين

صاروا ينامون بين ركام القمامات وتحت الجسور وفيk k مرذوال الخرب والحشوش، ثم يموت أحدهم موبوءا كالكلب األجرب, وألن الطبيعة تعني األكل والشرب

والجماع والتناسل وحب التملك والشعور بالبقاء واالمتداد والتعبير عن الذات، وهذه كلها وغيرها من

األمور التي ال تنفك عن أحد وتالزم حتى المجانين في عنابرهم, وهذه هي األشياء الوحيدة التي تعلن المدنية

الكاذبة األفاكة اليوم احترامها وتقديرها وجعلها من المقدرات االجتماعية المقدسة التي يجب الحفاظ

عليها, وكأنها تستطيع قول غير ذلك!.

25


اإلرهاب الرومانسي تفتح الجريدة وتقرأ فإذا فيها رجال كفقاقيع

k, تشع منه k, أنيقا اقا k, بر� الصابون!, تجد أحدهم منتفخا أطياف كثيرة وألوان مثيرة, يتسامى إلى السماء كأنه قطعة منها, ولكنه خفيف الوزن, فارغ!, ما أن تلمسه

وإذا به ينفجر والماء قد مأل وجهك وغطى عارضيك,k ويمارسون حذلقة عبارات فهم يبصقون العجرفة بصقا المنطق الرياضي والعقالني ببهلوانية, فإذا فشلوا في

تزوير جدول الرياضيات أو قائمة المسلمات في تصور من يناظرون, تغنوا بأهازيج الرومانسية الحالمة بعالم مليء بالعدل والمساواة والحرية الطبيعية والتقدمية

�قة الفع�الة, ونشروا بين يديك سجالت األمة الخال المنكوبة ومساوئ العهد الحاضر األليم والعهد المتحجر

القديم وترتروك وثرثروك وهولوك, ثم قالوا: من ربك؟, ما دينك؟, من نبيك؟!, فإذا وجدوا أنك مازلتk وقد ذهبت k كسيرا k ول�ى أحدهم حسيرا k مؤمنا مسلما

)فيهقاته الفلسفية( كما قال المعلمي عن أباطيلالكوثري : كضرطة عير في فالة !!!.

هذا المنهج التشكيكي الذي يمارسة دعاة الرومانسية, وسمهم كما تشاء, علمانيين, ليبراليين,اشين, مجانين!, عصرانيين, عقالنيين, منص�رين, حش�

المهم أنهم ينتحلون هذا المنهج ليس عن عدوانية تلقائية، وال نفور مجرد؛ وإنما هو عن مكر مسبق، وعن

عقد ذاتية تنتاب أي إنسان على وجه األرض بالرغبة في السيطرة والعلو، وذلك بسبب تلك القطعة الذي

ذكرها ابن القيم عندما قال: بأن في كل إنسان قطعة من الهوى تدعوه ليمارس الربوبية في األرض، فمن

الناس من يضعها تحت ذل العبودية حتى تنكسر وتستسلم لرب العالمين، ومنهم من تكبر فيه هذه

26


القطعة حتى يقول للناس )أنا ربكم األعلى! (, وبسبب هذه القطعة يجد المرء في نفسه شيء من الخجل إذا دعي لالستسالم الالمبرر في نصوص الشريعة, كتقبيل

الحجر أو رمي الجمار أو أن المرأة مرورها يقطع الصالة وال يقطعها مرور النعجة!, كل هذا بسبب تلك النزعة المتعالية على إرادات الله المبهمة والتي هي فعال محك� العبودية الذي يميز الخبيث من الطيب, بال بالهة من المكلف، وبال انقياد أحمق؛ ولكن اتباع من

بعد اقتناع بثبوت النص ولزوم الحجة وصدق العبودية!. إن الخلفية العقدية لدى هؤالء القوم المتحذلقين

على أمر الله ال تؤمن بالعلم الخارجي؛ وإنما العلم هو ما نبع من الداخل كما بينت ذلك في كالم يونك

األمريكي وغيره من واضعي أصول المذهب الرومانسي، فهم ينسفون الخبرات الموروثة،

k، ويربطون مصادر ويشككون في الماضي مطلقا المعرفة بالخبرة الذاتية الفردية والجمعية اآلنية بحيث

يكون الشارع اليوم ومن فيه هم بناة )الثقافة المحترمة األصيلة(، وذلك كما قال يونك : » األصيل له طبع خضري «، ويتم تجاهل الجيل السابق الذي سوف

يكون اسمه اآلن )الكالسيكي(. ثم تبدأ مرحلة جديدة من تقييم الذات والمجتمع والكون تنتج عنها مبادئ

k؛ ألن المعطيات المادية الحاضرة تختلف بال جديدة حتما ريب عن الماديات في الجيل السابق، ولهذا تجد

k في الغرب، فيتحدث األب التفاوت بين األجيال كبيرا ألبنائه عن زمانه وكأنه قادم من العصور الوسطى!, ثم

إذا جاء الجيل القادم سوف يكفر بكل ما بناه هذا الجيل من قيم ثقافية وسلوكية ويسميه بالجيل

)الكالسيكي األخير!( ثم يفعل كما فعل الجيل الذي سبقه, وهكذا يتجدد الكفر والجحود بين األجيال،

والهدم األخرق الغوغائي لكل ما بناه اآلخرون . إن االستمرار على هذه الطريقة الجاحدة الكفورة في

التعاطي مع اإلرث الثقافي لألجيال وبطريقة مستمرة

27


k )طفولية األبعاد( ال تبلغ في أورث الغرب أجياال اهتماماتها وأركان المعرفة فيها ما يؤهلها إلنتاج

k, على سبيل اإلنسان الناضج الحكيم وتجد هذا واضحا المثال, في جهل بعض أفراد الشعب األمريكي باسم

رئيس الواليات المتحدة! وأحيانا باسم دولة مثل الصين!, هذا على مستوى المعلومة المجردة وليس المعلومة المستنبطة أو المولدة أو المقترحة, فكيف

سيكون تفكير وسلوك هذا المجتمع الذي يمارس تلقي المعرفة كما تمارسه البهائم التي تبني تصوراتها للكون

والحياة على ما تراه في قارعة الطريق!, فهم ليس لهم )ميت عاقل محترم( فكل موتاهم حمقى

ورجعيون! والحي منهم فقط هو الذي يدرك ما يقول,k فكل الغيب عندهم خرافة، k مقدسا وهم ال يعرفون غيبا

k تبرم أحدهم ولوى شدقيه, فإذا قلت لهم جنة ونارا فحالك معهم كحال كبير القوم, أمير الزمان يجيء إلى

ثور قيقول له: يا ثور! عندي برسيم في المنزل!!k لكبير فيرمرم الثور ويستمر في رمرمته ال يلقي باال

القوم أمير الزمان!, ألن الثيران ال تعرف الوعود بالبرسيم وإنما تعرف البرسيم نفسه!, حتى إذا أشرف

طفل حاسر الرأس حافي القدمين ومعه حزمة برسيم, ركض إليه الثور واعتنقه ولعق قدميه؛ ألنه

يحمل كل )مقومات الثقافة البناءة( التي ال تتحدث عن جنة فوق السماوات السبع، سماها صاحب رواية

مزرعة الحيوان بـ )مدينة الغراب الكذاب موسى( يقصد موسى عليه السالم!!, فحال هؤالء القوم كحال هذا الثور ذي العقيدة البرسيمية الذي إن تكلمت معه

)يا شعيب ما نفقه كثيرا مماعن أمر غير مشاهد قال: . (1)(تقول!

وإليك هذا األنموذج البائس الفقير!, يقول كاتب هـ:1428 شعبان 4خليجي ليبرالي في جريدة يومية,

.91 هود: )(1

28


إن مشكلتنا الحضارية هي في تسلط أفكار متشددة» )يعني دينية( على أكثر مجريات األمور ونقدها هو

. فهو «أقرب الحلول للتخفيف من تسلط هذا الفكر يبين أنه إنما يمارس هذا المنهج التشكيكي وليس

النقدي, ليوهن وليس ليمحص الحق عن الباطل أو ليصل إلى رؤية معينة واضحة صحيحة, فهو لديه قوة

فكرية يريدها أن تفعل في المجتمع فعلها؛ ولكن المجتمع مشغول بقيم ومبادئ ال تقبل المشاركة في

الحكم ألنها من الله, على األقل بحسب اجتهاد من قررها أو دان بها, والمجتمع يثق في هذه القيم، وهو ال

يستطيع أن يفرض فكره بالنار والبارود، ولهذا يسعى لحجب الثقة عن الله بقطع العالقة بين المكلف وبين

الثقة بثبوت دين الله!, ومن ثم طرد حكمه من األرض، وبناء حكومة ثقافية فكرية جديدة تدير األمة يكون المرجع فيها إلى عقيدته الرومانسية البرسيمية هو

وأضرابه, التي تقول بأن الحق في السعادة، وأن قيمة الذات تساوي قدرتها على التعبير، وأن العالم ملك

مشاع كروض كبير تنتفع فيه كل المخلوقات بتلقائيةوحرية طبيعية رومانسية!.

وتحت عنوان: )إستنبات اإلسالمية في الخطاب 18المعرفي( في نفس الجريدة لنفس الكاتب, بتاريخ

k ما أعلنه من )مكر1428شوال هـ, يقول منفذا خطابنا المعرفي في الواقع العربيتشكيكي عابث(: »

تشكل وفق مكونات العقل العربي إبان حركة التدوين . فهو هنا يؤكد«في العصر الذهبي للدولة العباسية

على أن كل هذا التراث الفكري العربي الذي ورثته عام وهو ما تال عهد التدوين1300األمة على مدى

المذكور, وهو يؤكد على عهد التدوين ألنه يريد أن يشكك في الدواوين!, يقول بأن ذلك التراث كله برمته

خرافة وأساطير بنيت على )مكونات العقل العربي البدائي!(, وإليك بقية الكالم عن تشكل الخطاب

تشكل وفق»المعرفي العربي الذي يقول عنه:

29


مكونات العقل العربي إبان حركة التدوين في العصر الذهبي للدولة العباسية حسب وجهة نظر محمد عابد الجابري، بعد ثقافة شفاهية تتداخل إلى جانبها النظرة

األسطورية والعجائبية في كافة جوانب الحياة، حتى العادية منها كالحكايات الميثيولوجية للصيد والكرم

k وسذاجة، وإال فإن الخطاب كأقل األمثلة تأثيراk في الكثير من k أسطوريا المعرفي العربي كان خطابا

جوانبه حتى العلمي منه آنذاك، بسبب أن العقل الذيk إلى درجة كبيرة وتم تدوين كل ذلك تشكل كان بدائيا على أنه حقيقة معرفية ال تستطيع أن تتجاوزه العقول

فكالمه واضح في أنه ينسب كل ما تم «.النقدية تدوينه في عهد التدوين الذي دونت فيه كتب السنة,

إلى العقول البشرية المليئة بالخرافة والحكايات الميثيولوجية وضرب مثاال بالكرم! والصيد! وخاف على

نفسه من أن يرفسه المجتمع على قفاه العريض إن هو صرح برفضه لقصص كاإلسراء والمعراج، وقصة

آدم وإبليس، ووصف الجنة والنار، والجن والحور العين؛ ألنه يصرح بأن تلك الخرافات كانت موجودة في ذلك التراث الديني )حتى العلمي منه(, على حد قوله، ثم

يتحسر بسبب ظلم ذوي القربى الجهلة الذين ال يعلمون كل هذه اإلستنارة الفكرية لديه التي لعله

حصل عليها من تلك األسطورة اإلغريقية المسماة بـk )سارق النار(, وهي قصة رجل عندما ضاق ذرعا

بالظالم الذي في األرض طار إلى الشمس فسرق منها جذوة نار فأدخل النار وألول مرة عالم البشر, فصاحبنا لعله حصل على شيء من تلك الجذوة السحرية التي ال تمت لألرض وأهلها بصلة!, فيقول متحسراً بسبب

تلك القداسة الوهمية – حسب تصوره - للنصوص ال تستطيع أن تتجاوزها العقول النقدية أو»الدينية:

حتى أن تشكك في مصداقيتها الروائية التراثية على طريقة أهل الحديث و وفق منطلقاتهم الفكرية ذاتها

, وقد كذب في هذه الجزئية األخيرة ألن أهل السنة«

30


ومن شدة تمسكهم بميثاق الشرف العلمي الذي أخذه عليهم ربهم بأن يبينونه للناس وال يكتمونه كتبوا

المصنفات المستقلة في نقد أعلى كتبهم في درجة الصحة وهو صحيح البخاري، ومن ذلك ما صنفه اإلمام الدارقطني تحت إسم )التتبع( لما في صحيح البخاري

وهو مطبوع مع )اإللزامات( ورد عليه الحافظ في الفتح . ونحو هذا التصرف ما ذكره ابن الجوزي من

أحاديث المسند في )الموضوعات(، وتعقبه الحافظ في )القول المسدد في الذب عن المسند(، ثم تتبعهم

السيوطي في )الذيل الممهد على القول المسدد(، وكذلك ناقش بعض األحاديث في الصحيح العالمة األلباني رحمه الله في )إرواء الغليل( و)السلسلة

الصحيحة( وغيرهم, وال تجد هذا عند غير أهل السنة,�ض الله وجوههم يوم تسو�د وجوه أهل الحديث, بي

الظالمين!.

k من الدين الذي ال وفي النهاية, يختم مقالته ساخرا فإن التفوق الغربي»ينتج إال الخرافة بزعمه, فيقول:

k للكثير من العقول العربية خاصة القومية كان محرجا منها واإلسالموية، ولذا كان البحث عن بذور من هنا وهناك في التاريخ اإلسالمي أو في النصوص الدينية اإلسالمية أو اآلراء الفقهية هو الحل بالنسبة لممثلي

هذا الخطاب، كنوع من إعادة االعتبار للذات وكنوع من شرعنة العلوم وأسلمتها في الوقت الذي ليست بحاجة

إلى هذه الشرعنة كونها في األصل جاءت إثر خطاب فلسفي نقدي يقوم على نقض المسلمات واليقينيات

.«التي تكثر لدى الخطابات الدينية في كافة األديان وال أدري متى كان العلم يبنى على نقض اليقينيات والمسلمات ؟! والصحيح أنه يبنى على نقدها فإنk يقينيات ومسلمات حقيقية وإال صمدت بكونها فعال

فهي خرافة ينبغي أن تزول, وهذا ما فعله الغرب بنقده التجريبي لخرافاته الدينية أما )دين اإلسالم( فهو ليس

كأديان الغرب، ومن يعتقد أنه مثلها من حيث بنائه

31


وموافقته أو مخالفته للحق فهو يعتقد في نفس الوقت أن أهله كأهل تلك األديان من حيث الكفر واإليمان,

فهو ال يحتاج إلى كل هذه الحذلقات إلعالن البراءة من اإلسالم. ثم ال أدري متى كان حفظ جدول الضربk في صحة المبادئ اإلنسانية، فكون الدين ال شرطا

يعرف قوانين نيوتن أو جداء ديكارت أو النظرية االسموزية أو كيف يعمل مفتاح الدايود داخل

الترانزيستور في الحاسب اآللي، فهل يعني هذا أنه الk لذواتنا البشرية و k حقيقيا يستطيع أن يعطينا تفسيرا

وجودنا الكوني وقصتنا الموغلة في الزمان األول عندما كان الله وال شيء غير الله ثم خلق الخلق ثم خرجنا من الجنة ثم ركبنا سفينة نوح ثم وقفنا خلف محمد

عند قليب بدر إلى أن جلسنا اآلن نناجز بعقولنا أغبياءالعقيدة من أمثالك؟!!.

و في نفس هذا المقال ينتقد هذا الكاتب الليبرالي حديث الذبابة الذي ورد في أصح كتب الحديث " صحيح

البخاري " و يقول بأن الدين الذي يأمر بالنظافة ال يمكن أن يأمر بغمس الذبابة في اإلناء قبل شربه !.

فتجده يتجاهل تماما أن ذلك األمر جاء على وجه االستطباب حيث قال عليه الصالة و السالم : ) فإن

في أحد جناحيه شفاء و في اآلخر داء ( ثم ال تجد هذا الكاتب يستنكر أن يأمر الغرب الذي يقدس النظافة و الحرية الشخصية الطبيب بوضع إصبعه في دبر مريض

البروستاتا . و لكن يقال له ليس اللوم عليك وإنما أنت )فروج صاح عندما صاحت الديكة(, وقد سبقكk من المقلدين الكثير من الذين يديرون العبارة يمينا

k فيحسبون أنهم جاءوا بما لم يستطعه األوائل, وشماال وال أزعم أني من اكتشف هذا الضرب من المتفلسفة

الذيفقد سبقني الفيلسوف األوروبي توماس كري عاش فترة بداية الرومانسية وتأثيرها على الشعر

الكالسيكي ذي القواعد ودخول الشعر المحكي فحدثت له هذه القصة الساخرة التي تنبئ عن شعوره

32


بفوضوية عبثية جلبتها تلك الرومانسية الغجرية, فعندماk, كيف يقلب قطعة سأله رجل يأمل أن يكون شاعرا نثر بسيطة إلى الشعر, ــ يعني كما فعل هذا الكاتبk من مفاهيم الغرب ضد كنيستهم عندما سرق كالما

k لإلسالم ــ، فلخص له كري بسخرية ليصنع منها هجاءا كيف يحول النثر إلى قصيدة رومانسية في ثالث

خطوات, قال: » أدرها قليال لتأخذ شكل حكمة!, وضع . كذلك الحال(1)فيها زهرة!, وامهرها بتعبير ثمين! «

في المستنيرين من أهل التقليد الغربي الذين يشبهون أفعى الكوبرا عندما يكشف عنها غطاء الزنبيل فتخرج، ثم يبدأ الكاهن بالنفخ في مزماره وهي تتراقص، فيظن

الناس أنها تتناغم مع حركات ذلك الكاهن الطروب؛ ولكن الحقيقة أن األفعى تكون في تلك اللحظة عمياء ال ترى بعد خروجها إلى النور، فتتمايل لتوهم أي عدو

أمامها أنها تراه!!, كذلك الحال في فراريج التغريب الذين يفعلون كما تفعل أفعى الكوبرا والصحيح أنهم

مجرد )عميان يرقصون باتجاه الصوت األعلى!(.

تكمن المشكلة في الرومانسية أنها مذهب حياتي يتسلل إلى الناس من ثقوب تعامالتهم اليومية

البسيطة والتي قد ال يخطر على بال أحد أنها ثغر سيدخل منه الهالك والدمار واإلرهاب الرومانسي . لهذا تجد أن للرومانسية مظاهر مشاعة ومعلنة في

كثير من البلدان اإلسالمية؛ ولكنها ال تأخذ تسمية معينة فيظن أنها من )عموم الفسوق والعصيان(، والصحيح

أنها داخلة تحت منهجية تضطرد وتنمو وتتطور وتستمرk يمثل المذهب الرومانسي k كبيرا حتى تشكل طيفا

بجموحه على المعتقد والقاعدة، وبجرأته على إنتاج ما ال ينتظره أحد, ثم يندر أن ال يقع تحت ذلك الطيف أحد

من أبناء المجتمع . فمثالً , من عربة صغيرة يصنع صاحبها دمى خشبية صغيرة يحركها بيديه ويضحك على

.146 توماس كراي، مراسالت مع وليم ميسن ، ص )(1

33


ذلك الصبيان فيحصل منهم على قرش أو قرشين في حارة تقليدية مظلمة الزوايا في عاصمة عربية ما,

استطاعت الرومانسية أن تتشكل وتتمدد إلى ما تراه اليوم من مسارح ومراقص ومواخير ومحطات إباحية وهذه حقيقة مثبته!. نحن في المجتمع المسلم اليوم

k نعاني من جرأة )الفن( على الحياة، بال استثناء مطلقا وهذا هو تعريف اشعيا األلماني للرومانسية عندما قال:

, فال يوجد شيء«هي طغيان الفن على الحياة» مقد�س، وال يوجد مثالية ال تقبل االنتقاص, فكل شيء

k, وبعض الطيبين من الدعاة قابل ألن يكون فنا اإلسالميين التجريبيين! ينادي بهذا ويوافق عليه،

ويقول: طالما أن الحق معنا فلماذا نمنع الناس من التساؤل؟ وهذا الشيخ المتزلف ومن معه ال يعلمون

بأن )التساؤل على الطريقة الرومانسية( شيء آخر!, وأن النقد في المذهب الرومانسي له ضوابط أخرى

تقويم العمل الفني»وهو كما تقول ليليان فورست: بمقاييس جمالية إيجابية أي تقدير ما فيه من جمال

وليس بالمقياس السلبي المتفيهق الذي يعدد تجاوزات يعني لو أن ماجنة مثلت دور (1 )«!العمل على القواعد

إحدى الصحابيات على الشاشة وكانت تلك الفنانة, رشيقة القوام, دافئة المشاعر, أندلسية القسمات, فالk إال أن يقول: )كانت فنانة جميلة k أبدا يحق ألحد مطلقا

ورائعة وكان دورها كذلك! ( فهذا هو الجمال الذي ينبغي إبرازه في العمل الفني, فأما مسألة تجاوزها

للضوابط الشرعية والعرفية وحتى العلمية في تمثيل الشخصية وكونها في ذاتها امرأة ذات سمعة رخيصة

وأن شخصية الصحابية أكبر وأطهر من أن تمثلها فنانة فهذه كلها )معتقدات ذاتية نابعة من تصور ذاتي

متدين(، لك الحق أن تعيش به، وليس لك الحق أن تجعله المعيار األمثل، فالرومانسية كما قلت : هي

طغيان الخيال الفردي على تصور الوجود والتعبير».191 موسوعة المصطلح النقدي: )(1

34


, ومثال حي على ذلك ما ذكره مدير تحرير«عنه جريدة محلية عندما قال بأنه ال يناقش قضية الحجاب

وال هيئة الحسبة في األسواق فهذه أمور تخص الرؤوس التي تعيش فيها هذه األفكار! ولكنني أتحدث عن أحالمي برؤية دخول أول فتاة من بلدي في دورة

عالمية لكرة التنس األرضي!!, فهو ال يهمه تلك الضوابط وتلك التشريعات المتفيهقة )بفهمه( و إنما

يهمه منظر جميل لفتاة وطنية في ريعان الشباب ترتدي تنورة ألنصاف الفخذين وتركض حاسرة في

ملعب رياضي مكشوف فيجلس هو ورفاقه في المدرج األول يهتفون لها ويصفقون بحرارة, ولتذهب القواعد

والتشريعات واألعراف إلى الجحيم!, وأي شخص ينتقد هذه الرؤية فهو متخلف! ألنه يعير عقله وتصوره للحياة

لمن هو ليس في حاجة إليه؛ بل لمن هو يمقته ويزدريه, فهذا هو معنى )حرية الكلمة وحرية النقد(

فليفهمها كل من يبهش إليها من إخواننا الطيبين اإلسالميين, والسبيل األمثل لمقابلة مطالب هؤالء

الغوغائيين الرومانسيين بحرية النقد والتعبير هي أن تغلق األبواب والنوافذ وتضع أصبعيك في أذنيك

وتستغشي ثيابك وتصر وتستكبر استكبارا!!.

k منها إذا فشلت الرومانسية في مهمة أرسلت بدالk!. قد يحتقر الناس الفنان من حيث تأثيره فنانا

وينظرون إليه وهو يلوي شدقيه وينفخ منخريه ويتقمص المشاهد فيضحكون منه وعليه وال يعلمون أن هذا الكائن المشو�ه الهالمي هو الوحيد, على حد علمي

بأصناف البشر, الذي يجتث قلب اإلنسان ويبول عليه وهو يضحك لضحيته وضحيته يضحك له, ال يعلم منk. والغريب في التصور اإلنساني أن أمر مكره شيئا

الناس يربطون الجمال بالخير والسعادة، وهذا ربط أحمق؛ ألن أخطر المصائب التي دخلت على

المجتمعات إنما دخلت تحت وجوه جميلة، ومشاهد جذابة، وقد علم البشر في تاريخهم الطويل هذه

35


الحقيقة على مختلف حضاراتهم؛ حتى قال الصينيون :k منه امرأة! (, )إذا فشل الشيطان في مهمة أرسل بدال

بل إن هذه حيلة طبيعية حتى في عالم النبات حيث توجد نباتات تقتات على قتل الحشرات فتخرج لها

k غاية في الجمال والجاذبية وبمجرد وقوع أزهارا الحشرة على الزهرة تنكمش النبتة على الحشرة فتقتلها فتمتص عصارتها وتتغذى عليها, وفي عالم الكائنات البحرية عشرات األمثلة المشابهة. فكون

الفن يطفح بالجمال والشهوة والخيال الحالم فهذا ال يعني أنه مصدر من مصادر الخير في المجتمع, وقد

عن عائشة رضي الله عنها قالت:جاء في الصحيحين ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينهالما اشتكى النبي

بأرض الحبشة يقال لها مارية وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من

حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه فقال: )أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا

فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله(, فلم تكنk في تقدمهم أو النظر تلك التصاوير الفنية العجيبة سببا

إعجاب نسائهإليهم بعين التقدير، ولم يحترم النبي بتلك الحبكة الفنية في التصوير والبناء، فرد كما ينبغي لمسلم أن يرد وذلك من منظور )موافقة إرادات الله(

لهذا العمل، فكان ذلك العمل من أشر� الشر وكانوا هم من أفسد الناس، وكانت النقطة المرجعية التي يرد إليها كل مبدأ تلك الجملة التي ختم بها عليه الصالة

والسالم كالمه عندما قال : )عند الله! ( . فكل القيم والمعايير يجب أن ترد إلى الله بتجرد وعبودية نابعة

عن اإليمان المطلق بقوله تعالى: )وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم

, فمهما أحببنا وأعجبنا(1 )والله يعلم وأنتم ال تعلمون(غفنا بشيء ما أو مذهب ما أو مسلك ما فهو واقع وش»

تحت هذه اآلية والمرد في كل ذلك إلى إرادة الله .216 البقرة : )(1

36


.الشرعية فهي مقياس الخير والشر!

وبسبب ما للفن من سلطان الشهوة والخيال الحالم والحرية الغوغائية في التعبير تجد أن الفنان

بكافة تطبيقاته الفنية من تمثيل ومسرح ورقص وغناء النظام الرومانسي ألي بلد؛يمثل شخصية مركزية في

ألنه الساحر الوحيد في البلد المرخص له بممارسة السحر والخرافة تحت األضواء، فتجد اإلنسان الغربي

k يسخر من الدين الذي يتحدث عن جنة فوق غالبا السماء فيها نساء جميالت وأنهار من عسل ولبن؛ بينماk عن مخلوقات يصفقون لخرافات الذين يكتبون قصصا

تهاجم األرض من كواكب أخرى، أو شخصية عجائبية كشخصية سوبرمان، أو الترمونيتور الذي نصفه بشر

k وليس �قا k خال ونصفه اآلخر آلة، ويرون ذلك إبداعا خرافة وال شعوذة؛ بينما هو في الحقيقة كما وصفة

غوته عندما تكلم عن الرومانسية فقال: » هي مرض وضاللة «. ولو أن أهل الرومانسية فكروا كما فكر ذلك

الفيلسوف ــ أظنه ــ أرسطو عندما قال: » إن شوق النفس البشرية وشغفها بالفضيلة والسعادة المطلقة

والعدل المطلق دليل على أنها قد عرفت هذه األشياء في يوم من األيام على وجه الحقيقة « لكان أجدر بهم

وأكثر حكمة. ولو أن هذا الفيلسوف قرأ قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم منفي سورة األعراف: )

ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا

ثم علم تفسيرها كما ينبغي ألسلم، وأللفيته غافلين(,k في محراب مسجد من مساجد المسلمين اآلن إماما

إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموايتلو قوله تعالى: ) تتنزل عليهم المالئكة أال تخافوا وال تحزنوا وأبشروا

بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة فيها ما تشتهي أنفسكم ولكملكماآلخرة والدنيا وفي

37


k من غفور رحيم( .(1 )فيها ما تد�عون * نزال

وألجل تلك الصالحيات العالية المتناقضة التي أعطيت للفن صار الفن هو الرب الجديد الذي يملي

المعايير والقيم التي يجب أن تحترم )من كيسه( دون الرجوع ألي أحد, فال تندهش لتصديري موضوع

الرومانسية لهذا البحث عن )تحقيق الخالفة اإلنسانيةk على األرض(؛ ألن حياتنا اليوم كلها يحكمها الفن فكرا

k. تقول ليليان فورست عن المفكر وقيمةk واحتراما الديني! شاليرماخر وهو من جماعة الرومانسيين

األوائل بأنه: » بدأ إعادة تقويم الوجود البشري من موقف الذاتية المفرطة الذي نادى به زميله )فخته(,

فبما أن العالم يقوم على إدراكنا فبوسعنا إعادة تشكيله في مثالية سحرية دائمة التقدم, والوسيلة

لبلوغ هذه الصيغة الشعرية هو الخيال الخالق وبخاصة ذلك الذي يمتلكه الفنان, الذي لهذا السبب يشغل

. هذا كله في الفن(2 )منزلة سامية في هذا النظام « الرومانسي المبني على الفن الهادف كما يسمونه، ثم يأتي بعد ذلك الفن الجمالي المبني على نظرية الفن

ألجل الفن وهو الذي ال يعترف حتى بمعاني الرذيلة ناهيك عن الفضيلة أو المعقول, وهذا موجود في

عالمنا العربي واإلسالمي, حتى أنه احتفلت إحدى دور م بعرضها أول2007السينما في أندونيسيا في عام

k آخر في فيلم يظهر فيه مشهد شاب وهو يقبل شابامشهد غرامي لوطي رومانسي جمالي!!.

هذا اإلرهاب الرومانسي لإلنسان المسلم، وهذه األطوار الوقحة التي توصل إليها الفن والفنانون في مجتمعاتنا لم تكن وليدة الصدفة، وال وليدة المؤامرة

k، وإن كان هناك ثمة تآمر؛ ولكنها المجردة أيضا باإلضافة إلى ذلك وليدة الشهوة الشخصية المشتركة

.32 ـــ 30 فصلت : )(1.222 موسوعة المصطلح النقدي: )(2

38


كالجنس والمال المتأصلة في نفوس أفراد كل مجتمع مدني والتي استغلها صناع الرومانسية فزرعوا البذرة

وتولى الناس رعايتها تحت ظروف )المدنية( التي تنمو كل يوم وكلما نمت فرضت علينا أشياء ال نستطيع ردها

فمن تسلل أشرطة الكاسيت ثم الفيديو ثم الفضاء المفتوح ثم الشبكة العنكبوتية ثم الجيل الثالث من الجوال. وكل هذا التحول يرافقه انهيارات تصاحب

االنهيار األخالقي كانهيار الثقة بالدين واالستهانة بأحكام الشرع؛ ألن التقنية ال تستفتي قبل أن تعمل، فالبث

يصل دون فتوى، والجوال يستقبل دون فتوى، والشبكة تربط الناس دون فتوى، فصار الفساد يمشي

بشكل آلي ال يحتاج إلى وسائط بشرية قد تكونk في الحد التقوى فيها أو التمييز بين الشر والخير سببا

من الفساد المنقول, ومثل الذي حدث للدين حدث للثقة بالقادة والرموز، فنتج عن كل ذلك الجرأة على

النقد المعلن لكل شيء من كل أحد، وشيوع الرومانسية الشخصية بترويج شعارات مثل الحرية

الشخصية وتقديس الذوق العام ,وهكذا!.

إن من أشهر مدارس علم االجتماع المدرسة الماركسية التي تفسر التاريخ البشري بأنه مجرد:

)تاريخ الصراع بين الطبقات( وهذا تفسير مادي باطل, وتقول بأن المادة هي التي تحكم تطور التاريخ،

فالتغيرات المادية في حياة البشر هي التي تغير نمط حياتهم وأفكارهم، وهذا قول على كثير من الصحة من

ناحية اجتماعية، أما من ناحية عقدية فهو باطل؛ ألنه ينفي أفعال الله وسننه في الكون والتاريخ؛ ولكنه من منظور اجتماعي حقيقة ثابتة، فالمجتمع يتغير بقدر ما تتغير المواد التي تقوم عليها حياته، ولهذا كلما زادت المتغيرات المادية في المجتمع المدني كان ينبغي لنا أن نتوقع الكثير من التغير االجتماعي على المستوى

المعيشي النفعي والمستوى الفكري النفسي بما في ذلك الدين، وكذلك زيادة اضطراب الركنين األساسيين

39


اللذين يقوم عليهما أي مجتمع وهما: )االستقرار و التكامل( وهذا سوف يقع في المجتمع الديني أو

القومي، والمجتمع األصغر مثل القبيلة واألسرة، وهذا يفسر خروج المرأة عن القوامة ،وخروج األبناء عن عرف اآلباء, وهكذا يقال في كل انسالخ جديد عن

انتماء سابق .

إن انهيار مبدأ األمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو في ذات الوقت نصب لعمود المذهب الرومانسي

k بال مطالبة وبال صدام وفي الذي سوف ينتج تلقائيا صمت ال ينتبه إليه أحد؛ ألن انهيار األمر بالمعروف

والنهي عن المنكر يعني أن المجتمع قد فقد )المبادئ العامة المشتركة( التي يعرفها كل أحد أو ينكرها كل

k أحد والتي يرى كل أحد جواز تبنيها والقيام عليها أمراk, فإذا زالت الحسبة من سلوك الناس فهذا يعني ونهيا

أن الناس قد أقروا وباإلجماع السكوتي كما يقول أهل األصول على قبول المذهب الرومانسي الذي يقضي باحترام تصورات اآلخرين للكون والحياة مهما كانتk على هذه التصورات ويرفض فكرة نقد الشيء بناءا

تجاوزه للقواعد, وهذه هي بداية اإلباحية التي ستضطرد حتى يرفع الرجل ذيل المرأة فيجامعها في الطريق ال يجد من ينكر عليه كما ثبت ذلك في صحيح السنة!, وهذه ليست تصورات شخصية سوداوية مني ولكنها خطوات الشيطان الجموحة الطامحة, التي التنتظر المغفلين وضعيفي الفهم لكي يستوعبوها!.

وقد تنبه علماء االجتماع في الغرب إلى هذه النقطة وتكلموا عنها تحت مسمى )اإلجماع األخالقي( والتي تكلم عنها اإلسالم تحت اسم )األمر بالمعروف

والنهي عن المنكر(، ثم ال نلبث أن نجد من يكابر ويتكبر على العلم السماوي ويصف المستمدين منه

مناهجهم االجتماعية في مواجهة المناهج الغربية بأنهم يشرعنون نظريات الغرب في محاولة فاشلة لمضاهاته

40


كما قال الكاتب الخليجي البائس الفقير الذي ذكرتk عندما قال: » فإن التفوق الغربينص مقالته سابقا

k للكثير من العقول العربية خاصة القومية كان محرجا منها واإلسالموية، ولذا كان البحث عن بذور من هنا وهناك في التاريخ اإلسالمي أو في النصوص الدينية اإلسالمية أو اآلراء الفقهية هو الحل بالنسبة لممثلي

هذا الخطاب، كنوع من إعادة االعتبار للذات وكنوع من شرعنة العلوم وأسلمتها في الوقت الذي ليست بحاجة

إلى هذه الشرعنة كونها في األصل جاءت إثر خطاب فلسفي نقدي يقوم على نقض المسلمات واليقينيات

.«التي تكثر لدى الخطابات الدينية في كافة األديان

وللرد على مثل هذا الفكر االنهزامي المنسلخ من كل تراثه وقيمه لصالح الشيء الغربي مهما كان ذلك

الشيء فإني أورد نص قول أحد أكابر علم االجتماعk في هذا العلم, اليوم في الغرب والذي يعد فيهم مجددا تدر�س كتبه أكثر جامعات العالم، يقول وهو يتحدث عن

مدرسة من مدارس علم االجتماع، وهي المدرسة الوظيفية التي تشدد على أن استقرار المجتمع وتكامله قائم على معرفة كل عنصر فيه حقيقة

وظيفته التي ينبغي له أداءها في ذلك المجتمع، فيقولk إلى إنتوني غدينز في كتابه )علم اإلجتماع( مشيرا

k، ومبادئ أهمية أن يكون للمجتمع مبادئ تسمى معروفا :k إن المدرسة الوظيفية تشدد»أخرى تسمى منكرا

على أهمية )اإلجماع األخالقي( في الحفاظ على النظام واالستقرار في المجتمع . ويتجلى اإلجماع

األخالقي هذا عندما يشترك أغلب الناس في المجتمعم نفسها. ويرى الوظيفيون أن النظام والتوازن في الق£ي

يمثالن الحالة االعتيادية للمجتمع، ويرتكز التوازن االجتماعي على وجود إجماع أخالقي بين أعضاء

المجتمع. إن دريكهايم, على سبيل المثال, كان يعتقد أن الدين يؤكد تماسك الناس بالقيم االجتماعية الجوهرية؛ ويسهم بالتالي في صيانة التماسك

41


. (1)« االجتماعي

وفي مقابل هذه المدرسة توجد نظرية الصراع التي تشمل النظرة البراغماتية التي تعني تقويم

k لمنفعتها الناتجة عن الخطوات العملية مع المبادئ تبعا تجاهل تام لكل المثاليات والمعاني المجردة التي قد ال

k(، وهذه النظرة لتقويم الكون هي k عمليا تكون )واقعا )نظرة ماركسية ذات ملكية خاصة!(. كذلك تشمل

نظرية الصراع قانون االنتقاء الطبيعي أو قانون الغابة الذي ينص على أن البقاء لألقوى، وأن كثرة الفوضى

االجتماعية تؤدي إلى تحرر الطاقات الكامنة، فتنتج احتياجات جديدة يقابلها عمل وصناعة جديدة، وهذه هي نظرية المجتمع الصناعي القائمة على استثمار

رؤوس البشر قبل رؤوس األموال بطريقة مادية تشبه إلى حد كبير المبادئ االستثمارية التي تدار بها مزارع

الدجاج واألبقار والخنازير!. ثم يتكلم غدينز عن )الصدمة الثقافية( التي تنتج عن إغراق مجتمع ما في

مبادئ مجتمع آخر وثقافة أخرى كما يحدث لنا اليوم في العالم االسالمي عندما أغرقنا في الثقافة الغربية التي باتت تحيط بنا، فيقول غدينز في )علم االجتماع(

k ما يستخدم اصطالح )الصدمة86صفحة : » كثيرا الثقافية( في هذا المجال! فإن الناس قد يصابون

بالتشويش والحيرة عندما يجدون أنفسهم في بيئة ثقافية جديدة؛ ألنهم يشعرون عندئذ® بغياب النقاط المرجعية التي درجوا على االستهداء بها في فهم

العالم المحيط بهم, كما أن بعضهم في إبحارهم عبر الفضاءات الجديدة يكونون أشبه بسفينة فقدت

.مراسيها «

المشكلة في هذه التجاوزات الغير شرعية التي تخترق مجتمعاتنا المسلمة على كافة المستويات

الدينية والعرفية واألخالقية والنفعية والصناعية؛ بل

174 علم االجتماع , غدينز , ص : )(1

42


وحتى الحيوانية، تجد أنها تكسر حاجز الذهول لدى اإلنسان المنضبط، وتضفي على الالمعقول حالة من

الواقعية، وتجعل الشذوذ عن المألوف يتم في سكينةوهدوء وكأنه شربة ماء!.

تقول كاتبة سورية مشهورة ــ أحتفظ باسمها ــk في لندن، وبمجرد في أحد كتبها أنها دخلت مسرحا

فتح الستار وبداية المسرحية وإذا بالمشهد األول رجلk هو وامرأة على حافة المسرح بين k تماما يضطجع عاريا

الجمهور، ثم يجري معها عالقة جنسية كاملة والناس في صمت ينظرون ثم تبدأ المسرحية, تقول هي

معلقة على هذا المشهد بأنها أدركت الغاية منه؛ وهي كسر كل حواجز الشعور المنتظم في نفس الجمهور.

ثم يبدءون بعرض المسرحية ألناس بال أي عقيدة منتظمة سابقه للعرض فتؤثر فيهم المسرحية أكبر

k, مع أن تجربتها تأثير, وكالمها هذا أجزم أنه صحيح جدا هذه بحد ذاتها وذكرها في كتابها على وجه الفخر دون

خجل هي في حد ذاتها رومانسية ودعوة الستمراء اإلباحية, وهذا ما يحدث لنا اليوم، فنحن نتعرض

لمرحلة من الذهول التي تهدف إلى كسر الشعور الشرعي المنتظم لدينا لتبدأ مرحلة التشكيل!, وكل

هذا سيكون بالفن والمدنية القسرية الوقحة, و المشكلة أنه سوف يتم التطرق لتصورنا للحياة والكون

والناس والدين وكل هذا له تأثير مباشر على مسألة)خالفة اإلنسان في األرض( .

43


نهاية اإلنسان الرومانسي

لن أكتب هذا الباب وسأترك الذين ذاقوا نهاية اإلنسان الرومانسي يتكلمون عنها على لسان الباحثة

ليليان فورست, حيث تقول في مبحث نتائج ما بعد الرومانسية وهي تتحسر على الكالسيكية, والتي تعني

التمسك بالماضي التقليدي وحب النظام, والتي نسفتها الرومانسية بكل تقليدياتها وقواعدها وقيمها, تقول: »

فهي ــ تعني الكالسيكية ــ قد منحت الناس نظرة للعالم واضحة ثابتة, مستقاة من االطمئنان إلى نظام

.k راسخ في العالم, يعطي األدب كذلك مستندا ثابتا ولدى هجر النظام القديم ضاع شعورها باالطمئنان في

الحياة كما في الفن. وهذا انفصام ذو نتائج بعيدة المدى ما تزال آثاره حتى اليوم بغير حاجة إلى برهان, فما لدينا من نسبية ومشاعر ضدين وتردد في الحكم

وعدم رغبة قادرة في االستقرار على أية مقاييس ثابتة كل ذلك في آخر المطاف, ال يعدو عن كونه تطورات عن ذلك النفي الحاسم لتعريفات الكالسيكيه المحدثة من إجابات التساؤالت اآلنية في عصر االستنارة وفي

تدرج ووثوق أزاحت الرومانسية النظام الموضوعي . أما الكاتب(1 )بمبدأ ذاتي ال يستند إال على نفسه! «

الساخر موسيه فقد قال إن كلمة رومانسية في.(2)معجمي ال يقابلها إال كلمة: )سخيف!(

185وأما عالم االجتماع غدينز فيقول في صفحة k من أفضل من كتابه )علم االجتماع( المصنف عالميا

مائة كتاب في القرن العشرين في العلوم االجتماعية: » بعض البنات أو النساء في الغرب يتحولن إلى ذكور مثلما يتحول بعض الذكور إلى إناث وحجتهم في ذلك

.186 موسوعة المصطلح النقدي: )(1.166 موسوعة المصطلح النقدي: )(2

44


k. بل إننا أخذنا أن )الطبيعة( ارتكبت بحقهم خطأ فظيعا نسمع في اآلونة األخيرة أن بعض المجتمعات الغربية قد بدأت تقر العالقات بين الجنسين المثيلين ال على

سبيل المعاشرة فحسب بل على سبيل الزواج«. م أقر1999: »في أواخر 217ويقول في صفحة

k تحول بموجبه البغاء إلى مهنة البرلمان الهولندي قانوناk وأنشئت نقابة للعامالت في صناعة معترف بها رسميا الجنس تضم أكثر من ثالثمائة ألف عضو من النساء«.

عن رحالت جماعية سياحية218ثم يتكلم في صفحة مجدولة لمجموعات من الرجال تنظمها الواليات

المتحدة وأوروبا واليابان إلى الفلبين وتايلند بغرضممارسة الجنس مع األطفال!.

* * *

قصيدة لـ) يونك( أحد مؤسسي الرومانسية يبحث فيها عن رحمة السماء كتبها عام

م!!1813

لم يندبون ضياعهم من ليسوا بضائعين؟لم يحوم فكر البؤس حول قبورهم؟في أسى كافر... هل ثمة مالئكة؟!

أتخبو مطمورة في الرماد... نور السماء؟!أحياء... هم!, يحيون على األرض... أي حياة؟!و من عينٍ عطوفة... لتنزل رحمة السماء!

كل ما في األرض وهم... كله! و ما خلفه جوهر... وليس سوى هذا إال عقيدة

الجنون:أي ثبات سيمأل قلبي لو أن األشياء ال تتغير!

45


,1م, أفكار ليل, الليلة 1813 )يونك!!, لندن, (7ص

اإلسالم الرومانسيk لألدباء k محتكرا لم تكن الرومانسية مذهبا

والفالسفة؛ بل هي منهج حياة يمس العقيدة . وهي مرحلة حادثة للتطور المادي والنمطي الذي تسلل إلينا

اليوم ليدخل تحت تأثيرها كل الناس, كما أنها )أصول ثابتة( يمكن طردها على كل تكتل اجتماعي يمر بنفس الظروف التي يمر بها المجتمع المدني الغربي. فاليوم نسمع عن من يتكلم في أمور الدين ويقول أنا مسلم

علماني!, وقد يكون الرجل كذلك من ناحية شرعية لعدم تحقق شرط أو انتفاء مانع؛ ولكنه من ناحية

k، فهو يقول كما قالوا في k جديدا منهجية يؤسس إسالما أصولهم الرومانسية األدبية وذلك بأن المسلم يجب أن

ال يتخلى عن طبيعته البشرية، ثم يسرد األحاديث واآليات التي تذكر حقوق الفطرة والمأكل والمشرب

والنكاح؛ بل ويزعمون أن الله أذن بالكفر؛ وذلك بقولهم بالحرية االعتقادية، فيقولون: )فمن شاء

!, وأننا يجب أن نغضب(1)فليؤمن ومن شاء فليكفر( لرسولنا وندافع عنه؛ )ألنه شخصية فكرية خاصة بنا(،

k رسول الله، أما ما ونشهد أن ال إله إال الله وأن محمدا عدا ذلك من أمور الشريعة فهو خاضع لمبدأ عام واحد،

وهو: )أن الحق في السعادة(، فال ينبغي لإلسالم أن يقف في وجه سعادة الناس وراحتهم؛ ألنه رحمة

للعالمين. ثم يبدأ كل مسلم رومانسي تأسيس تصوره.29 الكهف : )(1

46


الخاص وخرافته الخاصة عن اإلسالم، فيحيا بها ويدعو إليها، ويجتمع مع غيره على )الطبيعة البشرية

المقدسة(، أو ما يسمونه بملة إبراهيم كما هي حالمن سبقوه من مؤسسي الرومانسية األدبية.

سبق أن ذكرت أنه كان من مؤسسي الرومانسية ومن أعضاء جماعة الرومانسيين األوائل المفكر الديني

شاليرماخر ، وأنه كان ينادي بإطالق الرومانسية عنk في ذلك, k مركزيا طريق الفن، وجعل الفنان عنصرا

وهذه اللوثة ذات الطابع الرومانسي تأثر بها جمع من الدعاة اإلسالميين حتى سمعنا بعضهم يفتي بجواز

التمثيل للمرأة، ويقول بأن الفن رسالة!, وهذه العبارة هي أصل من أصول المذهب الرومانسي المتطرف، وهي في لغة علماء االعتقاد كقولك: )الخارجي يكفر

بالكبيرة، والمعتزلي يقول بالمنزلة بين المنزلتين(,k كذلك فالرومانسي يرى الفن رسالة كما نقلت سابقا

الرومانسية بوصفها إعادة تقويم وجودية شاملةعن k لها أن تشع من الشعر لكي تقلب العالم كان مقدرا

أجمع . واألناشيد والمسرحيات التي يسمونها )إسالمية( داخلة في هذا المبدأ المنحرف؛ ألن الفن

حسب تعريفه هو نقل الفكرة اإلنسانية بطريقة معنوية�ة كالكتابة األدبية نثرية كانت أو شعرية، أو بطريقة حسي

كاألغنية والمسرحية والرسم بحيث تترك في المتلقي�ة فاإلسالم k. وسواء كانت معنوية أو حسي انطباعا خاصا عقيدة وشريعة, والفكرة اإلسالمية ال يمثلها إال الدليل

الشرعي؛ ألن هذه الفكرة بحاجة إلى ضبط وحسن توجيه شديدين قام ألجلهما علم كامل اسمه علم

األصول, فأما األدب والتمثيل والغناء فهي من زخارف القول والفعل التي تضفي على الشيء ما هو أكبر منه

وتتعامل مع الشعور والحواس أكثر مما تتعامل مع العقل والفهم المستقيم, حتى أن الكذب والمبالغة في

k بل وربما كان k محترما k شعريا الشعر قد يكون غرضاk, بل أن بعض الدعاة اليوم صاروا يعبدون الله مطلوبا

47


باألكاذيب، ويمارسون مهنة القصاص التي تقوم على مبدأ )الدعوة الرخيصة إلى الدين(، فال حاجة لعلم وال عمل؛ ولكن بصناعة الروايات الخرافية ذات النهايات اإليمانية والكرامات اللدنية!!, والكرامات مثبتة عند

أهل السنة والجماعة؛ ولكن الزور منفي. ولو شارك بعض الدعاة بقصصه الدعوية في جائزة نوبل العالمية

لحصل على جائزة الرواية المأساوية. وهذه النزعة العجائزية للسيطرة على توجهات الناس بالخرافة

والقصص العجيبة كانت منتشرة في زمن القصاصين الذين حذر من خرافاتهم أهل العلم؛ حتى قال عمر بن الخطاب لكعب األحبار وهو ينشر القصص العجيبة في كتب بني إسرائيل: )لتنتهين عن ذلك أو أللحقنك بجزر

الخنازير!!(. وقد ثبتت هذه المقولة بسند صحيح عن عمر. وقد يظن البعض أن هذه النزعة العجائزية )ملح

وعظية عابرة(، والصحيح أنها تشكل الخلفية األولى التي يبنى عليها كل تصور جديد؛ ألن مدخل الفاسق أو

الكافر إلى التدين يكون عن طريق هذه األكاذيب الكراماتية، فيصير هذا المتدين الجديد عالة على أهله

وأمته، فال يجيد إال توه�م الكرامات وانتظار األئمة المنتظرين. والصحيح أن الكرامة مثبتة في عقيدة أهل

السنة والجماعة، وقد قرر هذا األمر ابن تيمية رحمه الله في )أولياء الرحمن وأولياء الشيطان( خير تقرير؛ ولكن أن يصل األمر إلى أن يقول لي أخ كريم: دخلت

قرية لم يدخلها داعية قبلي، وكان معي رجل من أولياء الله، وفجأة ونحن نمر بالشارع خرج من أحد البيوت

رجل أجنبي يركض!, أترى يا صاحبي كيف أخرجت الدعوة العاصي وطردته عن معصيته, إنها بركة العمل

لله!!. اهـ . فنحن نعاني كثيرا من هذه " الصوفية اإلدارية " عند بعض الملتزمين , و ال أحد ينكر

بركة العمل الصالح؛ ولكن ثبت أن الزنا وقع في وما خرجالمدينة المنورة وفيها سيد األولياء محمد

الزناة منها يركضون ببركة عمله الصالح!!, و ثبت أنه

48


عليه السالم كان يطلب أن يكون الرسول الذي يرسل في حاجة ،حسن االسم حسن الهيئة , لكي يكون

أدعى لقبول ما عنده من كالم . و أنا هنا أربط بين الكرامات الوهمية المختلقة وبين الفن؛ ألنها نوع من

الفن والدجل النفسي الذي يمارسه بعض الدعاة علىk في نفسه وعلى الناس من حوله فيجعل له تأثيرا

مجرى األحداث من حوله، ثم يتطور األمر حتى يصيرk من أقطاب الصوفية( الذين تتحرك ببركة )قطبا

k في تسبيحهم الكواكب واألفالك!!. وكل ذلك مؤثر جداتكوين الصورة الحقيقية للكون من حولنا ولذواتنا فيه.

كذلك الحال في سائر الفنون التعبيرية تجد أنه يتسرب إلى العمل الكثير من المعاني التي ليس لها

معنى!. فالفن بغض النظر عن مناقشة تفصيالته مناقشة شرعية ففيه علة ظاهرة تجعله ال يصلح ألن يكون وسيلة دعوة إسالمية وهي : عدم القدرة على ضبط حدود اإليحاء . الذي سيقع في نفس المتلقي

k k خصبا نتيجة العمل الفني, وهذا يجعل الفن مرتعا لألوهام والمؤثرات المتداخلة والنتائج الغير متوقعة، ولهذا تجد أهل البدع يغرمون بمثل هذه األمور؛ ألنها

تمنحهم الفرصة لممارسة المبالغة وإدخال التصورات الشخصية داخل العمل دون تحرج اجتماعي وشرعي

قالبين من يقبلون ذلك . قد يقول قائل بأن النبي , فهذا في(1)لحسان: )أهجهم ومعك روح القدس!(

مواجهة الضد بالضد وليس في الدعوة إلى الله؛ ألن الدعوة ال تكون دعوة صحيحة إال إذا كانت تحقق

)البالغ المبين(، فالله تعالى يقول: )فهل على الرسل ويقول: )فإن تولوا فإنما عليك البالغ (2)إال البالغ المبين(

ــيرة وفي الصــحيحين: )أجب عــني اللهم)(1 ورد الحديث بألفاظ كثايده بروح القدس( وفي لفظ لمسلم: )هاجهم وجبريل معك(.

.35 النحل: )(2

49


وفسر ذلك البالغ قوله تعالى: )يا أيها (1)المبين( الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما

وقوله: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين (2)بلغت رسالته( كذلك قوله: و(3)للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون(

)وما أنزلنا عليك الكتاب إال لتبين لهم الذي اختلفوا فيه , ولو كتب رجل قصيدة(4)وهدى ورحمة لقوم يؤمنون(

أو فاسق ثم قال: بينت لهأو أدى مسرحية لكافر وأقمت عليه الحجة؛ لكان من الكاذبين , ال يخالف في

هذا حتى أحذق النقاد األدبيين الذين يجعلون معيار»قرأ فيها القصيدة الرائعة بأن يكون لها في كل مرة ت

إيحاءات ومعان® جديدة!. أما التمثيل والمسرح والغناء,k في بالد الغرب تجد أن بعض فحد�ث وال حرج!, خصوصا

الذين اعتنقوا اإلسالم منهم من يمارس الرومانسيةk k مشهورا k أمريكيا اإلسالمية بشكل علني، حتى أن مغنيا أسلم ثم صار يسمي نفسه " يوسف إسالم " يعد اآلن

k في الدعاة إلى اإلسالم في الغرب قام بعد رأسا اعتناقه اإلسالم بعمل فرقة من الرجال والنساء وصار

Peaceيغني للسالم، وله عرض عالمي شهير اسمه Trainأي )قطار السالم( يردد فيه عبارات حب السالم

وهو يتأبط الجيتار ويعزف وخلفه مجموعة فتياتk صغيرة حاسرات األذرع والرؤوس يحملن دفوفا

يضربن بها خلف الداعية الموسيقار ويرددن )أووه أووه نعم! نعم!( وأشياء كهذه!, وتم عرض هذا العمل

اإلسالمي ــ بزعمهم ــ في غير بلد إسالمي منها بعضدول الخليج!.

إني أذكر أنه في مادة المطالعة في المرحلة المتوسطة أو االبتدائية قصة رجل خسر في تجارته؛

.82 النحل: )(1.67المائدة: )( 2.44 النحل: )(3.64 النحل: )(4

50


ألنه كان يعرض األحذية للزبائن فوق قطعة قماش لونها اسود؛ فلما أبدلها بقماش أخضر تضاعف ربحه!,

k على تأثر الناس باأللوان. وكانوا يجعلون هذا مثاال فكذلك هذا داخل في التمثيل والمسرح ففيه من

المؤثرات الغير ظاهرة ما قد يدخل مفاهيم ومبادئ منحرفة للناس من حيث ال يشعرون . وفي يوم من

األيام صلى بجانبي عامل بناء في الثالثين من عمره،k ذراعيه على األرض كما جاء في فرأيته يسجد باسطا

النهي عن ذلك )انبساط الكلب(، وبعد الصالة وقفت له بقرب الباب؛ فلما أراد أن يخرج أخذت بيده وقلت له: بارك الله فيك, أنت فعلت كذا وكذا وهذا تشبه بالسبع

منهي عنه! فقال لي بكل صدق وحسن نية: كنت أجافي يدي عن جنبي حتى رأيت صورة لقطعة حجر

كبير يتداولها الناس وكأنها رجل في هيئة السجود،k ذراعية على األرض فمنذ ذلك وكان ذلك الحجر باسطا

الحين صرت أبسط ذراعي! اهـ . هذا أمر شاهدته فعرفته، فكيف بمفاهيم كثيرة قد تستقر في نفوس

الناس بسبب هذه األمور ال أحد يعلمها إال الله!.

إن المسلم العادي اليوم يواجه مشكلة كبيرة في تمييز المنهج الصحيح، وفي معرفة المصادر النقية التي

من خاللها يعرف التصور الصحيح للكون والحياة وعالقته بمختلف عناصر الكون الفاعلة؛ حتى أن

مسائل هي من مسلمات العقيدة عند عجائز نيسابور صار الناس اليوم يفتحون المجال فيها آلراء العوام الجهلة ليبدوا آرائهم فيها على شاشات التلفزيونات

وصفحات الجرائد, وهذه كلها خطوات رومانسية تنبع من مبدأ )حق النقد المطلق( و )حق التعبير المطلق(k. والمشكلة لدى هؤالء الدعاة الذي تكلمت عنه سابقا

اإلسالميين السذج أنهم ال يفرقون بين التعبير وبين الحكم!! فالحكم ليس له طابع اإلنشاء والظن؛ بينما

التعبير هو إبداء خلجات النفس على نحو يصو�ر ما فيها. ومن األمثلة على هذا اإلسالم الرومانسي قيام بعض

51


الدعاة بالتجاوزات الشرعية من خلط النساء بالرجال وخروجهن متبرجات دون إبداء النكير، وهذا يفيد بأن

k جديدة صارت تمارسها ولم تكن تمارسها للمرأة حقوقا من قبل!, وكذلك ترويجهم لبعض المصطلحات ذات

النكهة الرومانسية مثل )حقوق المرأة( الذي في اصطالحه فقط دليل على رغبة جادة في مراجعة أحكام المرأة في اإلسالم، وإال فإنه ال يقال حقوق

المرأة وإنما يقال )ظلم المرأة( أو )اضطهاد المرأة(؛ ألن حقوقها معلومة ليست بحاجة ألن تفرد في

مصطلح مستقل وبحث مستقل اآلن وبشكل جديد، فهذه كلها من مبادئ الرومانسية التي تنفي العدالة

عن أحكام وأهل القرن المنصرم بمجرد موتهم وانقراض قرنهم, فاإلنسان الرومانسي خائن بطبعة،

وأول شيء يفعله بعد دفن ميته هو أن يبصق على قبره ويقول له: )ذهب ما تعلم!(. وكذلك الدعوة إلى

التعايش، وتهافت الدعاة الرومانسيون عليها، وهذه بداية تأسيس الختزال العقيدة في السلوك المنزلي

والشخصي، وهذا عرض من أعراض الرومانسية.

ومن ذلك الدعوة إلى )صناعة النفوذ الكمي( بغض النظر عن اتحاد المبدأ ونقائه، وهذا ناتج عن )عقيدة

اإلخاء النفعي(، وهي أن يجتمع الناس على منفعة ويتجاهلون كل المحاذير الشرعية التي قد تمنع هذا

االجتماع, وهو مبدأ شبيه بمبدأ النقد الرومانسي الذيk والذي ينص على االقتصار على ذكر ذكرته سابقا محاسن العمل دون االلتفات إلى تجاوزه للقواعد والنمطية والشرعية, وقد رأينا من يزعم بأنه من

متبعي السنة ثم هو يجالس أهل البدع غالظ البدعة والعلمانيين ويجعلهم شركاء رسالة مع أنه لو ساقهم

كلهم شفعاء في إعتاق ذبابة من العدو ما نفعوه! ؛ ولكنه يشاكلهم ويداهنهم لعقيدة نفعية رومانسية في

k حسها النقدي, فهم يقولون ال إله اال الله وليسوا يهودا محتلين وال نصارى محاربين, ففيهم من سمات الجمال

52


ما يكفي لقبولهم وربما الوقوع في حبهم!!.

53

54الفصل األول: الجاهلية الرومانسية

المقدمات األولية للتصور

الصحيح

56الفصل الثاني: المقدمات األولية للتصور الصحيح

الفصل الثاني: المقدمات األولية للتصور الصحيح

مفهوم الحقيقة والمجد ليست الحقيقة معنى يكتسب القداسة من تأييد

k جماعة الناس أو رفضهم؛ ألن االجتماع البشري كثيراk في التاريخ أن ما يقع على الباطل؛ بل وقد تكرر كثيرا اجتمع الناس على الجريمة واألفعال الغير أخالقية التي يتقزز من فعل مثلها الوحوش والمجانين واقرأ كتاب " موسوعة العذاب " لتطلع على شيء من هذه الحقيقة الكئيبة. كذلك, ليست الحقيقة مخرجات تجربة عملية فهذا جائز في الماديات أما البشر فالحقائق اإلنسانية

والمعنوية بالنسبة لهم ال عالقة لها بالتجربة العلمية غالبا ، فلو سألت ألف شخص من مختلف أنحاء العالم

عن " حقيقة االستحمام " في حياة كل فرد منهم لوجدت أن بعضهم يراه عبادة مقدسة، وبعضهم يراهk، وبعضهم يراه نظافة ال بد منها، وبعضهم يراه ترفيهاk، وبعضهم يراه وسيلة k، وبعضهم يراه عالجا k زائدا ترفا

لتعديل مستوى الحموضة في الدم والحصول على جسد نشيط، وبعضهم يكرهه ويمقته، وبعضهم يرى أنه

من المحرمات كما في بعض الديانات، وكل هذه المعتقدات ال عالقة لها بالتجربة؛ ألن التجربة في هذا

السياق هي جريان الماء على البدن، وهذا يحدث بنفس الطريقة لكل هؤالء األشخاص غير أن الحقائقk من شخص آلخر, ولهذا كان في النهاية تختلف تماما

k في ذلك عندما قال تعالى: ) وإنالنص القرآني واضحا تطع أكثر من في األرض يضلوك عن سبيل الله إن

, ويطلق األكثر(1 )يتبعون إال الظن وإن هم إال يخرصون( وقد ثبتعلى ما زاد على النصف في أقل األحوال!.

يوشك أن يكون كما في البخاري قوله: »عن النبي خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع

.116 األنعام: )(1

57


«. فهذا يدل على أنالقطر يفر بدينه من الفتن الحقيقة قد تكون مع فرد في مقابل جماعة أو مجتمع

بأسره يغلب عليه الضالل. وفي حديث آخر فيk أتى النبي الصحيحين: » أ فقال أي الناسن رجال

أفضل؟ فقال: رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه. قال ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من

«. وهذاالشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شرهk يدل على أن المسلم الذي يعلم دينه حق العلم أيضا

ويوقن به حق اليقين ينبغي له أن يشتغل بالدعوة إليه والجهاد به وله وعنه، فإن لم يستطع فإنه يفر بما معه

من حقيقة من وجه طوفان الضالل الذي يحيط به فينقطع في شعب من الشعاب يعبد ربه حتى يموت على ما معه من حق. فوظيفة المسلم ــ واإلنسان

بشكل عام ــ هو أن يبحث عن الحقيقة ثم يحيا عليها حتى يموت، فليست وظيفة اإلنسان في هذا العالم أن

يمارس " العيش الكريم "، وإنما وظيفته ممارسة " الحقيقة الكريمة! " التي قد تضمن له العيش الكريم أو قد ال تضمنه فيقتصر األمر على " الحياة الطيبة " من حيث قوة اإليمان والشعور بلذته، أما ما يتصوره

k الناس من طيب عيش في مأكل ومشرب فليس شيئا تقتضيه "الحقيقة الكريمة"، حتى أن الله تعالى قال: )و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير(، وفي قراءة متواترة )ق»تل معه ربيون(، فإن كانت حقيقة النبوة

التي هي أعلى الحقائق قد يترتب عليه قتل النبي ومن معه كما حدث ليحيى عليه السالم الذي قدم رأسه

هدية إلى عاهرة في خيمتها, فوقوع ذلك على من دون النبي من باب أولى. والحياة على الحقيقة الكريمة والموت عليها هو النجاح الوحيد الذي تستطيع أن

k "، وقد سماه الله عز وجل في k حقيقيا تسميه " نجاحا قصة أهل األخدود بـ " الفوز الكبير " كما في سورة البروج مع أن القوم أحرقوا بالنار عن بكرة أبيهم مع

نسائهم وأطفالهم. فأما ما عدا ذلك فهي نجاحات آنية

58


لحظية تشبه في حدوثها الحصول على أكلة لذيذة بعد عناء في طبخها وتحضيرها مع العلم أنها سوف تنتهي

إلى أقرب مرحاض بعد ساعات قليلة, فالحقيقة الكريمة لها طابع الديمومة والخلود وكلما كانت الفكرة

قابلة للتغير السريع واالضمحالل في أي لحظة فهيk وعقيدة k مطمئنا فكرة ال يمكن أن تبني عليها " علما مستقيمة "، وهذا واضح لمن تأمله، ولمن يرى في

k أكبر من دور نفسه أنه يمثل في هذه الحياة شيئا الحمار والدجاجة البياضة والبقرة الحلوب وعلبة

الكوكاكوال، أو ببساطة ال يرى نفسه "سلعة استهالكية"على رف® في سوق كبير اسمه "القوى العاملة"!.

ال يمكن لشخص واحد أن يدرك الحقيقة الكونية المجملة لهذا الكون فيعرفها ويتمتع بها على يقين منها

دون االستفادة من مصدر خارجي لهذه الحقيقة . إن الفكر البشري المتراكم الذي يحلل اإلنسان وصلته

k، وال يمكن أن بالكون فكر متناقض يهدم بعضه بعضا يتكامل بشكل إنساني من الناحية العقلية والروحية

بحيث يتزايد في تقدم مستمر في الفهم واالستيعابk، أو ربما والتكامل؛ ألن كل جيل يمقت الذي سبقه غالبا

يكتب فيه قصائد الحنين والرثاء، فالبشر على اختالف عقولهم وأهوائهم وشهواتهم ال يمكن أن يتكاملوا لفهم

الكون، ولهذا تجد أن هذا العالم ال بد له من يد خفية تسطر له المعايير والمقاييس الصحيحة التي يسعد بها كل إنسان، فالذي أتقن خلق السماء واألرض وكل هذهk يمنحهم حق k معنويا الكائنات جدير بأن يتقن لهم نظاما

السعادة كما منحهم حق الوجود والتنفس واألكل والشرب على حد سواء، ومن ينكر هذه الحقيقة

الحتمية فهو إما جاهل بمعنى الربوبية واأللوهية، أو جاهل بتكوين هذا العالم وأصل نشأته, وبداية الشعور بهذا التصور هو بداية حصولك على "المفهوم الصحيح

للحقيقة".

59


إن المجد الحقيقي لإلنسان ولإلنسانية بشكل عام يكمن في تحقيق غايات وجودها، وفي فوزها الكلي

الذي يجمع " نجاح الدنيا " بالحياة على الحق والموت عليه، ثم النجاح األخروي الذي هو " الفالح " المترتب على النجاح الدنيوي كما في قوله تعالى: )كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن

زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا . فهذا هو الخالص الشخصي، وبغير(1 )إال متاع الغرور(

هذا الفهم ال يمكن أن يتحقق ألي فرد أي نجاح أو أي خالص حقيقي. وعندما أمتن الله سبحانه على البشرk، وخلق لهم الحيوانات من بأنه جعل لهم الجبال أكنانا

بهيمة األنعام ليأكلوا منها ويصنعوا من أوبارها وأصوافها البيوت واللباس، ومن دواب ليركبوا منها كالحمير

والبغال، وبث في األرض من كل شيء زوجين، وجعلk؛ k، والنهار معاشا k، والليل لباسا الشمس والقمر حسبانا

فإن مقتضى هذه المنة من الله هو " كمال النعمة وصدق السعادة "، فلو كانت هذه األشياء تعتبر "نعمة

ناقصة "، أو " مقومات ناقصة " ال يمكن أن يتحقق بها المجتمع اإلنساني السعيد لما امتن الله بها، ولكان الذين جاءوا من بعد ذلك فصنعوا اآلالت المصنوعة

أحق بهذه المنة من الله؛ ألنهم قد�موا للبشرية أدوات كمال إنساني حققت ما لم يحققه خلق الله األول

لمخلوقاته عندما خلق الكون من السماء واألرض وما فيهما, وهذا واضح؛ بل وواقع سوف يحدث في زمن

نزول عيسى عليه السالم عندما ينزل ليقاتل بالسيف بال صناعات وبال مخترعات كما هي حالناوالرمح!,

ثم يحكم العالم كما في صحيح مسلم: »اليوم, «فيمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة

يستظلون بالرمانة وتروي اللقحة من اإلبل القبيلة,k فال أدري ما هو تعريف k سعيدا فإن لم يكن هذا مجتمعا

فإن تحقيق المجتمع السعيد ال يفتقرالمجتمع السعيد!..185 آل عمران : )(1

60


إلى االختراع أو إلى االبتكار أو إلى الصناعة؛ ولكنه يفتقر إلى " نقاء الجنس البشري من كل أنواع الشرك

والكفر والنفاق وكل مقومات تلك األشياء ". وقد يسخر الناس من مثل هذه المثاليات التي يندر تحققها؛ ولكنها ستتحقق، وثبت ذلك كما في زمن نزول عيسى

عليه السالم. ولكن الناس ال يسخرون من مثاليات أرضية مادية كالتي قالها كارل ماركس في تنظيره

لمستقبل الشيوعية عندما توقع أن العالم كله سيصبحk، ثم يستغني الناس في النهاية عن الحكومات شيوعيا

ويعيشون في "طبقة واحدة" ليس فيها حكومة وال شرطي!!, ثم رأينا من يؤمن بهذا ويثور ألجله الثورة الحمراء التي يقيمها على جثث أهله وبني جلدته وهو

يغني في بعض شوارع العالم العربي:

إن تسل عني فهذي قيمي *** إنني ماركسيلينيني أممي

وهذا والله هو العمى والصمى!!. ولهذا عندما ينزل عيسى عليه السالم وقبل أن يقوم له المجتمع السعيد

فإنه يقتل الدجال وحزبه الكافر، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ثم يقوم له أمر حكمه. وهذا ال ينفي أن المصنوع البشري قد ال تتم السعادة إال به؛ ألن الوضع

�ر، فصارت هناك مفاسد غيرت األصلي للعالم قد تغي هيئة المجتمع المسلم األول الذي أشرك بعد عشرة قرون من نزول آدم على األرض, كما ثبت ذلك عن ابن عباس في صحيح البخاري, فصار هناك عناصر

فاسدة تمتلك مصنوعات أخل�ت بتوازن مقومات الخير والشر فصار كمال مقومات المجتمع السعيد لم تعدk فيها " تقتصر على المخلوق األصلي وإنما صار داخال

المصنوع البشري "، ولهذا قال تعالى: )و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره

؛ ولكن هذا ال يعني أن هذا المصنوع(1 )ورسله بالغيب(

.25الحديد: )( 1

61


صار هو األصل؛ بل هو " مطلب زائد على األصل ". وهذا كله في سياق "االجتماع والمجتمع "، وإال فإن

اإلنسان على مستوى الفرد قادر على أن يبني الحياة السعيدة على المقومات األصلية للعالم، ويدل على

يوشك أن يكون خير مالذلك الحديث السابق » المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر

«، وهذا الفهم يستسيغه فقط من يعلمبدينه من الفتن المعنى األشمل للسعادة الذي ال يقتصر على تنع�م

الحواس وحدود السمع والبصر؛ بل يكون كذلك المسلم الذي صاح بأعلى صوته ذات يوم وهو في

فقال: " إني ألشم ريح الجنة دونجيش رسول الله k أن تشم ريح الجنة وأنت أحد ", فيكفيك لتكون سعيداk ال يستسيغه إال من يعرف ذلك!!. في الدنيا, وهذا أيضا

أذكر أنني أيام الدراسة الجامعية قرأت رواية ألديب فرنسي اسمها "الفنان" تحكي قصة رجل قام بتربية أبنائه تربية كريمة، وبعد تخرج أبنائه واطمئنانه

عليهم وبعد حضوره لزفاف ابنته هرب في ليلة ظلماءk إلى قرية نائية في وعمره يناهز الخمسين عاما

ضواحي فرنسا، وجلس في كوخ صغير يرسم ويكتبk القصائد وقد ترك حياته السابقة، وترك أهله متخفيا

عنهم، وكذلك وظيفته المرموقة، واعتزل هذه العزلة االختيارية؛ حتى إذا أدركه الموت دخلوا عليه وهو على سرير® رثٍ تحيط به لوحاته الفنية وهو يبتسم ويقول:

اآلن أموت سعيداً !. فقد كانت هذه الرغبة تخالجه، وكان يرى بأنه ما جاء إلى هذه الحياة ليلعب دور

البقرة الحلوب ثم يرحل؛ ولكن ينبغي أن يعبر وأن يحيا الحياة كما يريدها وليس كما هي تريده، فانتهى به

األمر إلى ذلك التصرف وذلك االجتهاد!. فليست السعادة إال خليط فكري وروحي يخالج النفس فتنتشي وتفرح بغض النظر عن أدوات الواقع. وبما أن اإلسالم

هو الحبكة المعنوية اإللهية التي تناسب كل فطرة سليمة فبه يستطيع كل أحد أن يسعد ولو كان في

62


جحر جرذ قديم, ولكن أين الذي يصل إلى تلك التركيبةالروحية الدقيقة من حيث اإليمان والفهم والتطبيق؟!.

المشكلة في اإلنسان المصاب بداء " الهوس الفكري " إنه ال يقتنع بما وراء العقل حتى يفقد عقله

k بمعنى ما وراء أو يقف على أبواب الموت فيشعر فعالk الوجود المحسوس فيستسلم ويعود إلى رشده. تماما كما حدث آلخر عظماء اإللحاد في الغرب "جون بول

سارتر" صاحب كتاب "الوجود والعدم" الذي أقلق حقبة الستينيات فما بعدها، والذي أسس مذهب

الوجودية، وكان يدعو إلى تحويل اإلنسان إلى ميكانيكي حذق يغمر نفسه في حفرة الزيت تحت

السيارات طيلة حياته ال يخرج إال لألكل والنوم، ثم يعودk من تصوراته كل ما وراء إلى الحفرة من جديد ملغيا

الحفرة وما هو خارجها تحت شعار )إكدح حتى تنسى(، و)التقط اللذة ولو من المرحاض( و ) عش كأنه لم

يكن أحد قبلك و لن يكون أحد بعدك ( , ثم ماذا؟!!. يقول سارتر في آخر حوار له عن آرائه الفلسفية

واألدبية: أنا ال أشعر بأني ذرة غبار ظهرت في هذا الكون وإنما ككائن حساس تم التحضير لظهوره

وأحسن تكوينه أي بإيجاز ككائن لم يستطع المجيء إال اهـ .(1)من خالق!!.

هكذا؟!. نعم, هكذا!.

والوجودية واإللحاد واألتباع؟!

أين نذهب بكل هذا وأين يذهب كل هذا؟.

"جهنم الحمرا"!!.. هذا هو رأي سارتر األخير!. إن تاريخ الصراع البشري في البحث عن المثالية اإلنسانية ليس ناتج عن فقدان الوجود الحقيقي لتلك

k وإنما هو ناتج عن عدم فهم k وعمال المثالية علما "مفهوم الحقيقة الكريمة" التي تترتب عليها المثالية

.146انتحار المثقفين العرب , محمد جابر األنصاري , ص )( 1

63


والفضيلة والنجاح الكوني، ولهذا نجد أن بعض المجتمعات تبحث عن تلك المثالية في جدول الضرب،

والجدول الدوري للعناصر الكيميائية، وبعض المجتمعات تبحث عنها في الخرافة الموروثة عن العصور األسطورية أو الديانات المحرفة، وبعضها

تبحث عنها في اإلغراق في الشهوة واللذة واألنانية الشخصية، ثم ينتهي الجميع إلى فشل ذريع يلخصه لنا البروفيسور إنتوني غدينز عندما نجده في كتابه "علم

االجتماع" يعود من حيث ال يشعر إلى البحث عنk أن "مقاييس ومعايير شاملة ينبغي على البشر جميعا

k لمفهوم "الدين يلتزموا بها" وكأنه بذلك يضع تعريفا الحق" فهو ليس إال مقاييس ومعايير ينبغي للبشر

k أن يلتزموا بها!!, حيث يقول في نفس الكتاب جميعا وهو يتحدث عن شعوره بالحيرة وااللتباس87ص

تجاه نظرية "النسبية الثقافية" في علم االجتماع التي تدعو إلى االعتقاد بأن كل الثقافات على خير وهدى!

فيقول: » إن تطبيق مبدأ النسبية الثقافية وتعليق وتجميد اقتناعاتك ومعتقداتك الشخصية العميقة قد

k k واضحا يكون مجلبة للحيرة وااللتباس, ويطرح تحديا لقدرتك على الدراسة الموضوعية. وال يقتصر ذلك

على تعطيل القدرة على رؤية األمور من وجهة نظر أخرى, بل يتعداه إلى إثارة سلسلة من األسئلة

اإلشكالية المقلقة. هل تعني النسبية الثقافية أن جميع العادات والمسلكيات سليمة مشروعة؟ هل ثمة

k أن مقاييس ومعايير شاملة ينبغي على البشر جميعا . قلت: نعم!. تجدها في قوله تعالى:(1)يلتزموا بها؟ «

اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي).(2 )ورضيت لكم اإلسالم دينا(

.87علم االجتماع ، إنتوني غدينز ، ص)( 1 .3 المائدة : )(2

64


أصل العلم كله من الله لمعرفة الطريق الصحيح إلى الولوج في عالم المعرفة الكلية للكون وعناصره ومظان طلب ذلك

العلم وتلك المعرفة وطرق تلقيها فإنه ينبغي الرجوع بربه وكيفية خطابإلى البدايات األولى لعالقة محمد

الله عز وجل له؛ لكي يتعرف اآلدمي العادي إلى األسلوب األمثل في تشرب العلم واستيعابه وإلى الدخول في التصور الكلي للكون وكيفية بناء ذلك

التصور سواء في أولوياته أو في نسقه أو اتساقه.

من المعلوم لكل مستقرئ لنصوص الشريعة أن الله عز وجل بدأ بالعقيدة وأركان اإليمان بالذات قبل أن يشرع التكاليف الفردية والجماعية، وكان الخطاب

k يناقش الجذور الفكرية لكل إنسان، صريحاً واضحا ويعظ النفس البشرية بشكل عام ويبص�رها بتركيبتها

الداخلية، فيتكلم لها عن الهلع والجزع والظلم والكفور والعجلة وحب المال وكراهية الموت والتكبر والحسد والضعف, وغير ذلك, ويأمر بالتجرد الفكري والصدق

مع الذات قبل كل شيء, فيقول تعالى )قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم

, ويقول كذلك(1)تتفكروا ما بصاحبكم من جنة( سنريهم آياتنا في اآلفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم)

(2)(أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد

ح الله عز وجل في هذه اآلية أن أصل اإليمان فيصر� واليقين بأن الله هو الحق هو أن يكون لديك "تصور

صحيح" لهذا الكون بما في ذلك نفسك التي بين جنبيك؛ وذلك بمعرفة عناصره وتراكيبه وغايات خلق

كل مخلوق فيه؛ ألن األشياء إنما يحدد موقعها في هذا

.46سبأ: )( 1.53 فصلت: )(2

65


العالم غايتها التي أوجدت من أجلها، ووظيفتها التي ينبغي أن تقوم بها لتحقيق تلك الغاية، ثم استشهد

على أنه هو المصدر الوحيد الذي ينبغي له تبيان هذه األشياء بأنه )على كل شيء شهيد(، فهو الذي شهد

نشأة العالم، ونشأة كل ذرة فيه؛ ألنه ما من غائبة في السماء واألرض إال في كتاب مبين؛ وألنه خالق كل

شيء وهو على كل شيء وكيل, فبث هذه العلوم في ألصحابه فيقولكتابه وسنة نبيه، حتى صار يتحدث

حين غربت الشمس » تدريكما في قصته مع أبي ذر أين تذهب؟ «. قلت الله ورسوله أعلم قال: » فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فال يقبل منها، وتستأذن فال يؤذن

لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى )الشمس تجري لمستقر لها

k(1) «(ذلك تقدير العزيز العليم . وكما في قصته ــ أيضا رأى شاتين تنتطحانأن رسول الله ــ مع أبي ذر

فقال: » يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟«، قال: ال، . فهما(2 )قال: » لكن الله يدرى وسيقضي بينهما «

شاتان ولكن بينهما لغة مشتركة، ومظلمة قائمة، وشعور باألحقية متنازع فيه، وشجار لن ينتهي إال

بالعدل، فإن لم يكن اآلن فسيكون ذلك يوم القيامة، فكل شيء في كتاب، وكل شيء واقع تحت الميزان، ولن يخسر الميزان من أمر بإقامة الوزن فيه!. فليس

في هذا العالم شيء إال وهو آية في ذاته, له غاياته وصفاته التي ما وضعت فيه إال لغاية كونية أو شرعية

فهو تبارك وتعالى )الذي خلق فسوى * والذي قدر . وألجل أمثال هذه النصوص قال أبو ذر رضي(3)فهدى(

k ــ: وما يتقلب»لقد تركنا رسول الله الله عنه ــ أيضا

.38 يس: )(1ــاني في السلســلة الصــحيحة: إســناده)(2 ــال األلب رواه أحمــد, وق

صحيح، وحسنه شعيب األرناؤوط في حكمه على أحاديث المسند..3, 2 األعلى: )(3

66


» k . ولهذا(1 )في السماء طائر إال ذكر لنا منه علما أقول: إن العلم في المقدمات وليس في النتائج. فهذا

هو الذي ربانا عليه القران عندما جاء ليبني الخلفية العقدية األولى التي ستكون حاضنة لكل التصورات

القادمة لكل نص مقد�س في الشريعة؛ حتى قال بعض كل سورة»أهل العلم كما ذكر السيوطي في اإلتقان:

فيها قصة آدم وإبليس سوى البقرة فهي مكية، وكل .(2)سورة فيها قصص األنبياء واألمم الخالية مكية«

فنحن فصل متأخر في ملحمة من القصص والمآالت، ولن نفهم هذا الفصل الذي نعيشه حتى نراجع كل

المقدمات األولى التي منها نشأ هذا الكم الهائل منالسبل والنتائج الناجحة والفاشلة.

ويذكر الله عز وجل في القران الكريم تعليمه آدم األسماء كلها، وهذا هو أصل كل علم البشر مما لم يكن من الغيبيات التي أوحيت إلى األنبياء بعد ذلك، وفيه تقرير للمبدأ اإللهي الذي يذكره الله عز وجل

k وهو )والله يعلم وأنتم ال تعلمون( ، فاألصل في(3)كثيرا اإلنسان الجهل، وان العلم بالنسبة إليه أمر أجنبي

يطلبه من غيره؛ ولكن بعض الناس ممن ال يعرف قدر نفسه، وقد صار في مكانة يسمع الناس فيها لقوله،

يظن أن العلم هو مجرد أن يجلس ويحك رأسه، ويكتب، ويسخر اإلسالم لخياالته الحالمة، ويحتكر فهم

�ات أفكاره، تحت دعوى التجديد وإعادة اإلسالم على بني قراءة النص. وفي يوم من األيام, كان يجلس شيخ

فاضل في درسه والناس من حوله فأشار إلى طفل يجلس بالقرب منه فقال له: أنت مسلم؟ فقال: نعم!

قال الشيخ: وتفكر؟ فقال: نعم!, فرفع الشيخ رأسه وقال للحضور وهو يشير إلى الطفل: هذا " مفكر

رواه أحمد وصححه األلباني في الصحيحة.)(1 .1/56 اإلتقان للسيوطي ،)(2.66 آل عمران: )(3

67


, مسلم ويفكر!.إسالمي"

إن العلم الحقيقي لن يكون من سوى الله، ولهذا قال تعالى لنبيه في بداية الوحي والنبوة: )إقرأ باسم

فربط العلم باالكتساب، وهو هنا (1)ربك الذي خلق( القراءة، ثم ذكر أن ذلك ينبغي أن يكون باسم الله, بالله ولله، وختم اآلية بصفة الخلق؛ لكي يذكر بأن

الخالق هو الذي يعل�م وأن المخلوق هو المتعل�م، وال ريب فجذور العلم وأصول أبواب المعرفة بالنسبة

لإلنسان شيء أجنبي يطلبه من خارجه، والذي يظن بأن الحقائق المستقلة التي ال تعتمد في تصورها

وثبوتها على غيرها قد تولد بداخله فهو إما مدع® للنبوة أو مجنون. يقول تعالى بعد ذلك )خلق اإلنسان من

أي يا محمد أنت مخلوق من علق فإن وجدت (2)علق( نفسك في حيرة من أمر هذا الوجود والعلم بحقيقته

فال تقلق لذلك فهذا أمر مالزم لكل شيء حادث الوجود، فاألصل أنك علق، واألصل أنك جاهل وال علم

لك إال ما عل�مك الله، والله هو الذي خلقك من علق وشهد خلقك ونشأتك وقام عليها بقيوميته فإليه الملتجأ

وعليه التكالن، وهو )األكرم * الذي علم بالقلم * علم وهذا هو أول موضع يصف الله (3)االنسان ما لم يعلم(

نفسه فيه بالكرم لنبيه فربط ذلك بالعلم، فقال )األكرم * الذي علم بالقلم * علم اإلنسان ما لم يعلم(؛

عظمة هذا الوحي الذي يأتيه، ثملكي يدرك النبي فذكر، (4)قال )كال إن اإلنسان ليطغى أن رآه استغنى(

الله عز وجل أن من طبيعة اإلنسان الطغيان، وهو مجاوزة الحد، وهو هنا مجاوزة الحد في تعظيم النفس،

فاإلنسان يطغى إذا رأى أن قد استغنى بما لديه من

.1 العلق: )(1.2 العلق: )(2.5 ـــ 3العلق: )( 3.6 العلق: )(4

68


مكاسب محسوسة يظن أنها تغنيه عن كل ما سواها، فمن يجد نفسه قادرة على إدارة حياته بطريقة

مجدية، بحيث يأكل ويشرب وينكح ويجمع المال يرى أنه قد استغنى عن عــلم الله، وتعليم الله، وما جاء

من الله، فهو يعيش بحذقه يفكر ويمضي في حياته بما لديه من عقل يصرف به أموره، فيترك العلم الذي جاء

من الله، ويعرض عن دين الله، وهذه خدعة شيطانية يقع فيها كثير من الخلق الذين يمارسون الحياة بطريقة بهيمية، بحيث يرونها المأكل والمشرب

والتلذذ، ثم ينغمسون في ذلك كله، ويتركون الدين وراء ظهورهم؛ بل ان حتى بعض اإلسالميين ممن

يعلنون العمل لإلسالم إذا وجدوا القوة في شيء هو على كثير من مخالفة دين الله أخذوا به بحجة تقدير

المصلحة والمفسدة، فيستغنون عن الله ليصلوا إليه، ما كان يستغني إال بالحق الذي جاءهمع أن النبي

من الله، وما كان يرو�ج اإلسالم بين الناس كما يرو�ج التاجر الحريص الجبان بضاعته بالمراوغة والمخاتلة وعدم الوضوح؛ بل كان يصف اإلسالم على حقيقته،

k به، ال يخرم من أصوله شيئاً تحت أي k عليه مؤمنا أميناة السلمي رضي الله س ظرف؛ حتى قال عمرو بن عب

k، فقعدت علىعنه: سمعت برجل بمكة يخبر أخباراkراحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله مستخفيا

جرءاء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، أنا نبي«، فقلت: وما نبي؟»فقلت له: ما أنت؟ قال :

أرسلني الله«، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟»قال: أرسلني بصلة األرحام، وكسر األوثان، وأن يوح�د»قال:

الله ال يشرك به شيء«، قلت له: فمن معك على حر وعبد«، قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبالل»هذا؟ قال:

ممن آمن به، فقلت: إني متبعك، قال: إنك ال تستطيع ذلك يومك هذا، أال ترى حالي وحال الناس؟ ولكن .(1 )ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني«

رواه مسلم.)(1

69


فال يمكن أن تبني نفسك إال على مثل هذه الصراحة بين األصنام, جرءاء عليه قومه, يقولوالوضوح فهو

لرجل غريب يسأله عن دعوته بأنه أتى بكسر األوثان،�ن له أنه ضعيف، فلم يزعم أنه وأن يعبد الله وحده، وبيk تسللوا إلى برلمان قريش المسمى دار دس� له أتباعا الندوة وأنهم يحكمون مكة من وراء ستار؛ ولكن قال

k، ومع هذا كله k واقعيا k صادقا معي حر وعبد، فكان مؤمناk بربه، وأنه على كل شيء قدير، فقال عد كان موقنا

فإذا سمعت بي قد نصرني الله وقد وعدني بذلك وهو منجز وعده فأتني, فال يمكن أن تنشئ دعوة ناجحة إال على مثل هذه الصراحة والوضوح وهذا االعتزاز بالعلم

من الله والتمسك بذلك كله, فاألصول يجب أن ال يكون فيها اشتباه وال غموض وال تذبذب بين احتمالين،

وفرق بين أن تقع أنت على العقيدة وبين أن تقع العقيدة عليك، فالذي يقع عليه اإلسالم فيعتنقه يكون

على أهبة من التضحية والتغيير وألن يتحول كيفما حوله الدين الجديد، وأما المتأسلم النفعي الذي وقع

من بطن أمه على اإلسالم وأهله فهو ال يعرف الجاهلية، فإنه ال يقدم إال على ما يعزز النفعية في حياته، فإذا تعارض الدين والمنفعة في نظره وجد

k في " k فاضال k، والتباع الهوى بعدا k فقهيا للشذوذ تخريجا الجاهلية الرومانسية ", حتى قال قائلهم: لوال اشتغالي

k, فالفن رسالة k مسرحيا بالدعوة إلى الله لكنت فناناعظيمة!.

قد يظن متسائل أن هذا الكالم ما كان ينبغي أن يكون تحت هذا الباب، والصحيح أنه ينبغي التوكيد على

هذه المسألة خصوصاً في مراحل البناء األولى لشخصية المسلم، فالذي يريد أن يزيل الذروة يزيل

k؛ بينما الذي يريد أن يزيل األساس فعليه أن يزيل حجرا البناء كله ولهذا يقول تعالى )أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على

70


, فكل اآليات(1)شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم( التي نزلت في ترك المداهنة وحثت على الصبر على الحق وتوحيد مصدر التلقي للعلم إنما كانت في أول

اإلسالم، فسورة الكافرون وسورة القلم وغير ذلك من اآليات الصريحات في التأكيد على نقاء المعتقد وصفاء المبدأ كقوله تعالى في سورة يونس ــ وهي مكية ــ:

)وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين ال يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله

من تلقاء نفسي إن أتبع إال ما يوحى إلي إني أخاف إن . والمعنى من هذا(2)عصيت ربي عذاب يوم عظيم(

الباب اإلشارة إلى أن األمانة التي حملها اإلنسان والخالفة في األرض التي جعلت له إنما هي معانٍ

عقدية لها أبعاد موغلة في الزمان األول حيث نشأة الكون ونشأة آدم والشيطان، وأن تلك المعاني كانت منوطة بكل األمم السابقة كما هي منوطة بنا اليوم،

k لتحقيق هذه الخالفة k مع تلك األمم تبعا وأن لله قصصا من عدم تحقيقها، فينبغي لنا أن نعود إلى كل تلك

المقدمات التي ال يعلم حقيقتها إال من استقاها من الكتاب والسنة وتلقاها عن مشكاة رب العالمين الذي هو خالق كل شيء وهو على كل شيء شهيد, فليست

الخالفة في األرض عيني فتاة جميلة وال ضفيرتيهاk للشعراء وأهل الخياالت الحالمة يتكلمون لتكون شغال فيها كيفما أملت عليهم مخيالتهم الرومانسية الخصبة المتدبقة بكل أمر دنيوي مرغوب, ولسان حالهم قول

امرؤ القيس:

د̄فة® ̄سحار£ في كل° س» د» باأل ²اح£ **ُ»يغر° د مي غر³ تب ²دامى الم»طر° (3)الن

ولكنها الوظيفة األولى لألنبياء والرسل ومن تبعهم.109 التوبة: )(1 .15 يونس: )(2.1/557 لسان العرب ،)(3

71


بإحسان إلى يوم الدين, قال تعالى: )يا داود إنا جعلناك خليفة في األرض فاحكم بين الناس بالحق وال تتبع

الهوى فيضلك عن سبيل الله * إن الذين يضلون عن .(1)سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب(

وقال تعالى: )ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون * ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه

فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم ال إلى قوله )يا أيها الرسل كلوا من الطيبات(2)يؤمنون(

واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم

زبرا كل حزب بما لديهم فرحون * فذرهم في غمرتهم.(3)حتى حين(

1)(.44 ـــ 43المؤمنون: )( 2.53 ـــ51 المؤمنون: )(3

72


حقيقة الكون والنظامk بالشيء حتى يعلم حقيقته ال يكون اإلنسان عالما التي خلقه الله عليها ومنفعته التي خلق ألجلها، فإن

كان من صنع البشر ولم يكن من الشيء الذي استأثر الله بخلقه فالعلم به هو معرفة حقيقته التي صنع عليها

k ليس k مجردا والمنفعة التي صنع ألجلها، فإن كان معنا له عين فالعلم به يكون بمعرفة حقيقة معنى اللفظ الموضوع بترتب وقوعه على كل ما يدل عليه بغايته

التي عبر عنه ألجلها, كالكذب والموت مثال, فال يكونk في عقل من يريد التعرف عليه معنى الكذب واضحا

حتى يخالف الخبر المخبر عنه، وال يمكن أن نعلم بمعنى الموت ونتحقق من ذلك حتى تنقطع الحياة, وهكذا. هذه المعاني في تعريف العلم مأخوذة من

كتاب الله حيث يقول تعـالى: )سبح اسم ربك األعلى * وقال تعالى:، (1)الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى(

)قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل ، فإن موسى عليه السالم قام(2)شيء خلقه ثم هدى(

بتعريف ربه سبحانه وتعالى لفرعون بأنه هو الذي خلق كل شيء فأعطاه خلقه وهيئته وقدر مقادير خلقته ثم

هداه لما خلقه له، ولهذا قال ابن عباس في تفسير »خلق لكل شيء زوجه ثم هداه لمنكحههذه اآلية:

, وقال مجاهد:(3 )«ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده »)سو�ى( خلق كل دابة ثم هداها لما يصلحها وعلمها

إياه ولم يجعل الناس في خلق البهائم، وال خلق البهائم «في خلق الناس؛ ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا

.3 ـــ1 األعلى: )(1.50 ـــ49 طه: )(2 .421 /8 تفسير الطبري ، )(3

73


فإن كان هذا الجواب من موسى عليه السالم, (1)k الجهل بالله في عقل فرعون فإن k نافيا لفرعون جوابا

عكسه هو العلم الذي ينفي الجهل عن كل مخلوق في عقل أي متسائل, أي أن المخلوق المراد العلم به هو

ذلك الشيء الذي خلقه الله بتلك الخلقة والهيئة المعينة ألجل تلك الغاية المعلومة، فهذا هو العلم بالشيء بأن تعرف حقيقة خلقته التي خلق عليها

بمنفعته التي خلق ألجلها، وقل في المصنوع والمعاني المجردة مثل ذلك. وهذه الطريقة في تعريف األشياء هي ما جاء في كالم الله عز وجل كما قال تعالى في

سورة الواقعة: )نحن خلقناكم فلوال تصدقون * أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن

نبدل أمثالكم وننشئكم في ما ال تعلمون * ولقد علمتم النشأة األولى فلوال تذكرون * أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه

حطاما فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون * بل نحن محرومون * أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء

جعلناه أجاجا فلوال تشكرون * أفرأيتم النار التي تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون * نحن

جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين * فسبح باسم ربك. (2)العظيم(

بعد اإلشارة إلى هذه المعاني المذكورة تعلم أنه ال يمكن أن تدرك حقيقة أي نظام حتى تدرك حقيقة كل العناصر الداخلة فيه من حيث حقيقة تركيبها وتنشئتها،

ومن حيث غايات صنعها التي أوجدت هي من أجلها، وكذلك طريقة عملها؛ لكي تكون محققة لتلك الغايات التي تم إيجادها من أجلها, ولهذا تجد ان الله عز وجل

.421 /8 تفسير الطبري ، )(1.74 ـــ 57 الواقعة: )(2

74


يتكلم عن تراكيب مادية في هذا الكون ليس لها دخل بالحسنة وال السيئة، وال عالقة لها باألمر الشرعي، مثل قوله تعالى )ولقد خلقنا اإلنسان من ساللة من طين *

ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما

فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله فإن قيل بأن الله ذكر هذا ــ فقط (1)أحسن الخالقين(

ــ ليثبت أنه أحسن الخالقين، لقلنا بأنه يكفي أن يقول لنا بأنه أحسن الخالقين فنؤمن بذلك دون كل هذه

التفاصيل، فإن آمنا بأنه خالق كل شيء أفال نؤمن أنه أحسن الخالقين؟! ولكن المعنى هو أن يبين لنا حقيقة هذا الشيء المسمى اإلنسان الذي خلقه ولم يكن في حين من الدهر شيئاً مذكورا؛ ألن هذا ركن من أركان

معرفة اآلدمي نفسه، ويبقى بعد ذلك الركن اآلخر وهو ألي غاية خلق الله هذا اإلنسان؟, وكذلك هي الحال في كالمه عن البرد في قوله تعالى )ألم تر أن الله

يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خالله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد

.(2)سنا برقه يذهب باألبصار(

والفرق بين إشاراتنا هذه وبين قول من يجعلk يشرح كل موجود على األرض وكل القرآن دفترا

k من مخترع جديد هو أننا نقول بأن الله ما ترك مخلوقا مخلوقاته التي أوجدها على األرض أو في السماء

وسيحتاج ابن آدم العلم بها في الدنيا أو اآلخرة إال وقد أشار إلى أجناسها بشيء من تفصيل خلقتها أو أصلk مادتها وغاية خلقها؛ ليكون تركيب هذا العالم واضحا

في ذهن وخيال كل مسلم، وقبل هذا علم آدم األسماء كلها حتى قال ابن عباس: »عرض عليه أسماء ولده

.14 ـــ 13 المؤمنون : )(1.43 النور: )(2

75


k والدواب فقيل: هذا الجمل هذا الحمار k إنسانا إنسانا في بعض. وقد تكلم النبي (1)هذا الفرس وكل شيء«

األحاديث عن معان® كان يريد التنبيه إليها تصب في مثل هذا الباب الذي نتكلم فيه اآلن، فقد جاء في

قال: » بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبهاالصحيحين أنه فضربها فقالت ــ وفي رواية: التفتت فقالت, يعني

,(2 )البقرة ــ: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث « وكذلك جاء في المسند بسند صحيح: أنه أهديت إلى

بغلة فأعجبته فقلنا: يا رسول الله لورسول الله أنزينا الحمر على خيلنا فجاءت مثل هذه، فقال: »إنما يفعل ذلك الذين ال يعلمون«. ففي الحديث األول تنبيه على أن البقرة خلقت ألغراض معينه كما قال تعالى: )وإن لكم في األنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى

فكانت البقرة داخلة في قوله: )ولكم (3)الفلك تحملون( فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون( وليست مما يحمل الناس عليه وقد كانت هي عالمة بذلك ألنه تعالى

. فال بد لإلنسان(4))أعطى كل شيء خلقه ثم هدى( لكي يكون خليفة في األرض أن يعلم كل هذه األشياء لكي ال يظلم فيضع الشيء في غير موضعه فإن فعل

عن الذي ينزي الحمارفقد ظلم وجهل, ولهذا يقول على الفرس بأنه فعل أفعال الذين ال يعلمون!,

فالحمار لم يخلق للفرس ألنه تعالى يقول )ومن كل.(5)شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون(

فكل جنس مكو�ن من زوجين وقال تعالى )سبحان

.109 /1 تفسير ابن كثير ،)(1 رواه البخاري .)(2.21 المؤمنون : )(3.50 طه : )(4.49 الذاريات: )(5

76


, فهو هنا يمدح ويمج�د نفسه(1)الذي خلق األزواج كلها( بأنه خلق لكل شيء زوج من جنسه، ثم يأتي آت®

فينزي جنساً على غير جنسه وكأنه يقدح في حكمة الله ويستهين بدقة حبكته وصنعته التي امتدح بها نفسه!. إن الحمار ليس من جنس الفرس وإنزاء

الحمار على الفرس جهل بهذه الحقيقة في تكوين الحمار والفرس وفي غاية خلق الحمار والفرس. وتجد

هذا المعنى في حديث البغلة يتكرر في وصفه تعالى لعمل قوم لوط في وقوع الرجال على الرجال فإن

هذا خلل في معرفة تكوين الذكر والغاية الكونية لتكوينه فهو خلق لألنثى وليس لذكر مثله ولهذا قال

تعالى عن قوم لوط: )أئنكم لتأتون الرجال شهوة من فوصفهم بالجهل (2)دون النساء بل أنتم قوم تجهلون(

ألنهم أغفلوا الركن اآلخـر في العلم باآلدمي وهو الهيئة التي خلق عليها والغاية الكونية التي خلق على هذه

k. والذي k عمليا الهيئة ألجلها, فكانوا من الجاهلين جهال يجهل مثل هذه األشياء في مواطن كثيرة في نظام

الكون سيكون مصدر إفساد له ولحقيقة تكوينه المرتبطة بمنفعته التي خلق ألجلها ولهذا ينبغي أن

k بحقائق التكوين يكون "اإلنسان الخليفة " عالما وغايات الخلق في كل شيء من حوله على نحو يختلف في تفصيله وإجماله من مخلوق إلى آخر وذلك حسب عالقة اآلدمي بذلك المخلوق واحتياجه العلم به، وألجل

هذا قال تعالى: )و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدتk (3)السماوات واألرض ومن فيهن( k وفسادا k كونيا فسادا

k؛ بل إن الساعة التي هي خراب الكون ال تكون شرعيا إال بسبب فقدان هذه المعاني األصلية في مخالفة

k األشياء لغايات خلقها فقد جاء في الصحيح أن أعرابيا : متى الساعة؟. وكان يسأل عن الحدسأل النبي

.36 يس: )(1.55 النمل: )(2.71 المؤمنون: )(3

77


بالحد السببي فقال: »إذاالزمني، فرد عليه النبي �عت األمانة فانتظر الساعة«. قال كيف إضاعتها؟ ضيد األمر إلى غير أهله فانتظر الساعة« ,(1 )قال: »إذا وس�

فأصل كل خلل في الكون هو في أن يفقد الشيء هيئته الفاعلة التي كان يعتمد عليها في أداء وظيفته

األصلية، أو أن يفقد القدرة على تحقيق غايته أو منفعته التي ينبغي له أن يحققها, فإذا ساد هذا االختالل حتى صار أهم عنصر في الكون وهو اآلدمي ال يستطيع

تحقيق غايته التي خلق ألجلها وهي التوحيد والعبودية : »اللله وذلك الندثار العلم وفشو الكفر كما قال

, فإذا(2 )تقوم الساعة وعلى األرض من يقول الله الله« حدث ذلك قامت الساعة؛ ألن هذا العالم الذي كان

k لإلنسان فقد غايته التي خلق أصل خلقه ليكون حاضنا ألجلها؛ ألن اإلنسان بدوره فقد غايته بانقراض اإليمان

وتوسيده األلوهية لغير الله وصار ليس لوجوده غاية فعندها سيعلن الله عز وجل نفخة الصعق التي ستبيد

البشر ثم يبيد من بعدهم هذا الكون بأسره حتى ينادي سبحانه: لمن الملك اليوم, فال يجيبه إال نفسه المقدسة

. وسنناقش هذا األمر بمزيد من التفصيل في بابالعدل الكوني والشرعي.

والمعنى من إيراد هذا الباب هو اإلشارة إلى أن الخالفة في األرض نوع من السيطرة أو االستمتاع أو

االنتفاع، أو على أقل األحوال التقييم والنقد والعلم المجرد بأن تعرف المعروف والمنكر فتعرف وتنكر

k »نيطت به الخالفة أن يكون جاهال بقلبك, فال ينبغي لمن أ لحقيقة الكون والنظام, فال بد من معرفة األشياء على

النحو النافي للجهل بها, بمعرفة حقيقة خلق الشيء والغاية التي خلق ألجلها ولهذا قال الناس عندما

كسفت الشمس: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم,

رواه البخاري.)(1 رواه مسلم.)(2

78


, فقال عليه الصالة والسالم: »إن الشمسولد النبي والقمر آيتان من آيات الله يخو�ف الله بهما عباده،

وإنهما ال ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم�وا وادعوا الله حتى يكشف ما بكم« k فصل ,(1 )منها شيئا

وما دخلت الخرافة في عقول الناس إال بجهلهم بهذاk عبدوه، وكلما رأوا الباب فصاروا كلما هابوا شيئا

k ذي مركزية في نفعه عظ�موه، فعبدوا الشمس مخلوقا والقمر والنجوم والبحار واألنهار والجبال والملوك هووالعقل، واليوم يعبدون المادة وقد قال تعالى: )

الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إال

, فهو يفصل(2)بالحق يفصل اآليات لقوم يعلمون( اآليات ويبين خلقتها وغاية خلقها لمن أراد أن يعلم ويوقن بأن الله ما خلق هذا العالم باطالً سبحانه, فالذين عبدوا الشمس لم يكن لديهم من " العلم

الحقيقي " ما كان لدى يوشع بن نون عندما أراد دخول فلسطين لقتال الكافرين كما جاء في الصحيح: »فغزا

k من ذلك فقال فدنا من القرية صالة العصر أو قريبا للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا،

فهو يعرف ما هي (3 )فح»بست حتى فتح الله عليه«الشمس، ولماذا خلقت؟ وأنها مأمورة كما هو مأمور.

إن العالم في حقيقته أسهل ألف مرة مما هو عليه�الت كثير من العقول الفاسدة التي أفسدها في مخي

الجهل بحقيقة التكوين وحقيقة الحكمة لماهيات كثير من جزئيات هذا العالم فصارت الحياة مأساة والعالم

سجن كبير, فالنقص عندهم مشكلة؛ ألن الكمال األخروي مفقود، والحزن شعور يعني الفشل؛ ألن

الشعور بالسعادة الدنيوية هو النجاح الوحيد، وهكذا

متفق عليه.)(1.5يونس: )( 2 متفق عليه.)(3

79


تتكدس الظلمات بعضها فوق بعض في أنفس® ينبغي أن تكون مسلمة؛ ولكنها ال تعي معنى اإلسالم، وال

تعرف قصته؛ لكي تنتظم في نظامه وتسير في نسقه، فالجهل بحقائق األشياء في ذواتهم وخارجها أفقد

k؛ حتى صار لسان حال بعض k وعمال األشياء منفعتها علما القوم يقول ما قاله أهل الوجودية: "التقط اللذة ولو

من المرحاض! ", بل إن بعضهم يعيش على ما يسمى بنظرية )اإلنتروبي( التي تنص على أن العنصر يبلغ قمة فاعليته في البيئة التي تحتويه إذا فقد النظام انضباطه بشكل كامل؛ ألنه حينها فقط يكون كل عنصر فيه قد تحرر من كل القيود، فيبلغ ذروته في حرية التصرف

واالنتقال الذين يترتب عليهما أكبر كم من المصادفاتقة" أي التي . وهذا ما قد يسمونه بـ "الفوضى الخال

k من االحتماالت بكافة أنواعها وتراكيبها, k هائال تنتج كم�ا والذي يعيش على مثل هذه المبادئ العدمية ال ينبغي أن يؤتمن على حمار أهله ناهيك عن جعله خليفة لله

في األرض وإن صنع الصاروخ وأنشأ المدن تحت الماء, ألم تر إلى الذين يجادلون فيوهؤالء قال الله عنهم: )

آيات الله أنى يصرفون * الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون * إذ األغالل في

أعناقهم والسالسل يسحبون * في الحميم ثم في النار يسجرون * ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله, قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل

شيئا كذلك يضل الله الكافرين * ذلكم بما كنتم تفرحون في األرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون *

أدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى.(1)المتكبرين(

.76 ـــ 69 غافر: )(1

80


قصة نشوء الكون وإثبات الخالقوالمخلوق

قال تعالى: )الر تلك آيات الكتاب الحكيم * أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين * إن ربكم الله الذي

خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر األمر ما من شفيع إال من بعد إذنه ذلكم

الله ربكم فاعبدوه أفال تذكرون * إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم

شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون * هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إال بالحق يفصل اآليات لقوم يعلمون * إن في اختالف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات واألرض

آليات لقوم يتقون * إن الذين ال يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون

, وعن(1)* أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون( إذ جاءه قومعمران بن حصين قال: إني عند النبي

من بني تميم فقال: »اقبلوا البشرى يا بني تميم«.رتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن قالوا: بش�

فقال: »اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم«. قالوا: قبلنا, جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك

عن أول هذا األمر ما كان، قال: »كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق

السماوات واألرض وكتب في الذكر كل شيء«. ثم أتاني رجل فقال: يا عمران، أدرك ناقتك فقد ذهبت،

.8 ـــ 1 يونس: )(1

81


فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها، وايم الله. (1)لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم

يذكرنا الله تعالى في الدليل األول في اآليات الكريمة بحكمة كالمه في قوله: )تلك آيات الكتاب

k ألمور غيبية ال k حكيما الحكيم(؛ ألنه سيسوق لنا ترتيبا يمكن للمؤمن أن يصل إلى حقيقة تكوين العالم وكنهه وماهيته إال بها، وهي كون هذا القرآن جاء على لسان

رجل نبي ال ينطق عن الهوى؛ وإن كان من القوم ومثلهم يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون غير

أنه يوحى إليه من أمر الله ما قد كلف بتبليغه الخلق من النذارة والبشارة والمصير األخير الذي إما أن يكون إلى الجنة وإما أن يكون إلى النار، ثم يصف

تبارك وتعالى من أنكر هذه المقدمة التي هي اإليمان بأنه كافر؛ ألن كل ما سيأتي بعد ذلكبنبوة محمد

من أمر الغيب إنما هو فرع عن اإليمان بذلك. بعد ذلك تكلم الله عز وجل عن خلق السماوات واألرض، وأن خالقها هو الرب الذي خلقها في ستة أيام ثم استوى

على العرش كما يليق بجالله وعظمته يدبر أمر خلقه، ثم يذكر بأنه ال شفيع إال من بعد إذنه فهو الخالق وهو

المالك الحقيقي لكل مملوك بما في ذلك اإلنسان نفسه، فهذا الرب سبحانه الذي يملك منك نفسك من

دونك حقيق بأن يكون هو المعبود الذي ترفع إليه الحاجات، وتطلب من عنده المكرمات، وإليه يرجع

األمر كله بما في ذلك مصير اإلنسان نفسه. إن هذا الرجوع إلى الله هو وعده الذي وصفه بأنه "حق "؛ ألن

الذي بدأ الخلق يعلم بأن هذه النشأة األولى للخلق سيترتب عليها كثير من المظالم، فكانت إعادة الخلق

من كمال عدله؛ ليفصل بين الناس ما ترتب على خلقهم األول ويجزي كل نفسٍ بما كسبت، ثم يختم

الكالم في هذه الجزئية بالحديث عن السيئات

متفق عليه.)(1

82


والحسنات؛ ألنها هي ميزان العودة الجديدة، والنشأة الثانية يوم النشور، وقد قال قتادة في قوله تعالى:

)ولقد علمتم النشأة األولى فلوال تذكرون( : يعني خلق آدم لست سائال أحدا من الخلق إال أنبأك أن الله خلق

, فالذي ال يكون في عقيدته اإليمان(1)آدم من طين بهذه النشأة األولى لن يكون فيها شيء من إيمان بالنشأة الثانية ولهذا يكرر الله عز وجل ذكر نشأة العالم ونشأة اإلنسان في مواضع كثيرة من كتابه

ألنهما هما أصل كل عقيدة في الله . في آخر اآليات, ينتقل تبارك وتعالى إلى ذكر تكوين العالم وتفصيل منافع ذلك التكوين وتسخيره لبني البشر، وأن هذا

التسخير دليل عقلي لمن تفكر، وأن هذه الحياة ألمر ما قد أوجدت، وأن الذين يكتفون منها باالستمتاع

بمنافع الدنيا دون النظر إلى غايات خلقها ويركنون إلى ذلك سيكون مصيرهم إلى النار، وقد أشار إلى هذا المعنى محمد أبو السعود في تفسيره لقوله تعالى: )ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي لإليمان أن آمنوا بربكم

فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع , قال: فإن معرفة سر خلق العالم وما فيه(2)األبرار(

من الحكمة البالغة والغاية الحميدة والقيام بما تقتضيه من األعمال الصالحة وتنزيه الخالق تعالى عن العبث

�ين بذلك من من دواعى االستعاذة مما يحيق بالمخل وجهين؛ أحدهما: الوقوف على تحقق العذاب، فالفاء

لترتيب الدعاء على ما ذكر. والثاني: االستعداد لقبول الدعاء، فالفاء لترتيب المدعو أعنى الوقاية على ذلكك وأطعنا أمرك ونزهناك كأنه قيل: وإذ قد عرفنا سر� عما ال ينبغى فقنا عذاب النار الذي هو جزاء الذين ال

. فكالمه يدور على أن فهم قصة خلق(3 )يعرفون ذلك العالم أصل أصيل في تكوين اإليمان المطلوب للنجاة

.653 /11 تفسير الطبري ،)(1.193 آل عمران: )(2 .131 /2 تفسير القران ألبي السعود ،)(3

83


من النار، وهذا هو مقتضى قوله تعالى: )وما خلقنا السماء واألرض وما بينهما باطال ذلك ظن الذين كفروا

.(1)فويل للذين كفروا من النار(

دليل على أنفي حديث عمران بن حصين السؤال عن نشوء العالم هو أصل اإليمان األول؛ ألن

k على سؤالهم: حدثنا عن أول هذاالنبي قال مجيبا األمر؟ بقوله: »كان الله وال شيء غير الله«، ثم تكلم عن المخلوق بعد أن اثبت الخالق. وفي الحديث دليل

على مدى سعة خيال الصحابة رضوان الله عليهم ومدى شمول تفكيرهم فهم على ما هم عليه من بساطة حال تجشموا عناء السفر من اليمن إلى

المدينة وقطعوا المفازات وتعرضوا للمشقة العظيمة : كيف نشأ هذا العالم؟ حدثنا عنلكي يسألوا النبي

أول هذا األمر!.

كثير ممن تورط بثقافات الغرب وعاش تطورات البشرية اليوم حتى صار ينظر إلى الكتاب والسنة على أنها كتب صفراء قديمة ال تفيد في واقع الحياة وال تحل

k، فكثير ممن هم من أزمة الفكر اإلنساني اليوم شيئا على هذه الشاكلة الملحدة لم يبلغ أحدهم في قرارة نفسه وسعة خياله أن يسأل نفسه بجدية: كيف نشأ

k أن في هذا هذا العالم؟ ناهيك على أن يعتقد حقا العالم من سيجيب على تساؤله هذا بجواب صحيح

يشفي غليل الضالين عن الحقيقة, وما أكثرهم, حتىk من كبار فالسفة أوروبا في عصر النهضة أن فيلسوفا

اسمه " شوبنهور " عندما يأس من تفسير العالم وتعليل تقلبات المجتمعات عبر الزمان مع إلحاده وضعف عقله وضع نظرية فلسفية مشهورة هي

. التي مفادها أن البشر(2))نظرية عدم جدوى الوجود( في هذا العالم ــ بالتجربة واستقراء التاريخ ــ لن يبلغوا

.27 ص )(1ذكر هذه القصة ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة .)( 2

84


درجة اإلنسانية المطلوبة والمأمولة، بحيث يعيشون في ود وسالم بال ظلم وبال استعالء وتكبر فيما بينهم

k وكذابين وبال سفك دماء، وأنهم سيبقون لصوصا وقتلة . وبناءا على ذلك فقد نصت النظرية على حث

البشر على عدم التناسل؛ لكي يقوم البشر بعملية انقراض طوعي لجنسهم وعنصرهم وجعل الجيل الذي كتبت فيه النظرية هو آخر جيل على وجه األرض؛ لكي تتوقف هذه التجربة الكونية الفاشلة لإلنسان على حد زعم ذلك الفيلسوف!. ولم تكن هذه نزعة فردية في الغرب بل كان يرافقها كثير من السفاهات التي كانت

تطرح على أعلى المستويات العلمية مثل ما فعله كان يقول بأنه ال يستطيع أن يتصور(1)فيلسوف ألماني

بأن هذا العالم نشأ بال رب وعندما قيل له: كيف تصر على اإليمان بأن لهذا العالم رب خلقه وأنت ترى كل

هذا الظلم فيه؟ أين ربك ليعدل بينهم؟ فما كان منه إال أن قال عبارته المشهورة عندهم: )إن ربي خلق هذا العالم ثم مات!( , بينما اعتنق صنف آخر اإللحاد مثل

نيتشه الذي قال : ) إن الله مات و نحن الذين قتلناه و بات على اإلنسان السوبرمان أن يدير هذا العالم ( ,

قتلناه أي اكتشفنا بالعلم و التجربة أن الله مجرد خرافة , تعالى الله عما يقولون , و من نظرية داروين

و فلسفة نيتشه بنا هتلر منهجه النازي القائم علىالصفاء العرقي و االنتقاء الطبيعي .

عندما تبنى الفرضية فوق فرضية أخرى و يتحول تطور العالم إلى سلسلة من الظنون التي يتبناها بعض

المثقفين ينتقل المجتمع بأكمله إلى عالم آخر من المسلمات و المقاييس اإلنسانية الجديدة . هنا نجد

ميرتشيا إلياده يحاول تلخيص الخطوات الفرضية التي سبقت االنمساخ الغربي فيقول : ) كانت الدعاية

المادية في أوجها في أواسط القرن التاسع عشر حيث

ذكر هذه القصة ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة.)(1

85


م , كتابه " التعاليم1855ألف أوغست كونت , الوضعية " و كذلك " نسق السياسة الوضعية " ثم نشر بوخنر كتابه " القوة و المادة " الذي يريد أن يبرهن

فيه على أن الطبيعة تفتقد للغائية و أن الحياة قد نشأت عن التولد التلقائي و أن الروح و العقل

وظيفتان عضويتان كما أكد أن العقل عبارة عن مجموع القوى المجتمعة في الدماغ و أن ما يسمى

بالنفس أو الروح هي عبارة عن مجاالت مغناطيسية م نشر1856ناتجه عن كهرباء البدن. و في العام

ماكس موللر كتابه " مقاالت في الميثيولوجيا المقارنة " ثم ظهر " أصل األنواع " لداروين الذي أصل النزعة

م . ثم كتب هربرت سبنسر "1858المادية عام م محاوال إثبات أن الكون1862المبادئ األولى " عام

نشأ من تحول غامض طرأ على المادة األوالنية نقلها من تجانس غير محدد إلى حال تغاير محدد . و سرعان

ما سرت هذه النظريات في الغرب فأخذت بعقول المتعلمين و أفئدتهم وصار لها شعبية منقطعة النظير

مما نتج عنه كثمرة لكل هذا كتاب آرنست هايكل " قصة الخليقة على المذهب الطبيعي " فنشر عام

م ليطبع منه في أقل من أربعين سنة عشرين1868 هذا كله يفسر شدة النزعة اإللحادية لدى. ( 1 )طبعة . (

الغرب فكفرهم كفر شجاع , ألنه يثق بنفسه بناءا على تجربة علمية و نظريات فرضية يرى هو صحتها , فهو موهوم بأنه يمتلك على صحة كفره البرهان , و لكن

الغريب في ملحد من المسلمين يزعم بأنه يؤمن بالكتاب و السنة ثم تراه يقول بقول الغرب في كثير

من مناهجه التي بناها على كفر مبرر سابق , فهما نقيضان ال يجتمعان و لكنها لوثة التقليد األعمى لدى

بعض المثقفين الذين ال يجيدون حتى الكفر ناهيك عن إجادة اإلسالم . فكم هم مساكين و بسطاء ,

البحث عن التاريخ و المعنى في الدين , ميرتشيا إليــاده , ص:)( 1114 -115.

86


يذكرونني بقصة األحمق الذي عندما أراد إثبات شراسته و شدته قام بقتل أبيه فهؤالء يحسبون التقدم

بمجرد الكفر بالموروث , و مخالفة الراهن بال رؤية , و ال فهم , مع أن الصحيح أن حتى الكفر يحتاج إلى وعي , و منطقية , و خيال جريء على التجربة , فالغرب ال يترك مبدأ ما حتى يجد له بديال منطقيا –

حسب تصوره لمفهوم المنطق- يكون هو على قناعة به , بينما كفارنا اليوم يمارسون الكفر المعلب و

استنساخ تجارب األمم األخرى التي لها معطيات وعناصر تختلف تماما عما لدينا !.

وقد ضل في مسألة تعليل العالم وما فيه من العناصر خلق كثير؛ ولكن الضالل يكون واضحاً أكثر

k عن نور الوحي؛ ألن هذا العالم مليء فيمن عاش بعيدا بعناصر خفية لها تأثير واضح فيه نحن ال نراها وال يمكنk أن نتصور وجودها بال وحي فالمالئكة والجن, خصوصا

الشياطين منهم, الذين يديرون كل مصائب العالم وآالمه ويقفون وراءها، فإبليس يضع عرشه على الماء

ويبث سراياه وجنوده في الناس، ويدير المؤامراتk، فكل k مدروسا k منظما ويؤثر في العالم والبشر تأثيرا

مولود يولد يوكل به قرين من أتباعه يوسوس له، ويغري البشر بمعصية الله ويزين لهم ذلك، ويسعى

k، ويجيش الجنود من بني البشر الذين في األرض فسادا ال يؤمنون بوجوده ويجلس على عواتقهم يسوقهم

ويوحي إليهم فيتحدثون له وعنه ويدعون الناس إلى دين الكفر بمنطق وهيئة اآلدميين. وال تزال الشياطين

تشارك اإلنسان حتى في لقمته وبضع زوجته وهو ال يشعر ولو أن فالسفة أوروبا قرأوا صحيح البخاري

: »لتؤدن الحقوق إلى أهلهامؤمنين به لوجدوا قوله يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة

القرناء«. ولما دعوا البشرية إلى أن تبيد كما باد الديناصور، ولما زعموا أن لهم رب خلق العالم ثم مات

كأي نجار® هرمٍ مسكين غير أن الله يختص بنوره من

87


يشاء. أما عمران ومن معه رضوان الله عليهم علىk بدائية حالهم وتقدم زمانهم فإن الله وهبهم عقوال

تستوعب الدنيا واآلخرة وتطلب الكمال بتكامل الدنيا مع اآلخرة فهم يعلمون أن لهذا العالم رب ال يموت,

k ليجزي كل نفس بما k عليه حقا بدأ خلقه ثم يعيده وعداكسبت ولكن أكثر الناس ال يعلمون.

إن تجاهل النشأة األولى للكون ولإلنسان وتفصيل عالقات مقومات العالم األصلية مع بعضها البعض

يورث االرتباك في ترتيب المعتقد الفكري والنفسي تجاه العالم وغايته، وتجاه القيم الحقيقية ألفراد

المخلوقات في هذا الوجود، ولهذا يستشهد سبحانه على وجوب المعاد بذكر المبدأ كما في قوله: )نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن

نبدل أمثالكم وننشئكم في ما ال تعلمون * ولقد علمتم . إن اإليمان بهذه النشأة(1)النشأة األولى فلوال تذكرون(

األولى للنفس البشرية وللكون يستصحب الشعور بأنه ليس البن آدم من األمر شيء, وأنه أجير في ملك غيره، فال يفتري الغايات من تلقاء نفسه، ويعطي

التقييمات ألشياء هو لم يخلقها؛ بل ربما ال يعلمk k مستقال حقيقتها، وأنه كان في يوم من األيام " شيئا

بذاته " عن كل تفاصيل هذه الحياة الدنيا التي تحيط به ليدرك أنه لم يخلق كجزء منها وهي لم تخلق لتكون

k منه، فال تالزم بين مسار اآلدمي وتحقيقه جزءا للشخصية اآلدمية المثالية وبين مسار العالم في

تطوراته المادية على شتى تفسيرات كلمة "تطو�ر" كما تفهم اليوم, وكم هو شخص جاهل بطوية النفس

البشرية وحقيقة االنتماءات العقدية في الكون منk: صعد اإلنسان القمر ومازال k متحسرا يقول متعجبا

اإلنسان يقتل اإلنسان؟! فلعل اإلنسان ما صعد إلى القمر إال ليقتل اإلنسان من هناك!. وقد قرر علماء

.61 ـــ60 الواقعة : )(1

88


االجتماع في الغرب هذه الحقيقة التي تنص على أن التطور الصناعي ال يعني التطور اإلنساني، وأن

اإلنسانية المثالية والمجتمع المثالي ال عالقة لهما من حيث إمكانية التكوين وحقيقة الوجود بالتطور المادي

لحضارة البشر، فيقول العالم )إنتوني غدينز( في كتابه "علم االجتماع " وهو يتكلم عن المجتمعات القديمة أو

ما قبل المجتمع الحديث: إن نسبة التفاوت وعدمk وال يهتم المساواة في مجتمعات الصيد ضئيلة جدا

أفراد هذه المجتمعات بتجميع الثروة المادية بما يتجاوز احتياجاتهم األساسية. وتنحصر اهتماماتهم عادة بالقيم

. ثم يقول: و(1)الدينية واألنشطة االحتفالية والشعائرية ال يعني ذلك بطبيعة األمر أن نمج�د أو نحن� إلى تلك

األوضاع التي كان يعيشها الصيادون وجامعوا المحاصيل. بيد أن غياب الحرب وانعدام الالمساواة

k من في الثروة والقوة والتأكيد على التعاون بدال المنافسة في تلك المجتمعات تذكرنا كلها بأن العالم الذي خلقته الحضارة الصناعية الحديثة ال يمكن بأيk لمفهوم "التقدم" .(2)حال من األحوال أن يكون مرادفا

كل هذا العناء من استقراء للتاريخوقد اختصر النبي ومعاناة تجريبية للبحث عن المجتمع المثالي عندما

k في سربه معافى في قال: »من أصبح منكم آمنا جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا«.

فقوام المجتمع المثالي كما يقرره علماء االجتماع يكون في االستقرار والتكامل، وزاد الحديث على هذا الفهم، فدل على أن قوام المجتمع المثالي باإلضافة,k إلى األمن واالستقرار والتكامل "في السرب", أيضا تمام العافية في الجسد، واالكتفاء الذاتي في القوت، فإذا فقد شيء من هذا فقد اختل المجتمع، وأي مؤثر يدخل على المجتمع ليخل بشيء من هذه األساسيات

فهو مؤثر سوء وفوضى. .93 علم االجتماع ، إنتوني غدينز ، ص)(1 .93 علم االجتماع ، إنتوني غدينز ، ص)(2

89


إن ما يقع فيه الناس اليوم من ربط بين تطور العالم وتطور اإلنسان هو مجرد عرض من أعراض

k من العقل "وسواس الخلود األرضي" الذي صار جزءا الجمعي في كثير من المجتمعات إن لم يكن كلها؛ بل إن فكرة الوطنية المقدسة واالنتماء الوطني في كل

العالم إنما نتجت عن هذا الوسواس القديم، حتى قال الله لبعض من سلف منهم: )أولم تكونوا أقسمتم من

مع أن الدين ال ينافي الوطنية. (1)قبل ما لكم من زوال( الخالية من المعاني الجاهلية، فاإلسالم يدعو إلى

الدفاع عن معاقل اإلسالم التي يقطنها المسلمون، أو توجد فيها مصالح المسلمين، فالوطن المسلم ليسk مجردة وإنما هو مجموع من المصلحة الدينية أرضا

والدنيوية واالنتماء الشرعي والجغرافي وكل ذلك تحتمبدأ "ليكون الدين كله لله".

k في نجد أن ربط الحياة بالخلود يتردد كثيرا الخطاب العربي اليوم على المستوى الفردي

والجماعي؛ حتى قال أحد الملحدين العرب بأنه علىk للموت يقين تام من أن الغرب سيكتشفون عالجا

وتمنى أن يكون ذلك قبل وفاته!, وهذه ليست شطحاتٍ عشوائية ولكنها نتاج لتراكمات ذلك

الوسواس القديم الذي يربط مثالية اإلنسان الكونية على األقل مع حضارته المادية في تناسب طردي،

وهذا هو جوهر العقيدة الرومانسية الداعية إلى العودةk كما إلى الطبيعة, بينما الوحي يشير إلى غير هذا تماما

: »إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمها أبناءفي قوله الملوك أبناء فارس والروم سلط شرارها على

وقال: » سيكون رجال من أمتي يأكلون (2)خيارها« ألوان الطعام ويشربون ألوان الشراب ويلبسون ألوان

.44 إبراهيم : )(1 رواه ابن حبان في صحيحه والترمذي وصححه األلباني.)(2

90


,(1 )الثياب يتشدقون في الكالم أولئك شرار أمتي! « ونحن ال نناقش بطالن قول ذلك الملحد فيغني عن

الرد عليه حكايته؛ ولكننا نناقش "جنس هذه العقلية" التي ترى بأن القدرة على تحقيق الرغبات اإلنسانية

مالزم للخيرية، وأن ازدياد إتقان الحياة ووسائلها دليل على البعد عن ظروف البدائية المادية والفكرية

والزمان األول والنشأة األولى وما يرافق تلك األمور قال: »أعمارمن تبعات!! وهذا غير صحيح فالنبي

أمتي ما بين ستين إلى سبعين وأقلهم من يجوز ذلك« فأعمار أمته في زمانه كأعمار الذين سيقاتل آخرهم (2)

الدجال وقل فيما بين ذلك مثل ذلك فليس كل شيء خاضع لمعيار التنمية المادية كما ظن ذلك الحالم

بإكسير الحياة!.

كما أن ظروف البيئة اإلنسانية الكونية األصلية ثابتة منذ النشأة األولى ال تتغير، فالفطرة هي الفطرة حتى تتغير باالكتساب، والغرائز هي الغرائز والمؤثرات

هي المؤثرات, نعم تختلف في أجرامها ومصادرها ولكنها تنبع من أجناس ثابتة في أصل الكون, فالحقد هو الحقد والشهوة هي الشهوة والحسد هو الحسد والخوف هو الخوف والتمني هو التمني وحب الدنيا

وكراهية الموت والرغبة في الخلود والتكبر وحب التملك, كل ذلك كذلك, ولهذا يقول تعالى )إن كيد

)k ألن كيده واقع تحت أجناس؛ (3)الشيطان كان ضعيفا من أسباب الغواية ثابتة, وهي مكونة في اإلنسان من

األخالق الطبيعية "فيسيولوجية البدن بهرموناته وأنزيماته "، والنفسية "التصورات اإلنسانية والغريزة

والفطرة " وهي ثابتة في أدوات تفعيلها وفي مادة تفاعلها وإن تشكلت في صور شتى فعندما يرى الذكر

.512 /4 صححه األلباني في السلسلة الصحيحة ،)(1 رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحة وحسنه األلباني.)(2 .76 النساء : )(3

91


األنثى يوسوس له الشيطان تصورات شهوانية فيستجيب البدن بتفاعالته وغرائزه فتحدث محنة

االبتالء والفتنة والمدافعة لكل ذلك, هذا مع تفاوت في الكالءة والعصمة من الله, وهذا يقع في كل زمان

بنفس النمطية الشعورية ولكن بطرق مختلفة وأساليب شتى, وهذه األشياء يعني االبتالء والفتنة هي

الوظيفة األساسية التي خلق الله هذا الكون ألجلها فإن تساوى الناس في أول الزمان وآخرة في هذه المسألة فكل ما عدى ذلك قشور ال قيمة لها على

مستوى الفرد والخالص الشخصي، ثم تأتي بعد ذلك المؤثرات الجماعية كاالستضعاف الجماعي

واالضطراب األممي واإلبطال العام لسنن الوحي وسقوط حاكمية الشريعة وغياب النصرة والتمكين

وهذه ال تصلح إال بصالح الفرد كل على حده فيتحققالقول بأن ظروف الكون ثابتة في مجملها.

لهذا نجد أن الله عز وجل قد فضح الشيطان في كل ذلك فحكى كيفية مكره تحت كل جنس من تلك

األجناس فقال بأنه يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء ويمني األماني ويشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويغرس في

النفوس ظن السوء, وهكذا, فالكون في مجملة وأصل أجناسه ثابت من ناحية المؤثرات والظروف, وهذه

القشور الرقيقة المسماة بالحضارة المادية وتلوناتها وتفريعاتها النفسية والفكرية وفقاقيعها الفارغة

المنتفخة وطقوسها المبهرجة المحدثة وتطبيقاتها العملية الكثيرة ال تلبث أن تنسلخ وتطير في الهواء كما

يطير جلد األفعى ويعود اإلنسان إلى ممارسة نفسه واحتياجاتها األصلية الثابتة بال هالة من الزخارف الكاذبة

والمراسيم العبثية التي كانت تمليها عليه تفاهاتk الحضارة المنصرمة وسيجد كل إنسان نفسه ذكرا

k يبحث k يبحث عن رغيف وخائفا يبحث عن أنثى وجائعاk k يبحث عن عقيدة ثم بعد ذلك هر£ما من مأوى ومتسائال

k في عقائد عجائز ينتظر الموت وهو يقرأ كتابا

92


نيسابور!!, وهكذا. فليس من ركب الطائرة بأفضل ممن ركب الحمار من الناحية اإلنسانية والرقي

الفكري وقد أجرى الله على أيدي أهل الحمير والخيل والبغال من المكاشفات الكونية والمعجزات ما لم

يجره على أيدي أهل زماننا وأوالهم من رعايته وشرف العناية بذوات شخوصهم ما لم ينله أصحاب هذا الزمان

»بي� بنوذلك على مستوى عامة الناس حتى قال أل كعب: »إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة«،: وسماني لك رب العزة؟!! قال: »نعم«، »بي� فقال أ

»بي�! . (1 )فبكى أ

وفي قصة لعلها لم تتكرر في تاريخ البشرية بمثل هذه العظمة اإللهية التجريدية الصريحة عندما كان

رجل بسيط يركب حماره فمر على قرية خاوية فذكر الله قصته فقال: )أو كالذي مر على قرية وهي خاوية

على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك

وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء

فهذا مقام عظيم في زمان قديم ,و لو أنفق ،(2)قدير(k أهل األرض اليوم كل واحدٍ منهم مثل أحد ذهبا

ليتمتعوا بممارسة ومشاهدة مثل هذا العلم اليقيني الذي مر على صويحب القرية والحمار لما تمكنوا من

ذلك! ولهذا قال تعالى: )فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا في األرض فتكون لهم قلوب

يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها ال تعمى األبصار متفق عليه .)(1. 259 البقرة : )(2

93


. فالبئر(1)ولكن تعمى القلوب التي في الصدور( محفورة والقصر مشيد, قال عكـرمة: مبني بالجص,

ولكنها ظلمت فإذا هي خاوية على عروشها, ما نفعتهمالبئر المحفورة وما نفعهم القصر المشيد!.

.46 ـــ 45 الحج: )(1

94

95الفصل الثاني: المقدمات األولية للتصور الصحيح

معرفة مقومات العالم

وعناصره الفاعلة

97ث: معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلةلالفصل الثا

ث: معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلةلالفصل الثا

صفة آدم وحواء

- متى خلق آدم؟ ومتى أدخل الجنة؟1ومتى أخرج منها؟

ومتى مات؟ ( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله1

خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه« : خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها« رواه

مسلم. وزاد ابن حبان بسند صحيح على شرطالشيخين: »وفيه مات وفيه تيب عليه«.

( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله2بيدي فقال: »خلق الله عز وجل آدم عليه السالم

بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى

الليل« رواه مسلم.

فصل: فوائد األدلة:-أهمية يوم الجمعة في تاريخ بني آدم وأصل نشأتهم.1 -إثبات أن آدم أدخل جنة الخلد وليس كما يقول2

الفالسفة جنة في األرض.-إثبات موت آدم عليه السالم. 3

- من أي مادة خلق الله آدم عليه2؟السالم

( قال تعالى: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من1 البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم

ونقر في األرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم

98


.(1 )نخرجكم طفال .. اآلية(

( قال تعالى: )إني خالق بشرا من صلصال من حمأ2.(2 )مسنون(

( قال تعالى: )فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا3.(3 )إنا خلقناهم من طين الزب(

( عن أبي موسى األشعري رضي الله عنه قال: قال4 : »إن الله خلق آدم من قبضة قبضهارسول الله

من جميع األرض، فجاء بنو آدم على قدر األرض، جاء منهم األحمر واألبيض واألسود وبين ذلك،

والسهل والحزن والخبيث والطيب«. رواه أحمدوغيره بسند صحيح.

فصل في فوائد األدلة: - ان مادة خلق اإلنسان لها تأثير في صفاته، فالطيب1

من األرض الطيبة، والخبيث من األرض الخبيثة، عن النساء: »إن المرأة خلقت منوكما قال

ضلع أعوج وأعوج ما في الضلع أعاله فإن ذهبت تقومه كسرته«. فهيئة الضلع وموقع العوج منه كان

له تأثير في هيئة المرأة وموضع الميل فيها وهو أعالها أي لسانها، وقد أخبر سبحانه انه خلق آدم من تراب، وأخبر انه خلقه من ساللة من طين،

وأخبر انه خلقه من صلصال من حمأ مسنون، فقد وردت النصوص بكل هذا، والصلصال قيل فيه هو:

الطين اليابس الذي له صلصلة ما لم يطبخ فإذا�ر الرائحة من طبخ فهو فخار. وقيل هو: المتغي قولهم صل إذا انتن. أما الحمأ فالطين األسود

ر بأنه من سننت الماء إذا �ر، والمسنون فس� المتغي

.5 الحج: )(1 .28 الحجر: )(2 .11 الصافات: )(3

99


صببته أي المصبوب، وقيل المنتن المسن من قولهم: سننت الحجر على الحجر إذا حككته فإذاk سال بينهما شيء فهو سنين، وال يكون إال منتنا

وهذه كلها أطوار التراب الذي هو مبدأ الخلقاألول.

إن المادة األرضية- قال ابن القيم في شفاء العليل:2 اقتضت حصول التفاوت في النوع اإلنساني كما

أن الله خلق آدم منفي المسند والترمذي عنه قبضة قبضها من جميع األرض فكان منهم الخبيث

والطيب والسهل والحزن وغير ذلك فاقتضت مادة النوع اإلنساني تفاوتهم في أخالقهم وإراداتهم وأعمالهم، ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن

ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب والحب والبغض ولوازمها، وابتاله بعدوه الذي ال

k وال يغفل عنه، ثم ابتاله مع ذلك بزينة يألوه خباال الدنيا وبالهوى الذي أمر بمخالفته هذا على ضعفه

�ن له حب الشهوات من النساء والبنين وحاجته، وزي والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل

المسو�مة واألنعام والحرث، وأمره بترك قضاء أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة

المشاهدة إلى دار أخرى غايته إنما تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب بها. وكان مقتضى الطبيعة اإلنسانية أن ال يثبت على هذا االبتالء أحد، وأن

يذهب كلهم مع ميل الطبع ودواعي الغضب والشهوة، فلم يحل بينهم وبين ذلك خالقهم

وفاطرهم؛ بل أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم�ن لهم مواقع رضاه وغضبه، ووعدهم على كتبه، وبي

مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم، فلم تقو عقول األكثرين على إيثار اآلجل

المنتظر بعد زوال الدنيا على هذا العاجل الحاضر المشاهد، وقالوا: كيف يباع نقد حاضر وهو قبض

باليد بنسيئة مؤخرة وعدنا بحصولها بعد طي الدنيا

100


وخراب العالم؟! ولسان حال أكثرهم يقول: خذ ماk سمعت به. فساعد التوفيق اإللهي تراه ودع شيئا

من علم أنه يصلح لمواقع فضله، فأمده بقوة إيمان وبصيرة رأى في ضوئها حقيقة اآلخرة ودوامها وما

أعد الله فيها ألهل طاعته وأهل معصيته، ورأى حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقله وفائها وظلم

شركائها، وأنها كما وصفها الله سبحانه لعب ولهو وتفاخر بين أهلها وتكاثر في األموال واألوالد، وأنهاk ثم كغيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا

اهـ .يكون حطاما.

- ان أصل ألوان البشر ثالثة نقية: أحمر وأبيض3وأسود وما عدى ذلك فبين ذلك.

- ان اإلنسان مركب من ثالثة أشياء هي التي تميزه:4 لونه وهيئة شكله وحقيقة ذاته ولكل شيء من هذه

األشياء أصل وتأثير.

- من أي شيء خلقت حواء؟3 ( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله1

،استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع« : وإن أعوج شيء في الضلع أعاله، فإن ذهبت تقيمه

كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوابالنساء« رواه البخاري.

( عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: »خلق الرجل2 من األرض فجعلت نهمته األرض وخلقت المرأة من الرجل فجعلت نهمتها في الرجل فاحبسوا نساءكم,

أي عن الرجال«. رواه ابن أبي حاتم في تفسيرهوقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.

فصل في فوائد األدلة: -ان حواء خلقت من ضلع حي فهي حياة خلقت من1

حياة، أما آدم فخلق من تراب ال حياة فيه، ثم كان

101


نسلهما من ساللة من ماء مهين، ولهذا تأثير في طبيعة الرجل والمرأة كما روى ابن ماجه عن

الشافعي بسند حسن لوال أن فيه رجل مستور أنه قال في سبب الغسل من بول الجارية والرش من بول الغالم: ألن بول الغالم من الماء والطين، وبول

الجارية من اللحم والدم. ثم قال للذي سأله عن السبب: فهمت؟ قال له: ال. قال: إن الله تعالى لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير, فصار بول

الغالم من الماء والطين وصار بول الجارية مناللحم والدم. اهـ .

- قال الحافظ في الفتح: أعوج شيء في الضلع2 أعاله، قيل فيه إشارة إلى أن أعوج ما في المرأة لسانها، وفي استعمال أعوج استعمال ألفعل في العيوب وهو شاذ. وفائدة هذه المقدمة أن المرأة

خلقت من ضلع أعوج، فال ينكر اعوجاجها أو اإلشارة إلى أنها ال تقبل التقويم كما أن الضلع ال يقبله قوله:

»فإن ذهبت تقيمه كسرته« قيل هو ضرب مثل للطالق أي أن أردت منها أن تترك اعوجاجها أفضى األمر إلى فراقها ويؤيده قوله في رواية األعرج عن أبي هريرة عند مسلم: »وأن ذهبت تقيمها كسرتها

وكسرها طالقها«. اهـ .

- كيف كانت هيئة آدم التي خلقه الله4؟عليها

قال:( عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي 1 »خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا، ثم قال: اذهب فسل�م على أولئك من المالئكة فاستمع ما يحيونك تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السالم عليكم. فقالوا:

السالم عليك ورحمة الله. فزادوه ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق

ينقص حتى اآلن(. متفق عليه.

102


فصل في فوائد األدلة: -ان آدم خلق على صورته التي هي لذريته اآلن ولكن1

k، وهذا الفهم خالف فهم كان طوله ستون ذراعا المالحدة الدهريين ممن يرون أن اإلنسان تطو�ر عن كائن آخر يقولون بأنه القرد كما في نظرية داروين " النشوء واالرتقاء " التي كان األجدر به أن يسميها "

نظرية النكوص واالرتكاس! ".

k عند ابن2 -ان آدم تكلم مع الله وثبت ذلك مرفوعاk قال: يا حبان في صحيحه بسند صحيح: أن رجال رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: »نعم, مكل�م«

قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: »عشرةقرون«.

-روى الطبراني وحسنه المنذري واأللباني: أن3k والرسول الله قال: »ما من أحد يموت سقطا

k إنما الناس فيما بين ذلك إال بعث ابن ثالثين هرما سنة، فمن كان من أهل الجنة كان على مسحة آدم

وصورة يوسف وقلب أيوب، ومن كان من أهل النار عظموا وفخموا كالجبال«. وعند الترمذي

وقال حسن غريب من حديث معاذ بن جبل رضي قال: »يدخل أهل الجنة الجنةالله عنه: أن النبي

k مكحلين أبناء ثالثين أو ثالث وثالثين k مردا جرداسنة«.

- أول خلق آدم عليه السالم ورؤيته5:لذريته

( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله1:لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال« :

الحمد لله فحمد الله بإذن الله فقال له ربه: يرحمك ربك يا آدم اذهب إلى أولئك المالئكة ـ إلى مأل منهم جلوس ــ فسلم عليهم فقال: السالم عليكم. فقالوا:

103


وعليكم السالم ورحمة الله. ثم رجع إلى ربه فقال: هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم. وقال الله جل وعال ــ ويداه مقبوضتان ــ: اختر أيهما شئت فقال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطهما

فإذا فيهما آدم وذريته، فقال: أي رب ما هؤالء؟ فقال: هؤالء ذريتك فإذا كل إنسان منهم مكتوب

عمره بين عينيه فإذا فيهم رجل أضوؤهم ــ أو من أضوئهم ــ لم يكتب له إال أربعين سنة قال: يا رب

ما هذا؟ قال: هذا ابنك داود وقد كتب الله عمره أربعين سنة. قال: أي رب زده في عمره. قال: ذاك

الذي كتبت له. قال: فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة. قال: أنت وذاك اسكن الجنة، فسكن

الجنة ما شاء الله، ثم أهبط منها، وكان آدم يعد لنفسه، فأتاه ملك الموت فقال له آدم: قد عجلت

قد كتب لي ألف سنة قال: بلى؛ ولكنك جعلت البنك داود منها ستين سنة، فجحد، فجحدت ذريته، ونسي، فنسيت ذريته، فيومئذ أمر بالكتاب والشهود«. رواه

ابن حبان في صحيحه، والترمذي وقال حسن غريب،وصححه األلباني.

فصل في فوائد األدلة: - ان آدم عليه السالم خلقه الله بمفرده ولم تكن1

معه حواء. - ان آدم كان يعلم قبل دخول الجنة أنه سيكون له2

ذرية.- ان آدم عليه السالم عاش ألف سنة.3 - إثبات توريث الصفات المعنوية في قوله: فجحد4

فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته.

- إن إبليس كره آدم قبل تمام خلقه6 قال:( عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله 1

»لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن

104


يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآهk ال يتمالك«. رواه مسلم. أجوف عرف أنه خلق خلقا وزاد أحمد في " الزهد " بسند صحيح: »ظفرت به,

خلق ال يتمالك«.

فصل في فوائد األدلة: - ان الله عز وجل خلق آدم في الجنة فكان فيها قبل1

أن تنفخ فيه الروح؛ ولكن عند نفخ الروح فيه كان بين يدي ربه خارج الجنة كما في األحاديث السابقة

حيث ذكر نفخ الروح فيه ثم قال له ربه: اسكنالجنة.

- ان إبليس كان في الجنة عند خلق آدم، وأنه كائن2حي يفكر وله اجتهاد ومعرفة.

-ان إلبليس سابق عهد باإلغواء قبل آدم؛ ألنه يعلم3 أن من كان أجوف ال يتمالك ومن ليس كذلك يتمالك مع أن إبليس نفسه أجوف؛ ألنه يبول

ويضرط ويأكل ويشرب.

- التنبيه على أن سر ضعف اإلنسان هو كونه أجوف.4

105


صفة الشيطان - إثبات أن إبليس هو أبو الجن، وأن1

إلبليس ذرية وانهم يموتون، وأنهم أمة عظيمة العدد، وأن منهم

الشياطين وأن يأجوج ومأجوج ليسوا من ذرية إبليس؛ وإنما هم من ذرية

آدم عليه السالم: ( قال تعالى: )وإذ قلنا للمالئكة اسجدوا آلدم فسجدوا1

إال إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو

. (1 )بئس للظالمين بدال(

( قال تعالى: )يا بني آدم ال يفتننكم الشيطان كما2 أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث ال ترونهم إنا

. (2 )جعلنا الشياطين أولياء للذين ال يؤمنون(

)أولياء( في اآلية الثانية فسرتها اآلية األولى بأنهمإبليس وذريته ,و هم الشياطين.

( عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كنا مع2 في سفر، فتفاوت بين أصحابه في السير،النبي

صوته بهاتين اآليتين )يا أيهافرفع رسول الله الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم(

إلى قوله )عذاب الله شديد( فلما سمع ذلك أصحابه حثوا المطي وعرفوا أنه عند قول يقوله فقال: »هل

تدرون أي يوم ذلك؟« قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: »ذاك يوم ينادي الله فيه آدم فيناديه ربه

.50 الكهف : )(1.27 األعراف : )(2

106


فيقول يا آدم ابعث بعث النار فيقول يا رب؟ وما بعث النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة

وتسعون في النار وواحد في الجنة«. فيئس القوم الذيحتى ما أبدوا بضاحكة؛ فلما رأى رسول الله

بأصحابه قال: »اعملوا وأبشروا فو الذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إال كثرتاه

يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم وبني إبليس«. قال فسري عن القوم بعض الذي يجدون فقال:

»اعملوا وأبشروا فو الذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إال كالشامة في جنب البعير، أو كالرقعة

في ذراع الدابة«. رواه احمد والترمذي وقال: حسنصحيح، وصححه األلباني.

فصل في فوائد األدلة: : »إنكم لمع خليقتين« الخطاب ألمة محمدقوله

يأجوج ومأجوج( وهم خليقة خلقوا قبل بعثته( وهم من ذرية آدم ويموتون آخر الزمان لما روى البخاري: »يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، يقول لبيك

ربنا وسعديك، فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرجk إلى النار، قال: يارب وما بعث النار؟ من ذريتك بعثا قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ

تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد, فشق ذلك

: »منعلى الناس حتى تغيرت وجوههم. فقال النبي يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد«

فيأجوج ومأجوج من ذرية آدم؛ ألن بعث النار كله من ذرية آدم كما نص ربنا تبارك وتعالى في الحديث؛

ولكنهم ال يموتون إال في آخر الزمان فلم يكونوا من ألنهم خلقوا قبل بعثته وخوطبوا باالسالمأمة محمد

قبله كما أن عيسى عليه السالم ليس من أمته عليه الصالة والسالم كما روى جابر في صحيح مسلم:

فيقول أميرهم: تعال صل»فينزل عيسى ابن مريم

107


لنا. فيقول: ال، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه األمة« فمع أن عيسى ينزل على ملة وشريعة

ويموت ويدفن عليها فهو ليس منها؛ ألنه وجدمحمد وخوطب باالسالم قبله، فكذلكقبل وجود النبي

يأجوج ومأجوج من باب أولى، ثم ذكر الخليقة الثانية فقال: »و من ماتالتي هي ليست من أمة محمد

ومعلوم أنمن بني آدم وبني إبليس« أي قبل بعثته الله تعالى يقول: )سنفرغ لكم أيها الثقالن( ويقصد بهما اإلنس والجن فعلم حينها أن من مات من هذه

k بالتكليف والحسنة الخليقة الثانية وكان مخاطبا والسيئة إنما هم البشر والجن فعلم من ذلك أن قوله

k : »و بني إبليس« يقصد به الجن كافة فكان هذا نصاk على أن إبليس هو أبو الجن ولم أجد ــ على حد صريحا علمي ــ من أهل التفسير وال غيرهم من استشهد بهذا

الحديث على أن إبليس هو أبو الجن؛ وإنما عامة من تكلم في ذلك استشهد بأقوال الحسن البصري وبعض

التابعين مع أن هذا نص في المسألة وملخصها أن صنف المكلفين إلى ثالثة أصناف: صنف خلقهالنبي

ثم أن هذا الخلق يموت بعد موتهالله قبل بعثة النبي عليه الصالة والسالم فهم ليسوا من " أمة الدعوة "،

وهم يأجوج ومأجوج وعيسى عليه السالم، وخلق خلقواk ليسوا من أمته، وهم منوماتوا قبل بعثته فهم أيضا

مات من بني آدم وبني إبليس، وخلق خلقوا بعد بعثتهفكلهم داخل في " أمة الدعوة ", والله اعلم.

- إثبات أن الجن أصناف ثالثة2 ( عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قال1

: »الجن ثالثة أصناف: صنف لهمرسول الله أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وكالب،

وصنف يحل�ون ويظعنون«. رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: هذا حديث صحيح اإلسناد،

وصححه الذهبي واأللباني.

108


فصل في فوائد األدلة: تصنيف حاصر الهذا التصنيف الذي ذكره النبي

يخرج عنه شيء من أفراد الجن، والجن في حقيقة أمرهم ينقسمون من حيث وجودهم وتأثيرهم إلى ثالثة

أقسام: قسم يقارن البشر ليغويهم، فكل مولود يولد : »ما منكم من أحديقارنه قرين من الجن كما قال

�ل« مبني �ل به قرينه من الجن« وقوله: »وك إال وقد وك�ل بكل للمجهول والفاعل حقيقة هو إبليس حيث يوك مولود قرين من الشياطين إما بشكل مباشر أو عن

طريق جنوده وسراياه التي يبثها في األرض حيث قالفي الصحيح: »إن عرش إبليس على البحر فيبعث

سراياه فيفتنون الناس« وأما القرين فهو الذي يمسk حيث قال كما فيالطفل عند والدته فيستهل صارخا

الصحيح: »ما من مولود يولد إال والشيطان يمسه حينk من مس الشيطان إياه إال مريم يولد فيستهل صارخا

وابنها«، فهذا صنف من أصناف الشياطين، وهؤالءk وإنما هم القرناء ال يتصورون وال يظهرون للبشر أبدا

يجرون من ابن آدم مجرىكما وصفهم رسول الله الدم.

الصنف الثاني: هو صنف من الجن يعيش مع البشر كما تعيش دواجن الحيوانات، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، وهذا الصنف يعيش مع الناس يوسوس لهم

ويشاركهم في أرزاقهم، ويسكنون أسقف البيوت�لون في صور حيات وكالب والخرب والحشوش ويتشك وبشر وهم في أصل خلقهم منهم من يطير ومنهم من

ال يطير؛ ألنه ثبت تصور الشياطين في صور كائنات تطير وكائنات ال تطير كما في حديث أبي هريرة رضي

»بي� بن الله عنه في الذي يسرق من الزكاة، وحديث أ كعب رضي الله عنه، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه في خبر الجني الذي كان على هيئة طائر أبيض

أنه قال كما فيوغير ذلك. وقد ثبت عن النبي

109


k قد الصحيحين في حال رؤية الحيات: »إن بالمدينة جناk ــ أي على صورة حية ــ أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثالثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما�ل هو شيطان«، فهذا يدل على أن الصنف الذي يتشك

ويتصو�ر قد يكون منه مؤمن وكافر.

الصنف الثالث: وهم الذين يحل�ون ويظعنون أي أنk عن البشر وال لهم مجتمعات وحياة مستقلة بعيدا

فقاليطيرون كجن نصيبين الذين جاءوا إلى النبي ابن مسعود: »فانطلق بنا ــ أي رسول الله ــ فأرانا

آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون

k، وكل بعرة علف لدوابكم«، فال تكون لهم آثار لحما ونيران ودواب إال وهم يمشون وال يطيرون، وهذا

k هو الذي ذكره ذلك الجني كما في حديث الصنف أيضا عمر عندما قال بأنه في الجاهلية مع بداية بعثة النبي سمع صارخ الجن ينادي عند الكعبة كما عند البخاري: »ألم تر الجن وإبالسها ولحوقها بالقالص وأحالسها«،

والقلوص هي: الراحلة، والحلس هو: ما يضعه الراكب تحته، وقد كانت الجن تشد الرحال إلى مكة لتعلم خبر هذا النبي الجديد، فهذا هو الصنف الذي يحل� ويظعن،

k قد يكون منهم مؤمن وكافر كما جاءت بذلك وهم أيضاالنصوص. والله اعلم.

- أن الشياطين ملل وطرائق مختلفة3 وأن من الشياطين مقلدة في

عقيدتهم: ( عن ابن عباس قوله )وأنا منا الصالحون ومنا دون1

ذلك كنا طرائق قددا( يقول: أهواء شتى منا. (1)المسلم ومنا المشرك

تفسير الطبري .)(1

110


( قال ابن جرير الطبري: قوله تعالى )وأنا ظننا أن2 لن تقول اإلنس والجن على الله كذبا( يقول: قالوا:

وأنا حسبنا أن لن تقول بنو آدم والجن على الله كذبا من القول ــ والظن هاهنا بمعنى الشك ــ،

وإنما أنكر هؤالء النفر من الجن أن تكون علمت أنk يجترئ على الكذب على الله لما سمعت أحدا

القرآن؛ ألنهم قبل أن يسمعوه وقبل أن يعلمواk وغير ذلك تكذيب الله الزاعمين أن لله صاحبة وولدا

من معاني الكفر كانوا يحسبون أن إبليس صادق فيما يدعو بني آدم إليه من صنوف الكفر فلما

سمعوا القرآن أيقنوا أنه كان كاذبا في كل ذلك، فلذلك قالوا )وأنه كان يقول سفيهنا على الله

k . (1)شططا( فسموه سفيها

-قال تعالى: )وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن3 يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما

قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين

يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن ال يجب

داعي الله فليس بمعجز في األرض وليس له من. (2)دونه أولياء أولئك في ضالل مبين(

فصل في فوائد األدلة: - قال العلماء بأن الجن تبع لإلنس في باب الرسالة،1

فاألنبياء من البشر، وليس من الجن رسل وال أنبياء، وهذا هو المستقر، وفي اآلية األولى دليل

على أن الجن يتأثرون بمقاالت اإلنس وبسوادهم األعظم، وأن قول الجمهور عندنا قول معتبر

تفسير الطبري .)(1 .32 ـــ 29 األحقاف : )(2

111


معمول به عندهم، فهم ظنوا بالله عز وجل ظن السوء؛ ألنهم لم يكن في خلد أحد منهم أن اإلنس والجن يتمالئون على الكفر والكذب على الله عز

وجل.

- في اآلية الثانية )وأنه كان يقول سفيهنا على الله2 شططا( دليل على أن إبليس ليس بذاك المعظ�م

في عالم الجن، وال بذاك اإلمام المخوف، فهم يصفونه بأنه " سفيههم "، ويعلنون مخالفته

ودخولهم دين اإلسالم، وجرأة الجن هنا أقوى وأصدق من ردة فعل الطائفة اليزيدية الكافرة التي تعبد الشيطان بحجة أنهم يتقون شره، ويقولون هو

رئيس المالئكة!.

- أن إبليس كائن حي موجود على4الحقيقة وأنه مخلوق من نار:

( قال تعالى: )إنه يراكم هو وقبيله من حيث ال1 ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين ال يؤمنون(

(1) .

( قال تعالى: )والجان خلقناه من قبل من نار2. (2)السموم(

. (3)( قال تعالى: )وخلق الجان من مارج من نار( 3

( عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله4خلقت المالئكة من نور وخلق الجان من مارج« :

من نار وخلق آدم مما وصف لكم«. رواه مسلم.

.27 األعراف : )(1 .27 الحجر : )(2 .15 الرحمن : )(3

112


فصل في فوائد األدلة: و المارج: طرف النار ولسانها من أعلى، ويقال " أمر مريج " أي مضطرب من اضطراب مارج النار أي

طرف لهبها، ولهذا فطبع الجان االضطراب وسرعةالتردد وعدم السكون.

فكل من ال يؤمن بالله ورسله وما جاء عنهم في شأن خلق الله آلدم والشيطان وعداوته األولى آلدم

وذريته وحقيقة أمره فهو غير مدرك لحقيقة وجود الشيطان وحقيقة عالقته معه في هذه الحياة الدنيا

k له ألنه ال يعلم بأن كل ما هو فيه من شر فيكون وليا إنما هو بإمالء الشيطان ووسوسته وتزيينه فيكون له

k من حيث ال يعلم وال يشعر, قال تعالى: )أال إنهم مطيعاهم السفهاء ولكن ال يعلمون(.

- إثبات صفة الجسم للشيطان وأن5:vالحمار والكلب يريانه عيانا

قال: »إذا( عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي 1 سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنهاk، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله رأت ملكا

k«. متفق عليه. من الشيطان فإنه رأى شيطانا

( عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال2 : »إذا سمعتم نباح الكالب ونهاقرسول الله

الحمير من الليل فتعوذوا بالله فإنها ترى ما ال ترون«. رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، وقالاأللباني: إسناده جيد رجاله ثقات رجال الشيخين.

فصل في فوائد األدلة: -إثبات صفة الجسم للشيطان بهذه األحاديث دون1

غيرها متعلق بأن الشيطان في حالته العادية األصلية ال يرى، فإن أردت إثبات صفة الجسم له

113


لم يمكنك ذلك إال في حال كون الشيطان في حالته العادية األصلية فلم يكن ذلك إال برؤية الحمار والكلب، ولو أردت إثبات صفة الجسم بأحاديث ذكر فيها أن الشيطان تصور لإلنسان فرآه لما كان هذاk لصفة الجسم له؛ ألنه خرج للعيان بجسم غير مثبتا

وروى البيهقيجسمه، وقد قال الحافظ في الفتح: في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع سمعت

الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلناk. انتهى, وهذا محمول على شهادته إال أن يكون نبيا من يد�عي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها،k منهم بعد أن يتطور وأما من اد�عى أنه يرى شيئا

اهـ .على صور شتى من الحيوان فال يقدح فيه.

-إثبات أن في هذا الواقع صور تمر من حولنا ونحن2 ال نراها، وأن فهمنا لهذه الحياة ناقص إذا كنا

نتصوره بال عقيدة، فباإليمان بالغيب فقط تكتملصورة الواقع، ونرى بقلوبنا ما ال نراه بأعيننا.

- ذكر ما جاء في حجم الشيطان في6حال كونه على صورته األصلية:

( عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول1 قام فصلى صالة الصبح وهو خلفه، فقرأالله

فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صالته قال: »لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه

حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين اإلبهام والتي تليها، ولوال دعوة أخي سليمان ألصبح مربوطا

بسارية من سواري المسجد يتالعب به صبيان المدينة«. رواه أحمد بسند حسن وأصله في

الصحيحين.

قال: »راصوا( عن أنس بن مالك أن النبي 2 صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا باألعناق، فوالذي نفس محمد بيده إني ألرى الشياطين تدخل من

114


خلل الصف كأنها الحذف«. رواه أحمد وغيره بسندصحيح على شرط مسلم.

الحذف: صغار الضأن، وقيل طائر بحجم طائرالبط.

فصل في فوائد األدلة: تكثر الخرافات حول حجم الشيطان في أصل

هيئته العادية فيقال أنه أكبر من كذا وكذا ويقال أصغر من كذا وكذا، والصحيح أن األحاديث أشارت إلى حجمه

كما في قوله: »يتالعب به صبيان المدينة« فلن يتالعبوا به إال وهو صغير الحجم، وكذلك قوله: »كأنها

الحذف« والحذف صغار الضان وهو ليس كبير الحجم, وقيل الحذف طائر بحجم البط. كذلك قوله: »فأهويت

بيدي فمازلت أخنقه« دليل على صغر حجمه؛ ألن بيديهالهوي هو النزول إلى أسفل، وقد أهوى

ومكانهما في الصالة كان على صدره، فدل ذلك على صغر حجم الشيطان، وأن عنقه كان تحت مستوى

. صدر وبطن النبي

- ذكر ما جاء في أن حجم الشيطان7يتغير:

( عن أبي المليح عن أبيه رضي الله عنه قال كنت1 فعثر بعيرنا فقلت: تعس الشيطانرديف النبي

: »ال تقل تعس الشيطان، فإنهفقال لي النبي يعظم حتى يصير مثل البيت ــ وفي رواية: مثل

الجبل ــ، ويقول: بقوتي صرعته؛ ولكن قل: بسم الله، فإنه يصغر حتى يصير مثل الذباب«. رواه أحمد

وابو داود والنسائي وهو حديث صحيح.

فصل في فوائد األدلة: يرد وصف الشيطان في آثار كثيرة بشكل مختلف

115


من أثر إلى أثر فيظن في ذلك التعارض كما في حديث أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، وأن

الشمس تخرج بين قرني شيطان، وأن الشيطان ينام على خياشيم اإلنسان إذا نام، فهذه األشياء ال تكون

من كائن حي له هيئة ثابتة، فكيف تخرج الشمس بين قرنيه ثم ينام على الخياشيم الصغيرة في أنف

اآلدمي؟. هذه اإلشكاالت كلها تزول إذا علمت أن حجم�ر فيكون كالجبل، وقد يتصاغر حتى يكون الشيطان يتغي

كالذبابة، وكذلك الحال في كل مشكل متعلق بحجمالشيطان.

- إثبات أن للشياطين أسماء8 ( عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه أتى1

فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حالالنبي بيني وبين صالتي وقراءتي يلبسها علي !! فقال

: »ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذارسول الله ،»k أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثالثا

فقال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني. رواه مسلم.

فصل في فوائد األدلة: -أن للجن مجتمعات وتعامالت فيما بينها فال يكون1

هناك اسم إال وهناك مناد® يناديه ويتعامل معه، وقيلبأن خنزب لقبه ومعناه: قطعة اللحم النتنة.

-أن البصاق على األشياء أو على أحد من الناس إنما2 هو إهانة؛ ألنه تشبيه للمبصوق عليه بالشيطان وإال فالبصاق في حد ذاته طاهر كما أنه ثبت في السنة النفث على المريض في القراءة؛ ولكن اليوم أصبح البصاق على األشياء إهانة مستقلة بغض النظر عن

كونه تشبيها للمبصوق عليه بالشيطان، وهذا من فساد األعراف؛ حتى أن بعض الفساق يلقبون

أنفسهم بألقاب الشيطان، فإذا بصقت عليه غضبمع أنه ال يجد في وصفة بالشيطان إهانة له!.

116


- إثبات صفة الكالم للشيطان وأنه قد9يخاطب البشر

( عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان يوم أحد1 هزم المشركون، فصاح إبليس أي عباد الله أخراكم، فرجعت أوالهم فاجتلدت هي وأخراهم، فنظر حذيفة

فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله أبي أبي. فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: غفر

الله لكم. رواه البخاري.

( عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما2 سمعت عمر قال لشيء قط يقول إني ألظنه كذا إال

كان كما يظن,فبينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني أو ان هذا على دينه في

الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، علي� الرجل، فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم، قال: فإني أعزم عليك إال ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما

k في السوق جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوما جاءتني فيها الفزع، فقالت: ألن تر الجن وإبالسها

ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقالص وأحالسها. قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل

k قط بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاk منه يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل أشد� صوتا

فصيح، يقول ال إله إال الله، فوثب القوم، قلت: ال أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول ال إله إال الله، فقمت فما

نشبنا أن قيل هذا نبي. رواه البخاري.

117


- باب إثبات صفة اليدين والقدمين10 للشيطان وأنه يأكل ويشرب على

الحقيقة: ( عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول1

قال: »إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذاالله شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله

ويشرب بشماله«. رواه مسلم.

( عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا إذا حضرنا مع2k لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله النبي طعاما

k، فجاءت فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرة طعاما جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام

بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفعفأخذ رسول الله : »إن الشيطانفأخذ بيده فقال رسول الله

يستحل الطعام أن ال يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها، فجاء بهذا

األعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسيبيده إن يده في يدي مع يدها«. رواه مسلم.

( عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله 3 قال: »إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة«.

رواه الطحاوي بسند صحيح.

( عن علقمة قال: سألت ابن مسعود فقلت هل شهد4 ليلة الجن؟ قال: ال؛أحد منكم مع رسول الله ذات ليلة ففقدناه،ولكنا كنا مع رسول الله

فالتمسناه في األودية والشعاب، فقلنا استطير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر� ليلة بات بها قوم، فلما

أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر� ليلة بات بها قوم، فقال: »أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن«، قال: فانطلق بنا فأرانا

آثارهم وآثار نيرانهم. رواه مسلم.

118


- إثبات أن إلبليس عرش على الماء في11البحر وأن له تاج:

( عن أبي سعيد ــ في حديثه عن ابن صياد الذي قيل1 وأبو بكربأنه هو الدجال ــ قال: لقيه رسول الله

وعمر في بعض طرق المدينة فقال له رسول اللهأتشهد أني رسول الله؟« فقال هو: أتشهد أني« :

: »آمنت باللهرسول الله؟ فقال رسول الله k على ومالئكته وكتبه ما ترى؟« قال: أرى عرشا

: »ترى عرش إبليس علىالماء، فقال رسول الله k، أو البحر وما ترى؟« قال: أرى صادقين وكذابا

k، فقال رسول الله : »لبس عليهكاذبين وصادقا دعوه«. رواه مسلم. وله من حديث جابر عنه عليه الصالة والسالم: »إن إبليس يضع عرشه على الماءثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة«.

( عن أبي موسى األشعري رضي الله عنه قال: قال2 : »إذا أصبح إبليس بث جنوده، فيقول:رسول الله

k ألبسته التاج، قال: فيخرج من أضل اليوم مسلما هذا فيقول: لم أزل به حتى طلق امرأته، فيقول:

أوشك أن يتزوج. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى عق والديه، فيقول: يوشك أن يبرهما. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك، فيقول: أنت أنت! ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قتل، فيقول:

أنت أنت ويلبسه التاج«. رواه ابن حبان في صحيحة، وقال األلباني: وهذا إسناد صحيح رجاله

كلهم ثقات رجال البخاري.

فصل في فوائد األدلة: - أن عمل الشيطان منظم وأن له عرش وسرايا1

وجنود.

- أن فترة ما بعد اإلصباح هي بداية جديدة لعمل2

119


الشيطان.

- أن الشياطين يراجعون إبليس ويذكرون له ما3عملوه مع بني آدم.

- باب إثبات أن الشيطان يخاف من12بعض البشر

قال( عن عبدالله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله 1 لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: »إن الشيطان

ليفرق ــ وفي رواية: يخاف ــ منك يا عمر«. رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، وقال األلباني: سنده

صحيح على شرط مسلم.

( عن مجاهد قال: بينا أنا أصلي إذ قام مثل الغالم2 ذات ليلة، فشددت عليه آلخذه، فوثب فوقع خلف

الحائط حتى سمعت وجبته، ثم قال: إنهم يهابونكم كما تهابونهم من أجل ملك سليمان. رواه ابن

عساكر

فصل في فوائد األدلة: -أهمية السمت الخارجي لالنسان المسلم وأنه قد1

k في طرد الشيطان، فالذي يطيل لحيته يكون سبباk k للشيطان أنه أقوى دينا وال يسبل ثوبه يكون معلوما

من غيره بمجرد النظر إلى هيئته فال يتجرأ علىأذاه.

-أن الشيطان يتعامل مع الظاهر وقد ال يتجاوزه كما2 جاء عند ابن جرير في تفسير قوله تعالى: )فلما

خر� تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين( عن عطاء قال: كان سليمان

بن داود يصلي، فمات وهو قائم يصلي، والجن يعملون ال يعلمون بموته حتى أكلت األرضة عصاه

. فخر�

120


-أن للجن تاريخ محفوظ يعلمه أفرادهم من الجن3 لقوله: »يهابونكم من أجل ملك سليمان «، وملك

سليمان مضت عليه قرون طويلة!.

- إثبات أن الشيطان ينام:13 ( عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله1

قال له: »فراش للرجل، وفراش المرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان«. رواه مسلم.

:( عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله 2 »قيلوا فإن الشياطين ال تقيل«. أخرجه أبو نعيم في

"الطب"، وقال األلباني: سنده حسن.

( عن قيس بن أبي حازم, و هو من كبار التابعين3 وقيل له رؤية, أنه قال: ما من فراش يكون في بيت

k ال ينام عليه أحد إال نام عليه الشيطان. مفروشا رواه ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان بسند

صحيح.

( عن سالم بن مسكين قال: سئل الحسن: يا أبا4 سعيد، هل ينام إبليس؟ قال: لو نام لوجدنا لذلك

راحة. رواه أحمد في الزهد بسند صحيح.

فصل في فوائد األدلة:k في أذهان الصحابة ان الشيطان ال لو كان مستقرا

ينام لما كان لهذا القول حاجة، واقتصاره في نفي النوم على المقيل دليل على ثبوته فيما عداه, وقد نفى صفة النوم عن الشيطان بعض السلف واثبتها بعضهم, والجمع بين هذه اآلثار أن إبليس ال ينام باعتبار أنه قد

أنظر فال يموت إلى يوم القيامة والنوم ميتة صغرى فهو ال ينام، أما ذريته فقد ثبت في صحيح السنة أنهم

يموتون فال يمتنع عليهم أنهم ينامون, والله اعلم.

121


- إثبات أن للجن عموما ذكور وإناث14وأنهم يجامعون:

( قال تعالى: )و أنه كان رجال من اإلنس يعوذون1 6برجال من الجن فزادوهم رهقا( الجن:

( عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي 2 قال: »أال هل عست امرأة أن تخبر القوم بما يكون من زوجها إذا خال بها؟ أال هل عسى رجل أن يخبر

القوم بما يكون منه إذا خال بأهله؟ فقامت منهن امرأة سفعاء الخدين فقالت: والله إنهم ليفعلون

وإنهن ليفعلن. قال: فال تفعلوا ذلك، أفال أنبئكم ما مثل ذلك؟ مثل شيطان أتى شيطانة بالطريق فوقع

بها والناس ينظرون«. رواه أحمد وأبو داود، وقالاأللباني حديث صحيح.

فصل في فوائد األدلة: قال ابن تيمية في دقائق التفسير عن استمتاع

الجن باإلنس واإلنس بالجن: تارة يخدم هؤالء لهؤالء في أغراضهم وهؤالء لهؤالء في أغراضهم فالجن تأتيه بما يريد من صورة أو مال أو قتل عدوه واإلنس تطيع

الجن فتارة يسجد له وتارة لما يأمره بالسجود له وتارة يمكنه من نفسه فيفعل به الفاحشة وكذلك

الجنيات منهن من يريد من اإلنس الذي يخدمنه ما يريد نساء اإلنس من الرجال وهذا كثير في رجال الجن

ونسائهم فكثير من رجالهم ينال من نساء اإلنس ما. (1)يناله اإلنسي وقد يفعل ذلك بالذكران

- إثبات صفة البكاء للشيطان:15 ( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله1

إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل« :

.2/127 دقائق التفسير البن تيمية، )(1

122


الشيطان يبكي يقول: يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي

النار«. رواه مسلم.

- إثبات صفة اليأس للشيطان:16 ( عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي 1

يقول: »إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب؛ ولكن في التحريش بينهم«. رواه

مسلم.

- إثبات صفة الضحك للشيطان:17 أنه( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي 1

قال : »إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن

يشمته، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فليرده ما استطاع، فإذا قال: ها، ضحك منه الشيطان«.

رواه البخاري.

- إثبات صفة الحلق واللسان18للشيطان على الحقيقة وأنه يتنفس:

( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله 1 قال: »اعترض الشيطان في مصالي فأخذت بحلقه فخنقته حتى وجدت برد لسانه على كفي؛ ولوال ما كان من دعوة أخي سليمان ألصبح موثقا تنظرون

إليه«. رواه ابن حبان في صحيحه بسند حسن.

( عن السائب بن يزيد أن امرأة جاءت إلى رسول2 فقال: يا عائشة أتعرفين هذه؟ قالت: ال، ياالله

نبي الله. فقال: هذه قينه بني فالن، تحبين أنk فغنتها، تغنيك؟ قالت: نعم. قال: فأعطاها طبقا

: قد نفخ الشيطان في منخريها. رواهفقال النبي

123


أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين.

- ذكر ما جاء في صفة القرين:19 في المسجد( عن علي بن الحسين: كان النبي 1

وعنده أزواجه فرحن، فقال لصفية بنت حيي : »ال تعجلي حتى أنصرف معك«. وكان بيتها في دار

معها فلقيه رجالن منأسامة، فخرج النبي ثم أجازا، وقال لهمااألنصار، فنظرا إلى النبي

: »تعاليا إنها صفية بنت حيي«. قاال: سبحانالنبي الله يا رسول الله، قال: »إن الشيطان يجري من

اإلنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يلقي فيأنفسكما شيئا«. متفق عليه.

( عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول2k يمرالله قال: »إذا كان أحدكم يصلي فال يدع أحدا

بين يديه، فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين«. رواهمسلم.

( عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال3 : »إذا تثاوب أحدكم فليمسك بيده علىرسول الله

فيه فإن الشيطان يدخل«. رواه مسلم

( عن خالد بن معدان ــ وهو تابعي روى عن جمع من4 الصحابة، قال عنه الذهبي: فقيه كبير ثقة مهيب

مخلص, أنه قال: ما من إنسان إال وشيطان متبطن فقار ظهره، الو® عنقه على عاتقه، فاغر فاه على

قلبه. رواه ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان بسندحسن.

( عن أبي قالبة, وهو من أئمة التابعين، أنه قال: إن5 الله عز وجل لما لعن إبليس سأله النظرة، فقال: وعزتك ال أخرج من صدر عبدك حتى تخرج نفسه، قال: وعزتي ال أحجب توبتي عن عبدي حتى تخرج

نفسه، أو قال: روحه. رواه البيهقي في الشعب

124


بسند صحيح.

خرج( عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله 6k، قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما من عندها ليال

أصنع، فقال: »مالك؟ يا عائشة أغرت؟« فقلت: وما :لي ال يغار مثلي على مثلك؟ فقال رسول الله

»أقد جاءك شيطانك؟« قالت: يا رسول الله، أو معي شيطان؟ قال: »نعم« قلت: ومع كل إنسان؟

قال: »نعم«. قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: »نعم؛ ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم«. رواه

مسلم

فصل في فوائد األدلة: الحديث األول والثاني والثالث، واألثر الرابع

والخامس يؤيد أن قوله: »يجري من ابن آدم مجرى الدم« على ظاهره؛ ألن المصلي إنما يقاتل بدن المار

k عنه ويمنعه من االجتياز أمامه، ولو كان القرين منفصال لما علمنا بوجوده من عدمه في أثناء المرور، فدل� هذا

أنه في بدنه. وجعل الحديث األول على ظاهره فريق من أهل العلم؛ ولكن الحديث السادس يدل على أن

القرين قد ينفصل فيغيب ثم يأتي وذلك في قوله: »أجاءك شيطانك؟« فهو لن يجيء اال بعد غياب إال أن يقال: يقصد بذلك غياب وسوسته مع بقائه في البدن. وعلى كل حال فدخول الشيطان البدن وخروجه منه أمر أثبته الشرع والواقع كما في قوله تعالى: )الذين

يأكلون الربا ال يقومون إال كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس(، وحديث عثمان ابن أبي العاص،

والحديث الذي في مسلم من أن إبليس عندما رأى جسد آدم في الجنة: )فلما رآه أجوف عرف أنه خلقk ال يتمالك( وغيره. فالراجح أن القرين قد يدخل خلقا

البدن وقد يوسوس من خارجه, والله أعلم.

125


– إثبات أن الشيطان يقوم بأفعال20 محسوسة تورث األمراض في

األبدان: ( عن زينب امرأة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه1

k فقال: ما هذا؟ أن عبدالله رأى في عنقي خيطا فقلت: خيط رقي لي فيه، قالت: فأخذه فقطعه، ثم

قال: أنتم آل عبدالله ألغنياء عن الشرك، سمعت يقول: »إن الرقى والتمائم والتولةرسول الله

شرك«. فقلت: لم تقول هكذا؟ لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فالن اليهودي، فإذا رقاها

سكنت. فقال عبدالله: إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقي كف عنها، إنما كان يكفيك أن

يقول: »أذهب البأستقولي كما كان رسول الله رب الناس، واشف أنت الشافي، ال شفاء إال

شفاؤك، شفاء ال يغادر سقما«. رواه أبو داودوصححه األلباني

( عن أبي موسى األشعري رضي الله عنه قال: قال2 : »فناء أمتي بالطعن والطاعون(رسول الله

فقيل: يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال )وخز أعدائكم من الجن وفي كل

شهادة( رواه احمد وقال المنذري: أحد أسانيدهصحيح وصححه األلباني.

( عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها قالت:3 شديدة، فأتيت النبي كنت أستحاض حيضة كثيرة

أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله، إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما تأمرني؟ فقال: »إنما هي ركضة من الشيطان« رواه الترمذي وقال حسن صحيح،

وقال: سألت محمد ــ أي البخاري ــ عن هذا الحديث؟ فقال هو حديث حسن صحيح، وهكذا قال

126


أحمد بن حنبل.

»الركضة«: الضرب بالرجل, قال بعض أهل العلم:أي ضرب الشيطان الرحم برجله.

( عن عائشة، قالت استحيضت أم حبيبة بنت جحش4 فاستفتتــ أخت زينب بنت جحش ــ زوج النبي

: »إن هذه، فقال لها رسول الله رسول الله ليست بحيضة، ولكن هذا عرق فتقه إبليس، فإذا

أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي، وإذا أقبلت فاتركي لها الصالة«. رواه الطحاوي والطبراني في مسند

الشاميين بسند حسن.

فصل في فوائد األدلة: فيها دليل قاطع على أن الرقية الشرعية تكون للمرض العضوي وغير العضوي، وأن بعض الجروح

الداخلية والحروق والبثور وسيالن العين وغير ذلك، قد يكون سبب وجودها الوحيد هو الشيطان، فال تعالج اال

بالرقية, والله أعلم.

- أن عالقة االنسان بالشيطان تنتهي21 بعد خروج الروح وأن التكليف العام

لإلنسان ال ينتهي إال بالموت: ( عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله 1

قال: »إن الشيطان قال: وعزتك يا رب ال أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال

الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجاللي ال أزال أغفرلهم ما استغفروني«. رواه احمد وصححه األلباني.

فصل في فوائد األدلة: فيه داللة على أن الشيطان يتعلق إغواؤه ببقاء

127


الروح في الجسد وليس بقاء العقل وأن موت الدماغ مع بقاء الروح ال يعني نهاية التكليف ألن الشيطان إلى هذه المرحلة من ضعف البدن مازال يغوي والله تبارك

وتعالى مازال يغفر وهذا نص شرعي على أن ميتk , و أن رفع األجهزة k وال كونا الدماغ ليس بميت ال شرعا

عن الميت دماغيا لكي تخرج روحه هو قتل إلنسانمكلف , والله أعلم.

128


الواقع والواقعية يقول الله عز وجل: )إن عذاب ربك لواقع * ما له

وقال تعالى: )إذا وقعت الواقعة * ليس (1)من دافع( فالواقع في تعريفه ال يعدو أن يكون: (2)لوقعتها كاذبه(

k على المستوى الشيء الذي سيعايشه اإلنسان حتما الحسي والمعنوي ال يستطيع أنه يدفعه عن نفسه ال

k. فالموت واقع! ألنك سوف k وال تجاهال k وال إحجاما إقدامادها وألوائها, ب تمر به, والحياة واقع! ألنك تعاني ك

والشيطان ووسوسته واقع! ألنه يؤثر فيك علمت أم لم :تعلم آمنت أم لم تؤمن, والمالئكة واقع!. ولهذا قال )كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل(. وكان ابن عمر يقول إذا أمسيت فال تنتظر الصباح وإذا أصبحت

فال تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك . فهذه ليست "عزلة توحدية " أو كما يقولون(3)لموتك

" عقدة ميتافيزيقية االنتماء " وإنما هي " الواقعية السمحة! "على نور من الله, لمن يعرف ما هي حقيقة

الواقع وما هي مقتضيات تلك الحقيقة. وعند معرفةk اليوم هو أبعدهم هذا ستعلم أن أكثر الواقعيين تطرفا

k وتجاوز عن عن الواقع والواقعية, فهو يقول: كن واقعيا هذا المحظور الشرعي فإن لي فيه منفعة!, مع أن

الذنب ال يبلى وستلقى كل نفس ما عملت من سوءk وال محضرا, فالواقعية أن ال تتجاوز, ويقول: كن واقعيا تقل مالئكة وجن وشياطين! والواقع أن الله أثبت ذلك

بل أن حتى الحمار يعلم حق العلم وعين اليقين أن إذا سمعتم صياح: )ذلك جنوح عن الواقع كما قال

الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا وإذا

.8, 7 الطور: )(1.2, 1 الواقعة: )(2 رواه البخاري.)(3

129


سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه وفي رواية )إذا سمعتم نباح الكالب (1)رأى شيطانا(

, ولكن بعض البشر لم يبلغ في(2)ونهاق الحمير( واقعيته ما بلغته الديكة والكالب والحمير! نسأل الله

وكل من قال في شيء واقع مثل ذلك فهوالعافية, كذلك.

k من الواقع ألنها تكتب الحسنة والسيئة هي أيضا حقيقةk وقد وكل الله مخلوقات حقيقية بتولي كتابة

األعمال وسماهم "الكرام الكاتبين", يعيشون معنا كما يعيش أي كائن حقيقي الوجود والمنفعة والتأثير,

وبعضهم يشتغل معنا في الليل وبعضهم في النهار!, ثم ترفع األعمال إلى رب العالمين وسوف تبيض بسببها

وجوه وتسود وجوه. وقد كان الربيع بن خثيم إذا استيقظ من نومه قال: أكتبوا يا مالئكتي! بسم الله,

سبحان الله والحمد لله وال إله إال الله والله أكبر!, يقول لكي تبدأ صحيفة أعمالي بذكر الله, فهو رجل

k!. إن الدنيا في تقلباتها واقعي في تصوره وواقعي جدا وتفاصيلها اليومية إنما تحركها تبعات الحسنات

: )إن الرجل ليحرموالسيئات بشكل كبير , يقول الرزق بالذنب يصيبه وال يرد القدر اال الدعاء وال يزيد

, فالدينار والزوجة والعافية وكل(3)في العمر اال البر( رزق ربما ضاع بسبب السيئة!, بل أن ظاهرة التصحر وتقلص الغطاء النباتي تكون بسبب السيئات فقد قال

تعالى في ذلك: )ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم

قال زيد بن رفيع في تفسير هذه اآلية: إن (4)يرجعون( المطر لينقطع ثم يتبعه القحط وإن دواب البحر

متفق عليه.)(1 أحمد وابن حبان في صحيحه وقال األلبـاني: إسـناده جيـد رواه )(2

رجاله ثقات رجال الشيخين. رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهم وحسنه األلباني.)(3.41 الروم: )(4

130


, أي بمعصية ابن آدم!.(1)ليصيبها العمى في قعره فالواقع الشخصي واالجتماعي والكوني بما في ذلك دواب البحر, كلها تتأثر بأشياء ال يقيم لها أكثر الناس

k, بل إن األمة بأسرها قد تجتال في هذا الزمان اعتبارا وتستباح وال أحد يجد في نفسه أدنى إشارة إلى السبب الحقيقي وراء ذلك فكلهم يتحدثون عن

األطماع المعلنة والمؤامرات المدبرة والتحالفاتk ولكن " الواقع األول " الخفية وربما يكون هذا واقعا

الذي نتج عنه هذا " الواقع العقوبة " هو الذي ينبغي أن تناط به ألباب المفكرين والمنظرين وتعتمد على

تحليله حكمة الحاكمين على األمة وأفرادها قبل أن تشتغل هذه األفهام بأعراض المرض وتنسى علته, فليست الواقعية في أن تتجه إلى المعركة المادية

المشاهدة فتنظر في بروتوكوالت األعداء وآالت جيوشهم, وكيف نصنع طائرة نوقع بها طائرتهم ودبابة

نفجر بها دبابتهم!, هذا جزء ضئيل من الواقع بل إن من حكمة الله التامة ورحمته السابغة على هذا الدين

أن ال تتولى أفراد أمه محمد اليوم القيام على العالم أو ما يسمونها بـ " أستاذية العالم " ألن من يسعون اليوم لتلك األستاذية على طريقتهم التسلقية لو ملكوا العالمk كما ملكه سليمان عليه السالم ألقاموا شرعاً منحرفا

وملةk ناقصة ولسخروا شرع الله لبنيات أفكارهم الحالمة وتوجهاتهم الرومانسية ولوقع التبديل واإلبطال لكثير من شرائع الدين, فانظر إلى كل البالد اإلسالمية وكل بدعة متغلغلة فيها فلو رجعت إلى التاريخ لوجدت

أن تلك البدع المتفشية المتأصلة في تراث تلك الشعوب, وبعضها قد يبلغ حد الكفر, إنما غرست في "

زمن القوة " عندما حكمت جماعة مسلمة ما تلك الشعوب وأذنت بإقامة تلك البدع فيها فرسخ في

عقيدة الناس أنها هي الدين كما في القبورية في مصر التي أنشأتها الدولة العبيدية أو الصوفية التي رعتها

(.576 /3 تفسير ابن كثير ))(1

131


الدولة العثمانية والتي مازال أهل تلك البلدان التي كانت تقع تحت حكمها يعانون تأصلها في إرثهم

النفسي والجغرافي حتى أنه بعدما حكم أهل الدعوة النقية الحجاز وجدوا رسالة من الخليفة العثماني عند قبر رسول الله يستغيث به ويطلب منه المدد!, فقبل

أن نسعى لالستخالف األممي واألستاذية علينا أن نتعلم كيف نكون أساتذة وكيف نكون خلفاء!, فالمبتدع إن

حكم أبطل الدين وإن رأيت األذان يرفع والرؤوس تسجد وتركع فما يفيدنا ذلك وقد نقضت " العروة

الوثقى" التي هي كما قال أحد أساتذة الزمان وأئمة الهدى, األوزاعي رحمه الله, قال: )ال يستقيم اإليمان

إال بالقول وال يستقيم القول إال بالعمل وال يستقيم اإليمان والقول والعمل إال بالنية الموافقة للسنة, فمن

آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق ذلك بعمله فتلك , فأين دعاة(1)العروة الوثقى التي ال انفصام لها(

أستاذية العالم من هذا اليوم؟, بعضهم في تحالف فكري مع الرافضي والعلماني في وجه الغرب

المتغطرس على فكرنا وحضارتنا!, وبعضهم عضو في المجلس التشريعي ويزعم أنه يوسف القرن الجديد!,

k, والناس؟ وأمة محمد ؟ أين هم من الحسنةحسنا والسيئة؟ ينتظرون على األرصفة بال علم وبال كتاب وبال

سنة إلى أن ينتصر حليف الرافضي والعلماني على الغرب ويسود أعضاء " اإلسالم الدسيس " في

البرلمان ويحول إلى خالفة راشدة ال يعلم برشدها إال الله, ثم األستاذية!, ثم بعد هذه الحقب الطويلة من

الزمان, إن لم تكن قامت الساعة بعد, يلتفت بعد ذلك إلى عوام المكلفين ليقال لهم " نحن اآلن خلفاء

األرض وأساتذة العالم, فتعالوا نبني الحياة! ", ألن هذا هو المعلن من األهداف األستاذية اآلن, صناعة السعادة

والحياة للبشرية!!.

(.144 /6 حلية األولياء ))(1

132


إن التفسير المادي للتاريخ والواقع الناتج عن التداعيات السابقة هو ذاته التفكير الماركسي الذي جاءت به الشيوعية الملحدة حيث يكرر ماركس كما في كتابه " بؤس الفلسفة " أن كل األفكار األرضية

ناتجة عن المادة ألن المادة سابقة للفكر والدماغ مادة والفكر ناتج عن الدماغ والمادة كانت قبل كل شيء وستبقى بعد كل شيء!. ففكرة " الله! ", على حد وصف ماركس, ناتجة عن العهد الزراعي الذي كان اإلنسان فيه بحاجة لقوة خفية تحمي محاصيله من

اآلفات وتساعد على كثرة اإلنتاج فنتجت " فكرة الله " التي اخترعها اإلنسان لسبب اقتصادي بحت بحيث يوكل إليها زيادة إنتاجه وحفظ محصوله ثم أن هذه

الفكرة يجب أن تنتهي اآلن بعد اكتشاف تركيبة النبات واألسمدة ودخول عهد الصناعة فليس هناك حاجة

لـ"فكرة الله " ألن الصناعة تتم السيطرة فيها على المصنوع بشكل كامل فليس هناك غيب يجبر اإلنسان

على التعلق بفكرة الرب الخرافية, في نظره, التي كان يحتاج اإلنسان إليها ألسباب اقتصادية بحيث يبارك

ذلك الرب بعنايته اإللهية غلة المزارع ويحميها من الشرور الخفية!!. ويقول زميله فريدريك انجلز في

كتابه )أصل األسرة والملكية الخاصة والدولة( بأن " فكرة الشرف " نتجت بعد اكتشاف المحراث!!, حيث

زادت ثروة الرجل بسبب زيادة األرض المزروعة فصارت هناك ثروات يتم توريثها بعد موت الرجال

فنتجت فكرة الشرف لكي يعرف الرجل أن زوجته ال تنجب إال من صلبه فيكون على يقين أن ثروته تذهب

ألبنائه الطبيعيين حال ورثهم له بعد موته وأما قبل اكتشاف المحراث فلم يكن للرجل ثروة يرثها أحد من

بعده ولهذا يقول بأنه لم يكن هناك شرف وأن كل رجل كان يسمح له أن يجامع كل امرأة بال حرج قبل

اكتشاف المحراث اللعين!!. فإذا تم نزع الملكية الفردية كما هو قانون الشيوعية فإنه لن يكون ألي

133


شخص أي ثروة وعندها فإن سبب احتكار المرأة على رجل واحد بدعوى الشرف أمر رجعي يجب تركه ولهذا

كانت الشيوعية في عهد فالديمير لينين تحرم الزواج ألنه استعباد وتملك بال سبب منطقي ثم سمح به بعد ذلك دون إجبار عليه ألسباب طبية بحته في مشروع

سماه )زواج الكوب( وليس هذا مجال بسط هذهالسخافات!!.

اليوم نجد من يتكلم عن الواقع بنفس هذا المنظور المادي الملحد, فعندما تنسب بعض اإلخفاقات األرضية

k ألسباب غيبية كأن تجعل السيئة والمعصية سببا لمصيبة حلت في مكان ما من بالد المسلمين تجد من

ينظر إليك نظر المغشي عليه من الضحك ويقول: " هذه صوفية سياسية وبوهيمية الدراويش " فالقوم ما

قتلوك إال بالبندقية والصاروخ فما دخل السيئة بذلك؟!. فقديما عندما يمرض اإلنسان كان يستساغ أن يقال

" مرض بذنبه ومعصيته " ألننا ال نعرف الفيروس والمجهر فأما اليوم فال حاجة لفكرة " العقوبة اإللهية "

k كما هي الحال في ألننا بتنا نعرف األسباب, تماما مقولة ماركس بالنسبة لـ" فكرة الله!! " ولكن على نطاق ضيق غير صريح ثم يزعم من يقول بذلك بأن

هذه هي الواقعية الصحيحة ويسميها " براغماتيه " لكي تعتقد أنها مذهب جديد وإنما هي في الحقيقة " العقيدة

الماركسية في تحليل األحداث الكونية!! " غير أن البراغماتية تربط المادة بالنتيجة الخارجية الناتجة عن

منظومة األفكار العملية بينما الماركسية تربط الجدلية المادية بمرحلة المقدمات األولية واالستقصاء التي

تبنى عليها المسلمات الماركسية و في النهاية كلها " مادية "!. وال أحد ينفي األحداث الكونية وارتباط القوة

£كر ذلك يسمى " والتأثير بالسبب المادي بل أن م»ن جبري" ولكن لكل فعل يأذن به الله حكمة بالغة تتجلى

لمن كان في قلبه نور ينظر به إلى مواطن رضا الله وسخطه كما أن الله نص على ذلك في كتابه حيث

134


قال: )وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم. 30ويعفو عن كثير( الشورى:

�ة ,بل إن فليس الواقع مداره على النتائج اآلني التاريخ مليء بعبر المآالت التي لم تكن تخطر ببال أحد

مثل تسمية صلح الحديبية بـ " الفتح المبين " على ما فيه من شروط كان ظاهرها االستضعاف واالضطهاد

وكما وصف سبحانه حادثة اإلفك التي أبكت األنبياء والصديقين بأنها " خير لكم " أي للمسلمين!. وكما كانت قنبلة هيروشيما التي ظن العالم أنها نهاية مجد

اليابان فصارت بداية تحرره من عبودية العائلة اإلمبراطورية التي تزعم أنها من ساللة الله والتي كان يحرم على المواطن الياباني أن ينظر إلى أي فرد من

أفرادها إال بإذنه فكانوا يسجدون عند مرور أي فرد من أفراد العائلة لكي ال ينظرون إليهم فحررتهم تلك

الكارثة من عبودية األساطير المتفرعنة والموت في سبيل اإلمبراطور كما فعل طيارو الكانيكازي في

عملياتهم االنتحارية, وغير هذا من األمثلة الكثير. إن االعتماد على التدبير الذاتي بشكل كامل حماقة ال

ينكرها حتى الملحدين بل حتى المبادئ الرياضية المنطقية والفيزيائية, فلو نظرت إلى هذين الخطين

كما في الرسم التالي:

135


إن انحراف الخط األسفل قليال وكذلك األعلى سينتج عنه التقاء الخطين في تقاطع سوف يقع في

المستقبل بعد مسافة كبيرة ولكنه سوف يقع ال محالة ومكان تلك النقطة التي سيلتقيان فيها ومدة الزمن

k السابق لاللتقاء كل هذا يحدده مقدار االنحراف تقاربا وتباعدا والمسافة بين أصل المستقيمين. كذلك فإن مقدار االنحراف في الخط العلوي سينتج عنه مرور

الخط بنقاط كثيرة وهي التي تنتشر في الرسم وفي نفس الوقت فإنه سيتجنب المرور بنقاط أخرى وتجد

k متعلق بمقدار أن هذا المرور والتجنب للنقاط أيضا االنحراف في المستقيم. كذلك الحياة, فلك أن تجعل

ذلك االنحراف هو مقدار بعدك من الدين وقربك منه أو اآلخرة أو المال أو العلم أو أي طبع من طباع البشر

�ة أو الحس المرهف أو الجالفة ككثرة المزاح أو الجدي أو قلة الحياء أو الشجاعة أو أي شيء له تأثير أصيل

واضح في الحياة, ثم نظرت إلى تركيبة حياتك واألحداث التي مرت بها تجد أنها كلها متأثرة بمقدار

k بما في ذلك k أو نزوال انحراف تلك الصفة صعودا األشخاص الذين صاحبتهم في حياتك كلها!. وقد تجد أنك تغير مسار طريقك من شارع إلى شارع ألجل "

مطعم " أو " مغسلة مالبس " ثم ينتج عن ذلك االلتقاء بأشخاص كثر أنت لم تكن تسعى للقياهم وربما

صدمت أحدهم بسيارتك وربما كان أحدهم يدين لك بمبلغ ما فيعطيك إياه وربما تشاجرت مع شخص ما

عند المطعم وربما حدثت أشياء كثيرة قد تغير مسار حياتك وكل هذه األشياء أنت لم تكن تسعى إليها ولكنك كنت تريد "المطعم" فقط!!. ولو حسبت

األشياء التي تنتج عن قرار ما أنت تختاره تجد أنه ينتج عنه " حدث واحد أو بضعة أحداث " أنت كنت تتوقعها

وتسعى إليها ولكن لو نظرت إلى كمية األحداث األخرى المصاحبة والناتجة عن غير قصد لها والمترتبة على ذلك االختيار المعين الذي اخترته تجد أنها قد تبلغ

136


اآلالف دون مبالغة. فكيف إذا تحدثت لك عن الفيروسات التي تمأل الجو ولربما أصابك فيروس كانk في غيره ألن ثمة في ذلك الشارع ولم يكن متواجدا

مريض بداء معين مر من هنا وحدثته نفسه في لحظة معينة اتفقت مع مروره في هذا الشارع أن يبصق

فينتشر الفيروس فتمر أنت فتلتقطه!. وكيف لو تكلمت لك عن مسمار صغير قد يتلف إطار سيارتك, سقط من جيب عامل بناء كان يمر في هذا الشارع

وكان قد أوصى زوجته أن تخيط جيب سرواله ولكنها لم تفعل وهو صابر عليها إلى هذه اللحظة ألنها ابنة قريبه التي أجبرته أمه على الزواج منها ولو طلقها

وجاء بأخرى نشيطة قبل هذا اليوم لكانت قد خاطت الجيب ولم يسقط المسمار ولم يتلف إطار

سيارتك!!.و لو حدثتك عن الشياطين الذين يتسكعون في الطرقات!, فكم وكم من النقاط التي تزاحمك

وتصطدم بها وأنت ال تعلم وتظن أنك " تتحرك بخط واضح مدروس! " وتظن أنك تعرف المؤثرات التي

k تقع عليك وهذا غير صحيح. ففي مسألة المسمار فعال هل كان الذنب ذنب الزوج أم الزوجة أم األم أم ذنب

من صنع المسمار أم ذنبك أنت ألنك مررت بهذا الشارع أم ذنب من فتح المطعم في هذا الشارع

بالذات؟. كل هذه المؤثرات لو غاب منها واحد فقط لما تلف إطار سيارتك!, وبعضها دخل إلى هذه الدنياk لكي يؤثر عليك قبل عشرات السنين وبقي موجودا

في هذه اللحظة بالذات كذلك المسمار الذي ربما صنع في الصين وبقي في مخازنها عشرات األعوام ثم أتي

به ليلعب دوره في هذه اللحظة!.

إن اإلنسان يعمل على دفع السبب الظاهر لكي ال تقع المصيبة الظاهرة ولكن أي مصيبة قد تقع في أي

لحظة ألسباب كثيرة تحيط بك وأنت ال تعلم ولكن الله هو الذي يحميك من هذه األسباب ويعافيك منها بينما

أنت مشغول باألسباب الظاهرة. فمثالً , القتل قد يقع

137


ألي سبب وقد كان أبي بن خلف من رؤوس الكفر والشرك ولكنه كان يعلم أن الله قد ينصر نبيه في أي

لحظة حتى قال مرة: )و الله لو بصق علي محمد لقتلني( هذا مع أنه كافر قد حشي رأسه بعفن

الشرك!. وقد جاء في التاريخ من تسخير الله لبعض األمور فقط لكي تتجلى هذه المسألة في فهوم البشر

وذلك كما في قصة تعذيب فرعون وقومه بالقمل والضفادع والجراد وقد كان الله عز وجل قادر على أن

يعذبهم بالفيلة والديناصورات والمخلوقات المخيفة ولكن الله يريد أن يبين لبني آدم أنه هو الذي يمسك السماوات واألرض أن تزوال وأنه يمسك من أسباب

الهالك الشيء الكثير الذي ال نأبه به, بل وربما نحتقره ولوال عصمة الله لنا لقتل اإلنسان ريقه الذي في فمه

k!. وقد وقفت يشرق به فيموت وقد حدث هذا كثيرا بنفسي قبل أيام على قصة فتاة صغيرة خرجت من

باب المنزل فقفزت من أمامها قطة فخافت الصغيرة وسقطت ميتة مع أن هذه القطة كانت تدخل البيت

كل يوم وكانت هذه الفتاة تراها ولكن الله قد�ر في هذا اليوم بالذات وفي هذه الساعة أن تتحول هذه القطة

إلى " سبب قاتل مميت " فحدث ذلك. فمن الذي قد�ر كل هذا؟. إنه الله سبحانه الذي يحول من حال إلى

حال والذي توعد الذين يجهلون قدر عظمته بأنه سيستدرجهم من حيث ال يعلمون. فمن الذي سيعطيك خير هذه األشياء المحيطة بك والتي تؤثر عليك وأنت ال

تعرفها؟. ومن الذي سيكفيك شرها ويجعلها ال تعيق " حفنة " األهداف األصلية التي كنت أنت تسعى إليها؟؟.

إنه توفيق الله وال شيء غير توفيق الله وال أحد في الدنيا كلها يستطيع إحصاء ع»شر ما يحيط بك من

أسباب مؤذيه ناهيك عن إيجاد الضمانات بدفعها عنك ولكن الله الذي بكل شيء محيط وهو القاهر فوق

عباده قادر على أن يحيط بذلك ويقهره بقوته وعظمته سبحانه, فهذا الكون فضاء مخيف من المخلوقات وال

138


يدرك عظمة الله من ال يدرك عظمة هذا الكون الذي يسير فيه كل مخلوق دون أن يدخل في نطاق اآلخر.

فالذئب يأكل الخروف والخروف يأكل العشب والدجاجة تأكل الحب ولن يأكل الدجاج الخروف ولن

يأكل الذئب الحب وهذا معنى قوله عليه الصالة والسالم )أعوذ بكلمات الله التامات التي ال يجاوزهن

فهو يخلق كل شيء بكلماته فيقول له(1)بر وال فاجر( كن هكذا فيكون كذلك ويبقى على ما خلقه الله عليه ال يتجاوزه حتى يرث الله األرض ومن عليها. وهي ظاهرة حيرت علماء االجتماع عندما راقبوا الحيوانات فوجدوا

أن أخالقها ال تتطور وال تتغير على مر العصور. فمن الذي يحكم هذه األرواح في هذه التصرفات وهذه

األطر النفسية؟. إنه الله!. ثم يأتي من يريد تفريغ هذا العالم من أفعال الله وتأثيراته ويزعم بأن ذلك "

براغماتية! " يقتضيها عصر التجربة والمادة والمنفعة العملية!. العيش مع المسلمات والمعاني الخفية

المستصحبة على الدوام أمر حتمي البد منه وإال فعليك في كل مرة تفكر فيها بواشنطن أن تذهب إلى

واشطن وتعود لكي ال تخضع للتسليم واإليمان الغيبي بوجود مدينة ربما ليس لها وجود إال في دماغك

الالبراغماتي. ولهذا ينبه الله تبارك وتعالى على هذه اإلحاطة الشديدة وهذا النظام المحكوم بقيام الله عليه فيقول: )الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض األرحام

وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال * سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار * له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر

الله إن الله ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فال مرد له وما لهم من دونه من وال * هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال * ويسبح الرعد بحمده والمالئكة من


139


خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم ,12-8يجادلون في الله وهو شديد المحال( الرعد: فسبحان الله العظيم, سبحان الله العظيم!!.

k والله يدبر من حيث ال نرى k واحدا فنحن ندبر سبباk ال يحصى من األسباب التي لو لم يتيسر وال نعلم عددا واحد منها لفشل تدبيرنا التافه الضئيل الذي كنا نظنه هو األصل الذي عليه نبني " جدوى المشروع " الذي

يقول: )إذا خرجنسعى إلى تحقيقه!. لهذا تجد النبي الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله ال

حول وال قوة إال بالله فيقال له: حسبك قد هديت وكفيت ووقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟(. فالحديث يوضح أن التوكل على الله سبب لدفع شر من يترصد

لك عند خروجك وذلك في قوله " كفيت " وكذلك سبب في عناية الله التي تحميك من الوقوع في كل ما

يتوقى الناس الوقوع فيه من أذى غير مقصود وذلك في قوله " وقيت " ثم هو سبب في هدايتك إلى

k وذلك في قوله k غانما السبيل األمثل لبلوغ غايتك سالما" هديت ".

والمعنى من كل هذا هو أن تحديد معالم الواقع من معطياته المادية وجعلها هي ذاتها مدخالت أي مشروع لتنظير المستقبل بشكل حصري, أمر غير

k ألن أفعال الله في الكون على k وال شرعا حكيم ال كونا مستوى الفرد والجماعة ال تنقطع عن التدخل الذي

تدركه عقولنا أو ال تدركه وإنما يتاح لها التعامل مع تلك األفعال بأمور وصفها الله في دينه كالتوكل واإلنابة

والخوف والرجاء, ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي كما في الصحيحين: )يؤذيني ابن آدم يسب

الدهر وأنا الدهر بيدي األمر أقلب الليل والنهار(. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله

بأربع: )إن الله ال ينام وال ينبغي له أن ينام يرفع

140


القسط ويخفضه ويرفع إليه عمل النهار بالليل وعمل الليل بالنهار(, وهذا هو تفسير قوله تعالى: )يسأله من في السماوات واألرض كل يوم هو في شأن( الرحمن:

وصف كلمة )ال حول وال قوة كما أن رسول الله .29 إال بالله( بأنها كنز من كنوز الجنة وهي واضحة المعنى

فال تحول وال انتقال إال بقوة الله وإذنه وتدخله. ولو تأملت الواقع لوجدت طرفه في قلب العبد وطرفه

اآلخر في يد الله, ولن يرى الواقع على حقيقته من ال : )لم تظهريرى فعل أمر الله في خلقه وقد قال

الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إال ظهر فيهم الطاعون واألوجاع التي لم تكن مضت في أسالفهم

ولم ينقصوا المكيال والميزان إال أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا الزكاة إال

منعوا القطر من السماء ولوال البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إال سلط عليهم عدوهم من غيرهم, وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا

.(1)مما أنزل الله إال جعل الله بأسهم بينهم(

إن الواقع أكبر من خرائط القادة في ساحات القتال وأبعاد المشكلة أبعد من رائحة الدم والبارود

في بيوت المستضعفين من المسلمين والنصر رضيع الواقع ولن يشب ويشتد ساعد النصر واللبن فاسد فإن

الله ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, وإنك لترى الرجل يتعب ويشقى وينال من العذاب ما الله به عليم فإذا سألته عن أهدافه قال: " تحرير األرض ونيل الحرية واستعادة الكرامة ", هكذا ينخلع من سبيل الله فيوالي ويعادي على هذه المفاهيم المتأصلة في قلبه والتي نتجت عن " وسواس األرض والكرامة والوطن

الخالد! ", بينما األرض في نظام سنن الله الكونية هي لمن يقيم فيها اإلسالم والملة وأن الله يورث األرض

ــه)(1 رواه ابن ماجــه وحســنه األلبــاني وصــححه الحــاكم ووافقالذهبي.

141


من يشاء من عباده, ولو كفر العرب عن بكرة أبيهم وآمن اليهود والنصارى لكانوا أحق من المسلمين

بديارهم وكما قال عليه السالم: )أال إن آل بني فالن . وال(1)ليسوا بأوليائي ولكن ولي الله وصالح المؤمنين(

يكاد يخلو قلب مسلم من شائبة هذه اآلفة إال من رحمk k كبيرا الله وقد ذكرتها تحت هذا الباب ألنها تحتل جزءاk من المسلمين يقعون من الواقع المعاش وألن كثيراk أو على األقل تحت تأثيرها الذي تروجه تحتها عمليا

وسائل اإلعالم وهي في الحقيقة واقع باطل ال ينبغي ألحد أن يعيش من أجله وال أن يتأثر به إال أن يكون

ذلك لله ولدين الله ولعباد الله من المؤمنين. وقد نقل الشيخ ابن عزام رحمه الله مشاهداته لبعض ما يقع من بعض المنحرفين من المسلمين الذين يسمون

أنفسهم بالمناضلين من أجل الوطن والحرية والقومية العربية في بعض البلدان االسالمية العربية المحتلة

k منهم يطلقون النار على المآذن فقال أنه رأى فريقا عند موت رئيس عربي تبنى الدعوة القومية العربيةk من الله بزعمهم ألنه وكان ذلك الفعل منهم انتقاما

. ومازالت بقايا هؤالء(2)أمات زعيم القومية العربية القوم موجودة في زوايا الواقع العربي وبعضهم مازال

يحمل اللواء والناس يركضون خلفه ويتعلقون بشماليله ويهتفون له, فعلى أي هباء!. أما مشاهداتي أنا فإني

k ثم ارتدى k كان في السابق شيوعيا k إسالميا رأيت مفكراk! ", يقول بأن الذي ال k إسالميا عباءة فصار " مفكرا

يدعو لنصرة الروافض في لبنان إنما هو رجل يعمل بفتاوى بدوية متقوقعة تصدر عن أناس ال يفقهون

k, ثم يستضاف في مهرجانات التقريب والتخريب شيئا في أمريكا وأوروبا وفي الفضائيات والمجالت السيارة

ليكون " إمام التنظير والتنوير " لعقول الشباب

رواه البخاري.)(1 ذكره في كتابه " تفسير سورة التوبة " متــداول على االنــترنت)(2

ولم يطبع.

142


المسلم, فعلى أي هباء!!.

إن إدراك الواقع على حقيقته ومعرفة عناصره أصل أصيل لتولي مقاليد الخالفة في األرض سواء

على المستوى الفردي بالعبودية لله أو على المستوى األممي بالخالفة الشرعية فالذي ال يدري من أين

سيؤتى, لن يكون خليفة الله في األرض ,و رحم الله إبراهيم الخواص عندما تأوه ثم تأوه فقالوا: ما هذا

التأوه يرحمك الله؟ فقال: أوه! أوه!, من كان يسره ما . وقد ساد األسالف العالم وأملوا(1)يضره, متى يفلح؟!!

على الدنيا مبادئهم عندما أدركوا كل هذه المعاني حتى قال أحدهم لصاحبه: )يا أبا سعيد كنا نمزح ونضحك

(2)فأما إذا صرنا يقتدى بنا ما أرى يسعنا التبسم!(

فصارت في نفوسهم قناعة تامة بأنهم مسئولون وأنهم " هم الناس " كما قال سنيد بن داود يقول سألت ابن

المبارك: " من الناس؟ قال: العلماء, قلت: فمنk(3)الملوك؟ قال: الزهاد" k وال أستاذا , فلن يكون عالما

k إال k بأنه لن يكون عالما من يجد في قرارة نفسه شعورا بالناس! ,فالناس كما قال أبو الدرداء: )عالم ومتعلم

. وابن جلدتك(4)وما عدى ذلك فهمج رعاع ال خير فيهم( الذي حاز علم الدنيا على غير رغبة في دين الله فإن لم يضرك فلن يسرك. ولن يتمكن اإلنسان المسلم من تمثيل دور " اآلدمي المثالي على األرض " وهو

k إال بمشابهة اآلخرين يعتقد أنه لن يكون مثاليا ومشاكلتهم, فالصحيح أن هذا الواقع المرئي أمر

مشكوك فيه, فاألفواه صارت أبواقا خرقاء والوجوه صارت كجلد الحرباء ورؤوس أهل المناهج المبتكرة

من القوم " اإلسالميين " يتصدرون األمة بألسنتهم ثم(.326 /10 حلية األولياء ))(1(.143 /6 حلية األولياء ))(2(.167 /8 حلية األولياء ))(3/1 أخرجه ابن عبد البر في )جــامع بيــان العلم وفضــله( ))(4 27)

وغيره.

143


فجأة يتبرأ أحدهم حتى من كرسيه الذي كان يجلسk عليه وينخلع حتى من نعليه ويذهب من بين القوم عاريا

من كل شيء لتضيع من بعده الفراريج! التي وصفت عليها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أبا سلمة بن

عبد الرحمن عندما قالت: )أتدري ما مثلك يا أبا سلمة؟ إنما أنت مثل الفروج, يسمع الديك يصيح

. فألجل هذا ندعو إلى واقعية العلم الشرعي(1)فصاح( والجذور وألجل هذا ندندن حول األصول ومن يدندن

على غير أصل فإنما هو رجل سوء يريد أن يعبده الخلق من دون الله, ولو أنه فعل كما قال عامر

الشعبي للسدي لكان خيراً له عندما قال له: )ألنk على أسته يضرب به في األسواق يضع الرجل طبال

,(2)ويغني, خير له من أن يفعل كما تفعل يا سدي( وكان يرى أنه يفسر القرآن برأيه. فليست كل المبادئ

المعلنة مبادئ حقيقية, ألن المبدأ الحقيقي هو المبدأ الذي ال يمثل إال نفسه, بينما ما نراه من حولنا من

مبادئ عند أهل اإلسالم النفعي والرومانسي ال تمثل نفسها إال فيما يرى صاحبها أنها توافق فيه اآلخرين أوk كانوا هؤالء اآلخرين, على األقل تجد القبول عندهم أيا بدأ األمر بأهل الظلم والجور ثم عامة الفساق إلى أن انتهى األمر إلى اليهود والنصارى الذين صار اسمهم "

k سألني مرة: إذا أنا كنت الطرف اآلخر ", حتى أن رجال إمام الناس في الصالة هل يجوز لي أن أقرأ " قل يا أيها اآلخرون! ال أعبد ما تعبدون؟! ". ومعاملة الكفار على الوجه الذي ال تظلمهم فيه مسطورة في كتاب

الله وسنة رسوله وال أحد ينكر حقوقهم التي كفلها الله لهم ألن ذلك جزء من تحقيق الخالفة على األرض

فمنهم أهل ذمة وأمان ومنهم أهل عهد, وليس هذامجال بسط ذلك.

(.246 /1 مصنف عبد الرزاق ))(1(.274 /1 الكامل البن عدي ))(2

144


إن في األمة علماء هدى يعلمون الناس الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولكننا نتحدث

عن الذين يتصدرون لوجوه العامة من بعض الدعاة والمفكرين الذين ال تستغرب إن قلت لك بأن لديهم

k لتقارير عقيدة تقول بأن اإليمان يزيد وينقص تبعا الواشنطن بوست وتعامالت الوول ستريت!!. ثم

ينصبون أنفسهم أساتذة للواقع والحياة وكأن الدين ليس من الحياة وليس من الواقع, وقد كانت األعذارk ما ألهل هذا المنحى, ولكن بعدما كشف مقبولة نوعا غطاء الصمت وكسرت حواجز التعتيم وصار المسلم

يقتل في مسجد ريفي في العراق فتتناقل وسائل اإلعالم صور قتله بعدها بلحظات, والطفل يقتل في

فلسطين خلف ظهر أبيه فينقل ذلك بالصوت والصورة, بل أن حتى هفوات القادة والرؤساء أثناء

جلسات اإلستراحة في المؤتمرات العالمية تنقل , بعد كل هذا لماذا ننادي(1)بشكل يكاد يكون مباشر

باإليغال في " توهم واقع خفي " وننسب انحرافاتنا المنهجية إلى اعتبارات وغايات ال يعلمها " عامة

الناس! ". فأقول, وهل بقي في هذا الزمان عامة في فهم الواقع؟!!. حتى العجائز واألطفال صاروا يعرفون

أسماء أهل السياسة وقادة القتال في كل بلد ويتوهمون المستقبل كما يتوهمه أي خبير سياسي غير

أن الخبراء يتوهمون بلغة سياسية علمية مليئة بالمصطلحات وشيء من الحدس الشطرنجي حتى

قال األستاذ الصحفي محمد حسنين هيكل بأن الخليجk بعد تجارب القارة الهندية النووية بين بات مكشوفا الهند وباكستان وهو اآلن في خطر فرد عليه سفيرk لبالده في خليجي عمل في خمس وزارات وسفيرا

كمــا نقلت الفضــائيات كلمــات ســوقية للــرئيس األمــريكي في)(1استراحة اجتماع حلف الناتو

132 - 131استراحة الخميس , غازي القصيبي , ص: ( 2)

145


(1 )بريطانيا بأن هذا استنتاج غريب غير مفيد!!.

الصحيح هو أن تفهم الدين لتفهم الواقع وليس أنk له حتى وإن قلنا بقاعدة تفهم الواقع وتجعل الدين تبعاk المصلحة والمفسدة ألن الواقع المرئي جزء صغير جدا

من واقع كبير اسمه " الواقع الشرعي " وهو الذي يتركب من فهمك للكون وعناصره الفاعلة فيه ثم

فهمك لخويصة نفسك ودورها المناسب في الحياة,k بل بصرنا وأخبرنا بأن والله عز وجل ما تركنا همال

هناك أجناس معينة من البشر والضالالت سوف تتكرر على مر الزمان, فذكر سماتهم وسمات أزمنتهم التي

يخرجون فيها والله عز وجل يقول: )و الله أعلم)k k وكفى بالله نصيرا . لهذا(2)بأعدائكم وكفى بالله وليا

عليك أن تعود إلى ما قلنا في تفصيل معنى العلم بأن تعرف حقيقة تركيب الشيء وهيئته ثم تعرف غايته التي يعمل ألجلها, وكل ذلك على أصول علمية من

الكتاب والسنة, فإذا أنزلت هذا على كل شيءk وعرفت من اكتشفت أن هذا الواقع شيء آخر تماما

الناس؟ ومن النسناس؟.

الواقع له أبعاد كثيرة بل هو عوالم في عالم واحد فأنت كآدمي تعيش على المستوى الحسي من

مسموع ومشاهد وملموس ولك ذهن وفطرة وإيمان بالغيب وقرينك الذي يرافقك ال ينفك عنك من

الشياطين يعيش على المستوى الغيبي فال تراه وهو يراك ومعه أمة أخرى من بني جنسه لهم ظروفهم

وتركيبتهم وعالمهم اآلخر وأنت وهم تشتركون حتى في المأكل والمشرب بل وربما شارك الجني اآلدمي

في زوجته وفراشه وهو ال يعلم!, فالشيطان كائن حي يدخل بيتك مثلما تدخله النملة والذبابة والبعوض وله رأس وله قرنين ويدين وقدمين ولسان وحلق وقبل

1

.45النساء: )( 2

146


ودبر ويبول ويأكل ويشرب وحجمه يكبر ويصغر ويجامع ويتنفس وأخبرنا أنهم يسكنون البيوت ويقفون على

أبوابها كما قال عليه الصالة والسالم )إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله ال حول وال

قوة إال بالله فيقال له: حسبك قد هديت وكفيت ووقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر:

فهذا يدلك(1)كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟( على أن مخرج كل بيت يقف على بابه على األقل شيطانان!. بعد ذلك تأتي البهائم التي تعيش على

المستوى الحسي وليس لها بعد معنوي يذكر فهي تعلم غاية خلقها ولكن من ناحية أنها تتعارض في شيء

معنوي مع البشر فال يوجد شيء من ذلك فيبقى اإلنسان يعيش على المستوى الحسي والغيبي, والغيب

ينقسم إلى قسمين غيبي ذهني يمكن إدراكه بالفهوم وهو " الذهن الرياضي والتصوري " وغيبي شرعي ال نعرفه إال بالوحي, ثم المالئكة الكاتبون والحافظون

والموكلون بأرزاق األرض, والواقع هو خليط من تقاطعات كل هذه المؤثرات الفاعلة التي تعيش فيه

وإن لم تتعرف عليها وعلى حقيقة تكوينها وغايات خلقها فلن تفهم الواقع وسيغيب عنك على األقل نصف

الواقع الحقيقي الفاعل, هذا مع وجوب اإليمان بأثر إرادات الله المتفرقة بين االبتالء والنصرة والعقوبة

والخذالن واألسباب القائمة في أفراد المكلفين وجماعاتهم التي بسببها تكون إرادات الله على ما هي عليه في األرض, وكل ذلك مذكور في الكتاب والسنة

k شخوصه!. بأماراته وإشاراته وأحيانا

أنت بحاجة ألن تبحث وتستقصي وتفكر وتنفق الكثير من عمرك لكي تحصل على الحقيقة والنجاة,

ورحم الله الشافعي عندما عدد أصناف العلم في

رواه أبو داود وابن حبـان في صـحيحه والترمـذي وقـال حسـن)(1صحيح وصححه األلباني.

147


رسالته البن مهدي فقال: )و من العلم ما فرض الله على خلقه االجتهاد في طلبه وابتلى طاعتهم في

االجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم فإنه يقول تبارك وتعالى: )ولنبلونكم حتى نعلم

المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم(. فال بد لكل إنسان مكلف في هذه الحياة أن يجد نفسه في يوم

من األيام يقف على مفترق طرق وقد كتب عليه " إما كمال الحياة وإما كمال الدين؟ ", ولهذا أمر عليه

السالم بالتسديد والمقاربة وأخبر بأنه لن يشاد الدين أحد إال غلبه وكان يؤصل في نفوس المسلمين فكرة

أن اإلنسان " خاطئ بطبعه " فكان يقول كما في )والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهبصحيح مسلم:

الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر . فأنت يجب أن تجتهد ويجب أن تعبد ويجب أنلهم(

تعيش دون أن يطغى شيء على شيء!.

إن المشكلة التي تواجه الدعاة اليوم على قلة علم أكثرهم وعلى قلة إحاطتهم بأصول العلوم التي دخلت

في عقول كثير من الناس وكذلك الثقافات التي صارت جزءا من واقعنا هي أنهم يحاولون جعل الدين " أداة حياة " فيتكلمون عنه بين الناس وكأنه رغيف خبز

أو قارورة ماء فال هم فهموا ما في عقول الناس وال هم فهموا ما يدعون إليه. وتلك العبارة التي ذكرها

شيخ اإلسالم ابن تيمية عندما قال " جنتي في صدري " هي جنة يندر أن يصل إليها إال من رحم الله من أوليائه حتى وإن وجدنا انشراح الصدر وشيء من

الرضا بعد التدين ولكن كل هذه األحاسيس الهشة ستذوب تحت أول معول من معاول الواقع إن لم يكن

الردئ لها الصبر واالحتساب, فكيف بعامة المسلمين؟, : )يأتي زمانوإال فالتدين في هذا الزمان هو كما قال

(1)على الناس الصابر على دينه كالقابض على الجمر(

رواه الترمذي وغيره وصححه األلباني.)(1

148


فالدين اليوم "جمر" وليس للجمر إال نكهة الحرقة واالحتراق والدين بحاجة لمن يصبر عليه, فليس هو

تلك النكهة التي يحاول بعض الدعاة غرسها في مخيلة الناس حتى إذا قلت ألحدهم الموسيقى حرام لوى

شدقيه ومط برطميه وقال: أمر غريب!. فعليك قبل أن تدعو الناس إلى الدين أن تبين لهم "واقع المعركة الشرعية" على كافة مستوياتها الشخصية واالجتماعية

واألممية كل مرحلة في وقتها وأن توجد له الحلول التقية النقية فإغراء الناس بالسعادة وبالحلول

k وال ينفع السحرية اإلسالمية الوهمية ال يجدي شيئا المكلف بل يضره ولهذا كانت قصة آدم وإبليس هي

محور العقيدة في العهد المكي ثم قصص األنبياء وعذابات األمم السابقة من المؤمنين وما جرى لهم ثم جاءت العبادات ثم بعد ذلك ) أذن للذين يقاتلون بأنهم

. ينبغي أن نجعل(1)ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير(k في قلوب هذا الواقع الشرعي بكل تفاصيله متأصال المكلفين على مختلف درجات التزامهم بالدين وأن

يفهموا أنهم لم يخلقوا لهذه الدنيا وأن سعادتهم الكاملة لن تكون إال بعد تركهم هذا العالم إلى عالم كمال الفضيلة والعدل المطلق الذي فيه ما ال عين

رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر.

اليوم نرى من يمارس عكس ذلك فيرى أن السعادة تكمن في تولي زمام هذا العالم وإعماره

وبنائه وزخرفته وممارسة األستاذية عليه مع ان كل هذه األشياء وسائل بينما هو يعتقد أن ذلك مقصد

مطلوب لذاته فيبتغيه بركوب الصعب والذلول ويشعر بالشقاء والحنق لفقدان ذلك وكان األجدر به أن يشعر باالستكانة واإلنابة والعودة لمناقشة الجذور واألصول

التي دخل عليها عفن التبديل وأكلتها أرضة التخلف والركود الفكري والعقدي في القرون السابقة, وهذا

.39 الحج: )(1

149


الشعور المحموم لتولي سلطة العالم لدى هؤالء الناس فيه من نزعة الطمع وحب التسلط أكثر مما فيه

من الرأفة والشفقة على من وقع تحت والية الكفرةk من أصحاب هذه والفجرة والفساق بدليل أن كثيرا

النهمة األستاذية يقرون الفساق على فسقهم والمبتدعين على بدعتهم بل وربما شاركوا القبوريين

k جهلة قبوريتهم وكل ذلك ألجل أن يجمعوا لهم " تالميذا " يمارسون عليهم األستاذية دون أدنى تحرج شرعي.

وهذا اإلنكار لمعنى األستاذية منصب على فلسفة أولئك القوم لمعنى األستاذية وطريقة الوصول إليها وليس كمبدأ عام في اإلسالم, ألن علو اإلسالم على غيره أمر مقرر في العقيدة والشريعة فهو كما قال في حديث صحيح عند أحمد وغيره )اإلسالم يعلو وال

يعلى عليه(. وبسبب جهل العامة أو تجهيلهم فقد نطقk الرويبضة ألنه تكلم بين أناس ال يعلمون عن دينهم شيئا

حتى سمعت أحدهم يقول " الدين ليس ببتر األيدي واألرجل وتشويه الناس! ", وله جمهور وله أتباع

ويقول بأنه أستاذ إسالمي!. ولو لبس رجل بدوي عباءة وعمامة وذهب إلى قبائل حديثة اإلسالم في أدغال أفريقيا وخطب بهم خطبة الجمعة وهو يقول: " لو

k إلى واحد لكانت ثالثة وأن الشمس تخرج جمعنا واحدا بالليل والنجوم تخرج بالنهار", لجلسوا بكل خشوع

واحترام يستمعون إلى هذا الفقيه النجدي!, وكذلك�د الناس لربهم بالسياسة والعقائد الحال فيمن يعب

الرومانسية والنفعية, لن يفهموه, ألنه في تجدد�ة مستمرة!, وسيكتفون بإظهار المشاركة وتقدمي

والتفاعل بالمظاهرات والهتافات وفتات التبرعات ألنه حتى هو نفسه ال يفهم إلى أين هو ذاهب!, فهو

كالخائف المدلج الذي يجد في المشي ويهذي لكي يبدد وحشة الظالم من قلبه ويمني نفسه بصبح قريب على غير هدى وغير علم, وكلما جد في سيره كلما زاد في

ضياعه وأبعد النجعة عن مظنة نجاته.

150


k من التهويل ناتج عن قد يظن البعض أن هذا ضرباk وساوس نشأة أثرية في نفسي, ولكن عندما ترى رجال

تم تقليده مناصب قيادية في هيئات إسالمية عالميةk في الدعوة في الغرب وتم إبرازه ليكون رمزا

واإلصالح عند أهل اإلسالم قاطبة, يقنت في صالته فيدعو على اليهود ألنهم سرقوا منا األرض ثم يجري

k يذكر فيه وفاة بابا الفاتيكان ويقول: " k معلنا بعدها لقاءاk لدينه أسأل الله أن يغفر له ويرحمه! فقد كان مخلصا

, وهذا ألن هذا الشيخ الداعية يرى حسب "(1)وأمته!" تركيبته الرومانسية " أن اإلخالص خلق فاضل والعقيدة

الرومانسية توجب تقديس مشاعر وتضحيات اآلخرين واحترامها, وذلك كما قال الفيلسوف الفرنسي فولتير:k " ربما ال أوافقك على ما تقول ولكني أدفع حياتي ثمنا

. ولم أقابل في حياتي أسخف(2)لتقول ما تريد قوله" من هذه المقولة الفولتيرية السمجة. فإن كنت ال

k للصواب فاألولى أن تدفع توافقه ألنك ترى رأيه مخالفا عمرك لتمنعه من قول ما يريد قوله ألن الدفاع عن الحق أشرف من نصرة " حرية الباطل " وإن كنت

ترى أن قولك وقوله صواب أو على األقل قد يكون له وجه من الصحة فقولك ليس بأولى من قوله وفعلك

k في عالم الشرفاء وأما إن k جديدا في نصرته ليس شيئا كنت ترى بأنك ال تدري أمعك الحق أم معه فأنت

k ليمارس اآلخرون حماقاتهم أحمق قد باع حياته ثمنا وأما إن كنت ترى بأن القول مهما كان مضمونه ومعناه

وموضوعه, جدير بأن يفسح له المجال ليخرج بكل حرية بغض النظر عن صحته وبطالنه فإني أنا من

سيدفع عمره في سبيل إسكات الغوغائيين من أمثالك الذين أفسدوا " قيمة الكلمة العلمية واألدبية "

وأباحوها حتى للمهرجين والمومسات والكالب الضالة!.

قالها داعية دكتور ازهــري في برنــامج في قنــاة الجزيــرة وهــو)(1يشغل منصب رئيس رابطة العلماء المسلمين العالمية!!.

2 )(

151


k على هذه النظرية الفولتيرية كان ينبغي في نظر وبناءا ذلك الشيخ تقدير ذلك اإلخالص في قلب ذلك البابا

الهالك,, أنمدح الكلب على إخالصه وال نمدح بني اإلنسان؟. هكذا بكل رومانسية!, وهذا واقع نراه بأعيننا

لم يأتنا به "من لم نزود£".

هناك عالم آخر قائم موجود اسمه الجنة, هو واقع أيضا, وهو القوة الخفية التي كانت في نفوس الصحابة

من قبل والتي كانت تدفعهم إلى التجرد حتى من ضروريات آدميتهم فكان الرجل يقبل على الموت وهو

ويصبر(1)يقول: " إني ألشم ريح الجنة من دون أحد" ,(2)على الداء العضال ألنه قيل له: )أتصبر ولك الجنة؟(

يصف لهم الجنة: )ثم انطلق بي – يعنيوقد قال جبريل - حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها

ألوان ال أدري ما هي ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبايل وقال: )دخلت الجنة (3)اللؤلؤ وإذا ترابها المسك(

فرأيت فيها دارا أو قصرا فقلت لمن هذا؟ فقالوا لعمر بن الخطاب فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك فبكى

, ولكن هذا(4)عمر وقال أي رسول الله أو عليك يغار؟( أن يجعل الدارلم يكن ليكفي بل أراد رسول الله

k اآلخرة وكأنها غرفة خلف الجدار فذكر للناس أشخاصا كانوا يعيشون معهم يكلمونهم ويمازحونهم

ويشاركونهم الطعام والشراب والخوف والجوع في يوم من األيام, وهم اآلن في الجنة, ليعلم الناس صدق الوجود وحقيقة اإلنتقال والترقي في ملكوت الله فقال عليه الصالة والسالم في قصة أخرى في دخوله الجنة: )ثم أشرف بي – يعني الملك الذي معه في اإلسراء - شرفا فإذا أنا بنفر ثالثة يشربون من خمر لهم قلت:

رواه البخاري, قالها أنس بن النضر في معركة أحد.)(1 المرأة سوداء كانت تصرع. متفق عليه, قالها )(2 متفق عليه.)(3 متفق عليه.)(4

152


,(1)من هؤالء؟ قال: هؤالء جعفر وزيد وابن رواحة( يعيشون اآلن حياة هي الحياة التي يجدر بها أن تسمى حقيقية بعد أن كانوا معنا هنا في هذه الحياة الدنيا هم

اآلن هناك حقيقةً واقعاً !.

قال: )كنا معكذلك, كما في حديث أبي هريرة إذ سمع وجبة – أي صوت سقطة - فقالرسول الله

تدرون ما هذا؟ قال قلنا الله ورسولهالنبي أعلم.قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين

خريفا فهو يهوي في النار اآلن حتى انتهى إلى قعرها( . فهناك واقع آخر أيضاً اسمه النار هو قائم موجود(2)

وقد سقط ذلك الحجر من شفير جهنم قبل سبعين سنة وهو يصل إلى قعرها اآلن وربما يحدث هذا كل يوم ولكن الله أسمعهم هذه الوجبة لكي تحدث في

قلوبهم هذه النكتة اإليمانية لحقيقة الوجود والواقعية في معرفة النار والشعور بها. ولم يتوقف واقع النار عند هذا الحد بل تجاوزه إلى الشعور بها على وجه

الدوام والعموم حيث قال عليه الصالة والسالم: )اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف

فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من . وغير هذا من تفاصيل الكون الكثير, فنحن(3)الزمهرير(

من الواقع وإال فقد قال من زويت له ال نرى إال شيئا : )لو تعلمون ما أعلماألرض وعرف الله حق معرفته

. قال أنس – راوي(4)لضحكتم قليال ولبكيتم كثيرا( وجوههم لهمالحديث - فغطى أصحاب رسول الله

خنين!.

رواه ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان وصححه األلباني.)(1 رواه مسلم.)(2 متفق عليه.)(3 متفق عليه.)(4

153


تكريم آدم ومعصية إبليس وإذ قلنا للمالئكة اسجدوا آلدمقال تعالى: )

فسجدوا إال إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكال منها رغدا

حيث شئتما وال تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في األرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها

جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فال خوف عليهم وال هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا

. وقد جاء ذكر(1)أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون( هذه القصة في مواضع كثيرة في كتاب الله عز وجل

ذلك ألن الرجوع إلى الجذور في أي مسألة ومناقشةو أصلها يجعلها أكثر وضوحا واقرب إلى نفس اإلنسان

فمن علم قصة آدم وإبليس ثم نظر حوله فوجد مع كل إنسان قرين من الجن ووجد الشيطان يرصد ابن آدم

عند كل شيء علم أن القصة األولى مازالت تتكرر وأن هذه الحياة عبارة عن محاولة جديدة البن من أبناء آدم لالنتصار على إبن من أبناء إبليس كما كان آدم يجاهد

الشيطان ويراغمه وأمامنا ذات الوعد وذات الوعيد الذي قاله الله آلدم عندما أهبطه إلى األرض: )قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع

هداي فال خوف عليهم وال هم يحزنون * والذين كفروا ,(2)وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(

فنحن اليوم نفعل نفس الشيء ونعاني نفس التجربة بغض النظر عن كل تفاصيل الحياة ولهذا يقول تعالى: )يا بني آدم ال يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من

.39 ـــ 34 البقرة )(1.39, 38 البقرة )(2

154


الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث ال ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء

.(1)للذين ال يؤمنون(

إن في هذه اآليات سر عظيم ومفتاح من مفاتيح الفهم لهذا العالم ال تجده إال في القرآن والسنة فهذا األصل العظيم الذي مفاده أننا جزء من قصة طويلة

وعداء قديم بين الشيطان واآلدمي وهذا التوجيه لكل إنسان بأن يشعر باالنتماء الحقيقي لقوم خلقهم الله قبل قرون عديدة ال يعلم عددها إال الله حتى أن الله

سبحانه قال: )إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية( أي يمتن الله على كل من قرأ القرآن فيقول له بأنه (2)

حمله في ظهر نوح في السفينة عندما فاض الماء ذات يوم فهلك كل شيء فكنت أنت يا من تقرأ هذه اآلية من الذين أنجيتهم في ذلك اليوم في ظهر نوح عليه

السالم فكنت من الساللة الباقية ولم نجعلك في تلك السالالت التي انقرضت, فنوح عليه السالم هو الذي

, أال ترى كم(3)قال الله عنه:)و جعلنا ذريته هم الباقين( هو بعيد خطاب القرآن؟ وكم هو حقيقي هذا االنتماء

لنوح عليه السالم ومن كان قبل نوح؟. وفي اآليات كل هذا اإليجاز في تعليل الوجود والعالم بحيث يعلم

اآلدمي أنه ببساطة كائن مبتلى بهذه الحياة وأن هذه الحياة هي مشكلة تحتاج إلى حل وعقوبة تحتاج إلى

صبر واحتساب قبل أن تكون أي شيء آخر!. على العكس مما ينادي به كثير ممن ال يتخذون الكتاب

والسنة مصدرا لوعيهم حيث ينادون بترسيخ مفهوم أن الحياة فرصة لن تتكرر للحصول على السعادة وأن

اإلنسان ال يفترض به في هذه الحياة اال أن يكون سعيدا وأن هذه الحياة هي الوجود األجمل واألمثل

.27 األعراف )(1.11 الحاقة: )(2.77 الصافات: )(3

155


وهي الحاضن الوحيد لكل ما لدى اإلنسان من أحالم وطموحات يجب أن يحلمها ويطمح إليها وهذا كله بمعزل عن ذكر اآلخرة وهذا فهم أخرق وال أقول

بهيمي ألني أجزم بأن كثير من رؤوس الحيوانات تحمل عنما هو اشرف وأعلى من هذا الفهم حيث يقول

يوم الجمعة وشعور الحيوانات فيه: )وفيه تقوم الساعة ما على األرض من دابة إال وهي تصبح يوم الجمعة

مصيخة حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إال بن آدم( رواه احمد وأهل السنن بسند صحيح, فحتى

البهيمة العجماء تدرك أن هذا العالم قد ينتهي في أي لحظة وتشعر بالقلق تجاه هذا الوجود الهش الذي ال يعلم اال الله إلى متى سيبقى ناهيك عن الموت الذي

يتخطف الناس كل لحظة.

k لكل آدمي على أن كذلك هذه اآليات تحمل تنبيها مهمته في هذه الحياة هي الرجوع إلى الجنة وإلى بيته القديم الذي خرج منه وهو في ظهر آدم عليه السالم

k بالتوبة وكما كان رجوع آدم إلى الجنة مشروطا والطاعة والصبر واالحتساب فكل ذريته مطالبة أيضا

بالتوبة واالحتساب والصبر على هذا االبتالء وهذه الحياة المليئة باأللم والمشقة وذلك بالتوجه الصادق

ألجل الخالصإلى الله ومتابعة أمره وأمر رسوله من كل هذا إلى نهاية سعيده كما ذكر الله عز وجل في اآليات السابقات. واآليات تلخص مفهوم الوجود

في أنه محنة لها طابع عام وشخصي فنحن أمة مؤمنة تجاهد أمة كافرة مكونة من شياطين اإلنس والجن

وكذلك نحن أفراد كل فرد منا يسعى إلى خالصه الشخصي من سيطرة قرينه الجني عليه ومن

وسوسته وذلك باللجوء إلى الله عز وجل وكما ذكر ابن الجوزي في تلبيس إبليس: خير من أن تقاتل الكلب,

أن تطلب من صاحبه كفه عنك, فهذا حال كل فرد منا مع شيطانه ومع ربه.

156

تحقيق معنى االستخالف

في األرض

160الفصل الرابع: تحقيق معنى االستخالف في األرض

الفصل الرابع: تحقيق معنى االستخالف في األرض

سكنى األرض وإعمارها ليس غاية في

خلق بني آدم ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسيقال تعالى: )

ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للمالئكة اسجدوا آلدم فسجدوا إال إبليس أبى * فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فال يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك أال تجوع فيها وال تعرى * وأنك ال تظمأ فيها وال تضحى *

فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك ال يبلى * فأكال منها فبدت لهما

سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني

. إن(1)هدى فمن اتبع هداي فال يضل وال يشقى( المتأمل لهذه اآليات سوف يعلم دون تكلف أن آدم

k بالبقاء في الجنة هو وزوجه عليه السالم كان مأموراk في قوله تعالى: )فال يخرجنكما من الجنة k صريحا أمرا

k يتضح من سياقه أن الجنة فتشقى( ثم قال تعالى كالما قد أعدت ليبقى آدم وزوجه فيها بشكل دائم حيث

يقول تعالى )إن لك أال تجوع فيها وال تعرى * وأنك الkتظمأ فيها وال تضحى (, فبقاء آدم في الجنة كان أمرا

k عند الله وهذا ما يسمى باإلرادة الشرعية أي محبوبا الموافقة لألمر والنهي وأما اإلرادة الكونية هي أن يأذن

k لهذا األمر k دون أن يكون محبا الله بنفاذ أمر ما قدرا كوقوع الزنا مثال. وألجل ما سبق بيانه فإنه يتضح لك

خطأ من يقول بأن الله عز وجل خلق آدم ليكون خليفته على األرض بمعنى أن هذه هي الغاية الشرعية

.123 – 115 طه: )(1

161


المحبوبة عند الله عز وجل, فالخالفة في األرض أمر طارئ جاء على وجه العقوبة وما كان الله ليخلق آدم

ألجل أن يعاقبه, فهذا قول مخالف للصواب ألن الله ماخلق آدم لذلك ويتضح ذلك من وجوه هي:

( أن الله عز وجل قال للجنة: )أنتي رحمتي1 وعندما خلق آدم قال له: )يا آدم (1)أرحم بك من أشاء(

k أن الله عز (2)أسكن أنت وزوجك الجنة( فكان واضحا وجل خلق آدم ليرحمه برحمته التي هي الجنة ومن

يقول بأن الله خلق آدم عليه السالم للخالفة في األرض فإنه يقول بأن الله خلق آدم للشقاء ألنه تعالى

وصف الخروج من الجنة – الذي هو الهبوط إلى األرض – بأنه شقاء, فقال: )فال يخرجنكما من الجنة فتشقى(,

k ومن يقول بأن الخالفة في األرض ليست كلها شقاءا ألن اإلنسان يتلذذ بطاعة ربه والخضوع له وتحدث له

من األحوال اإليمانية التي هي من جنس النعيم الخالص فإن هذا متعلق بذكر الله وعبادته ونحن

نتحدث عن الخالفة بشكل عام بكل ما فيها وبكل تبعاتها فهي بال شك شقاء, حتى أنه عليه الصالة

والسالم أشار إلى هذا المعنى في أن الدنيا قد ال تكون كلها شقاء ولكن أكثرها الشقاء في قوله: )الدنيا

ملعونة ملعون ما فيها إال ذكر الله وما وااله وعالم أو , وال شك أنه قامت على األرض أنواع من(3)متعلم(

العبودية لله هي أعظم مما حدث آلدم عليه السالم في الجنة فقد أرسل الله الرسل وأتخذ من عباده الشهداء

غير أن هذا في حد ذاته ال يخلو من الشقاء فالنبي قد حد�ث عن نبي من األنبياء ضربه قومه حتى أدموه فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومي

فإنهم ال يعلمون, فهذا نوع من العبودية في معناه

متفق عليه.)(1.35 البقرة: )(2 رواه الترمذي وحسنه ووافقه األلباني.)(3

162


وقصده ولكنه في الشعور به وبمكابدته فهو شقاء وكان آدم يتنعم في الجنة وال حاجة له بكل هذا هو

وذريته, بل أن موسى عليه السالم سمى النزول إلى أنت آدماألرض بأنه شقاء حيث قال آلدم عندما لقيه: )

,(1)الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم( والشقاء ثابت حتى لألنبياء عليهم السالم سواء في

دعوتهم أو موتهم أو بعثهم يوم الحشر والنشور وإنما الخروج من الجنة فيه خير من جهة المآالت التي

سيصير إليها كل فرد ورفع الدرجات وتمييز الناس فقد : )إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدينقال

في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء واألرض فإذا سالتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط

. وقال ابن(2)الجنة وأعلى الجنة فوقه عرش الرحمن( حكمة اللهالقيم رحمه الله في شفاء العليل: )أما عن

في خلق إبليس وجنوده ففي ذلك من الحكم ماال يحيط بتفصيله إال الله فمنها أن يكمل ألنبيائه وأوليائه

مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في الله وإغاظته وإغاظة أوليائه واالستعاذة

به منه واإللجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية واألخروية ما لم

يحصل بدونه وقدمنا أن الموقوف على الشيء ال يحصل بدونه ومنها خوف المالئكة والمؤمنين من ذنبهم

بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة اإلبليسية يكون أقوى

وأتم وال ريب أن المالئكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر وخوف آخر كما

هو المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم اإلهانة التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه

فال ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد ومنها أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته

رواه البخاري.)(1 متفق عليه.)(2

163


وأصر على معصيته كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه فابتلى أبوي الجن واإلنس بالذنب وجعل هذا األب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه وهذا األب عبرة لمن

تاب ورجع إلى ربه فلله كم في ضمن ذلك من الحكم كذلك, فإن الله عز وجل. الباهرة واآليات الظاهرة(

عندما تكلم عن الشقاء في األرض تكلم عنه من جهة آدم فهو بال شك شقاء ويكفي من ذلك الموت الذي لم

, فالله سبحانه يخاطبيسلم من سكراته حتى النبي آدم من جهة نفسه أنه إن نزل إلى األرض فقد شقي بالمكابدة ولهذا يقول تعالى: )لقد خلقنا اإلنسان في

وأما الله عز وجل من جهة نفسه المقدسة فهو (1)كبد( يحب أن تقوم له أنواع من العبودية كالجهاد والصيام واإلنفاق ولكنه لم يأمر بهذا ولم يطلبه ولم يقل بأنه يحب أن يتعرض آدم لهذه التكليفات ولم يندب إلى

القصد إلى أسباب وقوعها بل أمر آدم أن ال يخرج من الجنة وهو سبحانه يعلم بأن كل تلك األشياء إنما هي

مترتبة على خروج آدم ومع هذا فقد جعل " إرادته الشرعية " الموافقة لمحبته, بدليل أنه أمر بها, أن ال

يخرج آدم من الجنة. وقد يقال بأن االستخالف في األرض من جنس الكفارات وهذا صحيح في معناه ألن االستخالف ليس مقصودا لذاته وما كان الله عز وجل ليشرع حد الزنا لكي يقصد الناس الزنا فيقام عليهم الحد فتكون تلك اإلقامة للحد مقصودة لذاتها مع أنها

محبوبة عند الله إال أنه ما شرعها لتقصد وتطلب فهيk, وكذلك الحال في k وطلبا محبوبة أداءا وليس قصدا

االستخالف في األرض فهو محبوب أداءk بحيث يصبر آدم وذريته على ذلك ويمارسون العبودية لله بالصبر على قدره القاهر وشرعه اآلمر وما كان ينبغي آلدم

عليه السالم أن يقصد طلب االستخالف في األرض ألنهk عن الخروج من الجنة!, بل لو أن آدم عليه كان منهيا

.4 البلد: )(1

164


k لله, وهذا السالم طلب ذلك بفعله وقصده لكان عاصياواضح.

- أن الله عز وجل خلق آدم ليبتليه وهي غاية2k في شرعية محبوبة من الله وهذا االبتالء كان متحققا

الجنة حيث نهاه ربه عن األكل من الشجرة وكانk الشيطان يوسوس له باألكل منها فكان االبتالء قائما

ولوحتى قبل النزول إلى األرض ولهذا قال تعالى: ) شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة وال يزالون مختلفين

* إال من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك عن عمرو, و(1)ألمألن جهنم من الجنة والناس أجمعين( ألبي بكر: )يابن شعيب عن أبيه عن جده قال النبي

(2)أبا بكر لو أراد الله أن ال يعصى ما خلق إبليس(

وقال: )والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .(3)ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم(

فإن كانت غاية االبتالء غاية شرعية مقصودة لذاتها كما )إني مبتليكقال تعالى في الحديث القدسي للنبي

, وكانت هذه الغاية متحققةً قبل(4)ومبتلٍ بك( االستخالف في األرض فال يقال بأن الخالفة هي الغاية

بقت بغاية قبلها كانت متحققة وألن األصلية ألنها س» االستخالف في األرض هو وسيلة لتحقيق هذه الغاية

فال يكون هو غاية في ذاته, ويدل على ذلك قوله تعالى: )إنا جعلنا ما على األرض زينة لها لنبلوهم أيهم

.(5)أحسن عمال * وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزا( فالله عز وجل ربط بقاء الكون ببقاء االبتالء فإذا

تعطلت غاية االبتالء قامت الساعة وآن خراب الكون : )ال تقوم الساعة وعلى األرض من يقولحيث قال

.119-118 هود )(1 رواه البيهقي قي األســماء وقــال األلبــاني: ســنده حســن وهــو)(2

صحيح بمجموع طرقه. رواه مسلم.)(3 رواه مسلم.)(4.8 ـــ 7 الكهف: )(5

165


, فإذا انقرض اإليمان ودرس اإلسالم وصار(1)الله الله( الناس كلهم أمة واحدة على الكفر ورفع علم الله من األرض وكتابه فقد انتفت فاعلية االبتالء وتعطلت آليته التي هي التردد بين الحق والباطل ألنه قد ذهب الحق

كله فعندها تقوم الساعة وتخرب األرض وهذا يدلك على أن االبتالء هو الغاية وليس مجرد البقاء على األرض وأن عالقة االنسان باألرض هي " وسيلة ال

تقصد لذاتها " فال يقال بأن الله خلق اإلنسان ليعمر األرض بمعزل عن معنى االبتالء فهذا فهم جاهلي أما

المؤمن فيرى بأن خالفة اإلنسان في األرض هيابتالؤه فيها بإقامة العبودية لله.

- أن الفهم القائم على أن األصل في حال آدم3 وذريته هو البقاء في الجنة, هو فهم األنبياء حيث قال

أنت آدم الذيموسى عليه السالم آلدم عندما لقيه: ) أخرجت الناس – وفي رواية: ذريتك - من الجنة بذنبك

فكان يستقر في فهم موسى عليه . (2)وأشقيتهم( السالم أن األصل في آدم وذريته أن يكونوا كلهم في الجنة , ولم يعترض آدم على هذا الفهم وإنما اعترض

على اللوم ألن النتيجة محسوسة, ويدلك على ذلك حزن آدم عليه السالم على من سيدخل النار من

ذريته, ألنه جاء في بعض الروايات الصحيحة لحديث فلوال (3)المحاجة: )أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة(

معصية آدم ما وقع أحد في الكفر وما دخل أحد النارk على معصية آدم ولهذا جاء عنه ألن الخروج كان مترتبا

عليه الصالة والسالم أنه رأى آدم في اإلسراء فقال: فلما علونا إلى السماء إذا رجل عن يمينه أسودة)

وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح واالبن

رواه مسلم .)(1 رواه البخاري .)(2 رواه مسلم .)(3

166


الصالح قلت من هذا يا جبريل؟ قال هذا آدم وهذه األسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين

منهم أهل الجنة واألسودة التي عن شماله أهل النار(فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى

, فال يقال بأن آدم عليه السالم كان يبكي رأفة ببنيه(1) ألنهم سوف يعذبون بالنار ألن الله عز وجل يقول: )فال

ويقول: )فال أنساب بينهم (2)تأس على القوم الكافرين(»سأل عن أصحاب (3)يومئذ وال يتساءلون( ويقول: )وال ت

ويقول(5) ويقول: )و ال تزر وازرة وزر أخرى((4)الجحيم(k أخذنا بذنبه( وقال لنوحٍ عندما سأله ابنه: )إنه(6))فكال

ولكنه يبكي ألنه يستقر في اعتقاده (7)ليس من أهلك( أنه لو لم يعص ربه لكانوا كلهم في الجنة, ولكنه عصى

فكان أولئك من أصحاب الجحيم, وهذا هو معنى قول موسى آلدم عليه السالم في أحد ألفاظ الحديث: )أنت

فأنكر(8)آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة؟( آدم اللوم ولم ينكر النتيجة القدرية ألنها واقع

محسوس. وفي هذه النقطة األخيرة رد على من يرى أن االستخالف في األرض كان تشريفا وتكريما آلدم عليه السالم وذريته, بينما الصحيح أنه كان يبكي من

تبعات هذا التشريف المزعوم ويسأل الله منهالمغفرة!!, والله أعلم.

- إن غايات الله المرعية هي في إراداته الشرعية4 فعندما يأتي نهي من الله عن أمر ما ثم يخبر تعالى

متفق عليه.)(1.68 المائدة: )(2.101 المؤمنون: )(3.119 البقرة: )(4.38 النجم: )(5.40 العنكبوت: )(6.46 هود: )(7 رواه مسلم.)(8

167


بأن ذلك األمر سوف يقع فهذا يدلك على أن هذا اإلخبار هو إخبار عن إرادته الكونية القاضية بنفاذ ذلك األمر على غير محبة من الله. ولو نظرت إلى مسألة

االستخالف وقوله تعالى )إني جاعل في األرض خليفة( وهي اآلية التي يستشهد بها كل من يريد تعظيم (1)

مسألة الخالفة على األرض في نفوس الناس, لوجدتk وليست هي أنها من باب اإلخبار عن شيء سيقع كونا

إرادة الله الشرعية المحبوبة عنده ألنه ال يرتبط بها أمر ولكن األمر يرتبط بقوله تعالى )فال يخرجنكما من

الجنة فتشقى(, واألمر المعلوم عند من يبحث في علل النصوص هو أن الغايات والمقاصد ترتبط بإرادة الله الشرعية وليس الكونية ولهذا تعلم بأن " غاية خلق

اآلدمي " البد أن تكون متحققة في الجنة قبل النزول إلى األرض ألن أمر الله وإرادته الشرعية كانت على

أن يبقى آدم في الجنة وال يخرج منها وغاية اللهk ومقصده من خلق آدم البد أن تتحقق ألنه ما خلق شيئاk عبثاً , فاستقراء األمر ببساطة هو أن الله ال يخلق شيئا

إال لغاية وأنه جعل آدم في الجنة ونهاه عن الخروج منها فدل هذا على أن بقاء آدم في الجنة غير معطل

لغاية خلقه ومن ال يوافق في هذا فإنه ينسب إلى الله العبث, فإذا كان األمر كذلك فهذا يدل على أن غاية خلق آدم كانت متحققة قبل مسألة االستخالف وهذا

يدل على أن استخالف آدم في األرض " أمر زائد على الغاية األصلية من خلقه ", وهذا واضح جلي الوضوح,

والله أعلم.

.30 البقرة: )(1

168


معنى العبودية إن قوله تعالى )و ما خلقت الجن واإلنس إال

k لغاية الخلق في العبادات (1)ليعبدون( ليس حصرا التكليفية الدنيوية والصحيح هو أن الله خلق آدم عليه

السالم وذريته لعبادته ولعبادته فقط وهذه العبادة كانت متحققة في الجنة قبل النزول إلى األرض وذلك أن أهل الجنة يسبحون ويحمدون ويعبدون ربهم بكل العبادات القلبية بل والعملية ولكن بال تكليف وكلفة

بينا أنا نائم رأيتني فيكما جاء في الصحيح مرفوعاً : ) ( وليس فيالجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر

الجنة درن وال حدث وال تكاليف واجبة ذات كلفة ولكنها عبادة النعيم واللذة كما هي لذة النظر لوجه الله عز

وجل بخضوع وتذلل وخشوع, وكذلك حملة العرش الذين هم فوق مستوى الفردوس الذي هو أعلى الجنة,

يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذينk على التكليف الدنيوي آمنوا. فليست العبادة حكرا

ولكن ألن آدم داخل في غاية خلقه " اإلبتالء " حيث جعل الله عز وجل هذا االبتالء هو روح العبادة التي يمارسها آدم وذريته ألنه ال يلهم العبادة كما تلهمها

المالئكة الذين يسبحون الليل والنهار ال يفترون. وقد كان آدم في الجنة يبتلى بكلفة " ذاتية نفسية " هي

مدافعة الشيطان الذي كان يغريه باألكل من الشجرة ولم يكن ثمة " تكاليف مستقلة مطلوبة " وإنما هو

االستمتاع بالجنة ومدافعة الشيطان. لهذا تجد أن الله عز وجل نفى عن آدم الظروف الخارجية المؤذية فقال " إن لك أال تجوع فيها وال تعرى * وأنك ال تظمأ فيها وال

, ولم ينف عنه(2)تضحى * فوسوس إليه الشيطان"

.56 الذاريات: )(1.120, 119 طه: )(2

169


المشقة النفسية في مدافعة الشيطان, فهو لم يكلف بعبادة مستقلة مطلوبة ولكن يتمتع في الجنة ويدافع

الشيطان فكان محققا للعبودية لربه بوقوعه تحت هذا االبتالء من حيث الصبر عليه واالمتثال ألمر الله فيه, ثم

عندما حدثت المعصية زالت الظروف الكاملة في الجنة التي ال تقوم على األسباب ونزل آدم إلى األرض لكي يقع تحت نوع جديد من االبتالء وهو االبتالء بالدنيا

ذات األسباب كمؤثر® خارجي , واالبتالء بالشيطان كمؤثر داخلي وخارجي , و صار آدم يواجه المشقة في عبودية الصبر على المكروه المقدر المتعلق بالمؤثرات

الخارجية أكثر من مشقة القيام بالعبادات المستقلةk من كالصالة والصوم فصار الصبر على المقدور نوعا أعظم أنواع العبودية لله الذي ليس هو عبادة تكليفية

مستقلة ذات تعاليم معينه ولكنه الصبر المطلق لله وعلى أمر الله وفي الله. عند تطبيق هذا الفهم ستجد أن اإلنسان المدرك لحقيقة الكون وحقيقة نفسه فيه يجني من الحسنات الناتجه عن " نية العبودية " ما ال

يجنيه غيره, فمجرد صبره على ظروف الحياة وهو يعتقد أنه مطالب بالصبر على ذلك ألن الله أمر به

قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدىفقال: ) , ثم(1)(فمن تبع هداي فال خوف عليهم وال هم يحزنون

k بعد ذلك أعلمه بأنه الله خلق له ما في األرض جميعا وأخبره بأن كل مخلوق(2)وقال له )ال تخسروا الميزان(

خلقه الله وهداه لغاية خلقه وأن اآلدمي على األرض ينبغي له أن يعرف غاية خلق كل شيء حوله وكيفk لما خلقه الله له, على منهج موافق يتعامل معه تبعا

إلرادات الله الشرعية وأنه في كل ذلك واقع تحت فهو (3)قول ربه: )أيحسب اإلنسان أن يترك سدى(

مأمور بنظام يحكم عالقته بالعالم وبكل عنصر فيه بل.38 البقرة: )(1.9 الرحمن: )(2.36 القيامة: )(3

170


حتى عالقته بنفسه التي بين جنبيه تدخل التشريع فيها ,(1): )إن لبدنك عليك حق ولنفسك عليك حق!(فقال

k لهذا الفهم فإذا علم هذا كله وعلم كيف يتصرف تبعا فهو العبد المثالي وهو "اإلنسان الخليفة" أما ما عدى

ذلك فهي عبودية المتوهمين وخالفة القراصنة!!.

وبناءk على نحو هذا الفهم, قال ابن عباس في تفسيره لقوله )إال ليعبدون( قال: "إال ليقروا بالعبودة

قد اختار ابن جرير الطبري حمل و(2)"طوعا وكرها معنى العبادة في قوله )ليعبدون( على العبادة

الشرعية والعبادة القهرية فقال: ) وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرنا عن ابن عباس وهو أن

ما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون أي إال لعبادتنا والتذلل ألمرنا فإن قال قائل: فكيف كفروا وقد خلقهم للتذلل ألمره إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم

ألن قضاءه جار عليهم ال يقدرون من االمتناع منه إذا نزل بهم وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمره

. فالمعنى(3)به فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه( من هذا الباب أن اإلستشهاد بقوله تعالى )إال ليعبدون( وقوله )إني جاعل في األرض خليفة( على أن الله عز

وجل ما خلق آدم إال لتحمل مشقة التكليف في األرضk وذلك بطلب الحسنة وترك السيئة أو بإعمارها خصوصا

الكوني المادي المباح وقصر العبودية على ذلك, استشهاد باطل في حصره وتوجيهه فالله ما خلق آدم

k وكانت هذه الغاية إال ليبتليه ويدخله الجنة ابتداءا متحققة قبل الهبوط إلى األرض ال شك في ذلك, وكان

الله تعالى يحب أن يبقى آدم في الجنة ونهاه عن الخروج منها بالمعصية, فقال: )فال يخرجنكما من الجنة

فتشقى(, ولكن آدم عصى ربه فخرج, والحياة الدنيا

متفق عليه.)(1(.475 /11 تفسير الطبري ))(2(.475 /11 تفسير الطبري ))(3

171


امتداد إلجراء تلك الغاية وإن كان الله عز وجل سيدخل خلقا من خلقه الجنة ما وطأهم التكليف قط عندما

k ما شاء, سيفضل فضل في الجنة يخلق الله له خلقا فمن باب أولى أن يقال بأن آدم إنما خلقه الله ليبتليه

k وأنه ما خلقه ربه ليجعل دخوله ويدخله الجنة ابتداءاk على تكليفه الدنيوي كغاية أصلية في خلقه الجنة مترتبا

وال ليكون " أستاذ األرض العبقري المبتكر! ", وهذا خالف ماالفهم هو ما جاءت به النصوص الواضحات

ينادي به أهل اإلسالمية الرومانسية والنفعية المادية!. وقد قال اإلمام ابن منصور عبد القاهر البغدادي في "

وقالوا – أيالفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية ": ) أهل الفرقة الناجية - لو خلق الله تعالى عباده كلهم

في الجنة لكان ذلك فضال منه خالف قول من زعم من القدرية انه لو فعل ذلك لم يكن حكيما وهذا حجر منهم

ونحن ال نرى الحجر عليه بل نقول له على الله سبحانه األمر والنهى وله القضاء يفعل ما يشاء ويحكم ما

يريد(.

172


االستخالف ال يتحقق إال بإقامة الميزان

الكوني والشرعي إن لكل شيء نظام تنتظم فيه عناصره فيكون

لكل عنصر موقعه ومنفعته وبربط هذه العناصر بشكل تكاملي تنتج منفعة هذا النظام ويتم تفعيله ويتحقق

الهدف العام منه وهذا ما سماه الله عز وجل بالحق هو الذي جعل الشمس ضياء والقمرفي قوله تعالى: )

نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما ,(1)خلق الله ذلك إال بالحق يفصل اآليات لقوم يعلمون(

قال تعالى: )و السماء رفعها ووضع الميزان * أن الو تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط وال

. والميزان هو العدل كما قال(2)تخسروا الميزان( , وذلك في كل شيء, والعدل عدالن:(3)مجاهد وقتادة

عدل كوني وعدل شرعي, فالعدل الكوني يحدث بوضع الشيء المناسب في الموضع الذي يناسبه في هيئته

k في ذلك منفعته التي هو موجود ألجلها, وتكوينه موافقا والميزان الشرعي أن تتعامل مع الشيء تحت موافقة للمقاصد الشرعية من حيث الحكم والغاية, وكل شيء

داخل تحت هذا الميزان فالله تعالى يقول: )و إن من , وال(4)شيء إال عندنا خزائنه وما ننزله إال بقدر معلوم(

يخرج من هذا شيء حتى األنبياء فهم رزق لألمم وهم بقدر معلوم في فضلهم ورساالتهم وزمان بعثهم والعقيدة فيهم, فكل هذا العالم قائم على الوزن

سبق تخريجه.)(1.7-4 الرحمن: )(2(.577 /11 تفسير الطبري ))(3.21 الحجر: )(4

173


والتقدير وعليهما يقوم النظام الكلي والجزئي, وقد روى ابن حبان عن عبد الله بن رواحة: )أنه بعثه رسول

إلى يهود خيبر لكي يخرص نخلهم فأرادوا أنالله يرشوه فقال: يا أعداء الله أتطعموني السحت والله

لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي وألنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير وال يحملني بغضي

إياكم وحبي إياه على أن ال أعدل عليكم فقالوا: بهذا , فالسماوات واألرض(1)قامت السماوات واألرض(

قامتا بالعدل, وذلك بأن يوضع الشيء في محله الذي يناسبه وأن يوسد األمر إلى أهله, واليهود بقولهم "

بهذا قامت السماوات واألرض " يمدحون رسول الله قبل أن يمدحوا ابن رواحه ألن عدل رسول الله سابق

لعدل عبد الله بن رواحة عندما وضع رسول الله الرجل المناسب في المكان المناسب.

k سأعطي بعض ولكي يكون هذا الباب واضحا األمثلة التي عايشها العالم وكانت تتعلق بهذا الباب,

فمثال قضية النباتيين الذين ينادون بعدم ذبح الكائناتk كانت بما في ذلك بهيمة األنعام فمن ناحية الميزان أيا الكوني فإن طبيعة أبدان البشر ال تتعارض مع لحومهاk واضحا عليها وكذلك فإن الله بل لعلها تعتمد اعتمادا

k ألهل األرض فهي من أخبرنا أنه خلقها لتكون قوتا الناحية الكونية تكون محققة لغاية خلقها إذا كانت

k لهم, وإن قلنا بأنه ال ضير في تجاوز هذا, من طعاما أجل خاطر األبقار في الغرب, فإن الميزان الشرعي

يمنع ذلك فالله عز وجل أمرنا بذبحها وتعبدنا به, فقال تعالى: )ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على

ما رزقهم من بهيمة األنعام فإلهكم إله واحد فله وقال: )والبدن جعلناها لكم (2)أسلموا وبشر المخبتين(

من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها

رواه ابن حبان وغيره بسند صحيح.)(1.34 الحج: )(2

174


صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع , فالذبح(1)والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون(

غاية وليس وسيلة للحياة والمطعم وحسب, بل غاية داخلة في العبودية والذي يوافق أو يرى أنه يجوز

االعتقاد بأن ذبحها مخالف لرقي العالم فهو من ناحية شرعية قد ضاد الله في أمره وقد ظلم وأخسر

الميزان الشرعي والكوني فالظلم في ترك ذبحها وليس في ذبحها, ولو رجعنا إلى مواقف بعض الدعاة من هذه المشكلة لوجدنا أن بعضهم كان يستحي أن

يقول بأن الله خلق كل ما في هذا الكون لخدمة اإلنسان ومنفعته وهذا بسبب العقيدة الرومانسية

التي كما قلت في بداية هذا الكتاب تقوم على مبدأ أن الحق في السعادة وأن اإلنسانية هي أن تشعر بقيمة

نفسك دون أن تنتقص من قيم اآلخرين!. فكل من الشاة والبقرة تكون سعيدة إذا لم تذبح فالحق في أن ال تذبح وهم – النباتيون في فرنسا - يؤمنون بهذا ولكي

k " فعليك أن تراوغ وتخاتل k رومانسيا تكون " مسلما لكي تجعل هذا العمل في شريعتنا عمل نبيل في

أعينهم, ثم تختتم كالمك بإبداء االحترام والتقدير لوجهة نظرهم الفاضلة هذه تجاه حرية األبقار واألغنام

واألرانب!.

المشكلة في بعض من يتعصب لإلسالم ويبرز نفسه كمنافح عنه أنه هو في ذاته ال يعرف " أصول

الفهم اإلسالمي " للكون وعناصره. ولكي تعرف قدر تفكير الصحابة رضوان الله عليهم ومدى دقة ألفاظهم في تعبيرهم, سأورد بعض اآلثار ثم نتحدث عنها تحت ضوء معنى هذا الباب, فقد روى البيهقي في الشعب

أنه قال: ) والله لوددت أنيعن أبي بكر الصديق كنت شجرة إلى جانب الطريق فمر علي بعير فأخذني فأدخلني فاه فالكني ثم إزدردني ولم أكن بشرا( وعن

.36 الحج: )(1

175


عمر أنه قال: ) يا ليتني كنت كبش أهلي, سمنوني ما بدا لهم حتى إذا كنت كأسمن ما يكون زارهم بعض من يحبون فذبحوني لهم فجعلوا بعضه شواء وبعضه قديدا ثم أكلوني ولم أكن بشرا( وعن أبي الدرداء أنه قال:

)يا ليتني كنت شجرة تعضد وتؤكل ثمرتي ولم أكن بشر( وعن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: )لوددت أني

كنت كبشا فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويشربون مرقي(. وهذه اآلثار يشتهر مثلها عن الصحابة في

تمني لو أنهم لم يكونوا بشرا, ولكن لننظر إلى هذهk آخر وحسب, أي اآلثار, فكلهم لم يتمنوا أن يكونوا شيئا

شيء غير اإلنسان, أو أي شجرة أو أي كبش, بل أنk للغاية التي خلق من أجلها فهم إنما k محققا يكونوا شيئا

هربوا من اآلدمية خشية أن يكونوا لم يحققوا ما خلقهم الله ألجله فتمنوا أن يكونوا أشياء ال يشكون

في تحقيقها للغاية التي خلقت لها, فقيد أبو بكر وصف الشجرة بأنها شجرة أكلها بعير فازدردها, وقيد عمرk ثم أكله وصف الكبش بأنه ذ»بح وج»عل شواءا وقديدا

أهله وقيد أبو الدرداء الشجرة بأن تكون تعضد أو تثمر ويأكل الناس ثمرها!, وقيد أبو عبيدة وصف الكبش بأن

أهله يذبحونه ويأكلون لحمه ويشربون مرقه!. فكل تلك التعابير في كالمهم ليست للتفنن وإنما هي عقيدة في نفوسهم تجاه هذه األشياء التي خلقها الله في هذا الكون. وعند االسترسال في هذا المنحى في التفكير تجد أنه تفتح لك أبوابا من المعرفة لم تكن تخطر لك على بال وكل هذا ببركة المنهج القرآني في التفكير,

k الفرق بين منهج إعادة الشيء إلى أصله, فخذ مثال الرجل والمرأة تجد أن الشريعة قد فرقت بين الرجل

)يرش منوالمرأة في مواطن كثيرة ومن ذلك قوله , فقد روى ابن(1)بول الغالم ويغسل من بول الجارية(

ماجة عن الشافعي قوله للذي سأله عن سبب ألن بول الغالم من الماء والطين وبولالتفريق: )

رواه أبو داود وغيره وصححه األلباني.)(1

176


الجارية من اللحم والدم. ثم قال للذي سأله عن السبب: فهمت؟ قال له: ال. قال: إن الله تعالى لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير, فصار بول

الغالم من الماء والطين وصار بول الجارية من اللحم (, وهذا لمن تأمله كالم وجيه فإن كان األصل غيروالدم

األصل فال بد أن المنفصل عن كل منهما سيكون« كذلك, فإذا أضفت إلى ذلك أن الله خلق آدم استقالال في مادته وغاية خلقه فإنه خلق حواء من مادة جنسها

من البشر فخلقها من ضلع آدم بينما آدم خلق من تراب, وكذلك فإن الله خلق آدم ألجل غاية ال عالقة لها

بحواء بينما خلق الله حواء بسبب خلقه آلدم فقال تعالى: )هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها

, وأسجد المالئكة آلدم ولم تكن(1)زوجها ليسكن إليها( وألن(2)معه حواء ألن الله قال )اسجدوا آلدم(

الشيطان قال: )لم أكن ألسجد لبشر خلقته من وحواء لم تكن كذلك وإنما (3)صلصال من حمأ مسنون(

كان هذا في خلق آدم, وكذلك اصطفاه بالعلم فعلمه األسماء كلها ولم تكن معه حواء, ثم اصطفاه بالقوامةعليها في الجنة! فقال تعالى: )و عصى آدم ربه فغوى(

مع أن حواء هي التي أغرته باألكل من الشجرة (4) )لوال حواء ما خانتوأكلت معه لما روى مسلم عنه

, وإنما خانته بإغرائه باألكل من(5)امرأة زوجها( الشجرة, ومع هذا فإن المعصية نسبت آلدم حتى قال موسى عليه السالم )أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك

ألنه لو لم يأكل آدم لما أكلت حواء, فدل (6)من الجنة( هذا على أنه كان هو اآلمر الناهي وأن الرأي كان في

.189 األعراف: )(1.34 البقرة: )(2 سبق تخريجه.)(3 سبق تخريجه.)(4 متفق عليه بلفظ "ما خانت أنثى زوجها".)(5 سبق تخريجه.)(6

177


يده, فله القوامة حتى في الجنة التي ال تعب فيها وال نصب!. وبمثل هذا الفهم وهذا التصور تعلم لماذا تلعن المالئكة المرأة التي تمتنع من فراش زوجها ولم يثبت اللعن للرجل الممتنع!, ولماذا قال تعالى )وليس الذكر

, وغير ذلك. (1)كاألنثى(

نحن نتكلم عن هذا األمر هنا ألنه متعلق بفهم الميزان الكوني والميزان الشرعي الذي هو أساس

العدالة التي ال يتحقق االستخالف الصحيح في األرض إال بها, وقد سقت حديث البقرة التي تكلمت وقالت

لمن ركب على ظهرها ) ما خلقنا لهذا وإنما خلقنا في طرقات المدينة, وقد مر ابن عمر (2)للحرث(

فإذا فتية قد نصبوا دجاجة يرمونها, فغضب وقال من فعل هذا؟ قال فتفرقوا فقال ابن عمر: )لعن رسول

. ألنه لم يخلق لهذا! وألن(3) من يمثل بالحيوان(الله »عن اآلدمي هذا سخرية بمقاصد الله في خلقه, فإن ل

ألجل الحيوان وهو ميت فكيف ال تحفظ هذه الشريعة " حقوق الحيوان " وهو حي؟, بل إن بعض الروايات

)k k فيه الروح غرضا (4)جاءت بلفظ )لعن من أتخذ شيئا

أي مرمى يرميه بالنبل, ويدخل في هذا حتى الحيوان فحتى( 5)المأمور بقتله مثل الحدأة والغراب األبقع

طريقة قتل الحيوان المأمور بقتله يجب أن تكون بميزان. فالمشكلة ليست في ظواهر التشريع وإنما

المشكلة في عدم تصور الغايات واألصول األولى لعناصر الكون, واألدهى واألخطر من ذلك هو سبب

تجاهل ذلك التصور أو سبب عدم االهتمام بتلك األصول األولى الذي ال أراه إال الشعور بالخجل من

.36 آل عمران: )(1 سبق تخريجه.)(2 رواه أحمد وقال شعيب األرنؤوط: سنده صحيح.)(3 رواه مسلم.)(4 رواه مسلم.)(5

178


التصريح بأن أهل األرض ينبغي أن يراجعوا في كل تصرفاتهم ربهم الذي في السماء!, فهذا أمر يعتبر

التصريح به كمبدأ أصيل " خزي وعار قديم " تخلصت منه أوروبا عند كسر أول باب في سجن الباستيل

الفرنسي!!.

المعنى من هذا الباب أن يعلم المسلم بأن الله الذي أمره بأن ال يخسر الميزان لن يأمره بهذا إال وقد

أنزل إليه من العلم ما يؤهله للقيام بذلك, وأن اللهk: )هو الذي أخبرنا بأنه خلق لنا ما في األرض جميعا

)k وقال: )و سخر لكم (1)خلق لكم ما في األرض جميعاk منه( ولن(2)ما في السماوات وما في األرض جميعا

يخلقها لنا ويسخرها لنا ثم ال تكون لنا بها أية عالقة أو صلة!, فال بد من عالقة اإلنسان بما سخره الله له,

فإن كان األمر كذلك فال بد حينها من أن ينزل الله عز وجل من العلم ما يحكم به هذه العالقة بين اإلنسان وبين كل هذه األشياء ألنه قال سبحانه )أال له الخلق

,(2 ), وقال )أيحسب اإلنسان أن يترك سدى((3 )واألمر( أي يتصرف في هذا العالم بال ضوابط وأمر ونهي ,فإن

كان ذلك كذلك, فال بد أن يتعلم المسلم ويبحث في الكتاب والسنة ما تبرأ به ذمته ولكي يعرف كيف يحقق

العدالة الكونية والشرعية على األرض, فليست السيطرة المجردة وال األستاذية الجاهلة المزعومة هي

الخالفة على األرض وإنما الخالفة هي العدل الكوني والشرعي تجاه العالم كله بما في ذلك شعر عانتك

.!k وإبطيك الذي يجب أن تزيله كل أربعين يوما

.29 البقرة: )(1.13 الجاثية: )(2 54 األعراف : )(3( سبق تخريجه2)

179


الخالفة الشريفة لإلنسان في األرض قال ابن كثير رحمه الله: ) قوله تعالى : ) وهو

الذي جعلكم خالئف األرض ( أي جعلكم تعمرونها جيال بعد جيل وقرنا بعد قرن وخلفا بعد سلف , قاله ابن .(1)زيد وغيره كقوله ) إني جاعل في األرض خليفة( (

فالخالفة الكونية الوجودية هي المحققة للمعنى اللغوي بمعنى توارث الوجود على األرض والبقاء وعدم

انقراض العنصر , وهذا ليس فيه ثمة شرف ألنه ثابت كما في الصحيححتى للبهائم العجماء , حيث أخبر

بأن آخر من سيصعق يوم القيامة راعيان من مزينة يسوقان غنمهما, وفي هذا إثبات بقاء األغنام

واستخالفها في األرض إلى يوم القيامة. ويدخل فيk قوله تعالى: ) هو معنى االستخالف الوجودي أيضا

أنشأكم من األرض واستعمركم فيها (, قال ابن جرير: , فاالستخالف اللغوي أو(2))أسكنكم فيها أيام حياتكم(

k الكوني الوجودي, الذي يتعلق بالبقاء على األرض جيال بعد جيل, ثابت للكافر والمؤمن بل إن الكافر خير من

المؤمن في ذلك ألنه سيبقى أكثر من المؤمن على األرض حيث يرسل الله الريح الطيبة فتقبض أرواح

المؤمنين آخر الزمان فال يبقى إال كافر.

وهذا المعنى الوجودي لالستخالف يدخل تحته غير أن (3)قوله تعالى: )إني جاعل في األرض خليفة(

اإلنسان يتميز عن سائر الكائنات بأنها كلها مسخرة لهk فخصه الله بكونه هو الخليفة لهذه الميزة فجعله كونا

كأنه هو المستخلف الوحيد, ولهذا ربط الله تعالى

(.268 /2 تفسير ابن كثير ))(1(.61 /7 تفسير الطبري ))(2 سبق تخريجه.)(370( اإلسراء : 4)

180


تكريم بني آدم الخلقي بذلك عندما قال: )و لقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من (4 )الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيال(

فهذا تفضيل كوني داخل في تركيب وتكوين اآلدمي ال يخص به مؤمن دون كافر, ولهذا قال تعالى ) قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق

قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم فهي خلقت أصال للمؤمنين ولكن الكافرين(1 )القيامة (

k للمؤمنين يوم k ثم يكون النعيم خالصا استمتعوا بها تبعا القيامة, ولهذا يقول تعالى ) ويوم تقوم الساعة يومئذ®

. فأما االستخالف الشرعي الذي يحبه الله(2)يتفرقون ( k لغايات الله الشرعية ويرضاه فهو الذي يكون موافقا

من إهباط آدم وذريته إلى األرض وهي إقامة العبودية, وعدوهذا المعنى هو الذي يشير الله إليه في قوله: )

الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في األرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا

ولقدقوله تعالى )و (3)يعبدونني ال يشركون بي شيئا( كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن األرض يرثها عبادي

فأوحى إليهم ربهم لنهلكنوقوله: ) (4)(الصالحون الظالمين * ولنسكننكم األرض من بعدهم ذلك لمن

, ويخطئ كثير من الناس(5)(خاف مقامي وخاف وعيد في فهم عمارة األرض ويدخل فيها غرس الجنان وتشييد البنيان وتطوير اإلنسان وهذه كلها وسائل

ليست غايات والله عز وجل عندما تكلم عن عمارة األرض جعلها غاية ولم يكن يتكلم عنها كوسيلة وقد

قال تعالى: )و لقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا.32 األعراف : )(1.55 الروم : )(2.55 النور: )(3.105 األنبياء: )(4.14-13 إبراهيم: )(5

181


وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خالئف في األرض من

فأثبت سبحانه أنه أهلك(1)بعدهم لننظر كيف تعملون( القرون من قبلهم بسبب ظلمهم ثم استخلفهم في

األرض لينظر كيف يعملون فهل سيكون عملهم الذي ينظر الله إليه إال العدل بعد أن أهلك األولين

بظلمهم؟! . وكذلك في قوله تعالى: )و تلك القرى وقوله , (2)أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا(

فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين *تعالى: ) ولنسكننكم األرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي

وقوله تعالى: )فكأين من قرية , (3)(وخاف وعيد أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر

فمع أنهم حفروا البئر وشادوا (4)معطلة وقصر مشيد( القصر غير أنهم ما عدلوا فأهلكهم الله فهي خاوية

على عروشها.

وعندما خسف الله عز وجل بقارون خسف بداره هذا مع(5)معه حيث قال ) فخسفنا به وبداره األرض(

انه كان خارج داره عندما خسف الله به األرض حيث فهو في(6)قال تعالى ) فخرج على قومه في زينته(

كما فيالطريق ولم يكن في داره, وقد قال الصحيحين: )بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد

أعجبته نفسه فخسف الله به األرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة(, وقد قال قتادة في قوله تعالى

)فخسفنا به وبداره األرض(: " ذكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة وأنه يتجلجل فيها ال يبلغ قعرها إلى يوم

.39 فاطر: )(1.59 الكهف: )(2 سبق تخريجه.)(3 سبق تخريجه.)(4.81 القصص: )(5.79 القصص: )(6

182


. وكذلك حمل هذا الحديث على أنه قارون,(1)القيامة" وفي لفظ(2)مالك بن دينار وابن جريج وغيرهم

للترمذي: )خرج رجل ممن كان قبلكم في حلة له يختال فيها فأمر الله األرض فأخذته فهو يتجلجل فيها(

وقال أبو عيسى: حديث صحيح, وفيه التصريح بأنه كان خارج داره, وال شك أن داره كانت من أعظم وأروع ما

بناه البشر في ذلك الزمان فإن كانت مفاتيح خزائنه تنوء بالعصبة أولي القوة فكيف بخزائن كنوزه ثم كيف

بقصره الذي فيه الخزائن وهو يسكن فيه؟ . مع هذا كله أهلكه الله وخسف بداره معه فلم تكن داره عند

الله شيئا يستحق اإلبقاء عليه , مع أن قارون لم يصنع داره بنفسه بل بناها أناس ليس لهم صلة بظلم قارون

وتكبره , وإنما هم أناس فكروا وخططوا وبنوا فكانk " ومع هذا لم يبالي k معماريا k علميا عملهم هذا " إنجازا

الله عز وجل لكل هذه المعاني التي يقدسها الناس ويعتقدون أنها هي العمارة التي طلبت منا عندما

أهبطنا الله إلى األرض حتى أن بعض من ينتسب إلى الدعوة إلى الله يطالب بعدم هدم تماثيل بوذا بحجة

أنها إنجازات حضارية!, فإن كان الله خسف بدار قارون وهو ليس فيها وليست صنما يعبد فكيف بصنم

معبود؟.

كل هذه اإلنجازات العلمية البشرية ال تساوي عند الله شيئا من جهة الحبكة والصنعة , وإنما معناها في

غايتها بل إن رأس حمار يأكل الرجيع والحنظل في فالة فيه من عظمة الصنعة ودقة الحبكة واإلعجاز ما ليس في أعظم مصنوع بشري . فالله ليس بحاجة

لمن يبني له األرض أو يعينه على تمام خلقه فيها فهي تامة تامة تامة , والله عز وجل ذكر في كتابه غير مرة

بأنه أحسن كل شيء خلقه, فال يقال بأن عمارة األرض

(.109 /10 تفسير الطبري ))(1(.109 /10 تفسير الطبري ))(2

183


بعمارة المادة فيها حتى أن الله عز وجل تحدى الناس جميعا بالذبابة فأعجزهم وقطعهم وقبل هذا كله قال تعالى )ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت * فارجع

البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلبk وهو حسير( فالذي نفى عن خلقه (1)إليك البصر خاسئا

مجرد التفاوت لم يكن ليقول بوجود النقص فيه.

وقد ثبت فيما جاء عن الله تبارك وتعالى مقت ذلك الفهم إلعمار األرض الذي يسعى به كثير من الناس حيث يجعلون عمارة األرض زخرفة البنيان

وتشييده وبناء الجواد والقصور العالية فقال تعالى يذم قوم هود )أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع

قال ابن كثير رحمه الله: )اختلف (2)لعلكم تخلدون( المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة يبنون هناك بنيانا محكما هائال باهرا - قلت: مثل األنصاب التي تبنى اليوم على

مداخل المدن ومجمع الطرق - ولهذا قال "أتبنون بكل ريع آية " أي معلما بناء مشهورا " تعبثون " أي وإنما

تفعلون ذلك عبثا ال لالحتياج إليه بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه

السالم ذلك ألنه تضييع للزمان وإتعاب لألبدان في غير فائدة واشتغال بما ال يجدي في الدنيا وال في االخرة

ولهذا قال " وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون " قال (3)مجاهد: والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد(

إنتهى. ويكفي إلبطال هذا الفهم قوله تعالى: ) إنا جعلنا ما على األرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمال

فكل تلك(4)* وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا( األشياء الدنيوية التي قد يظن أنها من العمارة التي

.4, 3 الملك: )(1.130- 128 الشعراء: )(2(.454 /3 تفسير ابن كثير ))(3 سبق تخريجه.)(4

184


يحبها الله ويرضاها إنما هي من البالء واالبتالء, و لو كانت غاية في ذاتها ما جعلها الله صعيدا جرزا , فهو

سبحانه الذي ال يضيع عمل عامل وعندما توعد كل ما على األرض من زينة بالزوال علمنا أنها ليست هي تلك

كماالعمارة التي حثنا أن نعمل بها ولها , وقد قال روى ابن حبان بسند صحيح: )إن الله يبغض كل

جعظري جواظ سخاب في األسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بالدنيا جاهل باآلخرة( , والنكير هنا ليس

على مجرد العلم بأمر الدنيا ولكن على العلم الذييراد به الدنيا فقط .

الله عز وجل ال يعبد بما نهى عنه وقد نهى عن التوسع في الدنيا بما يصل إلى حد هدر المنفعة وذلك

على لسان نبيه حيث قال كما في صحيح مسلم: ) فراش للرجل وفراش المرأته والثالث للضيف

والرابع للشيطان( , وقال في البيت والدابة مثل ذلك. وجعل المبذرين إخوان الشياطين , و ذم كل شيء ال يكون وسيلة لدخول الجنة , أو يكون ملهاة عن طلب

الجنة , أو غاية تقصد لذاتها دون الجنة قل أو كثر, فقد روى االمام أحمد في المسند وصححه األلباني في

الصحيحة: ) عن ضمرة بن ثعلبة انه: أتى النبي وعليه حلتان من حلل اليمن فقال: ) يا ضمرة أترى

ثوبيك هذين مدخليك الجنة؟ ( فقال: لئن استغفرت لي :يا رسول الله ال أقعد حتى أنزعهما عنى فقال النبي ) اللهم اغفر لضمرة بن ثعلبة( فانطلق سريعا حتى

. واليوم تعجب من الذين يدعون الناس(1)نزعهما عنه( إلى إنفاق أعمارهم في صناعة الدنيا وآلتها , على ما في الناس من فجور وفسق ال يناقشونهم في شأنه

ويقرونهم عليه , ثم يزينون لهم على فسقهم االنغماس في طلب الدنيا ويقولون " المؤمن القوي خير وأحب

رواه أحمد وصححه األلباني.)(1

185


. وكأنهم لم يقرأوا(2)إلى الله من المؤمن الضعيف" القيد بأن يكون " مؤمنا " قبل أن يكون قويا أو ضعيفا.

العمارة الحقيقية لألرض هي عمارتها بالطاعة والعدل فإن كانت السماوات واألرض قائمات على

العدل مع جاللة خلقها , و ثقل بنيانها ألن يقوم عليه بنيان الدنيا وزينتها أولى وأحرى , كما قال عبد الله بن

رواحة ليهود خيبر عندما أرادوا رشوته وهو يخرص تمرهم كما في صحيح ابن حبان بسند صحيح: )يا أعداء الله أتطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب

الناس إلي وألنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير وال يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن

ال أعدل عليكم فقالوا: بهذا قامت السماوات واألرض(. واالستثمار الحقيقي الذي سيجلب كل خيرات األرض

هو استثمار األرض بالطاعة واالستقامة , كما سيحدث في عهد عيسى عليه السالم عندما ينزل ويبيد كل

الملل إال اإلسالم ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقيم العدل في الناس , عندها كما في صحيح مسلم:

) يرسل الله مطرا ال يكن منه بيت مدر وال وبر فيغسل األرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال لألرض أنبتي ثمرك

وردي بركتك , فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل , حتى أن

اللقحة من اإلبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم

لتكفي الفخذ من الناس(. فهذه هي عمارة األرض وهذا هو االستثمار والتنمية , وليس أن يبني الناس

المصانع والقصور والجواد الطوال على معصية الله , ومخالفة أمره , حتى منعت السماء قطرها , فما كانk يكررون من أهل الحضارة والعمارة اال أن بنوا مصنعا فيه أبوالهم ثم يشربونها !, ويرون أن ذلك من مزيد

توفيق الله لهم في عمارتهم وبناء حضارتهم, والصحيح


186


أن هذا من فشلهم في عمارة األرض فعندما عصوا الله أمسكت السماء القطر فضيق الله عليهم فكرروا

ة وليست مفخرة ولكن أين أبوالهم وشربوها فهذه معر�العقول!!.

k من وقد صار اليوم الحديث عن الزهد ضربا الدروشة, وصار االحتساب في هجر ملذات الدنيا

k من الخيبة واألعراض الزائدة على ما ال بد منه نوعا النفسية االنسحابية التي توحي باإلحباط أكثر مما

توحي باالنضباط!. وينبغي االنتباه إلى هذه المسألة ألن اإلنسان إذا استكثر من الدنيا كثر عمله ألجلها وضاع

عمره في غير ما خلق له فيصير هو في حد ذاته " مفسدة حية " والله عز وجل يقول ) و ال تفسدوا في

واإلفساد ببساطة ووضوح هو , (1)األرض بعد إصالحها( أن يستعمل الشيء في األرض لغير ما خلقه الله له .

طالب الدنيا ممن دخل قلوبهمولهذا جعل النبي شيء من الشرك حيث قال: )تعس عبد الدينار تعس

, وهذا الكالم ينبغي(2)عبد القطيفة تعس عبد الخميصة( أن ال يستحيا منه!. وقد نقلت كالم عالم االجتماع غدينز

إنعندما تكلم عن مجتمع ما قبل الصناعة فقال: ) غياب الحرب وانعدام الالمساواة في الثروة والقوة

k من المنافسة في تلك والتأكيد على التعاون بدال المجتمعات – مجتمعات الصيد والزراعة - تذكرنا كلها

بأن العالم الذي خلقته الحضارة الصناعية الحديثة الk لمفهوم يمكن بأي حال من األحوال أن يكون مرادفا

(. فليس الرقي وليد الصناعة , حتى وإن كانتالتقدم الصناعة قد تساعد في قيامه ألن الرقي اإلنساني

k , فأما k مجردا يرتقي على معيار معنوي فليس ماديااد الدنيا ألجل الدنيا فهو تخلف ـ� االنخراط في طابور عب

وصف الكادح ألجل الدنيا بذلك فقال:وحمارية ألنه )إن الله يبغض كل جعظري جواظ سخاب باألسواق

.56 األعراف: )(1 رواه البخاري.)(2

187


جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بالدنيا جاهل باآلخرة!!(, وقال الحسن البصري: )إنك لتجد الرجل يقلب الدينار على ظفره فيعرف نقصه وتمامه ثم هو ال يحسن أن

خرج أن رسول الله أنس , وقد روى (1)يصلي!( يوما وهو معه فرأى قبة مشرفة فقال: )ما هذه؟( قال

أصحابه: هذه لفالن رجل من األنصار فسكت وحملها فسلمفي نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله

, وصنع ذلكعليه في الناس فأعرض عنه رسول الله مرارا حتى عرف الرجل الغضب فيه واإلعراض عنه

فشكا ذلك إلى أصحابه فقال: والله إني ألنكر رسول قالوا: خرج فرأى قبتك فرجع إلى قبته فهدمهاالله

ذات يوم فلمحتى سواها باألرض فخرج رسول الله يرها فقال: )ما فعلت القبة؟( قالوا: شكا إلينا صاحبها

: )أما إن كلإعراضك عنه فأخبرناه فهدمها فقال بناء وبال على صاحبه إال ما ال إال ما ال(, يعني ما ال بد

.(2)منه

فليست هندمة الثياب وتقبيب القباب دليل على النجاح الكوني والشرعي , بل لعل رجل فقير قد مأل

رأسه القمل أحب وأصلح عند الله من عالم ذهب بصره وتقعرت عدسات نظارته وهو يقرأ في الفيزياء

النووية , أو شبكات الحاسب اآللي . ألن الصالح والقيمة والمعيار كلها أمور متعلقة بإرادات الله وبما

يوافق إرادات الله وقد قال أبو سعيد الخدري: يا رسول الله أي الناس أشد بالء قال: )األنبياء ثم

الصالحون وقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إال العباءة يجوبها فيلبسها ويبتلى بالقمل حتى يقتله

,(3)وألحدهم كان أشد فرحا بالبالء من أحدكم بالعطاء( فهذه بعض صفات أناس وصفهم الله بأنهم خير عباد

(.560 /3 تفسير ابن كثير ))(1 رواه ابو داود و قال األلباني: حسن صحيح.)(2 رواه البخاري في األدب المفرد وقال األلباني: حديث صحيح.)(3104( الكهف : 2)

188


مشوا على األرض!. وهذا ال يعني أن من سمات المؤمنين أن يكونوا فقراء ومقمولين ولكنه إشارة إلى

أن قيمة اإلنسان في الكون متعلقة بتحقيقه لغايات الله التي هي الصبر على اإلبتالء وإقامة العدل الكوني

والشرعي.

أما رأيت االسكافي وهو يحكي خبرته في صنعته؟, والجعالن وهو يدهده الخرأ بأنفه بعد أن درس جدوى المشروع؟. فضالت ال يهتم بها أحد ولن تقاتله عليها بقية الحيوانات, أمن قومي كبير, يجعله على شكل كرة, يصنع له مخبأ تحت األرض ثم يقف على يديهk على قدم وينتظر كل ويدحرج بقدميه ثم يضع قدما

مساء الصحافة فقد تأتيه في أي لحظة ليشرح لها كل هذه الحبكة التي ال يجيدها إال المبتكر الكبير, السيد جعالن!. ولو زعم أي شخص أنه أسس البراجماتية اإلقتصادية لقلت له كذبت , ألن مؤسسها هو السيد جعالن العظيم!. فليس الحل في أن يرضى اإلنسان

عن نفسه أو عن جدوى عمله كالسيد جعالن , بقدر ما�م نفسه تبعا لمعايير كونية هي التي يجب عليه أن يقي

�م ومن التافه , ومن الذي هو على صراط تحدد من القي مستقيم؟!. نحن بشر ويجب أن نبحث عن الحقيقة

والمجد كبشر, وإال فكل شيء يستطيع أن يد�عي الكرامة ويقول: ال كرامة لمن يخالف, فحتى الكالب

لها مناقب ومنافع ومهام وتاريخ ضارب في التنوع وما عدا هذا الفهم في استقصاء القيمةوالصراع!.

الذاتية فبهارج زائلة , و وساوس باطلة , وسيبدو للمغفلين من الله ما لم يكونوا يحتسبون , و ذلك بعد

أول وهلة تمر عليهم لحظة موتهم التي سماها عمر بن الخطاب بـ" هول المطلع " , فيكتشف ذلك اإلنسان

المسكين الذي كان يعاني من " أعرابية الروح والخيال " وال يتجاوز في ذاته النزعات الفرعونية والتصورات

الحيوانية ونهمة الفكر والهجس و الشهوة أنه كما قال تعالى : ) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم

, فهذا الكون ليس(2 )يحسبون أنهم يحسنون صنعا (

189


ملعب بولينج تتناثر فيه القوارير و تقوم بال سبب , و ال صندوق تجارب مليء بالفئران , و ال غابة كبيرة مليئة بالكائنات الهاملة فكل فيها يقرر منهجه بيده و رجله كما يشاء !, و لكنه قصة طويلة سرمدية الطرفين ال

يحسن شرحها إال الله سبحانه ! .

أرأيت لو حكم ملك على بضعة أشخاص بالسجن , ثم قال من خرج وقد حفظ قصيدتي الفالنية فسوف

ينجو , وما عدا ذلك فسيكون نصيبه الموت , ثمk من الزمان. فجلس هؤالء الرجال فمنهم أمهلهم شهرا

من احتقر مهنة الحفظ , وقال ال يفعلها إال ساذج , فاشتغل باالختراع واالبتكار, ومنهم من جلس يكتب

القصائد ويفلسف الكون من حوله , ومنهم من التزم بطلب الملك وجلس في الزاوية يحفظ القصيدة. فمن

أكثر هؤالء القوم عقالنية وحكمة؟. إنه الذي جلس يحفظ قصيدة الملك ليخرج من مأزقه هذا فينال بعدها حياة طويلة عامرة بما يحب من االختراع واالبتكار وما

يشاء من األمور, بينما قتل الذين فضلوا شهوة الحذلقة وتكبر العناد , وخسروا شهورا كثيرة كان بإمكانهم أن

يبتكروا ويفعلوا فيها ما يشاءون.

كذلك, ولله المثل األعلى, حال أهل الدنيا . فإن استطعت أن تبدع وتبتكر وأنت على ما يحب الله

ويرضى , فهذا خير كثير فإن عجزت عن ذلك و صار الخيار إما الدنيا وإما اآلخرة , فعليك بطاعة الله التي

بعدها خلود فال موت في جنة تبتكر فيها وتخترع ما تشاء ,ألن الفهم والتفكير واإلبداع إن كان من نعيم

الدنيا فال بد أن يكون من نعيم اآلخرة. فال تضيع مستقبلك األبدي ألجل نزوات نفسية وذهنية واجتماعية

k في نفسك أو نفوس هنا وهناك , ترضي بها شيئا الناس على حساب مرضاة الله سبحانه. وقد ثبت كما

كان يوما يحدث وعندهفي صحيح البخاري أن النبي رجل من أهل البادية: )أن رجال من أهل الجنة استأذن

190


ربه في الزرع فقال له ألست فيما شئت؟ قال بلى ولكني أحب أن أزرع قال فبذر فبادر الطرف نباته

واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال فيقول الله دونك يا ابن آدم فإنه ال يشبعك شيء(. فقال األعرابي والله ال تجده إال قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع ,

.وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع , فضحك رسول الله ومعنى الحديث وداللته في غاية الوضوح!.

191

خاتـمـة الكتـاب

خاتمة الكتاب كان الناس في منتصف التسعينات يتكلمون عن الكمبيوتر وكأنه أسطورة مصباح عالء الدين , الذي

كان كلما فركه بيديه خرج منه مارد طويل وحقق له كل أحالمه, وبمجرد ما وطأت قدماي أرض جامعة

م تقدمت لدخول كلية1995البترول والمعادن عام هندسة الحاسب اآللي ثم تخرجت وكان مشروع

تخرجي تحت عنوان :

(The Main Concepts Of Mobile Networks Design) ألكتشف ذلك السحر الكبير الذي هو روح هذه

الحضارة الرقمية , وما معنى أن يكون العالم قرية صغيرة, وما معنى " العولمة " التي هي نتاج تقني قبل أن يكون نتاج ثقافي. فعلمت أن الكمبيوتر آلة كأي آلة

وأنه ال يختلف في ميكانيكيته عن أي آلة ميكانيكية , وأنه ليس بسحر و ال معجزة غير أنه شديد التكامل ,

شديدة الحبكة اإللكترونية , وأنه كله مبني على خاصية فريدة ال توجد إال في حجر يسمى " الجرمانيوم! " بني

عليها تصميم اصغر وحدة في الحاسب , التي هي الترانزيستور. فالحاسب في حقيقته ليس إال أمة

عظيمة من الترانزيستورات التي رتبت بطريقة معينةk. بالنسبة لي, لم يعد اإلنسان الغربي k معينا لتؤدي غرضا شخصية مهيمنة وهو في األصل لم يكن كذلك, غير أني اآلن اكتشفته أكثر على حقيقته!. إن سوبرمان الطائر

الذي يوهم الناس بأنه المهدي المنتظر للحضارة الرقمية , ليس إال فيلسوف رومانسي من القرن

التاسع عشر , طار عقله فطار هو خلفه ليبحث عنه من مكان إلى مكان, فهو ليس إال رجل مجنون يجيدk الطيران!. إن اإلنسان الغربي مسكين ومسكين جدا

وهذه ليست غطرسة مني وال هي ممارسة للظلم في

192


هيئة إشفاق وإنما هي حقيقة واضحة تتمطى يضحكلصدقها الصبيان!.

ذات يوم قلت لمدربي الخبير الهولندي الملحد: هل تسمح ألحد من عائلتك أن ينظف أذنيه بالمفك المسمى " سكروب " يا مستر ولكو؟. فقال وهو يضحك متعجباً : بالتأكيد ال!. فقلت له: إذن لماذا

يسمح القساوسة في بالدك بعقد النكاح بين الرجال؟!. Because it mayفقال وهو محرج بشيء من البالهة:

work ." !!هذا هو! وترجتمها:" ألنه يمكن يمشي الحال مثل اإلنسان الغربي, عندما يجلس في محافل الواقع

ويبدي قدراته على إدارة الحياة , ويلقي بثقل مخترعاته بين يدي الشعوب فإذا جاء إلى العقيدة التي

هي أخص خصائص اإلنسان, وجدته يتصرف ببالهة وبرود ليس لهما مثيل, فتراه بعد كل هذا النجاح

المادي الحضاري الكبير يسلم أمر قلبه وعقيدته وبنائه النفسي, الذي هو ذاته, إلى حفنة فاشلة من الفالسفة

والفنانين والغوغائيين الذين ال يجيدون إال ممارسةالشك والشهوة والتنظير السخيف!.

هو ذا يركب صهوة المادة ويسوقها كما يساقو البعير!, وهو ذا يختار صفاته الوراثية من الخريطة الجينية لوالديه!, يرتشف الزوج فنجان الشاي مع

زوجته, يقلبان صفحات الكاتالوج الوراثي ويقوالن: ابننا القادم نريده أشقر الشعر أخضر العينين!, وهو ذا يقتل

اآلخرين بالريموت كنترول, وهو ذا ملء السمع والبصر. ولكن؟!. أين هو من اإلنسان المثالي؟ . بل

أين هو من حقيقة ذاته؟ . لماذا يموت اإلنسان الغربي كما تموت الدابة؟, وهو يردد جئت وال أدري من أين

k فمشيت, جئت ولكني أتيت, ثم أبصرت قدامي طريقا ثم غويت, ثم عانيت, ثم توفيت!!. لماذا هذه النهايات

البائسة وهذه النظرات اليائسة وهذا اإلعراض عن الحق؟. ولماذا هذا الهروب المرضي من الغيبيات

193


والمبادئ المقدسة؟, ثم يجلس أحدهم بعد طول والء للعقل المنطقي المجرد والمادية النفعية على سرير

الموت يتسول الخرافة وحكايات الرهبان السكارى في أقبية كنائس العصور الوسطى عن السيدة العذراء

التي تنتظر الموتى ومعها باقة من ورود!, ليبرر لنفسه قبول الموت القادم المتحتم, ونفسه الضعيفة التائهة

تتردد في صدره وهو يقول: أنا بحاجة لعقيدة!, وبحاجة لرفيق حميم ينتقل معي إلى الحياة الجديدة القادمه!,

أنا بحاجة إلى الله الذي هو بكل شيء محيط!.

أين الله؟!, أريد الله!!...

.آآلن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟ ( )

* * *

تم الكتاب والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . ليلةهـ .10/2/1429

194

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات1...................................................إهــــــــــداء

.................................................................58................................................فصول الكتاب:

:11.................................الجاهلية الرومانسية13........................................العقيدة الرومانسية

19.......................................الشريعة الرومانسية23........................................اإلرهاب الرومانسي

37.................................نهاية اإلنسان الرومانسي39........................................اإلسالم الرومانسي

:46.................المقدمات األولية للتصور الصحيح48...................................مفهوم الحقيقة والمجد55...................................أصل العلم كله من الله

61.....................................حقيقة الكون والنظام68..........قصة نشوء الكون وإثبات الخالق والمخلوق

:80........معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة82.............................................صفة آدم وحواء

خلق آدم؟ ومتى أدخل الجنة؟ ومتى أخرجمتى - 182.....................................منها؟ ومتى مات؟

82..................................فصل: فوائد األدلة:82............- من أي مادة خلق الله آدم عليه السالم2

83..............................فصل في فوائد األدلة:85...........................- من أي شيء خلقت حواء؟3

85..............................فصل في فوائد األدلة:86.........- كيف كانت هيئة آدم التي خلقه الله عليها4

86..............................فصل في فوائد األدلة:86..........- أول خلق آدم عليه السالم ورؤيته لذريته5

195


87..............................فصل في فوائد األدلة:87.................- أن إبليس كره آدم قبل تمام خلقه6

88..............................فصل في فوائد األدلة:89..............................................صفة الشيطان

- إثبات أن إبليس هو أبو الجن وأن إلبليس ذرية1 وانهم يموتون وأنهم أمة عظيمة العدد وأن منهم الشياطين وأن يأجوج ومأجوج ليسوا

من ذرية إبليس وإنما هم من ذرية آدم عليه89................................................السالم:

90..............................فصل في فوائد األدلة:91..........................- إثبات أن الجن أصناف ثالثة2

91..............................فصل في فوائد األدلة: - أن الشياطين ملل وطرائق مختلفة وأن من3

93...................الشياطين مقلدة في عقيدتهم:94..............................فصل في فوائد األدلة:

- أن إبليس كائن حي موجود على الحقيقة وأنه494........................................مخلوق من نار:

95..............................فصل في فوائد األدلة: - إثبات صفة الجسم للشيطان وأن الحمار5

:k 95.................................والكلب يريانه عيانا95..............................فصل في فوائد األدلة:

- ذكر ما جاء في حجم الشيطان في حال كونه696................................على صورته األصلية:

97..............................فصل في فوائد األدلة:97..........- ذكر ما جاء في أن حجم الشيطان يتغير:7

97..............................فصل في فوائد األدلة:98...........................- إثبات أن للشياطين أسماء8

98..............................فصل في فوائد األدلة: - إثبات صفة الكالم للشيطان وأنه قد يخاطب9

98...................................................البشر - باب إثبات صفة اليدين والقدمين للشيطان10

99.................وأنه يأكل ويشرب على الحقيقة:

196


- إثبات أن إلبليس عرش على الماء في البحر11100..........................................وأن له تاج:

101............................فصل في فوائد األدلة: - باب إثبات أن الشيطان يخاف من بعض12

101.................................................البشر101............................فصل في فوائد األدلة:

102..........................- إثبات أن الشيطان ينام:13102............................فصل في فوائد األدلة:

- إثبات أن للجن عموما ذكور وإناث وأنهم14102............................................يجامعون:

103............................فصل في فوائد األدلة:103.....................- إثبات صفة البكاء للشيطان:15103....................- إثبات صفة اليأس للشيطان:16104...................- إثبات صفة الضحك للشيطان:17 إثبات صفة الحلق واللسان للشيطان على- 18

104................................الحقيقة وأنه يتنفس:104....................- ذكر ما جاء في صفة القرين:19

105............................فصل في فوائد األدلة: - إثبات أن الشيطان يقوم بأفعال محسوسة20

106......................تورث األمراض في األبدان:107............................فصل في فوائد األدلة:

- أن عالقة االنسان بالشيطان تنتهي بعد خروج21 الروح وأن التكليف العام لإلنسان ال ينتهي إال

107..............................................بالموت:108............................فصل في فوائد األدلة:

109..........................................الواقع والواقعية128..............................تكريم آدم ومعصية إبليس

:1................تحقيق معنى االستخالف في األرض....سكنى األرض وإعمارها ليس غاية في خلق بني آدم

134141.............................................معنى العبودية

االستخالف ال يتحقق إال بإقامة الميزان الكوني

197


144..................................................والشرعي150.................الخالفة الشريفة لإلنسان في األرض

159..............................................خاتمة الكتاب162.....................................فهرس الموضوعات

198

تحقيق خلافـة الإنسان على الأرض

Documents

Transcript of تحقيق خلافـة الإنسان على الأرض